المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
الصعود إلى كلمنجارو ...
بعد عودته من رحلته الشاقة في إفريقيا ( من أجل الأمل ) ..
الأديب والشاعر الكبير / إبراهيم نصر الله يكتب ...
الصعود إلى كلمنجارو ...
هنالك رحلات كثيرة يقوم بها الإنسان، بعضها إلى داخله، وبعضها إلى مناطق لم يحلم بالوصول إليها من قبل، بعضها في الحاضر، بعضها في الماضي، وبعضها في المستقبل، وسواء كنت كاتبا يتنقل بين هذه الأزمنة، أو حالما، أو واقعيا، فلا يمكن أن تمرّ روحك في مكان ما، دون أن تبتل بطعم هذه الأسفار أو روائحها.
رحلتي، التي قمت بها نهايات الشهر الماضي، إلى قمة كلمنجارو، كانت واحدة من رحلات العمر الكبرى، على صعيد المسافة التي قطعناها مع رفاق ورفيقات الرحلة، صعودا وهبوطا، وعلى الصعيد الإنساني والكثافة التي لمستها بالقلب والعقل على مدى ثمانية أيام، خمسة للصعود وثلاثة للهبوط.
أن ترتقي جبلا، فذلك أمر رائع، أما أن ترتقي جبلا مثل كلمنجارو، فهذا أمر لا يمكن أن يوصف في كلمات قليلة. كل شيء استثنائي في هذه الرحلة، بدءا من الجبل نفسه، الجبل الذي حير العلماء في أوروبا، حين أبلغهم الرحّالة أنهم شاهدوا جبلا في إفريقيا مكللا بالثلوج، فلم يصدقوا، إذ كيف يمكن أن يكون هنالك ثلج في إفريقيا اللهيب، إفريقيا الغابات والصحاري والنمور والفيلة والزرافات والأسود؟!
أما الشيء الاستثنائي الآخر فهو أن يكون معتصم وياسمين، هما من قررا صعود الجبل، رغم فقدان كل منهما ساقا وفقدان معتصم، بقنبلة، ثلاثة من أصابع يده اليسرى أيضا.
أول ما استعدتُ، قصةَ إرنست همنغواي الطويلة: ثلوج كلمنجارو، التي تحولت إلى فيلم سينمائي قبل أكثر من ستين عاما.
فضولي، الذي لم يكتف بصور الجبل التي تملأ فضاء الانترنت، دفعني للبحث عن الفيلم، وإعادة قراءة القصة التي تم اقتباسها، وفي بحثي هذا، تبين لي أن هنالك أكثر من سبعة وثلاثين فيلما حملت عناوينها اسم جبل كلمنجارو، وهذه أفلام تمكنّتْ من أن تجد لها مكانا في موقع السينما العالمي MIDB من بينها أفلام وثائقية وروائية.
اكتفيت، تحت إلحاح الفضول الجارف، برؤية فيلم همنجواي، لكن ما أحبطني قليلا، هو أن الجبل، على مستوى الصورة السينمائية، كان خلفية بعيدة، لا غير، لتلك الخيمة التي جلس فيها بطل الفيلم مستلقيا إثر إصابته، مقيما تحت السّفح، وراحلا في اتجاهات الدنيا لاستعادة ذكرياته مع نسائه في باريس ومدريد وسواهما.
رغم الإحباط ، سررت أن الفيلم لم يكشف لي سرَّ الجبل، وأن السرَّ بقي أمامي، وأن علي اكتشافه بنفسي، ولذا قررت ألا أشاهد أي فيلم عن الجبل، وبالذات الأفلام الوثائقية، لكي تكون علاقتي بالجبل علاقة مباشرة، لا تفسدها صور مسبقة.
أعترف أنني توقعت، بناء على أحاديث متفرقة مع من نظموا الرحلة، أن الطرق ستكون أسهل، لكنني فوجئت هناك بجبال لها شكل حائط، وصخور وممرات ضيقة وجداول مياه، وداهمنا ثلج في الطريق ومطر ورياح، وأن الخيام الصغيرة التي ننام فيها فوق التلال يعصف بها صقيع حاد طوال الليل، يترك الأرض حولها بيضاء؛
واكتشفت كيف يمكن للمرء أن يعيش أربعة فصول في يوم واحد، وطبيعة جغرافية تبدأ بغابة خضراء وطيور وتنتهي بمرتفعات وسهول من الحجارة السوداء والصمت.. وكيف يمتزج المرء بالمكان ناسيا كل شيء خلفه!
رحلة استثنائية كانت، ولكن أجمل ما فيها أنني رأيت، بأم عيني، معجزة فلسطينية رائعة تتحقق.
|