المنتدى :
المنتدى العام
الشك اسم من أسماء الذكاء
" الشك اسم من أسماء الذكاء "
يحلو للحياة أن تُهديك أغلى أمنياتك ، عندما تنتهي صلاحية الأمنيات أو صلاحيتك ، ولا تعُد قادرًا على التمتّع بما انتظرته طويلاً . فتغدو هديّة الحياة ، قصاصاً آخر لكن مغلفاً بالكرم .
قصة الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس ، دليل موجع على ذلك . كان الكاتب شغوفا بالكتب ، مولعاً بها ، حدّ تخيّله الفردوس على شكل مكتبة ضخمة . حلمه أن يعيش في عالم يُدار في كتاب ، الناس فيه سطور ، لكن لا تكتب بماء كما تصوّرها جبران ، بل من رمل ، كما عنوان كتابه " الرمل " الذي بوّأه تلك المكانة الرفيعة في عالم الأدب . بورخيس كان يرى أن قدر كل شيء أن يتسرّب من كتاب الحياة ، ينزلق من بين أصابعنا إلى العدم . لكنه ما توقّع أن يكون النظر أول ما يتسرب من عينه ويتركه كفيفاً .
ليس هذا ما آلمه الأكثر ، بل أن يفقد بصره في السنة التي تمت فيها تسميته مديرا للمكتبة الوطنية لبيونس إيرس . هكذا ، سخرت منه الحياة ، وقهقهت كثيراً وهي تتركه محاطاً بآلاف الكتب ، التي ليس بمقدوره قراءتها . هل ثمة قصاص أكبر من أن تعطيك الحياة أغلى ماتمنيت ، عندما لا يكون بإمكانك الاستمتاع به ؟
رفع بورخيس التحدّي ، ورفض أن ترى تلك الأنثى حزنه . أبى أن تترأف به الحياة وتنظر إليه بشفقة عشيقة ، تتأمل ما آل إليه عشيق سابق . تماماً كما في الحبّ ، تداوى بورخيس من عماه بالوهم الجميل ، كان يلجأ إلى التظاهر بأنه مازال قادراً على الرؤية. يقف طويلاً أمام الرفوف متصفّحاً الكتب . ظلّ حتى آخر أيامه مكابراً ، يقصد بين الحين والآخر المكتبات ، ويقتني بعض المجلدات ، ليوهم نفسه باستمرار قدرته على القراءة . كما يقصد رجل عجوز في كل قيافته ، مقهى كان في شبابه يواعد فيه حبيبة ، فيطلب لها مشروبها المفضّل ، موهما النادل أنها ستأتي .
إنه درس في الإرادة ، من عجوز ، سرق المرض منه البصر ، لكن لم يجرّده مما رآى بعينيه في حياة سابقة . بمخزون الذكريات ، راح في عتمته ، يواعد الأحلام على طاولات الوهم ، و يخطط للمباهج البسيطة ، و الحياة تدور بين دفتي كتاب . كما لوكان واثقا أن كل ذلك سيحدث ، وأن بإمكانه مواصلة قراءة ما وحده يراه
العمى هو شرط الإيمان . أن تؤمن بما لا تراه لأنك لم تره . كمتصوّف آمن بورخيس بكل ما أخفته عنه العتمة ، وما أدركه ببصيرته لا ببصره . آمن أن له موعدا مع الحبّ ، لذا كان يحبّ أن يكون متأنقا ، لم يكن يَرى ما يرتديه ، لكنه يرفض أن يُرى إلاّ ببدلة أنيقة رسمية وربطة عنق من ايف سان لوران ، ممسكاً بعصاً مميّزة ، واحدة من سبعة أو ثمانية عصيّ جمعها من أسفاره .
الأرجنتيني الأنيق العميق ، الذي عاش آخر حياته مُطّلاً فقط على نفسه ، بدى مثل المعري في حكمته ، كما لو أنه عثر في عماه على ما كان ينشده ، لاختراق ما لا نراه ، مؤكداً قول بودلير " ذلك الذي ينظر من الخارج عبر نافذة مفتوحة ، لا يرى من الأشياء قدر ما يراه من ينظر إلى نافذة موصدة " . بورخيس كان يرى النسيان أعلى درجات الإنتقام ، قائلاً " خطاياك غير المغتفرة لا تُمَكّنك من رؤية عظمتي " فليس هناك مجد في الغضب ، إنّه ضعف . يجب أن تمنح عدداً قليلاً من الأشخاص القدرة على إيذائك . كان يحب أن ينثر في مقابلاته شيئا من الشك يبدأ أجوبته بالقول " من الممكن " " على الأرجح " " ليس مستحيلاً أن " فلقد كان عنده " الشك اسم من أسماء الذكاء ". . وهذا درس متأخّر تعلمته منه ! .
أحلام مستغانمي
|