المنتدى :
خواطر بقلم الكتاب العرب والعالميين
يا لرقمهم الغالي ذاك كيف مات !!
يا لرقمهم الغالي ذاك كيف مات !!
لعلّ بداية السنة فرصة لكي أقتني دفتراً هاتفيًّا جديداً ، أنقل عليه ما نجا من الأسماء.. و ما صمد من الأرقام . يتناقص الأصدقاء عاماً بعد عام ، بعضهم سقط من القطار ، و آخرون سقطوا من القلب .
لا وقت لي لأنتشل أحداً . لذا أحتفظ بدفتر هاتفي تعيد الأيام تشكيل أرقامه . لا أكترث لفوضاه ، و لأرقام كتبتُ بعضها على عجل دون أسماء ، كأنّني أعرف أصحابها . و ها أنا لا أدري أيّ اسم أضع عليها
قبل عقدين من الزمن قرّرت مغادرة باريس إلى بيروت . عندما صباح عيد لم أجد أحداً أهاتفه . برغم إقامتي فيها سبعة عشرة سنة . فتحت يومها دفتر هاتفي و لم أجد عليه سوى أرقام أطباء الأطفال و هواتف المؤسسات الإدارية ، وأيضاً الشغالات ، فرحتُ أهاتفهن ، و ما زلت في الأعياد أفضل مهاتفة بسطاء يصنع صوتي عيدهم ، على قوم يعتقدون لأهميّتهم أنّ مهاتفتهم هي عيديّتي .
أتصفّح مفكّرة كأنّها مقبرة ، لأُناس كان بعضهم يشغل صفحتها الأولى ، و كانت يدي تطلبهم أكثر من مرّة في اليوم ، في مكالمات عابرة للقارات . و لم تبق اليوم سوى أطلالهم شواهد قبر مكتوبة كيفما اتفق حسب التسلسل الأبجدي للخذلان
الأرقام تموت أيضاً بموت أصحابها في قلوبنا ، و ترخص حين يرخصون .
الأرقام الحبيبة التي أصبحت غريبة عنا حدّ الأذى . الأرقام التي خانتنا و فتحت قلبها لصوت غير صوتنا ، كلّما وقعنا عليها في دفتر هاتفنا أحزننا التعثر بجثتها .
حدث أن نظّفت قبور من خانوا ، و نقلت أسماءهم على مفكرة أخرى جديدة كما لو كانوا أحياء . ثم مع الوقت ، صرت أشطب أسماءهم على استحياء .
اليوم تعلّمت أن أمزّق الصفحة . كلّما تقدّم بكَ العمر صَغُرَ دفتر هاتفك . أصبحتَ أكثر انفراداً و حريّة ، فأنت لا تريد هاتفاً يدقّ بل هاتفاً يخفق.. و عليك ألّا تشغل الخط بل أن تشغل وقتك في انتظار الحبّ ، ( و لِما لا ، بإعادة غربلة دفترك الهاتفي ) فحين سيدقّ هاتف الحبّ لن يترك لك وقتاً لشيء ! ذلك أنّ مولاك الحبّ حين يحضر سيختصر كلّ الأرقام في رقم واحد ، يزدحم به هاتفك و وقتك ، و ستضحك حينها من استبداد الذاكرة التي كانت تحفظ رقماً هاتفيًّا من أحد عشر رقم و لا تحفظ رقماً من ستة أرقام.. هو رقمك
لا تمضوا نصف أعماركم في فضّ الاشتباك مع جبروت الذاكرة.باشروا فوراً باقتناء دفتر جديد. اختصروا أرقامه ما استطعتم. و تذكّروا أنّ أرقاماً ما عاد يحفظها قلبكم، و نسيت يدكم منذ متى لم تطلبها، لا تستحقّ أن توجد على الصفحة الأولى لدفتر هاتفكم.
نحتاج إلى شجاعة تمزيق صفحات مفكراتنا ،كشجاعة الأشجار في التخلّي عن أوراقها في مواسم الخريف . . لثقتها أنّ الطبيعة لا تحبّ الفراغ ، وأنّ مامن ورقة تسقط ،إلاّ وأنبت الربيع ما يفوقها اخضراراً . . إلى حين .
ماذا لو كانت مأساتنا في عدم تصديق أن للقلب فصوله أيضاً !
♥♥ أحلام مستغانمي ♥♥
|