المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
تخيـّـلْ
تخيـّـلْ
د/ أحمد خالد توفيق
16 ديسمبر 2013
«قال أحد الحكماء:ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وعدت إلى الشرق فوجدت أناسا ولاد جزمة !!». من تويتات الساخر الجميل أسامة غريب، وهى محاكاة ساخرة Parody لمقولة محمد عبده الشهير.
الآن اغمض عينك معى وتخيل.. أنا لم أخض تلك التجربة لكن بوسعى ان أتخيل.. هناك أغنية اسمها تخيل للخواجة جون لينون، لكن معانيها تختلف تماما!
أنت تقود سيارة ومعك ابنتك ووالدك المسن الذى يستجمع وعيه بصعوبة ويقاوم النعاس.. اليوم هو 12 ديسمبر عام 2013. تخرج من المعادى مثلاَ قاصدا طنطا. يوم الخميس صعب دائما لهذا بدأتم التحرك منذ الثالثة عصرا. البرد قارس فعلا لكنه محتمل. هناك الزحام المعتاد على الطريق.. هذه أشياء صارت فى خلاياك منذ زمن لأنك مصرى. الزحام شيء كالهواء من حولنا.. لا نلاحظه أبدا.
لكن الأمور تزداد تعقيدا مع الوقت.. أنت اعتدت الزحام وبطء الحركة، لكنك لم تعتد الشلل التام حتى ليوشك الطريق السريع بعد قليوب إلى أن يتحول لموقف سيارات. يمكنك أن تنزل لغسل سيارتك لو استطعت فتح الباب. يمكنك أن تنام لولا أن طابور السيارات يتحرك بمعدل سنتيمتر كل عشر دقائق.. لهذا يجب أن يظل المحرك دائرا..
مع الوقت تشعر بالخطر.. هناك شيء فادح يحدث.. هل هناك مقاتلات إسرائيلية قصفت الطريق؟.. هل هناك عملية إرهابية؟.. هل هناك حادث انقلبت فيه ست مقطورات وعشر ميكروباصات؟.
لماذا تعود السيارات فى الاتجاه العكسى؟.. على الطريق المقابل ترى السيارات أيضا تتحرك بالطريق العكسى. أى أن السيارات قد بدلت الطريقين..
السماء تكفهر من جديد وتنهمر الأمطار. لا تنس أننا لم نر مثل هذه الظروف الجوية اللعينة منذ أعوام.
مثانتك بدأت تضايقك.. كنت تأمل أن تجد مخرجا فى مقهى أو محطة بنزين على الطريق، لكن الوقت ليس مناسبا لذلك. تتمسك بالأمل... بعد قليل سوف ينفتح الطريق..
لكن الأمور تزداد تعقيدا.. ثلاث ساعات قد مرت وأنت لم تتحرك سوى كيلومترين.. البرد شديد كأنك محبوس فى ثلاجة. أبوك المسن يرتجف كورقة.. برررررررررر. لا تشعر بأنامل يدك. الناس بدءوا يوقفون المحركات ويخرجون من السيارات. هذا بالنسبة للمحظوظين القادرين على فتح الأبواب، أما من علقوا فى المنتصف فظلوا عاجزين عن التحرك. يشبه الأمر أفلام الرعب عندما ينحشر الناس فى السيارات بينما تظهر كرة نار عملاقة فى الأفق، أو يتقدم جودزيلا قادما وهم عاجزون عن الفرار..
أنت عاجز عن فتح الباب.. تتماسك.. لكن الساعات تمضى.
بعد ساعة أخرى تأتى الأخبار مع السيارات القادمة بالعكس..
إنه ذلك المول الشهير الذى يقع فى طوخ أو بعدها.. يبدو أن صاحب المول قد أقام حفلا صاخبا مع توزيع جوائز ضمنها ثلاث سيارات، وقد أغلق الطريق السريع بالمعنى الحرفى للكلمة. تكدس الناس وجاء الجميع للفوز بالجائزة، وخاصة عندما عرف الناس أن المُزة الشهيرة صافيناز تحيى الحفل.. هذا شعب ابن حظ فعلا. ظروف اقتصادية قاسية واضطرابات، وبرد لا يوصف ومطر ينهمر بلا توقف، لكنهم مستعدون للتجمع من أجل حفل وراقصة.. تصديقا لمقولة أنه تجمعنا طبلة وتفرقنا عصا.. بالتأكيد هناك خطأ فى القماش وليس فى الترزى فقط على رأى الراحل جلال عامر.
يقولون إن رجل الأعمال هذا مسنود وبوسعه عمل ما يريد، فالمول أصلاَ بنى على أرض زراعية. فجأة تحاول تذكر: مسنود؟.. ألم تحسب هذه الكلمة انتهت؟.. لماذا ظننت أن الأوضاع اختلفت؟.. آه.. تذكرت !.. كانت هناك ثورة عظيمة فى يناير 2011 فأين هى وأين آثارها؟.. وهل يملك إنسان درجة نفوذ تسمح بقطع الطريق الزراعى على الجانبين؟.. لكن الأمر سهل. حكيت لك من قبل عن سائقى ثلاث (تريللات) ثملين (عاملين دماغ) ساروا كتفا لكتف على الطريق السريع أول يوم من يناير 2012، فتكدست السيارات خلفهم وقطعنا ثلاثة كيلومترات فى ثلاث ساعات. فى ظل الغياب الأمنى الكامل والدولة الرخوة يحدث أى شيء.. ولكن لماذا يغيب الأمن مع هذا التقديس من الناس بعد 30 يونيو؟.. قبل 30 يونيو كانوا (مقموصين) فلماذا لم تعد فعاليتهم بعد رد الاعتبار؟
الآن نعود لك.. لقد مرت ست ساعات..أنت ما زلت متفائلا ولا تعرف أنك ستمضى فى رحلتك اللعينة تسع ساعات كاملة. أبوك يرتجف من البرد وأسنانه تصطك. سيموت غالبَا هنا والآن، ولن تستطيع دفنه.. أنت لست أفضل حالا.. ظهرك لوح ثلج. المثانة توشك على الانفجار فعلا.. لم تعد ترى أمامك سوى أنهار من الماء ذى رائحة النوشادر يغرق البلاد والحقول. فى النهاية تفتش عن زجاجة بلاستيكية فارغة، وتفرغ مثانتك فيها.. لحسن الحظ أنك رأيت مشهدا كهذا فى فيلم أمريكى. لكنك لا تستطيع إقناع أبيك المسن بهذا، فهو يكره النجاسة بأنواعها.. البروستاتا سوف تقتله لكنه يتماسك..
لا يمكن أن يكون هذا حقيقيا.. هذا كابوس.
هناك مصيبة أخرى.. ابنتك توشك على الاختناق.. لا تنس أنها مصابة بالربو وأنها تشم عادم السيارات منذ سبع ساعات أو أكثر. تسعل وتبصق وتحاول أن تجد هواءا.. لو ماتت فلن تستطيع أن تطلب لها عونا إلا إذا حدثت معجزة واستطعت أن تصل ليمين الطريق.
لا تقلق.. سوف تصل لطنطا فى الواحدة بعد منتصف الليل !!... لكنك لم تعد كائنا بشريا..
تخيل هذا كله !.. والا بلاش تتخيل... نم فهذا أفضل..
فيما بعد سوف تعرف أن محافظ القليوبية قام بتغريم رجل الأعمال خمسين ألفا من الجنيهات.. يا سلام !.. عقوبة رادعة فعلا، وهو سيسترد هذا المبلغ من مبيعات المول خلال ثلاث دقائق بالضبط. يجب أن يحسب خبير اقتصادى ما كلفته هذه الكارثة وهى لن تقل عن ملايين، ويدفعها رجل الأعمال. على الأقل يدفع ثمن الوقود الذى أحرقته هذه السيارات، وأدوية البرد التى سيتعاطاها الجميع، وكل المشاريع والمواعيد التى ضاعت. أى بلد هذا؟.. أى بلد هذا؟
أؤكد لك إننى لم أكن فى هذا الموقف، وإلا ما كنت هنا لأكتب هذه الكلمات، لكنى سمعت الكثيرين من التعساء الذين علقوا فى هذه المذبحة. غياب تام للدولة والداخلية ورجال المرور، أو ربما كان رجال المرور هناك لمشاهدة المزة صافيناز. قال وزير الداخلية إنه قادر على سحق مظاهرات الجامعات فى ثلاث دقائق، فلماذا لم تعالج الداخلية مشكلة هذه الاحتفالات التى قطعت الطريق فى ساعة أو ساعتين؟.. وماذا لو كان سبب قطع الطريق هو مظاهرات ضد الحكومة؟
هناك على الداخلية أعباء أخرى غير إطلاق الغاز والرصاص على الطلاب فى الجامعات، أو اعتقال تلاميذ من أجل رسم على مسطرة. أو على الأقل يمكنها عمل الشيئين معا.
ومن جديد نتذكر تويتة أسامة غريب: «ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وعدت إلى الشرق فوجدت أناسا ولاد جزمة!!».
|