بسم الله الرحمن الرحيم
البارت الثامن والأربعون
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
التاسعة مساءً
أخرج هاتفه ليرسلَ رسالة
كتب بعجلة
" تركي احنا في اللفّة اللي قبل بيتكم , وذياب بيلحقنا مع المملّك , ادعْ بس ربّك يستر "
التفت الى شقيقه وقالَ بمحاولةٍ أخيرة
: صقر لا ننفضح قدّام الناس , هذه بس خطبة ان مشوا نكلّم علي ويرفض الخاطب وصلّى الله وبارك
لم يجبه , وأوقف السيّارة ونزل
أسرع الى البابِ وقبل أن يطرقه فتحه تركي
خرج تركي وأغلق الباب
قال بهمسٍ حاد
: وش فيك انت ؟ تبي تفضحنا قدّام الناس !
قال بجنون
: تركي ابعد من وجهي
دفعه جانبًا وفتح الباب
كانت تهمّ بالخروج من المطبخ
لتسمع صوته عاليًا
: يا ولد
شهقت بفزعٍ وتراجعت
فتحَ بابَ المجلس بقوّة
ليقف علي بصدمة
قال صقر وهو يحاولُ كبتَ غضبه
: السلام عليكم
نهضوا جميعًا وردّوا السلام
قال صقر بابتسامةٍ كادت تمزّق وجهه من شدّة غيضه
: افا يا ولد العم , متى كنت ناوي تعلمنا ؟!
ابتسم علي بهدوء , وقال
: هلا صقر , للحين ما صار شي عشان أعلمك
دخل ومن خلفه عبد الله وتركي
قال
: اللي سمعته غير
قال مشعل محرجًا
: ان شالله ما في شي ؟
التفت اليه صقر , صمتَ لثوانٍ
ثمّ قال
: في سوء تفاهم , البنت اللي جايين...
قاطعه علي
: صقر...
تابع صقر كلامه دونَ أن يلتفت
: البنت اللي جايينها حليلتي , واختها باقي صغيرة
قال مشعل بعد ثوانٍ
: حنّا جايين لطالبة عندِي تدرس تمريض , اللي اعرفه انّها كانت مملكة على ولد عمها وطلقها
قال ولا زال يسيطِر على أعصابه
: لا ما طلقتها , حليلتي.
فركَ تركي جبينه وهو يمنع نفسه من لكم هذا الصقرِ الكاذب !
وابتسم علي وأنزل رأسه ليحكّ جانب شفته
قال شقيق مشعل الأكبر , وهو يكادُ يسقطُ مغشيًّا عليه من الاحراج
: سامحونا , حصل لبس , حقّك علينا
هزّ رأسه بصمت
خلال عشرةِ دقائق استأذنوا وخرجوا
أغلق علي الباب والتفت الى المجلس بغضب
دخل وقبل ان يتكلّم , صرخ به صقر
: علي للحين انا حاشمك , اقسم بعزّة جلال الله اذبحك وادفنك هنا
صرخ به علي
: انت خبل ؟ مو طلّقتها قدّامنا كلّنا ؟! مو تركتها ومشيت ؟! مو طلعت من ذمّتك ! تبي توقّف نصيبها يعني ! مو كفاية عمرها اللي راح كلّه ضاع بسبّتك
قبل ان يردّ صقر
قال عبد الله متوتّرًا وهو ينظرُ الى هاتفه
: صقر ذياب برّى
التفت صقر الى تركي
: تركي دخله الله لا يهينك
قال علي وقدْ فهم
: ما عادها معزّتك الأوّله , ولا مكانتك نفسها , وحتّى البنت عافك خاطرها , لا تلوِي ذراعنا يا صقر وتجيب المملك للبيت قصدك بتحطنا قدّام الأمر الواقع
في الغرفةِ المقابلةِ لمجلسهم
كانت تجلس أرضًا , وتحتضن ركبتيها بارتجاف
ويسمعن ما يدور هناك
عانقتها هديل وهي تبكي
قالت برجاء
: تكفين سامحيني
نظرَت اليهما ام علي , وزفرت بارتباك
سمعن صقر يقولُ بحدّة
: ادخل استأذنها
صرخ به علي
: انا ولِي أمرها
قال تركي معترضًا
: تقدر امّي تعطيها
التفت علي اليه وصرخ
: وين راحت عزوتك لأختك ؟
قال تركي بحدّة
: انا وانت على صقر , وانا وصقر على مشعل مدري وش اسمه ذا
قال عبد الله
: يا شباب المملّك برّى ترا , وما نمون على الشيخ ! كفاية جايبينه في ذا الوقت
قال علي بغضب
: ما تاخذها لو على جثّتي
قالت ام علي بهمس
: رتيل
قالت بانهيار
: ما ابيه
رفعتها بقوّة وقالت بحدّة
: كذّابة , والله العظيم كذّابة
خرجت من الغرفةِ وقالت
: دخّل المملك يا تركي
التفت علي الى والدته بصدمة
: يمّه !
قالت دونَ ان تنظُر اليه
: مانت جاهل في اختك ولا في ولد عمّك , وذا الملعوب اللي سوّيته ماهو الّا عشان تقرص اذن صقر , بتملّك عليها يا صقر , لكن ما تاخذها , قدّامك العمر تحاول تسترضيها وترجعها لك
الجمَ لسانه ولم يستطع التعليق
خرجَ تركي وأدخل الشيخَ وذياب
خلال دقائق أصبحت زوجته من جديد
بشهادة ذياب وعبد الله
وولِيّ أمرها علي , مرغمًا !
قال ذياب بعد قليل
: طيّب انا بمشي , وبوصّل الشيخ
ودّعهم وخرج
قال علي وهو حاقدٌ على صقر
: يلا تفضّل , العقد وصار بيدك , من غير مطرود
استرخى في جلسته وابتسم
ضحكَ تركي بغيض , ثم قال
: مو من صالحك ذا اللعب
قال صقر ببرود
: بشوف زوجتي
هنا قال عبد الله
: لا عاد , حدّك هنا وانا اللي اردّك
التفت اليه بنصفِ نظرة
: ورع
قال عبد الله بضحكة
: قوم قوم الله يستر عليك , بتقوم قيامتك الليلة وانت معرس على زوجتك
انفجر ضاحكًا ونهض
قال بخفوت
: هي ما تدري انّي طلقت أصلًا
خرجَ من المجلسِ ليقول بصوتٍ عالٍ
: زوجتي مع السلامة
شهقت وتراجعت
ابتسم حينَ سمعَ شهقتها
زفر وقال بصبر
: يا بعد شيبي يا هالصوت
ضحكَ أخويها رغمًا عنهما
وضحك عبد الله وهو يدفعه
: الحمد لله والشكر استخف الشايب , يلا تصبحون على خير يا اهل البيت
قال صقر برجاء
: تكفون لمحة صغيرة , والله مشتاق لها
قال تركي بعصبيّة
: زودتها عاد
ضحكَ حتّى سعل , ثم قال
: زوجتي زوجتي , وه !
قال تركي
: طيّب يلا توكّل
خرجَ من المنزلِ أخيرًا
ركب سيّارته وزفرَ براحة
قال عبد الله بابتسامة
: عسى دوم ذا الروقان
التفت اليه وظلّ مبتسمًا بصمت
اقترب عبد الله وقبّل رأسه
ثمّ قال بمحبّة
: مبروك يا اخوي , ومشكور لأنّك رجعتها اخت لي
زفرَ صقر , ثمّ قال
: انسى ذي الأخوة لو سمحت
قال عبد الله بسخرية
: اي خير ان شالله , الظاهر انهبلت انت
ضحكَ وحرّك سيّارته
ثمّ قال
: ودّي اسهر واستانس الليلة
استرخى عبد الله وقال
: قدّام , ودنا اي قهوة
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
العاشرة مساءً
أسنده اليه حتّى أدخله الى الشقّة
همسَ عبد العزيز بحرقة
: حتّى أثاثه ما غيّروه
قال سعود بحنوْ
: ما عليه عزّوز , هوّنها وتهون
ساعده ليجلسَ على الأريكة , وجلس على ركبته أمامه
قال برجاء
: أدويتك بحطّها قدّامك , من الحين لبكرة او بعده انت مضطر لها , لا تاخذك عزّتك في نفسك وما تطلب منها شي تكفى , لا يصير فيك شي ومحد يدري عنّك
زفر بتأفّف
قبّل سعود رأسه وقال بخفوت
: مبروك يا اخوي , اشوفك قريب ان شالله
امسك بكفّه , وقال بنبرةٍ اخترقت قلب سعود
: لا تسافر قبل ما اشوفك
هزّ رأسه ايجابًا
: ان شالله
خرج من الشقّة , ليرى أبو بندر أمامه
قال سعود
: دخّلوا زوجته , وحرّصوا عليها مواعيد ادويته وانّ حركته صعبة
خرج من المنزلِ , لتدخل هيَ الى شقّتها الجديدة
مسحت بعينها الأثاث
الذي قد نظّفنه شقيقات بندر ولمّعنه بعد أعوامٍ من هجره
جديدٌ ولم يستعمل أبدًا
لكن طرازه قديم
أدركت انّه أثاثها الأوّل !
دمعت عينيها
وتخيّلته في الغُرفِ يجوب ويشرف على العمّال
أغمضت عينيها ونفضت رأسها
دخلت الى الصالة , لتجد عبد العزيز جالسًا
رفعَ رأسه ورآها
ازدرد ريقه , وقال بنبرةٍ ثقيلةٍ على قلبه
: تعالي
رفعت نقابها وغطاء شعرها
وجلست أمامه بصمت
لم ينظر اليها , كان مرتاحًا في جلسته
ونظره في احدِ زوايا الغرفة
قال بهدوء
: مبروك
قالت ساخرة
: ما تحس بكميّة حقارة وانت تبارك لحليلة أخوك زواجك منها ؟!
رفعَ رأسه اليها بدهشة/بصدمة
أُلجم لثوانٍ , حين سقط بصره في عينيها
غرقَ نظره لثوانٍ , في حلكةِ مقلتيها , وشدّة ظلامها
أمام شدّة بياضها !
كانت لوحةً للرسم
شدّ على نفسه , وقال بذهول
: عفوًا !
قالت ببطءٍ , وحقد
: اقول ما تحس بحقارة وانت تبارك لحليلة اخوك زواجك منها
نهض من مكانه واقترب منها
لتقفَ أمامه بتحدٍّ
لم تكوني تنقصيني أبدًا !
حاولَ أن يتركها ويخرج
لكنّ كفّه أبت الّا ان ترتفعَ لتهوي على وجهها
لتسقط على الأريكة
قال بفحيح
: مو ناقصني تافهة مثلك تقط عليّ ذا الكلام في ذا اليوم الأسود , تمنيّتك ترفضين لكن العنوسة مأثّرة عليك ووافقتي على أخو زوجك السابق , انا ما فيني حلم بندر وحنّيته , اجلسي باحترامك ولّا والله قهر سبع سنين أطلعه فيك
أولاها ظهره ليخرج
لكنّه تذكّر أمرًا , فالتفت اليها ليقول بتحذير
: لو مرة ثانية قلتي انّك حليلة اخوي بقص لسانك , انتي كنتي ارملة اخوي والحين زوجتي , انا ماني ديّوث
قال زوجتي وهو يشعر انّها سكّينٌ يلفظها من جوفه
كيفَ تجرّأت وصفعت ذات الوجنتين الناعمتينِ التي تخصّك
كيف اجتررت الأحرف لأطلقها بوجعٍ وانا اقولُ زوجتي
لمَ يا بندر تقسوْ عليّ وتضعني في خضمِ الوجع
لم تسلّمني الى المعاناةِ يا اخي
دخلَ الى غرفةِ النوم واستبدلَ ثيابه بصعوبة
واستلقى على السرير
وضع ذراعه على عينه بمحاولةٍ للنومِ وفشل
مرّ وقتٌ طويل
ليسمع صوتَ الباب
ثم أُضِيئت الغرفة
رفعَ ذراعه عن عينه منزعجًا
لم تلتف اليه , وأخرجت ثيابها من حقيبتها
نظرَ الى ثوبها الناعم
ليبتسم بسخرية
قال بمرارة
: دامك جايّة بنيّة سودا وراك لبستي ابيض ؟ ما يليق فيك على فكرة
التفتت اليه لتقول بنبرةٍ لا حياةَ فيها
: مثل ما انجبرت اتزوّجك انجبرت البس الأبيض , وانجبرت اشيل ورد , وانجبرت احط كحل وروج
أشاحَ ببصره عنها ولم يجبها
قال بعد ثوانٍ ببحّة
: قفلي الباب واللمبة اذا طلعتي
قالت ساخرة
: وليش أطلع ؟! انا بعيش معاك عمر وما راح اتقبّلك في يوم , لا يكون بقضي عمري انام برّى ؟!
دُهِشَ منها
قال بوجوم
: زين اجل سهّلتي علي , وانا ما راح اتقبّلك في يوم لكنّك زوجة ومثل ما لك عليك , لكنْ وضعي صعب الحين , لمّا اتحسّن بيصير لنا كلام ثاني
تشنّجت وشدّ جسدها
ارتجفت وهي تتذكّر مغازلة بندر الخادشةِ لخجلها في صباها
اقشعرّ جسدها حينَ تخيّلت
انّ ما تمنّاه بندر , سيأخذه عبد العزيز
ارتفعَ صدرها وهبط بقوّة
التفت اليها عبد العزيز
وقال بهدوء
: تعالي نامي , لا تخافين
قالت بقوّة
: ماني خايفة
هزّ رأسه بصمت , وأولاها ظهره لينام
لو تعلمين كمْ أتمنى منعَ أدمعك
كم أتمنّى زرعَ ابتسامةٍ على ثغرك
فقط من أجل شقيقي الذي طالما عشقك
لكنّي لا اجرؤ
اشعرُ بالشّللِ كلّ ما حاولتُ النظرَ اليكِ
كيف سأهدي بندر صبيًّا منكِ , وانا اقشعرّ اذا سقطَ بصري عليكِ !
كيف سألمسك , وانا اشعرُ بهِ مسلتقيًا بيننا
أغمض عينيه بقوّةٍ وشدّ على أسنانه
كفى يا بندر
كفى !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثامنة صباحًا
شرب من كوبِ الشاي , ثم قال
: بلشت بكم انا ! صايرين بزران والله , هذاك حالف ما يملّك الّا وانا جنبه , وانت مسوّي واسطات تطلّع تحليلك بدري عشان تملّك وانا معك ! بمشي انا بسافر عطّلتوني تراكم
قالت جدّته وهي تضربه بعصاها بخفّة
: الغريب ولد الناس ركضت له وفزعت فيه , وهذا ولد عمّك دمّك ولحمك تبي تخلّيه وتمشي !
قال سعود مؤنبًا
: الله يسامحك يمّه , عزيز ماهو غريب !
قال ابو سعود بصدق
: والله انّه اعز من الأخو
قالت بلا مبالاة
: يظل غريب في النهاية
قال سلطان
: المهم البربرة ذي اللي من الصبح ماهي مغيّرة شي ترا , بتحضر يعني بتحضر الله لا يعوق بشر
زفر سعود , ثم قال بغيض
: كرامة ما في
انفجر سلطان ضاحكًا , ثمّ رفعَ حاجبيه نفيًا
: مرّة ممسوح ببلاط
ضحك سعود ثم قال
: طيّب عجّل اجل , لأن والله ضيّعتوا وقتي تراكم
هزّ رأسه ايجابًا
: ان شالله ماني مطوّل , اليوم بعد المغرب يطلع التحليل , يعني بكرة ولا بعده نملك , انا ابيك بس بالعقد ولّا الاحتفالات ودوخة الراس ذي انا بكبري ماني حاضر
قالت جدّته بعصبيّة
: بتروح ورجلك فوق راسك
قال بخفوت
: ولّييه , انا وش خلّاني اتكلّم الحين – قال وهو يقبّل رأسها – ايه اكيد يمّه بس استهبل على سعود
ضحكَ سعود ورفعَ هاتفه ليتفقّده
قال والده مبتسمًا
: ما راح يتّصل , اكيد نام متأخّر وللحين ما قام
ابتسم بهدوءٍ ثم قال
: بالي عنده , اخاف انّه ما اخذ ادويته ولّا شي
: ما عليه شر ان شالله , واهله عنده اذا صار له شي
هزّ رأسه بصمت
بعدَ وقتٍ طويل
كان مستلقيًا أمام التفاز
ليرنّ هاتفه برسالة
فتحها
" صباح الخير سعود , عساك بخير , امّي تقول بدون نقاش غداك عندنا اليوم , منتظرينك على الظهر ان شالله "
اعتدل في جلسته والتفت الى والده
مدّ اليه الهاتف
قرأ والده , ثمّ رفعَ رأسه اليه
: روح لهم
قال بضيق
: والله ما ودّي
: والله ما تعرف الذوق ان ما رحت
قالت الجدّة
: وين يروح ؟!
قال ابو سعود
: اهل زوجته عازمينه وما ودّه يروح
شهقت جدّته وقالت
: سوّد الله وجه العدو , وراك ما تبي تروح !
لم يجبها
لتقول
: ماهو على كيفك , محمّد كلّم لي اختك موضي بوصّيها تجيب اغراض ياخذهم سعود للناس
قال سعود بزفرة
: ما يحتاج يمّه
لم تُعره اهتمامًا
وابتسم والده وهو يتّصل بشقيقته
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
العاشرة صباحًا
فتحَ عينيه بكسل , وشعرَ بحركةٍ قريبة
التفتَ ليجدها تجلسُ على أريكةِ الغرفة وتعبثُ بهاتفها
بحث عن عصاه لينهض , ولم يجدها
قال ببحّةٍ ووجوم
: وين عصاتي
لم تجبه
رفعَ صوته
: وين عصاتي ؟
التفتت اليه
: تكلّمني ؟
قال بذاتِ النبرة
: العصا وين ؟
اعتدلت في جلستها , لتقول بوجومٍ هي الأخرى
: رميتها
عقدَ حاجبيه , ثمّ قال
: عفوًا ؟
كرّرت دونَ ان تنكسر نبرتها
: رميتها
زفرَ بصبر , وفركَ وجهه ليبدّدَ غيضه
قال بعد ثوانٍ
: ليه رميتيها ؟! مانتي شايفة حالتي ؟ كيف بتحرّك الحين
رفعت كتفيها وعينيها تنظرانِ اليه بقوّة
قال ببطء
: فجر بالطيب قومي جيبيها
لم تجبه
قال وقد بدأ يغضب فعلًا
: يا زفت انقلعي جيبيها , ولّا والله انكّد عليك ذا الصباح
لم تتحرّك من مكانها
لينهض من مكانه وهو يتّكئُ على سريره , حتّى أصبح بجانبها
أمسك بشعرها بقوّة , وقال بهدوء
: جلدك يحكّك في صباحيتك ؟ ولا تبيني امدْ يدّي عليك عشان تحسّين انّك مسكينة
قال ببرود
: تدري اني بحركة وحدة اقدر اشلّك ؟
شدّ شعرها بقوّةٍ حتى أوقفها أمامه
ثم صفعها بكلّ حقده وغلّه
قالت بحقد
: لو تدري لأيّ حد بيكرهك بندر وانت تضرب زوجتـ...
صفعها مرّةً أخرى , وقال بغضب
: انا وش قلت امس ؟
قالت ببرود
: عساس انـ...
وضعَ كفّه على فمها
حتّى لا تنفثَ سمومها عليه , وحتّى لا يؤذيها أكثر
تركها وخرجَ الى الصالة , ليجدَ عصاه بجانبِ التلفاز
سارَ بصعوبةٍ اليها
جلس على الأريكة , وزفرَ بجنون
كيف ثملَ بها بندر !
ولم يتحمّلها هو يومًا واحدًا !
استغفرَ بحدّة
تلك الحمقاءُ أجبرته ليتلبّس شخصيّةً لا تشبهه في شي
لا يعلمُ كيفَ مدّ كفّه وضربها
كيف آذى بشرتها الشفّافة
شعرَ بخطواتها تخرجُ من الغرفة
حبسَ زفرةَ همٍّ من أن تخرج من صدره المكلوم
جلست أمامه , وأراحت احدى ساقيها على الأخرى
رفعَ رأسه لينظرَ اليها
قالت بسخريةٍ موجوعة
: صباحية مباركة يا عريس
لم يُجبها
غرقت مقلتيها بدمعٍ لؤلؤي
وتقوّست شفتيها بتعب
ظلّت تنظرُ اليه , لا تريدُ كسرَ نظرتها
نهضَ من مكانه وتركها
دخل الى غرفته يكادُ يجن
غسل وجهه واستبدل ثيابه وأتّصلَ بسعود
الذي ردّ بسرعة
: هلا عزّوز , طمّني عليك عساك بخير
قال بجنون
: سعود ما راح اتحمّلها , البنت اساسًا مغصوبة , من امس تحاول تستفزني وتطلعني من طوري ! ضربتها واحسها ترتاح لمّا تنضرب
قال سعود بصدمة
: ضربتها !
لم يجبه
ليصرخ سعود بغضب
: حسبيّ الله على ابليسك , ضربت البنت وهي عروس ! ما تخاف من الله انت ! حرام عليك حتّى لو ما تبيها حتّى لو مجبور وحتّى لو هي ما تبيك , طوّل بالك يا اخي تحمّل اضغط على نفسك , شلون عطاك قلبك تضربها ! ولا تقول لي هي طلعتني عن طوري , خويي واعرفك فيك غيض وتبي تطلعه , حرام عزيز والله حرام تنسأل عنها ترا , هدْ بالك وعاملها بالحسنى
قالَ بخفوت
: طيّب
: يلا انقلع
أغلقا الهاتف
وظلّ عبد العزيز على وضعه
يفكّر في طريقةٍ ليتعامل معها
تلك الحمقاء !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانيةَ عشرةَ مساءً
نزلت لتدخلَ الى غرفةِ الجلوس
قالت أختها مبتهجة
: صباح الخير يا مدلّل
قالت بحدّة
: انتي بالذات ما ابي اسمع صوتك
تأفّفت , ثم قالت
: وش دخّلني انا ! تركي وامّك اللي زوجوك
قالت وهي جدّ متضايقة
: هديل رجاءً
قال تركي ساخرًا
: اتركيها يا هديل , كانت بتضيع نفسها وما تبي أحد يكلّمها
استغفرت وهي تشيحُ بوجهها عنه
قالت ام علي بهدوء
: كل واحد يقوم يشوف شغله , لا تتقابلون قدّامي كنكم بزران وتتناجرون
نهضت رتيل وصعدت الى الأعلى
قالت ام علي بجديّة
: تركي اترك رتيل في حالها , انا خصيمتك ان ضايقتها
رفعَ حاجبيه بدهشة
: يمّه الله يطوّل عمرك وانا عدوها يعني ! يشهد الله ما اعز على قلبي منها ومن ذي الخبلة , ما لي هم الّا سعادتهم وراحتهم , بس رتيل استخفت ويبي لها شدّة عشان تعقل
قالت والدته برفض
: ماهي مستخفّة ولا شي بسم الله عليها , اختك تمر في ضغوطات صعبة ويبي لها مراعاة
زفر ولم يجب
بعدَ قليلٍ دخل علي , وابتسامةٌ جميلة تملأ وجهه
ابتسمت والدته
: خير ان شالله , وش عندك
مدّ اليها بورقة
: حجزت قاعة العرس ودفعت عربون
تهلّلت أسارير والدته , وقفزت هديل لتعانقه بسعادة
ضحك وعانقها
قال تركي بابتسامة
: على ايّ يوم
رمقه بنصفِ نظرةٍ ثم تجاهله
ليضحك تركي رغمًا عنه
قالت والدته
: ايّ يوم يمّه ؟
: باقي بالضبط بالضبط تسعة وثلاثين يوم
قالت ام علي
: اجل لازم نبلغ ام صقر , لو باقي شي يخلصونه , ونبدأ بتجهيزات العرس
قالت هديل بحماس
: انا بقول لداليا
أخذت هاتفها وصعدت الدرجَ بسرعة
دخلت على رتيل
التي قالت بحدّة
: هديل اطلعي برّى ما لي خلقك
قالت هديل بحماس
: علي حدّد عرسه
التفتت اليها غير مصدّقة
: احلفي
جلست هديل بجانبها وهي تتّصلُ بداليا
: والله , الووو
قالت داليا بكسل
: يا الله صباح خير
ضحكت هديل وقالت
: قومي يا الرفلا , عرسك باقي له تسعة وثلاثين يوم
شهقت داليا , ثمّ قالت بفزع
: كذابة
أخذت رتيل الهاتف وهي تضحك
: هديلوه خرعتيها , الو
قالت داليا بفزع
: رتيل امانة وش تقول اختك
انفجرت رتيل ضاحكة , ثمّ قالت بمكر
: اليوم الأربعين من اليوم بتكونين بحضن علي
أغلقت داليا الهاتف , لترميه رتيل جانبًا وتضحك حتّى سعلت
قالت هديل
: شوف الخبلة قفّلت
مسحت رتيل على وجهها , ثم قالت بزفرة
: تمنّيت اكون معاها في ذي الأيّام
قالت هديل وهي تمسكُ بيدها
: وش مانعك يا رتيل ؟ هذاك بيت عمنا ونقدر نروح له بأي لحظة
قالت ببحّة
: مستحيل اروح لبيت عمّي
قالت هديل
: عمّتي ام صقر تحبنا مثلنا مثل داليا , واذا طلبنا منها نكون مع داليا في هالأيّام بتستانس , وأكيد بتبعد صقر عن البيت اذا رحنا لهم
قالت ساخرة
: يعني ما تعرفينه ! والله اذا حط شي في راسه ان ما يمنعه احد
قالت هديل
: طيب لمتى بتصدّين ؟ الحين رجعتي لذمّته , لازم تعطينه مجال يتكلّم معاك...
نهضت من مكانها بارتجافٍ وقالت
: ما ابي اسمعه , ما ابي اكلمه ولا ابي اسامحه
قالت هديل بأسف
: ما ظنّيت انّك جبانة لهالحد , ما كنتي كذا
أولتها ظهرها ولم تتكلّم
لم أكُن أتنفس الحياةَ يا اختي
ولم يكتمل نموّي
لذلك لم تعهديني هكذا
كنت عدمًا في غيابه
عاد وألهمني الى كلِّ الصفات !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الواحدة مساءً
نزلَ من سيارته وفتح الباب الخلفي
ضحك بضجرٍ وهو يرى الأكياسَ المنمّقة
التي أحضرتها عمّته بأمرٍ من جدّته
لترغمه على أخذها
عُلبُ البخورِ والمعطّراتِ العربية
وصينيةُ حَلوى بالتمرِ وبالمكسرات
وقطعةُ قماشٍ فاخرة !
فكّر لوهلةٍ ان يتركَ الأكياس ويدخل دونها
لكنّه يعلمُ انّ جدّته لن تتركه !
حملَ الأكياس وأغلق باب السيّارة
ليطرق باب المنزل
بعد ثوانٍ فتحَ فيصل الباب وابتسم
: يا هلا
سلّم عليه سعود ودخل
اتّجه الى المجلسِ الخارجي , لكنّ فيصل قال
: داخل يا سعود
قال بتردّد
: بس...
قال فيصل بهدوء
: ما في الّا امّي , تفضّل
سارَ معه ودخل الى المنزل
استقبله بندر , ومن خلفه ام خالد
سلّمت عليهِ وأدخلته الى المجلس
ابتسم خالد وقال
: اعذرني...
قاطعه وهو ينحني اليه
: شلونك
هزّ رأسه ايجابًا
: الحمد لله
جلسَ سعود , ثمّ انتبه الى الأكياس
مدّ بها الى ام خالد وقال
: هذه من جدّتي وتقول لك سامحيها على القصور , وودّها تشوفك بأقرب فرصة ان شالله
قالت ام خالد بمحبّة
: يا حبيبتي , والله كلّفت على عمرها , واكيد انا ودّي اشوفها والله
ابتسم وتركَ الأكياسَ جانبًا
,
كانت تقفُ بجانبِ البابِ تنظرُ الى جانبِ وجهه
حبست زفرةً ملتاعةً ان تهرب من صدرها
تشعرُ ان روحها تحترق وهي تراه , وتعجزُ عن الاقتراب
ودّت مناداته حينَ دخل
ودّت مطالبته بأن يعانقها قبلهم , ان تشمّ رائحته
رائحةُ رقبته وشعره
التي تجعلها تذبلُ كثيرًا , التي تجعلها تشهقُ بعشقٍ له
عضّت شفتها السفلى حينَ ضحكَ وأحنى رأسه الى الأسفل
ورفعت حاجبيها حين رفعَ حاجبيه بدهشة
انتظرت ان يسألَ عنها
لكنّه لم يفعل !
بعد دقائق نهضت والدتها واتّجهت اليها , الى الباب.
ابتعدت خطوة , لتخرجَ والدتها وتغلق الباب
نظرت اليها والدتها بصمت , ثم سحبتها معها الى المطبخ
جلست على ركبتها , وبكت بحرقة , دونَ مقدّمات !
زفرت والدتها وقالت
: لين لا يسمعك الرجّال
قالت بوجع
: ليش يصير معي كذا يمّه , والله ما اتحمّل...
قاطعتها والدتها بهمسٍ حاد
: كان لازم تعرفين انّك ما بتتحملين قبل لا تخلّينه وتجين
هزّت رأسها وهي تغلقُ اذنيها
نزلت اليها والدتها وقالت
: بس لين , لا تفضحينا مع الرجّال , قومي ساعديني او روحي غرفتك
نهضت بترنّح
لتساعدَ والدتها
حينَ أتى بندر ليأخذ الأطباق
قالت ببحّة
: بندر حط ذي الصينية قدّامه , يحبها
ازدرد ريقه ولم ينظر اليها
نظرت اليها والدتها مشفقةً على حالها
عدّدت الأطباقَ التي يحبّها , وطبختها باتقان
تذكّرت حينَ قالت لها
": يا بنتي وش ذا الأكل المدلّع , نسوي مفطّح أنسب شي
هزّت رأسها نفيًا
: سعود يفضّل الصواني والبيتزا على الرز واللحم
: انا ما لي دخل فيك , بسوي مفطّح وانتي سوّي اللي تبينه"
مسحت والدتها على كتفها
: اتغدّى معك ؟
قالت بخفوت
: لا يمه ما اشتهي , روحي تغدّي معاهم وانا ان جعت باكل
: براحتك , بس جهّزي الشاي
ذهبت والدتها الى المجلس
قالت بمحبّة
: سعود يمّه , يلا تفضّل
جلسَ أمام السفرة
ونظرَ الى الأطباق
ازدرد ريقه , وعقد حاجبيه
قرّب اليه بندر الصينيّة التي أخبرته عنها لين
نظرَ اليها , أبعدها بوجوم , وأخذ صحنًا فارغًا وملأه رزًّا ولحمًا
ملأت ام خالد رأتيها هواءً , بصبر
قالت بهدوء
: خالد وش احط لك
أجبر سعود نفسه وأكل حتّى اكتفى
وتجاهل باقي الأطباق
التي يكادُ يخبرهم مقاديرها ومدّة طهيها
طريقة ترتيبها , وألوانها ورائحتها
يعرفها جيّدًا
طبختها لهُ مرّاتٍ عدّة
حتّى انّه كان يساعدها فيها !
أنهى طعامه , وابتعد
نهض من مكانه , لينهض بندر
قال سعود
: خلّك كمّل أكلك , اذا خلصتوا رحت
قال بندر
: تكرّم , بس بدلّك , عاد البيت بيتك
سار معه ودخلَ الى الحمام
وعادَ بندر الى المجلس
خرج سعود من الحمّام ليقفَ أمام المغسلة
شعرَ بصوتٍ قريب , ثمّ فتح باب
التفت بخفّة
كان يبدو مطبخًا
فتحت الباب والتفتت بوجهها الى الداخل , دون ان تنتبه اليه
نظرَ اليها بصمت
حتّى أغلقت نورَ المطبخ والتفتت الى الخارج
شهقت وفزّت من مكانها حينَ رأته
لم تتغيّر ملامحه , ولم تنكسر نظرته
وظلّت هي مشدودةً بصدمةٍ لثوانٍ
ثم بفزعٍ دخلت الى المطبخِ وأغلقت الباب
أطلق زفرةً حادّة
ثم رفس الجدارَ لاعنًا قدومه الى منزلهم !
غسلَ يديه ووجهه بماءٍ بارد
ثمَ عاد الى المجلس
جلسَ وهو عاقدٌ حاجبيه
قال خالد مبتسمًا
: خويك عبد العزيز شخباره ؟
التفت اليه , وقال بهدوء
: الحمد لله بخير , امس تزوّج , هو أخّرني ولا كان سافرت من كم يوم
: ما شالله الله يوفقه , بيستقر هنا خلاص ؟
هزّ رأسه ايجابًا
: ان شالله اكيد , وش يسوي في لندن اجل !
قال فيصل بهدوء
: وانت وين ناوي تستقر ؟
التفت وظلّ صامتًا لثوانٍ
ثم قال
: للحين ما قرّرت , هنا جدّتي وعمامي , وهناك امي وابوي وجدّتي لأمّي
قالت ام خالد
: ابوك ما يفكّر يجي هنا ؟ عشان امّه واخوانه يعني
هزّ رأسه نفيًا
: شغل ابوي وحياته كلّها في بريطانيا , وامّي عمرها ما عاشت برّى بريطانيا , وجدّتي ما لها غيرنا , غير انّ ابوي عاف الرياض وكرهها من وفاة جدّي الله يرحمه
قالت ام خالد بزفرة
: والله يا امّي الرياض قاسية
ابتسم خالد
: جاتك العنصرية , الرياض قاسية والشرقية وشو ؟
ابتسمت
: الشرقية ريحة الجنّة
قال بندر
: ايه انا مع امي , فديت ريحة خوالي
عقدَ فيصل حاجبيه
: والله ما في اعز من الرياض
قال سعود بابتسامة
: قرن الشيطان
التفتوا اليه بحدّة
لينفجر ضاحكًا ويرفع كفّيه
: اعصابكم , مالي دخل هم يقولونه , ولّا انا من الرياض والله
قال فيصل
: مشكوك في ولائك انت , ما يندرى عنّك صاير مكس بين الرياض ولندن
عقد حاجبيه
: امي سعودية ابًّا عن جد ومن الرياض بعد
قال خالد وهو يرفع حاجبيه ليغيضه
: وامها ام عيون زرق
التفت اليه سعود بحدّة
: ولد
ضحك خالد ومدّ بصحنه الى بندر
: عادي يا شيخ كبر جدّتي , بس والله يا هي...
قفز سعود ليغلق فمه , لينفجروا ضحكًا
وضحكت هي من بينِ أدمعها وهي تنظرُ اليه !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثالثةَ مساءً
تأفّفت بضجرٍ حقيقي
رفعت رأسها لتنظرَ اليه
قالت بنبرةٍ ميّتة
: لمتى ذا الجو الميّت ؟
قال بلا مبالاة
: وش اسوّي لك
لم تجبه
وتجاهلها هو ايضًا
بعد قليلٍ قالت
: جوعانة
: روحي للمطبخ
: الثلّاجة فاضية
زفر , واتّصل بشقيقته
:تهاني
قالت بمحبّة
: يا عيونها انت , شلونك حبيبي
قال بهدوء
: بخير , ليه مو شارين مقاضي ؟
قالت بشهقة
: وجع يوجع اختك , جوعان ! الحين بنزّل لك شي تاكله
ابتسمَ رغمًا عنه , ثم قال يؤنبها
: لا تدعين على نفسك يا خبله , كلّمي امّي ترانا ما فطرنا ولا تغدّينا
قالت بحنوْ
: حبيبي انت , امّي من الظهر تسوّي لكم غدا , بس حسّبت الثلاجة مليانة وفطرتوا , الحين اجيب لكم تصبيرة
أغلق الهاتف , وأشار به اليها
: روحي افتحي الباب تهاني بتجيب شي تاكلينه لين يصير الغدا
نهضت وفتحت باب الشقّة
كان المبنى من ثلاثةِ أدوار
الدورِ الأرضي فيه ساحةٌ فارغة
والثاني فيه غرفةٌ بدورةِ مياه
وأمامها شقّة بندر , التي أصبحت لعبد العزيز
وفي الثالثِ البيتُ الكبير , ابو بندر وزوجته وابنته
مبنىً خاص
كان من المفترضِ ان تقف بحجابها الآن , تحسبًا لمرورِ عبد العزيز
لكنّ عبد العزيز في الداخل
زوجها
ووالده محرمها
اخو الزوجِ مفقودٌ هنا
رمشت بسرعةٍ وهي تشخصُ ببصرها , حتّى لا تبكي
لن تبكي بندر , وتدعَ أحدًا يرى أدمعها
خصوصًا شقيقه
عديمُ المروءة !
شعرت بصوتٍ في الأعلى ورفعت رأسها
نزلت تهاني بالصينية , وقبّلت وجنتها
ابتسمت وقالت
: صباح الخير , شلونك !
قالت فجر بهدوء
: الحمد لله
قالت تهاني
: عسى قدرتي تنامين امس ؟
هزّت رأسها ايجابًا
مدّت تهاني اليها الصينية , وقالت محرجة
: فجور ولا عليك أمر اسألي عزيز عن دواه , ان ما ذكّرناه ما ياخذه
هزّت رأسها بصمت , ودخلت
وضعت الطعام في الصالةِ وجلست لتأكُل
مرّ وقتٌ يسير , حتّى سمعت صوت عصاه
مرّ بجانبها , ورفعَ كوبَ العصيرِ ليشربه دفعةً واحدة
ثم جلسَ في الجهةِ الأخرى
التفتت اليه وقالت
: اجل انا من بكرة برجعْ لدوامي
رفعَ رأسه اليها , صمتَ لثوانٍ
ثم قال
: انتي مو بندر قال لك ما يبيك تشتغلين , وكنتي بتتوظّفين وبطّلتي !
قالت بحدّة
: بندر توفّى , كنت بعتمد عليه لبقيّة حياتي وما احتاج شي بوجوده
قال عبد العزيز بحدّة
: ومانتي محتاجة شي الحين , واللي تحتاجينه يجيك
قالت ببرود
: ما آخذ من احد شي
قال من بينِ أسنانه
: انا زوجك , ماهو حبًّا فيك لكنّي ملزم فيك من الشرع ومن العرف
تأفّفت , ثم قالت
: انا ابي شغلي , ماني متعوّدة على الجلسة البليدة ذي ! نوم وتلفزيون وجوال واكل وبس
استرخى في جلسته , وقال
: كلّها يومين وما بتلقين وقت , بتنشغلين في التنظيف والطبيخ – صمتَ لثوانٍ ثم قال ببطء – وتحملين وتخلفين
نظرت اليه بصدمة
أُلجمَ لسانها لثوانٍ , ثم قالت بعصبيّة
: تبطي عظم
ضحك بخفّةٍ وتجاهلها
نهضت من مكانها وقالت تهدّد
: لو تموت سامع , لو تذبح نفسك ما تقرّب منّي
هزّ رأسه ايجابًا , وقال بسخرية
: ان شالله
تركته ودخلت الى الغرفةِ وأغلقت البابَ بكلّ قوّتها
أغمض عينيه من قوّة الضربة
ثم فتحهما وقال بغيض
: وكسر ان شالله , حيوانة
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الواحدة وخمسٌ وعشرون دقيقة مساءً
وضعَ نظّارته على عينه وقال
: اجل انا بمر عزوز
قال سلطان
: لا تطوّل , ترا قبل الخمس نملك , انتبه للساعة
هزّ رأسه ايجابًا
: ان شالله
خرجَ وركبَ سيّارته
بعدَ دقائقٍ رنّ هاتفه
ابتسمَ وأجابه
: هلا والله
ابتسم الآخر وقال
: انتظرتك تتّصل ولا لقّيتنا وجه , اليوم امّي قعدت فوق راسي الّا تتّصل عليه
ضحك بمحبّةٍ وقال
: والله على بالي بس انشغلت شوي , شلونها خالتي
: الحمد لله بخير , وتقول لك حيّاك تغدّى عندها اليوم
قال بصدق
: والله ما افوّت طبخها وقعدتها , بس الحين رايح لعزيز اسلّم عليه والعصر عندي ملكة ولد عمّي وطيّارتي باللّيل
سمعَ صوتها حادًّا
: ماهو على كيفك
شهق بخفّةٍ , ثم قال بترحيب
: هلا هلا , هلا بذا الصوت
قالت بحنوْ
: يا امّي انت , شلونك يا يمّه
: الحمد لله , وش اخبارك خالتي وش مسوية !
: تعال لي واعلمك اخباري
: والله...
قالت برجاء
: سعود لو نص ساعة تمرني , ابيك بسالفة
صمتَ لثوانٍ , ثم قال
: خلّي وليد يرسل لي العنوان
قالت بعجلة
: هو يعلمك أسرع
مدّت بالهاتفِ الى وليد الذي أخبره عن مكانِ المنزل
انحرف عن طريق منزلِ عبد العزيز الى منزلِ وليد
خلال دقائق نزل من السيارة ليستقبله وليد ويصعدانِ معًا
دخلَ وجلسَ في المجلس
دخل وليد الى المنزل , وعاد بعد دقائقَ بالقهوة
ضيّفه , وجلسَ أمامه
قال سعود
: وليد الله لا يهينك...
سمعَ حينها صوتها , بمحبّة
: يا هلا وغلا
التفتَ اليها وضحكت عيناه بابتهاج
نهضَ من مكانه , وقال بمحبّة
: بعد راسي والله , حي ذي الطلّة
قالت بحنوْ
: توْ ما نوّر بيتي , شلونك يمّه وش اخبارك ؟
جلست قريبةً من الباب
جلس وهو ينظرُ اليها
: الحمد لله , قوليلي انتي وش اخبارك , عساك مرتاحة !
هزّت رأسها ايجابًا
: الحمد لله
خرجَ وليد وتركهما
ليقولَ سعود
: عندي لك خبر
قبل ان تخبره انّ لديها خبرًا أكبر , قال
: لقيت لين
رفعت رأسها اليه بصدمة
ليهزّ رأسه ايجابًا
: لقيتها واليوم بسافر انا وهي
شلّ لسانها , ليقول هو بغضب
: ما ادري شلون بتحمّل وما اذبحها يا خالتي
ازدردت ريقها , وقالت بصعوبة
: يمه سعود استهدْ بالرحمن واذكر الله , عاملها بالحسنى...
قاطعها بهمسٍ حاد
: ما خلّت فيها حسنى يا خالتي , جابت لنفسها الشقى والله
صمتت , وصمت
بعد ثوانٍ قال
: وش كنتي بتقولين لي
قالت بابتسامةٍ مرتبكة
: ولا شي , بس كنت بشوفك , عزيز هنا صح ؟
ضحك
: الله يسامحك جبتيني على وجهي , ايه مستقر , وتزوّج بعد
قالت بصدمة
: تزوّج !
نظرَ الى ساعته ونهض
: خالتي انا تأخّرت والله , اذا كلمتيه هو بيعلمك كل شي , يلا يا بعدي استودعك الله
قالت بحنان
: الله يحفظك يا يمّه , بالله عليك شوي شوي على لين تراها بنتي مثل ما انتوا عيالي
لم يُجبها
واتّجه الى الباب
: مع السلامة خالتي
قالت باستسلام
: الله معاك
خرجَ من منزلها الى منزلِ عبد العزيز
رنّ عليه
: عزيز انا تحت
: انا بروح غرفتي تعال لي هناك
صعد سعود ودخل الى غرفة عبد العزيز
اقترب وقبّل رأسه وجلسَ أمامه
: ها شلونك
زفر , وقال بشكلٍ مضحك
: بتموّتني صدّقني ! فوق همّي ذي خبلة بتجنّني , كل شوي تبي تنضرب
ضحك سعود رغمًا عنه , ثم قال
: سايسها ياخي , تبيني اعلمك شلون تعامل زوجتك ! وش فيك انضرب مخّك انت !
: لا تقول زوجتك يرحم والديك , والله للحين مستحرم اطالعها
وضع سعود كفّيه على رأسه
: لا حول ولا قوّة الّا بالله , مانت عاقل , زوجتك حسبي الله على ابليسك , انا شاهد والله
قال عبد العزيز بانزعاج وهو يدفعه بعصاه
: قسم بالله ما يضحّك
ضحك سعود , ثم قال
: صح تذكّرت , مرّيت خالتي سارة اليوم وسألت عنّك , عاد انت كلّمها ماهو تقطعها
كشّر بوجهه
: تبيني اتّصل على ولدها
: تراه حليل , تلاقيه كان وقتها معصّب ومنفعل , ولا والله محترم تراه
هزّ رأسه وقال
: خلني اخلص من ذي العلّة ثم اشوف وش اسوي
ضحك سعود وفرك عينيه
قال عبد العزيز بهدوء
: مبيّن والله شكثر متوتّر ومشدودة أعصابك , ريلاكس هدْ
رفعَ كتفيه بضياعٍ وصمت
قال عبد العزيز
: ماني راحمها ولا شايل همها , خوفي عليك انت , شد أعصاب وتوتّر , ولو أذيتها انت بتتأذى قبلها
قال بخفوت
: الله كريم
مرّ وقتٌ حتّى نظرَ سعود الى ساعته , ونهض
: عزوز انا لازم امشي
: بدري !
: اليوم ملكة سلطان , بلحق اروح له احضر ملكته وارجع للبيت ابدّل وآخذ شنطي , وأمرها وأطلع للمطار
قال عبد العزيز بمحبّة
: استودعك الله دينك وامانتك وخواتيم اعمالك , توصل بالسلامة يا اخوي , وطمّني على وصولك , وحط بالك على نفسك
قال سعود
: وانت بعد انتبه لنفسك ولأدويتك , وشدْ حيلك بالعلاج الطبيعي عشان تتحسّن بسرعة , انت تزوّجت وعندك مسؤوليات الحين
نزل اليه ليعانقه , كانَ يودّعه ولا يعلُم متى سيلتقيه
عانقه بقوّةٍ وقال بفخوت
: استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه
قال عبد العزيز وهو يشدُّ عليه
: لا تقطعنا عاد
ابتسم سعود , ولم يعلّق
لا يعلمُ حقًّا كم سيمضي من الوقتِ دونَ لقاء
ابتعدَ عنه أخيرًا
وتركه وخرج
ركب سيّارته واتّصل بخالد
الذي أجابه بعدَ ثوانٍ
: هلا سعود
: هلا خالد – استثقل اسمها , ثمّ قال – حرّص على لين تكون جاهزة , الطيارة على اثنعش الليلة
: لا تشيل هم كل شي جاهز , بس تلبس عباتها وتطلع لك
: على خير ان شالله
ودّعه , ووصلَ الى المنزل
دخلَ ليجدَ فوضى تعمُّ المنزل
عقد حاجبيه
: يا ساتر ! وش ذي الحوسة
قالت جدّته بعصبيّة
: انت باقي ما لبست !
نظرَ الى ساعته , ثم قال
: يمه توها ثلاثة ونص الله يصلحك
صرخت به
: هماك مسافر الليلة ! اطلع بسرعة البس وتأكّد من اغراضك
قال والده
: انا رتّبت أغراضك وسكّرت الشنط , طلّعت لك بس ملابس السفر , وكشختك جمّعتها من عيال عمّك عشان لا نحوس شنطك
: ما احب البس غير اغراضي
دفعه سلطان بغيض , وهو اساسًا في حالةٍ سيّئة !
: تعرف تنقلع تلبس ولا لأ
ابتسم مالك في وجه سلطان بهدوء , وقال لسعود
: تعال سعود
صعدا سويًّا
قال سعود بزفرة
: الله يعين هالسلطان
قال مالك
: كلّها كم يوم ويتعوّد غصب , لمتى يعني !
لم يجبه سعود
دخلا الى الغرفة , وفغر سعود فاه !
التفت الى مالك
: وش ذا !
ابتسم مالك
: نعال حسن وثوب سلطان وشماغه وطاقيّة ابوك وعقاله وساعتي وعطري وكبكات ابوك
قبل ان يعترض سعود , قال مالك
: سعود يرحم والديك كلّها كم ساعة ياخي وش فيك !
تأفّف وقال
: ما احب يا اخي , اغراضي وملابسي احب ارتّبها وانسقها بنفسي
قال مالك ساخرًا
: يحق له سلطان يستقعد لك والله
رفسه سعود وقال
: وراك بس , انقلع يلا
ضحك مالك وتركه ليستبدل ثيابه
بعد ربعِ ساعةٍ كانوا يقفون أمام الجدّة
التي كانت تسمّي وتهلّل , وتدورُ بالمبخرةِ عليهم
: اعيذكم بكلماتِ الله التامّات من شرّ ما خلق , اعيذكم بكلماتِ الله التامّة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كلّ عينٍ لامّة
التفتت الى سلطان
: سلطان يا امّي
تنفسَ بقوّةٍ وضبطَ أعصابه , ثم التفتَ اليها
: سمّي يمّه
: روح جيب ابوك يا يمّه
خرج الى الغرفةِ الأخرى
وجلسَ أمام والده
قبّل كفّيه , ودمعت عينيه
قال بنبرةٍ منهارة
: بتزوّجني
أغمض والده عينيه بقلّة حيلة
قال برجاءٍ ونبرةٍ باكية
: ما اقدر يبه , ما اقدر والله
همهم والده
أراح سلطان رأسه الى ركبةِ والده
وقال بانهيار
: ما ابي , خايف على نفسي يبه...
لم يستطع اكمال كلماته
انزلقت من شفتيه لتتكوّم على حنجرته
لتسدّ مجرى صوته
شهق بصعوبةٍ وظلّ على حاله
همهم والده , مرّت دقائق
حتّى رفعَ رأسه بيأس
: يا انا بموت يا بنت الناس
همهم والده بصوتٍ عالٍ وفتحَ عينيه بعصبيّة
نهض وقبّل رأس والده
قال بخفوت
: أعاصبك يبه , هدْ يا بعد راسي
دفع الكرسي الى المجلسِ المكتظّ بعمومته وأبنائهم وأزواج عمّاته وأبنائهم
اقتربت الجدّة من ابنها وانحنت اليه
: ولدك بيملك اليوم
دمعت عينيه , واشاح ببصره عنها
مسحت أدمعه بحجابها , وطبطبت على رأسه
همست في اذنه
: افرح له يا يمه , والله جنّنت ولدك , لا بركةٍ في عدوّك وعدوّه
رفعَ صوته بهمهمةٍ غاضبة
ليقترب محمّد منه
قبّل جبينه بعمق
وأمسك بكلتا كفّيه
: ابو سلطان , جعلني أفداك مو زين على صحّتك يا ابوي , افرح اليوم كلّنا فرحانين بسلطان , والله انّ فرحتي فيه نفس فرحتي بملكة سعود , ربّيناهم وكبّرناهم , من حقنا عليهم نفرح فيهم , ونشوف سعادتهم
اقتربا سعود ومالك وقبّلا رأسه
قال سعود متسائلًا
: ما يقدر يروح معنا ؟
قالت الجدّةُ بحسرة
: يا ليت , بس صحّته ما تساعده يطلع من البيت
قال ابو سعود وهو ينظرُ اليه
: ناخذ ادويته وناخذ حيطتنا وننتبه له , ولو تبين حتّى ممرض ناخذ معنا
صمتت متردّدة
قال مالك
: حتّى سلطان بيستانس اذا صار عمّي معاه في ملكته
قالت مستسلمة
: حلفتكم بالله تنتبهون له عدل
هتفوا بسعادة , وابتسم ابو سعود
اخذته الخادمة , لتستبدل له اروى ثيابه بمساعدةِ الخادمة
عطّروه وبخّروه
ثم خرجوا جميعًا
ركب ابو سعود بجانبِ مالك
وسعود وسلطان وابو سلطان خلفهما
غطّى عينيه بكفّه
وهو يحبسُ وجعًا في قلبه
يودُّ أن يصرخ ليسمعه كلّ العالم
لا أريد
تمنّى ان يتوسّل الى مالك ليتزوّجها بدلًا عنه
جحيمُ مأساةٍ يُسعّرُ في قلبه
وهو ذاهبٌ الى حتفه
رفعَ رأسه الى المرآة لينظر الى مالك , بنظرةٍ يفهمها هو فقط
نظرَ اليه مالك بحنوْ
أشاح ببصره عن مالك
حينَ تذكّر انّه قد قتلَ أخته مرّة
لكنّه لم يتركه
او يبتعد عنه
واليوم هوَ أوّل الواصلين
وهو الذي يشدُّ على كتفه ليقوّيه
تزيدُ تعبي يا مالك بفيضِ عطائك
تشعرني بدناءتي !
أوقفَ مالك سيّارته أمام المنزل
والتفت الى سلطان
قال برفق
: يلا سلطان
زفر بقوّةٍ ونزل من السيّارة
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانية مساءً
نادت الممرضةُ على اسمه
نهض ودخل الى غرفةِ الطبيبة
أشارت اليه ليجلس
جلس , وسألته
: ايش المشكلة ؟
قال بهدوء
: دوخة وصداع ووجع معدة وبطن
عقدت حاجبيها
: من متى عندك الألم ؟
: له كم يوم , ابي تحليل دم يا استاذة
قالت بانزعاج
: انا دكتورة , وعارفة وش اسوّي مو منتظرتك تقول انّك تبي تحليل دم !
كتمَ ضحكته وصمت
قالت الطبيبةُ للممرضة
: اعملي له تحليل...
قاطعها بسرعة
: لا لا , ما ابي ذي الاندنوسية تسويلي
قالت الطبيبةُ بدهشة
: عفوًا !
قال باستعطاف
: ايه انا عندي فوبيا من الابر , لازم احد ثقة , في ممرضة عندكم امّي جرّبتها تقول يدها خفيفة
اغمضت عينيها لثوانٍ طويلة , ثم قالت بمحاولةٍ للهدوء
: مين ؟
قال ببطء
: رتيل عادل
قالت ساخرة
: احد ثقة وفوبيا وآخرتها طالبة !
قال ببرود
: مو شغلي ابيها تسحب دمّي , تراني دافع
قالت بعصبيّة
: يا استاذ انت مو في بسطة تتكلّم بهالطريقة !
قال ببرود وهو يستفزّها بحاجبيه
: اعصابك يا استاذة
شدّت على اسنانها , والتفتت الى الممرضة
: نادي نيرس رتيل
خرجت مسرعة , وبعد دقيقتان عادت مع رتيل
كان ظهره ناحيةَ الباب
قالت رتيل بهدوء
: تفضّلي دكتورة ؟
نهضت من مكانها منفعلة , ومدّت اليها ورقة
: اسحبي له دم وارسلي التحاليل للمختبر
لتقترب رتيل , وتقول بجديّة
: تفضّل يا استاذ , اجلس هنا
أشارت ناحية السرير
التفت اليها وقال بنبرةٍ حانية
: حاضر يا دكتورة
حبست رتيل شهقتها , وفتحت عينيها بصدمة
قالت الطبيبة وهي تكادُ تقتلعُ عينيه
: نيرس يا اخ , نيرس رتيل انا برّى اذا خلّصتي ناديني
قالت رتيل بفزع
: دكتورة...
خرجت الطبيبةُ وأغلقت الباب
ظلّ في مكانه , ينظرُ اليها مبتسمًا
تراجعت خطوة , ثم قالت بحدّة
: تفضّل يا استاذ
نهض من مكانه وجلسَ على السرير
جهّزت الابرة والعلب الصغيرة واقتربت منه
قالت بقوّةٍ تدّعيها , وهي ترتجف
: مد يدّك
مد بكفّه اليها
لبست القفّازات
وأمسكت بيده بتوتّر
كادت تسقطُ مغشيًّا عليها
مرّرت أصابعها بعجلةٍ على كفه , ليظهرَ عرقه
غرست الابرَة بقوّة من شدّة التوتّر , ليتأوّه
شهقت ورفعت رأسها لتنظرَ اليه بسرعة
مدّ شفتيه بدلالٍ وقال
: عوّرتيني يا دكتورة
أنزلت عينيها الى كفّه ونفسها يرتجف
قال بهمس
: انا تعبان
قالت من بين أسنانها
: بتجي الدكتورة وتشوفك
اقترب منها وقال
: انتي علّتي ودواي
افلتت يدَه , لتميلَ الابرةَ وتؤلمه , ويسلَ دمه على كفّه
أغمضَ عينيه بألم , وهتفت رتيل فزعة
: صقر !
امسكت يده بقوّة لتخرج الابرةَ ببطءٍ وتنظّفَ الجرح
قالت بارتباكٍ وارتجافٍ وتوتّر
: ياربي شوف وش سويت
فتحَ عينيه وابتسم
رمت الابرة في القمامةِ وقالت
: مد يدّك الثانية عشان اسحب
نهض من مكانه وقال
: صرت بخير الحين
تراجعت , ليتقدّم اليها
قبل ان ينحني اليها فُتح الباب
التفتت اليه رتيل بشهقة
قالت الطبيبة
: خلّصتي ؟
قال صقر
: خلاص هوّنت , راحت الدوخة
نظرت اليه الطبيبةُ بدهشة
صمتت لثوانٍ , لكنّها لم تتحمّل
قالت بهدوءٍ مفتعل
: اظنّك مغلط بالقسم , العيادة النفسية في المبنى الخلفي
رفع حاجبيه ولم يعلّق
وضحكت رتيل وكتمت ضحكها بكفّها
ابتسم وقال
: مشكورة يا استاذة
ضربت الطاولةَ بغيض
ليخرج هو
قالت الطبيبة بعصبيّة
: عاهات
خرجت رتيل بصمت
وانفجرت ضحكًا في الممر !
شعرت انّها تتنفّسُ الحياة
شعرت بأنّ الدنيا انحنت أمامها ورفعت طرف ثوبها بلطف , وابتسمت في وجهها !
تلك النظرة
التي فقدتها لأعوامٍ طويلة
فقدتها في أعوام عمرها الفانية
عادت , لتحيي داخلها
لتزهر فيها جنّةً من بهجةٍ وفرح
اعتدلت في وقفتها وعقدت حاجبيها
ما زالت جراحها ملتهبة
نظرته لم تُبرِئها
ولم تشفِ سقمها
ما زالَ أمامكَ عمر يا صقر
عمرٌ تسترضيني فيه , كالعمرِ الذي انتظرتك فيه
لن تستميل قلبي المتيمِ بك , بنظرةٍ او ابتسامة
احتاجُ ان تعيد اليّ حياتي التي ضاعت
حتّى اتمكّن من التفكير في العودةِ اليك !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
التاسعة وخمسٌ وأربعون دقيقة مساءً
عانقت والدتها أخيرًا , بعد ان ودّعت اشقائها الثلاثة
بكت رغمًا عنها وهي تشتمّها بضعف
تشعرُ انّه الوادعُ الأخير
لن ترى والدتها مجدّدًا
ربّما في عرفِ سعود هذا عقابها المناسب !
قالت برجاء
: تكفون حاولوا فيه تجون للمطار
زفرَ خالد بِحُلُم , ثم قال
: الرجّال قال ما يبي احد معاه في المطار , شلون يعني غصب ولّا غصب !
رنّ هاتفُ فيصل , ليقول
: اسكتي
أجابه , وصمتَ لثوانٍ , ثم قال
: طيب
أغلق الهاتف ونهض
: هذا هم وصلوا , سعود بيدخل يسلم علينا وعلى امي وتمشون
فتح الباب ليدخل سعود
اختبأت بعيدًا عنه
ودّع سعود خالد الذي همسَ في اذنه
: بالله عليك تنتبه لها , وراعيها واهتم فيها
هزّ رأسه بصمت , والتفت الى امّ خالد
التي عانقته وبكت , همست ببكاءٍ ورجاء
: امانة عندك بنتي يا سعود , لا تقهرها ولا تبكّيها ولا تزعلها بالله عليك , بنتي الوحيدة وان بكت اموت والله
قال بخفوت
: لا تشيلين همها , طلعت من بيتها لبيتها
كان يقصدُ ببيتها الآخر
قلبه
وعيناه
وروحه !
التفت الى فيصل
: نادها فيصل , انا بطلع واسلّم عليك برى
خرج من المنزل , وبعد دقائق خرجا بندر وفيصل يحملان الحقائب
وضعاها في السيّارة , ونزلَ ابو سعود ليسلّم عليهما
ودّعا سعود والتفتا الى المنزل
قال فيصل
: يلا تعالي
خرجت ببطء , وجسدها يرتجف
صدّ عنها سعود
قال ابو سعود بحنوْ
: تعالي يبه
اقتربت وقبّلت رأسه
وجلست في المقعد الخلفي
أشار سعود بكفّه الى أخويها , وركب السيّارة
بجانبِ والده الذي يقودها
واتّجهوا الى المطار
,
,
الى الملتقى :)