بسم الله الرحمن الرحيم
البارت الخامس والأربعون
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الرابعة وعشر دقائق
كأنّما دلوٌ مدّ الى بئرٍ خاوية
نُسِي فيها !
رمته ذات نهار
وأهملته
وبصوتها , أعادت اليه الحياة التي سرقتها في رحيلها
اعادت قلبه الذي انتزعته من صدره , وذهبت به
شعرَ بالدوار وهو ينظرُ الى عينيها , التان تصدّان عنه
لا زالت راؤها ودالها تتراقصان بخفّةٍ على أوتار سمعه
لا زال غنجها المُرتاح , يداعب قلبه
حبسَ الشهقة التي كانت على شفا انتزاع روحه منه
ارتخى كتفاه , وشدّت عروق قلبه حين ضحكت بخفوتٍ من كلماتِ شقيقها
يا ناعمةَ الوجنتين
يا لامعة الحدقتين
يا قلبًا عاشَ بين دفتي صدري
يا روحًا استودعتها روحي
يا حبًا تسرّب بي , وشلّني عن آخرِي
يا حبيبتي !
ايّ جنونٍ قادني اليكِ , وأخضعني الى حبّك الذي هربتي به
ايّ لحظةِ انسانيّةٍ خرقاء , اجترتني اليكِ عنوة
لأعطف عليكِ , لأساعدك
لأرتبط بكِ !
كيفَ لعينيكِ اللامعة ان تظلّ تسحرني
مذ رأيتها أوّل مرّةٍ في شقّتك
حينَ أضعت الدرب عن قدمي
وأسقطت الخشبَ المحترق عليكِ !
حين أحرقت ذراعك , بعد ان أحرقتي قلبي بنظرةٍ دامعةٍ منكِ
كيف لنبرتكِ ان تسكنني
وأظلّ تابعًا لها
مستسلمًا لها
أحببتك , لا سقى الله حبًّا اذلّني
ومن أقاصي الأرض اليكِ احضرني
يا خاطفةَ اتّزاني
تبعها بخطواتٍ ملهوفة
ودّ اقتطاع الخطوات بينهما
ليجتذبها اليه
ليدخلها الى قلبه , ويغلقه الى أبدِ الآبدين
خرجت من المشفى وهو خلفها يجتذب ذرّات الهواء ليظلّ على قيدِ حياته عنوة
فتح فمه وهو يتنفّس بصعوبة
اقترب من سيارة السائق وفتح الباب الأمامي
قال وهو يلهث
: انزل
قال السائق باستغراب
: ايش في !
قال بانفعال
: انزل خذ تاكسي للبيت , ابي السيّارة
وقبل ان يجادله , سحبه ورمى به خارج السيارة
ركبها وتبع سيّارتها
تمنّى ان تكون هي
وتمنّى ان لا تكون ! رأفةً بها !
رحمةً لها , مما ينتظرها !
لعن الطرقات , وزحمةَ السيّارات
لعن الانتظار الذي يحلّق حوله كضبابٍ أسود
توقّفت السيّارة أمام سوق , لينزل شقيقها
وتبقى هي
نظرَ اليها مطوّلًا
تأمّل حركتها , كفّيها الصغيرين وهما يعدّلان حجابها
عينيها التان تصدّ بهما عن شمس العصر
زفرَ بحدّة
وفكّر بجنونِ اللحظة
سيختطفها !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الخامسة مساءً
نظر الى ظهرها وزفر
لم تتحرك من مكانها منذ عاد في الأمس
أكان يجب ان تتفوهي بحماقاتك تلك !
أكان يجب ان تضعيني واياكِ في موقفٍ لا نطيقه !
اقترب منها وحمحم
قال بنبرةٍ ثقيلة
: مها
لم تجبه
تأفف , ثم قال
: قومي كلميني
لم تتحرك
انطلق الغضبُ القريب اليه , ليغيّر نبرته
: قاعد اكلمك ما تسمعين
قالت بنبرةٍ محمّلة بالبكاء
: نعم
: عنبو بليسك من امس تبكين ! ما تخافين تنعمي عيونك من ذا البكا ؟
لم تجبه
جلس خلفها , وانحنى اليها
: قومي
التفتت اليه
تأمّلته لثوانٍ
ثم غطّت عينيها لتبكي
قالت بشهقاتٍ متتالية
: انا اعيش في كابوس ! عمري ما تخيلت يصير معاي جذي
رمى ببصره الى الأعلى وزفر بملل
قال وهو يحافظ على هدوئه
: وش الكابوس ؟
رفعت كتفيها بجنون
: كلّ شي , اهلي اللي انسجنوا , انت وتغيّرك المفاجئ , حياتي اللي انقلبت
نهض وقال بجمود
: الدلع الزايد خلّاك تسمّين أي تغيّر في حياتك كابوس , اهلك مجرمين وراحوا بقريح , وانا ما تغيّرت , وعمري ما اتغيّر بدون سبب , ما في متربيّة وبنت اصل وفصل – شدّ على الكلمتين بقسوة – تقول لزوجها الكلام اللي قلتيه , الرزق على الله , والأمر كلّه بيد الله , ماهو اهلك اللي يلمون احد او يعزّونه
تركها وخرج من المنزل
حينَ شعر بالغضب يشعلُ أوردته من جديد
سارَ بسيارته في شوارع الرياض بغيرِ هدىً
حتّى ذهب الى منزلِ أهله
دخل ليسمع داليا تقول بخفوت
: والله انا سمع اذني البنات يقولون انها بتنخطب قريب , بس ما فهمت من هذرتهم شي
قال عبد الله بانفعال
: من ولد الكلب اللي يبيها
دخل صقر وقال بهدوء
: السلام عليكم
التفتوا بفزع , وردّوا بارتباك
جلس قريبًا من عبد الله
ليسألَ داليا
: وش صاير ؟
رفعت كتفها بابتسامةٍ متوتّرة
: ولا شي
هزّ رأسه بصمت
التفت الى التلفاز
مرّت دقائق حتّى ضحكت داليا بصخب
التفت اليها عبد الله منزعجًا
: وجع
سعلت ثم قالت
: معليش , ذي هديل الفاصلة
ابتسم عبد الله , ثم قال
: فاقدها والله
قالت داليا بحماس وهي ترمي هاتفها جانبًا
: وش رايك نخطبها لك
قال صقر ساخرًا
: وش عندها الخطّابة
ضحكت ثم قالت
: جد والله , يعني بنت عمّك ووش زينها وش حلاتها , ليش ما تاخذها
قال صقر بهدوءٍ مبطّنٍ بوجعٍ دامٍ
: عبد الله في باله وحده ثانية
شهقت داليا وقفزت
: من اللي ف بالك ولا تعلمني
ازدرد صقر ريقه وقال بابتسامةٍ جاهد لتظهر
: يبي رتيل بنت عمّه
قال عبد الله بغضب
: صقر !
شهقت داليا بفزع , ثم قالت بعصبيّة
: وش ذا الخرابيط
قال صقر باستغراب
: وش فيكم ! عادي بنت عمّه والنعم منها , وعبد الله ماهو قاصر عنها بشي , ان الله كتب ويسّر , كلنا ندعي لهم بالتوفيق
صاحت به
: العيشة برا أثرت على دماغك مرة !
قال بغضب
: لسانك يا بنت , هذه الحياة , ما بتوقف علي ولا على غيري , اللي طلقتها امس بيتزوجها أي احد بكرة , واذا عبد الله له خاطر فيها انا اللي اخطبها له , وانا صفتي مو بس زوج وان انتهى زواجي منها يعني ينتهي ما بيني وبينها , هذه انا اللي مربّيها اذا ناسين , وانا بمقام ابوها واخوها وحتّى امها , وزين انفتح الموضوع لأنّي كنت بتكلّم فيه من زمان , لازم تفهمون وتفهم رتيل ان علاقتي فيها ما تقتصر على زواج , الزواج بيد الله ينكتب وينتهي , اتّصلي لي على رتيل
قالت داليا بصدمة
: صقر شفيك !
نهض عبد الله وقال بسخريةٍ لاذعة
: ما فيه شي , قال لك وفهمك ان علاقته فيها ماهي مجرد زواج , اصلا زواجهم جا صدفة ! , اتّصلي له على بنته يا داليا
قبل ان يخرج من الغرفة
التفت الى شقيقه
قال بنبرةٍ مثقلةٍ بعتابٍ ووجع
: ما هقيت يجي يوم تصدّق شيطانك فيني , ما هقيتك في يوم بتصدّق ظنونك في اخوك الوحيد – ازدرد ريقه , ثم أشار اليه بسبابته بحدّة – ظلّك يخونك يا صقر واخوك ما يخونك , نفسي ما دنت على لقمة في يدّك , ولا على غرض في أدراجك , عمرها ما بتدنى لحلالك وملك يمينك , بنت عمّي واختي الصغيرة , اللي امنيتي انّك ترجع عشانها قبل لا تكون عشاني , ماهو عبد الله اللي تزيغ عينه لزوجة اخوه يا اخوي
خرج من الغرفة , ومن المنزل
نهض صقر وتبعه ليصرخ بعكس ما في قلبه
: ما عاد يهمني شي , انا طلقت رتيل يا غبي , حبها اذا تبي , تزوجها اذا تبي , انا ما لي فيها حاجة
صرخت به والدته
: طاح حظك يا صقر , طاح حظّك ليتني بركت عليك ولا صرت بهالطول وتتعازم مع اخوك على بنت عمّك اللي كانت زوجتك
صعدت الى غرفتها بغضبٍ جم
ليجلس على الأريكةِ مرهقًا
كان يجب ان يرتاح عقِب المحكمةِ والحكم
كان يجبُ ان ينقشع هذا الحزنُ عن قلبه
لا ان يزداد !
زفر بتعب
يبدو ان الحزن قد التصق به منذ ذلك اليوم
كأنّه أقسم على رفقته الى الأبد !
رفعَ رأسه ليرى داليا أمامه
تحملق فيه بقلق
قال ببحة , وباصرارٍ على الّا يغير ما قاله
: اتّصلي على رتيل
قبل ان تتفوّه بكلمة , قال بحدّة
: اتّصلي قلت
جلست أمامه واتّصلت
أجابتها رتيل بخمول
: خير
ابتسمت بارتباك
: شلونك
قال رتيل بتأفف
: امس انا معاك , وش تبين اخلصي
حركت شفتيها دون صوت , تخبر صقر انّ رتيل تسألها عمّا تريده
قال بهدوء
: قولي لها صقر يسأل عنّك
شهقت رتيل , التي كانت على وشكِ النوم
فزّت في مكانها , قالت بارتجاف
: داليا !
ازدردت داليا ريقها
وقالت
: هو قال اتّصلي
صمتت رتيل
ليقول صقر , بحنانٍ استشعرته من نبرته البعيدةِ جدًّا
: عساك بخير بابا , محتاجة شي تبين شي ؟
كتمت أنفاسها بكفّها بقوّة
وفي عينيها بحرٌ مالح
كانت داليا قد فتحت مكبّر الصوت
ناداها صقر بصوتٍ دافئ
: رتيل
لم تُجبه
زفر , ثم قال بحنوْ
: انتي بنتي في الأوّل والأخير , يمكن زواجنا كان غلط من الأساس , وانتهاءه خيرة لي ولك , انتي صغيرة وانا رجّال كبير , قدّامك العمر يا رتيل , وانا اللي بزوجك وبفرح لك
لم تعد تحتمل
أغلقت الهاتف
لتتركه يتحدّث الى نفسه
تابع بهذيان
: اظن اخذنا كفايتنا من المحاولات , احنا ما نتناسب زوجين , بتظلّين بنيتي والمدلـلة عندي...
قالت داليا وهي تبكي
: تراها سكّرت
نظرَ الى أدمُعِ داليا بابتسامة
ونهض من مكانه خارجًا من المنزل
سارَ بسيارته , حتى خرج من حدود المدينة
الى أرضٍ خاوية
نزلَ يتمشى على قدميه
وثقلُ العالم يكبّل قلبه
جلسه على ركبتيه
صمتَ لثوانٍ
ثم صرخ من أعماقِ قلبه
صرخ وهو يحاولُ التّنفس
صرخ وهو يستشعر الألم في جسده
وهو يتذكر ارتطام السيّارة به
الرابعةَ فجرًا , في خلّوْ الشارع بأكمله
حين عبوره الشارع الى سيّارته
انطلقت السيّارة باستقصادٍ له !
لتصدمه , وترديه صريعًا , مستلقيًا وسط بركةٍ من دماء
تلمّس جسده وهو يأنّ بألم
كأنّه يستيقظ للتوْ من غيبوبته
احتبست أدمعه وامتنعت عن الظهور
ليزداد وجعه
حين استيقظ متألّمًا
مصابًا
وحيدًا !
دخول راشد , نظرته التي جعلته يقشعر
نبرته الكريهة
" شوف ولد عمّي , انا ما بيني وبينك ثار , انا صح يبتك هني بطريقة قاسية شوي , بس كلّه لمصلحتك ومصلحتنا , اذا تبي تخلّي الطريج طويل وصعب , فانت بتصعبها على نفسك , انت الحين حتّى بدون هويّة , هويّتك اليديدة باسم مسفر ابراهيم الرائد , ما لك غيرنا , تقوم بالسلامة وتباشر شغلك معانا , غير جذي ماكو الّا الشقى والتعب لك "
أطلقَ آهةً مدبّبة الأطراف
ان احتبست في صدره ظلّت تمزقه
وان خرجت
قطعت أشلاء قلبه !
تذكّر صراخه الهزيل
اعتراضاته
حضور ذياب
عاميْ السجن
حضور سعد
مكوثه الطويلُ في المشفى
زواجه
مرضه !
رفع رأسه ليهتف برجاء
: يارب انتقملي من راشد
غطّى وجهه بكفّيه
وزفر بقوّة
استكان لثوانٍ , لتهدأ نفسه
ثم نهض بوجوم , وركب سيّارته
ليعود الى منزله !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
اقتربت كفّه من الباب بارتجاف
ثم كوّرها وأبعدها بزفرةٍ غاضبة
خرج الفتى من المحل
ليركب السيّارة ويتحرّك أخيرًا
سار خلفهما حتّى توقّفت السيارة أمام منزلٍ ونزلا سويًا
رغمًا عنه ابتسم باشتياقٍ يعتصر قلبه الملهوف
نظر الى المنزلِ جيّدًا
خائفًا من ان يختفي من أمامه !
مرّت ثوانٍ , ليقطع خلوته بنفسه هاتفه
ردّ بتعب
: الو
صمتَ الطرف الآخر ثوانٍ , ثم قال بقلق
: فيك شي ؟
زفرَ وهو يريحُ رأسه الى طارة القيادة
ناداه الآخر بتوتّر
: شفيك يا ولد
قال بنبرةٍ لا حياة فيها
: لقيتها
صمت لثوانٍ , ثم قال بحذر
: من هي ؟
ابتسم بانهزام
: اوّل ما جا في بالك
ازدرد ريقه , ثم قال
: وش صار ؟
: كنت طالع من المستشفى وشفتها , ما سوّيت شي ولا هي انتبهت لي , لحقتها , وواقف قدّام بيتها الحين – قال بضياع – وش اسوي يبه !
قال والده بحزم
: الحين تجي البيت
قال بضحكةٍ مجنونة
: انت بعقلك يبه !
لم يكن الوضع يسمح للضحك , لكنّ والده ضحك رغمًا عنه
ثم قال
: تعال نتفاهم ونعرف وش نسوي , ما راح تعرف تتصرف وانت بحالتك ذي , اعوذ بالله كأنّك شارب
قال سعود متلذذًا في سكرته
: شارب من هواها , شفت عيونها وثملت
انفجر والده ضحكًا , ثم قال
: بالله اكتب لي ذا الكلام برسله لأمّك
ابتسم سعود ولم يعلّق
كان والده يعلم انّه ليس في وعيه
ولو استعاده لقلب الرياض على رأسها الآن !
قال بحنوْ
: يلا يبه انا بنتظرك , لا تبطي علي , استودعك الله
أغلق الهاتف
ودّع المنزلَ بنظرةٍ أخيرة
واستدار عائدَا الى منزلِ جدّته
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة مساءً
تكوّمت على نفسها لتنهار بالبكاءِ المر
دخلت هديل مفزوعةً من البكاء
اقتربت بشهقة
: رتيل وش صاير لك
تأوّهت وهي تتلوّى من فرط الوجع
وجعٌ قد تراكم
حتّى شكّل ورمًا خبيثًا يجثم على روحها
عانقتها هديل وهي تهتف
: بسم الله عليك رتيل وش فيييه وقّفتي قلبي وش صار لك
تمسّكت بشقيقتها وهي تبكي بانهيار
صعدا تركي وعلي مفزوعين
اقتربا ليهزّها تركي بجنون
: وش صار لك يا بنت
أصبحت كريشةٍ تتطاير من نسماتٍ رقيقة !
امسك علي بكلتا يديها وناداها بحدّة
: رتــيــل
صرخت هديل فزعة
: مدري وش صار لها , باب غرفتي كان مفتوح وما كان في صوت فجأة صرخت
دخلت ام علي بخوف
: بسم الله عليكم...
قطعت كلماتها بشهقةٍ حينَ رأت حال رتيل
اقتربت لتهتف
: وش صاير ؟
قال تركي
: فجأة صرخت ماحنا فاهمين وش صار لها
ضمّها علي ورفعَ صوته يتلو عليها من كتاب الله
لم يحتمل تركي بكاءها
خرج من الغرفة وعادَ بعدَ ثوانٍ
سحبها من علي ودسّ في فمها حبّةً صغيرة , وأتبعها بالماء
بلعتها دون وعي
صرخت والدته
: وش عطيتها
صرخ به علي بغضب
: يا مجنون وش ذا
صرخ هو الآخر
: منوّم وش بعطيها يعني !
دفعه علي بجنون
: ومن قال لك عطها زفت
انفعل تركي
: عاجبتك حالتها ذي ! خلها تنام أريح لها
صرخت ام علي وتمسكت برتيل
: يمه بنتي وش صار لها
قال تركي يهدأ روع والدته
: ما فيها شي يمّه , الحبّة قويّة , نامت
التفتت اليه وهي تكادُ تقتله
: ليش تعطيها ليشش , ومن وين لك ذا المصيبة
تأفف ونهض
: مو مهم , المهم تشوفين بنتك وش صار لها
خرج من الغرفة
والتفتت ام علي الى ابنتها تمسح على شعرها ببكاء
: يا روح امّك وش صار فيك , حسبي الله على السبب باللي يصير لك
قالت هديل بحقد وهي تمسح أدمعها
: علّه ما يربح , جعل ربّي ما يكتب له لا خير ولا توفيق بحياته
استغفر علي ونهض خارجًا من الغرفة
لمحت هديل الهاتف المرمي بجانب رتيل
شهقت باستدراك
: يمه يمكن كلمت احد وصار فيها كذا !
التفتت اليها والدتها بانتباه
: افتحي جوالها
قالت هديل بحيرة
: ما اعرف الرمز
أمسكت به وكتبت اسم رتيل
ولم يفتح
قالت ام علي
: جربي اسماء تواريخ أي شي
بتردّدٍ شديد كتبت هديل
" صقر "
ولم يفتح
زفرت براحةٍ خفيفة
ولم تعلم انّ لكلمةِ " صقر " بقيّة
ليُفتح الهاتف !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة مساءً
ظلّ ينظرُ الى والده دون ان يتكلّم
تأفف والده , وقال بملل
: انت معي ؟
قال بهدوء
: لا
قال والده منزعجًا
: وش معه أجل
قال بهذيانٍ فعلي
: عيونها يبه
زفر والده بصبرٍ ثم قال
: يبه سعود , ركّز معي تكفى , لا تجنّني
لم يُجب
: حبيبي , الحرمة تركتك لها أشهر واحنا ما نعرف السبب , ولا ندري اذا اهلها يدرون او لا , اوّل شي بندخل عليهم بدون أي هجوم او اتّهام , لين نفهم الفكرة اللي عندهم , بعدها نتصرف باللي عندنا , فهمتني يبه ؟
لم يجبه
صرخ به والده
: سعود !
قال سعود بهدوء
: يبه ابي انام
نظر اليه والده بصمت
ليضحك ويتابع
: والله ما احس انّي بعقلي , حاولت افهم كلامك ومو قادر , بنام واذا صحيت نتكلّم
قبل ان يتكلّم والده , دخل سلطان
قال بجمود
: عمّي تقول لك جدّتي تخاوينا
قال باستفسار
: وين ؟
قال سلطان وهو يحترق
: تخطب للثور اللي قدّامك
شعر سعود انّه سيضحك , لكنّه قال باستدراك
: مغصوب ؟
قال سلطان بهدوء
: رجاءً سعود ما لي مزاج اتكلّم
قال والد سعود بجديّة
: اذا جابرتك علمني وانا اتصرف , الزواج ماهو بالغصيبة
قال وهو يكبت غضبه
: ماني مغصوب , تخاوينا ؟
قال عمّه بهدوء
: متى تروحون ؟
: الحين بنطلع
التفت لابنه
صمتَ لثوانٍ , ثم قال
: مو مشكلة , بس اغيّر ونطلع , قوم سعود
نهض سعود مع والده الى غرفتهما
استلقى على السرير وأغمض عينيه
استبدلَ والده ثيابه وانتهى
اقترب منه وقال بهمس
: سعود ؟
لم يجبه
زفر والده براحة
وخرج
وأقفل باب الغرفة وأخذ المفتاح !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة والنصف مساءً
دخلَ الى المنزلِ ورمى بجسده على الأريكة
أحاطَ رأسه بهم
اقتربت والدته بقلق
: وليد عسى ما شر يمّه
رفع رأسه اليها
زفر , ثم قال
: ابوي بيرفع عليّ دعوى اختطاف ملاك
قالت بصدمة
: اختطاف !
ضحك بغبنة
: درى انّك رجعتي وبدأ يتخيبث
ضحكت ملاك رغمًا عنها , ثم رفعت كتفيها ببساطة
: انا مو طفلة عشاني تخطفني ! ويقدرون يسألوني في المحكمة
هزّ رأسه ايجابًا
: هو رافعها وهو يدري انها خسرانة , بس مو هاين عليه نرتاح
جلست ام وليد أمام ابنها , قالت برجفة
: يا خوفي يعيدون الماضي
قال بغضب
: يخسي واحد منهم يقرب منّك او يضرّك بشي
بكت وهي تضم ابنتها اليها برعب
حاوطت ملاك وجه والدتها الباكي
قالت بحنوْ
: يمّه بسم الله عليك , ماهو صاير شي ولا احد يقدر يكلمك نص كلمة
ضحك وليد وهو ينحني أمامه ويقبّل كفّيها
: الحين عشتي لحالك ثلاثين سنة , وخايفة من شويّة حشرات ما تملك الّا الزن من بعيد لبعيد ! افا يا ام وليد هقيتك ذيبة
مسح أدمعها وقبّل ما بين عينيها
: لا تخافين يمّه , جعلهم كلّهم فداك
حاولت اجبار نفسها على الابتسام
لكنّها لم تستطع
قالت برجاء
: اللهم اكفنهم بما شئت وكيف شئت , حسبيّ الله ونعم الوكيل
قالت ملاك بعد ثوانٍ
: اشتقت لخالتي !
ابتسم وليد بمحبّة
: أي والله لي كم يوم مو شايفها , من طلاق رتيل انعفس حالهم وصارت نقلتنا من البيت , يبيلنا نزورها
قالت ملاك بزفرة
: يا بعد حالي يا رتيل , كاسرة خاطري !
قالت والدتها بثقة
: بيرجعها وقولي امّي قالت
قال وليد
: طلّقها يمّه ! حتّى لو يبيها لو يحب السما اخوانها ما ردّوها
هزّت رأسها تسايره
: زين
ضحك وقبل ان يتكلّم رنّ هاتفه
: هلا خالد
سرحت في اسمِ خالد
ازدر دت ريقها حين تذكّرت لين وسعود
شعرت بحرقةٍ في جوفها من اخفائها الأمر عنه
نهضت من مكانها مسرعةً الى غرفتها لتتّصل به
اتّصلت كثيرًا
وهاتفه مغلق !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السابعة مساءً
نظرَ الى ساعته بتوتّر
نبّهه شقيقه
: محمد ؟
همهم بانتباه
قال شقيقه
: تنتظر شي ؟ اشوفك كل شوي تناظر الساعة
ابتسم بهدوء
: لا ما في شي
صمتَ لثوانٍ ثم قال
: انا احسب ذي جيّة تعارف !
قال شقيقه
: لا صار كلام الحريم والتعارف قبل اسبوع تقريبًا , وقالت امّي دامك جاي نخلّي الخطبة الرسمية بجيّتك
قال والد سعود
: اجل سلطان ما بيشوفها ؟
زفر شقيقه
: زين منّه انّه جا عاد !
قال أحدُ أعمامِ الفتاة
: يا ولدي يا سلطان من حقّك الشوفة
قال سلطان بوجوم
: ما لها لزوم الله يحفظك , انا شاري النسب
قال والدها بهدوء
: هذا حق لك ولها والنبي عليه الصلاة والسلام وصّى بالشوفة الشرعية
التفت سلطان الى عمومته مستنجدًا
لكنّهم لا يملكون حق الرفض !
,
ابتسمت الجدّة بحنان , وقالت
: شلونك حبيبتي عساك طيّبة ؟
ابتسمت بلطف
: الحمد لله
رمقتها أروى بمقت , وأشاحت ببصرها عنها
قرصتها جدّتها , ثم قالت
: هذه اروى حفيدتي , اخت سلطان
توردت وجنتيها , وقالت
: يا هلا
قالت عمّة سلطان بمحبّة
: وش درستي يا لمى ؟
: درست ادارة أعمال في جامعة اكسفورد
: ما شالله , ناوية تكملين دراسات عليا ولا تشتغلين ؟
ابتسمت
: خطّة الدراسات العليا موجودة , لكن حاليًا مأجلتها ابي اشتغل
قالت اروى ساخرة
: تشتغلين ؟
نظرت اليها بصمت
قرصتها جدّتها لتحبس آهتها
قالت الجدّة بابتسامة
: وراه ما تشتغل اجل !
قالت خالة لمى مبتسمة
: لمى حبيبتي شوفي المطبخ محتاجين شي
كتمت ضحكتها ونهضت لتصعد الى الأعلى
امسكت بهاتفها لتتّصل متحمّسة
مرّت ثوانٍ لتجيبها الأخرى بهدوء
: بشّري
قفزت بحماس
: لا يفوتك شكلي وانا مستحية ! ومسبلة عيوني واتبوسم
ضحكت الأخرى ثم سألتها
: شفتيهم زينين ؟
: أي جدّته وعمّته طيبين , بس اخته وع رافعة خشمها !
قالت تعاتبها
: استغفر الله على طول حكمتي عليها ! اصبري تعرفينها عدل !
تأففت , ثم قالت بحنين
: اشتقت لـِلمار
ازدردت ريقها وهي تستلقي على سريرها
قالت بصدق
: ما توقّعت بيجي يوم اشتاق لأي شي في بريطانيا – صمتت لثوانٍ , ثم همست – بس اشتقت !
قالت لمى بمواساة
: لين كل شي بيعدّي يا روحي , بس انتي اعطي نفسك فرصة واطلعي من الصومعة اللي بنيتيتها حول نفسك , عزلتينا وعزلتي زوجك عنّك !
حمحمت , ثم قالت ببحة
: لمى حبيبي انا بقفّل , اذا صار جديد بلغيني
قالت لمى بيأسٍ منها
: اوكي , باي
أغلقت الهاتف ورمته جانبًا
قفزت لتنظر من شبّاك غرفتها
لتراهم خارجين
كانت قد رأت صورةً لسلطان
نظرت الى وجوههم , ورأته
احمرّت خجلًا
وظلّت تنظر اليه
تأمّلت ادقّ تفاصيله
التفاتته , كتفيه العريضين
كفّيه التين تشدّان على جدّته
عقدة حاجبيه , وارتفاع أحدهما , وهبوط الآخر !
ابتسمت
ثم استدركت نفسها وابتعدت عن الشبّاك
: انهبلتي تخرفنتي على الرجال وهو ما بعد يتزوجك ! اثقلي اقول
رمت بجسدها على سريرها بزفرةِ صبر
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السابعة وعشر دقائق مساءً
فتحَ عينيه ببطء
ظلّ ساكنًا لدقائق طويلة
حتّى شهق وفزّ من مكانه
أسرع الى الباب ليفتحه
ليجده مقفلًا
تلفّت يبحثُ عن المفتاح , فتحَ الأدراج بجنون
ودّ تحطيم الباب ليخرج !
سحب هاتفه ليتّصل بوالده مرتين
ردّ والده أخيرًا بهدوء
: صح النوم
قال وهو يشدّ على فكه حتّى لا يرفعَ صوته
: انت اللي قافل الباب ؟
: ايه
ضرب جبينه بغضب , ثم قال وهو يسيطر على نفسه قدر المستطاع
: ليش تقفله ؟ ابي اطلع !
قال والده بهدوء
: تعوّذ من ابليس , عشر دقايق وانا عندك
أغلق الهاتف
جلس أرضًا وصرخ بغضب
رمى بهاتفه بعيدًا
وهو يحترق غضبًا
سيقتلها !
سيحطّم رأسها
تحرّك في الغرفةِ بهيجان
انتبه لهاتفه الذي يرن
أجاب بسرعة
: هلا
: هلا سعود شلونك ؟
: الحمد لله , فيك شي انت ؟
قال باستغراب
: لا ما فيني شي , بس قلت بتجي ولا جيت فقلت بتأكّد تجي او لا
قال معتذرًا
: معليش عزوز صارلي ظرف بعدين اقول لك
: ماهي مشكلة , يلا اشوفك على خير
أغلق الهاتف , وفُتِح الباب
التفت بحدّة
وأسرع ليخرج
دخل والده وأغلق الباب
قال بجنون
: افتح الباب يبه
قال والده بحزم
: اجلس نتكلّم , ما بخلّيك تروح وانت هايج كذا
صرخ وهو يرفس الباب
: انا اعرف اتصرف , الموضوع يخصني لحالي
صرخ به والده
: لا ترفع صوتك لا اعوقك الحين , اجلس
صدّ عن والده وزفر بحدّة , مرّت ثوانٍ ليسيطر على نفسه
ثم التفت الى والده وقال بجديّة
: انا جاي عشان لين , ومحد بيتدخل بأي شي بيني وبين لين , الحين بتفتح هالباب اللعين واطلع وما تكلّمني
اتّكأ والده على الباب بصمت
استعاذ سعود من الشيطان بصوتٍ عالٍ
ثم قال ببحة من صراخه
: يبه اتركني في حالي لا تطلّع جنوني عليك
ضحك والده رغمًا عنه , ثم قال بتعجّب
: انت ما تنتبه لنفسك لمّا تتكلم ؟ عنبو ابليسك خويّك انا ! ابوك يا حمار ابووك , ما يجوز تتأفف وانا اكلمك !
اقترب من والده بغضب وقبّل رأسه , قال من بين أسنانه
: آسف يا ابوي , ممكن اطلع
امسك والده بكتفيه
قال بحنوْ
: يبه سعود , من عمر الدنيا ومن قبل لا تنخلق انا وامّك اكثر اثنين نبي مصلحتك , لا تتخيّل يجي يوم تنحط في موقف صعب ونتخلّى عنّك او نتركك تتصرف بلحظة غضب , تدري اننا معطينك حريتك ولك اختياراتك وما نتدخل , لكن تظل في مواقف استثنائية نحتاج نوعيك , قبل لا نقول لك يلا روح تصرّف , لو خلّيتك تطلع الحين ورحت وسوّيت أي تهوّر , امّك عمرها ما بتسامحني , وبتعتقد انّي مقصر , وانت نفسك بتحملني المسؤولية , مستحيل اتركك يا سعود , اجلس حبيبي نتكلّم ونتفاهم ونعرف وش نسوي
جلس أرضًا وقال برجاء
: اخاف تختفي مرّة ثانية , بلحق عليها
جلس والده أمامه بقلبٍ مقهورٍ على ابنه
: وين بتطير يعني ! هي حتّى ما تدري انّك شفتها
صمت
قال والده
: بنروح سوى , بندخل ونسلّم , وبنسألهم عن لين وعن اخبارها , يمكن ما يدرون ان ما عندك علم بسفرها , وان كانوا على علم وعاجبهم حالها ذيك الساعة يحق لنا نزعل ونعصب , ما تدخل بعصبيّة , وان اخذتها بالحسنى يا ابوك , افهم منها قبل لا تحاسبها
تحدّث اليه والده كثيرًا وهو صامت
ثم نهضا لينزلانِ الى الأسفل
قالت الجدّة
: على وين يمّه , ما تتعشون معانا ؟
قال ابو سعود بهدوء
: عندنا مشوار يمه , لا تنتظرونا بنتأخر يمكن
خرجا ليقود سعود السيّارة
قال والده بقلق
: اسوق عنّك ؟
هزّ رأسه نفيًا
ليت الوقت الذي يفصلني عنكِ يُختصر وينقضي ما بين رفّة طرفٍ وعودته
عمرُ الانتظارِ طويلٌ جدًّا
لا ينقضي يا لين أبدًا !
انقضت حياتي حتّى وجدتكِ
وستنقضي مرةً أخرى حتّى أصل اليكِ
الانتظارُ التعيس الذي يأبى ان يمر
كم سأحتاج حتّى اصل , حتّى تمتد كفّاي وتلمسانكِ
حتى تراكِ عيناي الكفيفتان من بعدك
حتى استنشق الحياة برؤيتك !
توقّف بالسيارة أمام المنزلِ بعد ربع ساعة
التفت الى والده , ثم الى المنزل
قال والده وهو يفتح الباب
: توكّل على الله
همس برجاء
: يارب
,
,
الى الملتقى :)