بسم الله الرحمن الرحيم
البارت الواحد والأربعون
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
العاشرة صباحًا
اقترب الرجل المسن من الاستقبال
: صبحك الله بالخير
رفع الموظف رأسه وابتسم
: يا هلا صباح النور , بإيش أخدمك ؟
: عبد العزيز العُمر وين غرفته يا ابوي ؟
نظر الى جهازه , ثم الى المُسن وابتسم بلطف
: الدور الثاني غرفة ميتين وعشرة
: مشكور الله يعطيك العافية
صعدوا الى الدور الثاني والى غرفة عبد العزيز
دخلوا لينظر اليهم ببرود
ثم التفت الى الجهةِ الأخرى
اقتربت والدته بلهفة
: حبيبي الحمد لله على سلامتك , وقّفت قلبي عليك يا امّي
قبّلت اميرة جبينه وقالت بحنو
: خوّفتنا عليك
تبعتها غالية ثم قالت
: آخر الطيحات ان شالله
امسك والده بيده وابتسم بهدوء
: لا بأس طهور يبه
قفزت تهاني وأمالت جسدها عليه لتعانقه بشدّة
: حبيبي انت ما تشوف شر , والله خوّفتني علييك
زفر ثم قال ببحة
: تعبان ابي انام
بكت والدته
: ليش يا يمّه تسوّي فيني كذا , الله يحرق ابو السيّارات اللي تاخذ عيالي منّي , ما عاد نبي سيّارة نمشي على رجولنا اسلم
ربت زوجها على كتفها
: استغفري ربّك لا تفاولين على الأوادم
اغمض عبد العزيز عينيه بصمت
همست تهاني بجانبِ اذنه
: اقسم بالله ما طاوعتهم وحذرتهم , انا ما لي دخل فيهم وفي كلامهم
احتدّت نظرته وقال
: اتركوني لو سمحتوا
قال والده بهدوء
: انت تعبان الحين ارتاح , واحنا ما بنطول عندك
: خذها من الآخر يبه , انا متضايق منكم
قالت اميرة
: ما عليه هدّ الحين وارتاح , ولما تطلع بالسلامة نتفاهم
نظر اليها ليقول بنبرةٍ لا يعلم هل يسخر فيها , ام هو غاضب , ام مندهش !
: نتفاهم على ايش ؟ الكلام انتهى بالنسبة لي , ولا تحاولون تكلموني بهالموضوع مرّة ثانية
قالت غالية
: مو وقت هالكلام عزوز , ارتاح حبيبي
صرخ بغضبٍ استحكمه
: وش يعني ؟ وش تقصدون !
قالت والده بحزم
: قلنا ارتاح , لا تحدّنا على كلام يتعبك الحين
شدّ على قبضته
لتمسح والدته على رأسه وهي تبكي بهمس
: بسم الله عليك يمّه , لا تنفعل حبيبي لا تتعب نفسك , كل شي بيكون بخير
نظر اليها بضعف
: ليش يمّه , ليش !
رفع ابو بندر رأسه الى الأعلى بقلّة صبر
ثم قال
: انا بنزل للسيارة , لا تبطون علي
وخرج
لتتبعه غالية بعد ان قبّلت رأسه , وقالت بهدوء
: مو كل شي مثل ما تشوفه , حاول تقرأ اللي بين السطور
أغمض عينيه وهو يزفر
قالت اميرة معتذرة
: انا بعد لازم امشي , العيال يرجعون الظهر وللحين ما طبخت
خرجت بعد ان ودّعته
التفت الى والدته وقال ببحة
: روحي يمّه
: بجلس عندك
: روحي ما علي خوف
زفرت والتفت الى تهاني
: امشي
قبّلت وجنته وقالت بمحبة
: لا تبطي علينا عاد
ظلّ وحيدًا
ليفكّر باستغراب
مالذي بين السطور !
ما هو الذي يجب ان يقرأه !
طرَأ له سعود , ليعضّ على شفته باشتياق
لا يجب ان يعلم سعود عن الحادث
ذاك المجنون سيترك ما بيده ويأتي فورًا !
دخلت الممرضة , لتقول بلطف
: صباح الخير
قال بوجوم
: صباح النور
اقتربت لتتفحصه
ثم قالت وهي تدوّن ملاحظاتها
: ان شالله احسن اليوم ؟
قال بهدوء
: متى اطلع ؟
صمتت لثوانٍ , قبل ان تخبئ وجهها خلف لائحة الملاحظات لتضحك
عقد حاجبيه
: انا قلت شي يضحك ؟
حمحمت , ثم قالت معتذرة
: انا آسفة , ما راح تطلع قريب , منتظرين اختصاصي يجي يكشف عليك ويقرر نوعية العملية اللي تحتاجها , ونسوي لك العملية وترتاح كم يوم , وبعدها تطلع ان شالله
قال بصدمة
: ليه كل ذا !
قالت بلطف
: عندك كسور مضاعفة في ساقك , وامس كانوا خايفين من النزيف لكن سيطرنا عليه الحمد لله
: طيب والجبس كم يطوّل ؟
رفعت كتفيها
: هذا بيحدده الاختصاصي بعد ما يشوف حالتك , تبغى شي ثاني ؟
هزّ رأسه نفيًا , وهو يريح رأسه على الوسادةِ بضيق
قالت بهدوء وهي تغادر الغرفة
: تقوم بالسلامة
فتحَ عينيه وهو يتذكر موضوع عائلته الذي اوصله لهذا الحال
فكّر في نفسه انّه ان اراد التخلّص منهم يجب ان يتزوج
لكن من !
ضحك بسخريةٍ مريرة وهو يفكّر ان يتزوج الممرضة
وضع كفّه على عينيه ليقول بخمول
: لا بالله انهبلت يا عبد العزيز , نام بس نام !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانيةَ عشرةَ مساءً
نزل الدرج بثوبه الأبيض
وهو يقول بزفرة
: حاول تكلّم سعد تسحبه بالكلام , يعني اذا ما لهم نيّه بالرجوع انا اشوف شغل ثاني واسافر
قال الآخر متضايقًا
: يعني يا الله لك الحمد رجعنا لأهلنا وديرتنا ولاهو قاصر علينا شي , ليه تدوّر النكد انت ؟ هذا انت وش زينك ومرتاح...
قاطعه بجمود
: مالك انا ما قلت امش معاي , انا بس ابيك تفهم من سعد وش خطّتهم , عشان اشوف وضعي , انا طلقت السعودية ولا لي رجعة
زفر مالك , ثم قال
: جدّتي واهلك يدرون ؟
: لا , اذا خلّصت كل شي بقول لهم
ظهرت اروى امامه وهي تلومه بنظراتها
صُدِم من وجودها
اولاها ظهره ليهرب من عينيها
دخلت الى غرفةِ جدّتها وهي تبكي
: يمه
قالت بقلق
: وش فيك !
عانقتها بحزن
: سلطان يبي يرجع يسافر
جفلت الجدّة لثوانٍ , ثم قالت بعصبيّة
: من قال لك ؟
: سمعته وهو يكلّم مالك
زفرت الجدّة , ثم قالت بلا مبالاةٍ مفتعلة
: بكيفه
دخل سلطان الى الغرفة وابتسم بهدوء
: افا بس , عادي عندك اسافر !
صدّت عنه
قبّل رأسها وجلس قريبًا منها
نظرت اليه اروى تعاتبه
ازدرد ريقه , ثم ضحك بتصنع
: امداك جيتي علمتيها
بكت اروى برجاء
: تكفى لا تسافر , لا تتركنا مرّة ثانية
زفر ليقول
: اروى وش فيك جهزتي الدوا قبل الفلعة , باقي ما صار شي , ويمكن ما اسافر اصلًا
احنت رأسها لتدسّه بين ركبتيها الملاصقتان لصدرها
التفت الى جدّته التي اشاحت عنه ببصرها
قال بزفرة
: طوّلتي الزعل يا ام سلطان
قالت بانفعال
: تخسي
انفجر ضاحكًا
حتّى اروى الحزينة ضحكت رغمًا عنها
قالت الجدّة بانتقاد
: هذه شوفة النفس وفعايلها , عدّى عيالي كل ابوهم وجعلني امّه
ضحك مجددًا ثم قال
: ما فيها شي , يعني ماني من عيالك انا !
قالت بجمود
: مانت ولدي , انت حفيدي
عقد حاجبيه
: لا لا لا , هذا كلام كبير !
: انا ما عندي ولد يعصيني
زفر وصمت
فكّرت بصورةٍ سريعة
هذا المتهوّر ما دامَ وضعَ الفكرة في رأسه , ربما يسافر غدًا !
يجب ان تباغته قبل انا يباغتها
حمحمت ثم قالت
: اقول سلطان
قال بمحبّة
: لبّيه
: انت شغلك نفس شغل شركة عمّك ناصر ؟
عقد حاجبيه من سؤالها , ولم يتنبأ بما تريده
: أي تقريبًا , ليه ؟
هزّت رأسها بتفكير , ثم قالت
: اجل اسمع , اليوم تروح لعمّك وتتوظف عنده , وبكرة تجي معي نخطب لك
رفع حاجبيه لثوانٍ , ثم ضحك وهو يشيح ببصره عنها
قالت بجديّة
: انا ما امزح
صمت لثوانٍ , ثم قال
: يمه الله يهديك وش هالكلام
ضربت الأرض بعصاها بحزم
: قلت اللي عندي , وان كنت ما تبي وعزّة جلال الله لا اعرفك ولا تعرفني ولا ابي اشوف وجهك ابد
شهقت اروى بصدمة , وصُعِق سلطان من كلماتها
اقترب منها ليتحدث , لكنّها ردعته
: وراك , ما ابي منّك الّا كلمة حاضر , او تعصاني وتقوم تطلع برّى ولا عاد تطب بيتي
الجمته الصدمة
توقّف عقله عن العمل
لم يفهم كلمةً واحدة مما قالت
لم يعد يستطيع فكّ الأحرف ليفهمها
فقد قدرته على النطق
قالت اروى برجاء
: يمه تعوّذي...
قاطعتها بحدّة
: وش قلت ؟
نهض من مكانه دون وعي
وخرج من الغرفة
لتشهق اروى وتتبعه وهي تهتف
: سلطان وقّف تكفى , سلطان وين رايح
سقطت العصا من يدِ الجدّة بضعفٍ وخوف
لم تتوقع ابدًا ان ينهض !
هل يرحلُ حقًا !
لن تعيش الى نهاية اليوم ان فعلها !
حاولت مناداته لكنّها لم تستطع
شعرت بدوارٍ يلفُّ رأسها
ولا زال صوتُ اروى يصلها , باكيًا راجيًا
: سلطان تكفى وقّف انت تدري ما تقصد كلامها , الله يخليك لا تطلع – ضربت فخذيها بانهيار وهو يغلق الباب , جلست ارضًا لتبكي بجنون وتصرخ – وين رايح وين مخليني ويين ! ليش تتركني , ليش تتخلّى عنّي
نهضت الى غرفة جدّتها
ظلّت بجانب الباب تبكي وتتهمها بغضبٍ يعمي بصيرتها عن رجفةِ جدّتها
بغضبٍ لم يتجاوز حدود قلبها
غضبٍ خرج على هيئة نحيبٍ يمسُّ شغاف القلب
بكت وهي تلومها بنحيب
: ليش يمّه سويتي فينا كذا , ليش خليتيه يروح , ليشش يمه ليش , ما تبينه كان تركتيه لي طيّب ! الله يسامحك يمّه الله يسامحك
تركتها وصعدت الى غرفتها وهي لا تصدّق ما حدث
تشعر وكأنّها في كابوسٍ مزعج
لا تريد تصديق ان خوفها في الأيام الماضية
قد تحقق أخيرًا !
لا تخذلني سلطان
لا تخذلني وتهرب مجددًا يا اخي
ارجوك !
,
,
المملكة المتحدة – تشيلسي
الحاديةَ عشرةَ والنصف صباحًا
شعر بهمسٍ ضاحك قريبًا منه
عقد حاجبيه وظلّ على وضعه وهو يرهف السمع
سمع صوتَ جدّته تهمس
: حسنًا اقتربي منه وقرّبي الكوب من انفه , هل تستطيعين ام ستحرقينه ؟
قالت بحماسٍ هامس
: نعم استطيع
اخذت الكوب واقتربت بخفّة
ابتسم وفهم
وضعت الكوب امام انفه وهمست في اذنه
: صباحُ الخير يا صديقي , هيا استيقظ
همهم بتمثيل
رفعت جدّته حاجبها وعلمت انّه مستيقظ
اقتربت وقبّلت وجنته بحب
ارتسم شبح ابتسامةٍ على شفتيه
قالت السيدة جوليا بابتسامة
: حسنًا فيكي يبدو انّه لا يريد الاستيقاظ
قالت وهي تضع الكوب جانبًا وتهزّه برفق
: سآود , الن تستيقظ !
فتح عينيه بكسل وابتسم
: مرحبًا حلوتي
قبّلت وجنته مبتسمة
: هيا انهض , قالت خالتي رونا سنذهب في نزهةٍ عائلية اليوم
عقد حاجبيه ونظر الى جدّته
: حقًا نانا ؟
ابتسمت
: نعم حبيبي سنذهب , ستأتي معنا صح ؟
قال باعتذارٍ لطيف
: اودّ ذلك , لكن لديّ عمل
قالت فكتوريا بخيبة
: لن اذهب اذًا
مسح على شعرها
: يا حلوتي اذهبي واستمتعي , وفي يومٍ آخر سأذهب معكم
دخلَ والديه الى الغرفة , لتقول والدته
: صباح الخير حبيبي
ابتسم
: هلا يمه صباح النور , شلونك اليوم ؟
هزّت رأسها بهدوء
: الحمد لله
قال والده
: عندك شي اليوم ولا تطلع معنا ؟
حكّ رأسه بأسف
: والله ودّي اخاويكم بس الحين بطلع للجامعة اخلص قبل العصر وعلى طول للندن عشان الدوام
قالت والدته
: نخليها يوم ثاني ؟
: لا على ايش , اطلعوا غيروا جو ويوم ثاني نطلع كلنا
قالت فكتوريا
: اتتحدثون الأسبانية ؟ لقد درست الفرنسية ولا تشبه حديثكم !
انفجر سعود ووالده ضحكًا , وابتسمت رونا وهي تمسح على رأسها
: لا حبيبتي , هذه لغتنا العربية
قالت متعجبة
: هل هذه هي العربية ؟
قال سعود
: هل تودّين تعلمها ؟ ام انّك مثل نانا لم ترغب ابدًا في تعلمها
قال ابو سعود بسخرية
: من نحاستها والله
احمّر وجه سعود وهو يكتم ضحكه
ووضعت ام سعود كفّها على فمها لتضحك بهمس
قال سعود وهي يفركُ جبينه حتى لا يضحك
: نانا الن تغيري رأيك في لغتنا ! انّها لطيفة
ابتسمت
: لا اودّ تعلمها , يكفي ان اتحدّث الانجليزية والفرنسية
قالت فكتوريا
: حسنًا بعيدًا عن اللغات , الن تغيّر رأيك ! ارجوك من اجلي
حملها وهو ينهض
: اتمنى يا صغيرة , لكنني اعمل واذهب الى الجامعة لن استطيع !
تأففت ثم قالت
: اذًا نذهب في يومٍ آخر
قبّل وجنتها القطنية
: اذهبي اليوم
رفعت كتفيها
: لا اريد
انزلها وعبث بشعرها
: كما تشائين
قبل ان يخرج من الغرفة سأله والده
: اقول سعود شلون جدّتك ؟
التفت اليه وزفر
: والله مو مكلمها من فترة , انت ما اتصلت عليها ؟
قال بضيق
: والله من زمان ما اتصلت ولا زرتها حتّى , الله يغفر لي مقصّر في حقّها كثير
ابتسم سعود
: سافر معاي نهاية الشهر
: اضبط وضعي واشوف
خرج سعود من الغرفة
رفعت فكتوريا رأسها الى جدّتها متضايقة
: لا احب لغتهم , لا افهم ما يقولونه !
ابتسمت جدّتها
: يجب ان تحبّيها , انّها اللغة التي نزل بها كتاب الله
: ما هو كتاب الله ؟
قال ابو سعود
: هل تعرفين الله فيكي ؟
رفعت كتفيها
: قليلًا , تعلّمت انّه الرب الذي يحمينا ويكون قريبًا منّا اذا احتجناه , وانّه والد سيدنا المسيح...
قاطعتها رونا برجفة
: لا حبيبتي...
قالت السيدة جوليا بهدوء
: على رسلك رونا , ستنفرينها !
مدّ ابو سعود بكفّه اليها
: تعالي لننزل الى الأسفل واحدّثك عن الله – رفع رأسه الى زوجته وامّها مبتسمًا – هل ستنزلن معنا
قالت رونا بارتباك
: نعم بالطبع – قالت بالعربية – يا ويلي يا محمّد كش جسمي من كلمتها !
قال بهدوء
: طبيعي هذا تعليمهم هنا , هي بعدها طرية وعلى الفطرة وشكلها ذكية ما شالله , ما يبيلها وقت عشان تتعلم , وامّها مسلمة وجدّتها مسلمة والبيئة اللي صارت فيها كلّنا مسلمين , انتي انفعلتي بس
هزّت رأسها وهي تزدرد ريقها
نزلوا الى الأسفل
ليرفعها ابو سعود ويضعها في حجره
: حسنًا يا حلوة , سأحدّثكِ عن الله , وستحبينه كثيرًا , سأخبركِ امرًا ايضًا , ان أحببتي الله ستستطيعين بثّ حُزنكِ اليه , وتستطيعين اخباره بكلّ امورك , وتستطيعين طلب منه ما تودّينه
هزّت رأسها بحماس
: تابع
: الله يا صغيرتي الهٌ عظيمٌ كبير , خلق الكون ووضعنا فيه , ثمّ جمّله لنا بالسماء والنجوم والغيوم , والشمس والقمر , ووضع لنا ازهارًا واشجارًا وليلًا ونهارًا , وعلّمنا كيف نبني منازلنا وكيف نصنع سيّاراتنا , علّمنا كيف نزرع القمح ونصنعُ منه خبزًا , ودلّنا على شجرة الكاكاو لنصنع الحلوى , والهمنا ان نبني المدارس حتّى نظلّ نتعلم , الله يا حلوتي واحدٌ ليس له زوجةٌ او ولد
قالت ببراءة
: الا يشعرُ بالوحدة ؟!
ابتسم
: الله ليس مثلنا يا صغيرتي , لا يشعرُ بالوحدةِ كما نشعر , ولا يشعرُ بالملل كما نشعر , الله لا يشعر بالمشاعر السيئة التي تخطُرُ علينا , الله يشعر بالمشاعرِ الجيدة , بالحُب بالرحمة بإعطاء الخير للناس , بوهبِنا الأموال والأطفال
قالت بنبرةٍ غريبة
: هل يحبني الله ؟
: بالطبع حبيبتي !
رفعت كتفيها بتساؤل
: لماذا لم يجعل لي والِدَين اذًا !
مسح على شعرها بحنان
: بل فعل , لكنّه اشتاق الى والدتكِ فأعادها اليه
: اليس لي أب ؟
صمتَ لثوانٍ طويلة , ثم قال
: سنتّفقُ اتفاقًا فيكي , هُناك امورٌ لا يجبُ ان نسأل عنها , اذا كبرنا فقط نتعلمها
: هل ابي من ضمن هذه الأمور ؟
هزّ رأسه ايجابًا
: نعم
: حسنًا , هل ستتابع حديثكَ عن الله ؟
قالت السيدة جوليا بهدوء
: يكفي الى هذا الحد , هل نتابع في الغد ؟
قال ابو سعود
: عظيم , كل يومٌ سنتحدّث قليلًا , اتفقنا ؟
ابتسمت
: اتفقنا
تنهدت السيدة جوليا وهي ترمي ببصرها بعيدًا عن الطفلة
سامحكِ الله يا رنا , غفر الله لكِ يا ابنتي
ايُّ ذنبٍ اقترفته في هذه الطفلة !
نسبٌ لا يليقُ بها
واسمٌ لا يناسبها
ودينٌ نخشى ان ننزعه منها فتكره ديننا !
نظرت اليها مجددًا وابتسمت بحنوْ
لن تقصّر معها ابدًا
ستعوّض فقدها لرنا في ابنتها
شدّت رونا على كفّ والدتها وابتسمت
لتبتسم بهدوء
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانيةَ مساءً
أوقف السيّارة أمام المنزل وزفر
: هذا وليد بعد وصل , الولد ذا صاير ما ينطاق هاليومين , أخلاقه في خشمه ويهاوش ذبّان وجهه
قالت وهي تحملُ حقيبتها وتضع يدها على باب السيّارة
: ما ادري اذا الومه ولّا الوم ملاك , ولا حتّى خالتي !
التفت اليها
: وش فيها خالتي بعد ؟ هو واخته يتذابحون وكل واحد منهم شايل غلط بروحه
رفعت كتفيها
: ما ادري , بس جالسة افكر وش السبب اللي يجبرها تترك عيالها طول هالعمر , مو فاهمة وش اللي يستاهل تترك طفلة بنت نفاس !
: اكيد كان في ظروف اجبرتها
التفتت اليه
: انت تعرف ؟
: ما اعرف كل شي , شي بسيط من سالفتهم , وليد كثير متكتم عليها ولا يعرفها غير امي وابوه
زفرت وهي تفتح الباب
: الله يفرج عليهم بس
نزلت والتفتت الى الخلف لتبتسم
: تركي وصل
: قال وهو يفتح الباب
: هديل معاه ؟
: أي
فتح علي الباب ليدخلوا معًا
كانت ام علي امامهم تهمّ بالدخولِ الى المطبخ
ابتسمت ودمعت عينيها من دخولهم
: هلا والله
قبّلوا رأسها واحدًا تلو الآخر
قال رتيل وهي تمسك بيدها بقلق
: يمه وش فيك ؟ باكية ؟؟
ضمتها اليها
: ما فيني يا يمّه , بس دخلتكم علي مع بعض وسلامكم عليّ عندي بالدنيا وما فيها , الله لا يحرمني منكم ومن دخولكم علي مجتمعين
أمّنوا بهمس
همست هديل في اذنِ والدتها
: يمّه خالتي سمعتك , مسكينة انكسر خاطرها
زفرت وهي تقول بقلة حيلة
: سلموا على خالتكم واطلعوا غيروا عشان نتغدّى
قبّلوا رأسها وصعدن هديل ورتيل
ودخل تركي وعلي الى غرفة الجلوس
قال تركي
: سلام
قال وليد بهدوء دون ان يرفع رأسه عن هاتفه
: وعليكم السلام
جلسوا ليسأله علي
: لقيت شقّة ؟
: باقي
: خويي في الدوام قال لي عمّه عنده عمارة جديدة وما سكنها احد اذا تبِي تشوفها
قال تركي
: انت دامك موظف في ارامكو ليش ما تقول لهم ؟
قال علي
: لو يشوف بيت منفصل عن شغله , يعني ما تدري وش يصير بكرة
لم يُجبهما
دخلت ام علي بصينية الغداء , ليفزّ تركي ويأخذها منها
قال علي
: يعطيك العافية يمه
: عليكم بالعافية حبيبي , احنا بنتغدى اذا بغيتوا شي من الحين قولوا
قال وليد بهدوء
: الشطّة لا هنتي
ذهبت الى المطبخ ومدّت بالعلبة الحمراء الى هديل
: ودّيها لاخوانك
اخذتها ودخلت الغرفة
عقدت حاجبيها حين رأت وليد
مدّتها الى تركي وخرجت بصمت
قال علي بزفرة
: وليد حاول تحسّن علاقاتك , اللي مقاطعهم ماهم غرب , هذول خواتك عنبو بليسك !
سمّى بالله وبدأ بطعامه دون رد
قال تركي
: شوف تبي تقاطع هديل وتضرب ملاك وتهاوش من ما تبي تهاوش انت حر , بس تطنش اخوي الكبير وتحقره انا هنا ادفنك
ضحك علي , ولم يظهر وليد ايّ تعبير
قال علي بسخرية
: افا بس , هذه آخرتها تركي والجدار واحد !
ضحك تركي
: يمون ولد الخالة
لم يجبهما ايضًا
فتجاهلاه !
,
طرقت الباب بخفّةٍ ودخلت
ابتسمت
: مرحبا
فتحت عينيها , قالت بتعب
: هلا
اقتربت لتجلس قريبةً منها
: شلونك ؟ معليش والله صايرة ما اشوفك عندي اختبارات وكذا
ابتسم ابتسامةً شاحبة
: ولا يهمّك
: يلا تنزلين تتغدين ؟
: ما لي نفس والله
: وش فيك ؟
: دايخة وحاسة بحرارة
مسّت جبينها , وعقدت حاجبيها
: حرارتك مرتفعة كثير , وش حاسّة بالضبط ؟
ضحكت بارهاق
: بتطبّقين دراستك علي يعني !
قالت بجديّة
: قولي لي شفيك
زفرت ثم قالت
: بطني تعورني مرّة وحاسة جسمي ثقيل , واحس في شي مكتوم داخلي مخليني دايخة
سحبت عنها لحافها
: قومي قومي البسي , نودّيك للمستشفى , شكله قولون والله اعلم
قالت بتعب
: رتيل والله تعبانة اتركيني ارتاح وبعد شوي بطيب
: قومي قلت , انا بروح البس اجي معك
: وش ذنبك انتي ! توّك راجعة من دوامك روحي تغدّي وارتاحي
قالت رتيل بحدّة
: وش ذنبي ؟! انتي بنت خالتي وحسبة اختي اذا ناسية ! قومي اخلصي
تأففت ونهضت بتعب
ساعدتها رتيل لترتدي عباءتها
وذهب لترتدي عباءتها
ثم نزلتا
دخلتا الى غرفة المجلس لتعقد ام علي حاجبيها
: على وين !
قالت رتيل بلطف
: ملاك تعبانة شوي , نتغدّى ونروح للمستشفى
نهضت ام وليد بخوف
: بسم الله عليك , وش فيك يمّه وش حاسة ؟
ظلّت صامتةً تنظرُ اليها
اقتربت ام وليد وساعدتها لتجلس وهي تمسُّ جبينها
: وش يعورك حبيبتي ؟
ازدردت ريقها , وقالت بخفوت
: بطني
وضعت يدها على بطنها وهي تهمس
: اللهم ربِّ الناس اذهب الباس اشفها انت الشافي لا شفاء الّا شفاؤك لا يغادر سقمًا
التفتت ام وليد الى هديل
: هديل يمّه روحي لاخوانك شوفي من فيهم يودّينا للطبيب
نهضت هديل الى اخوتها
قالت وهي بجانبِ الباب
: من فيكم يودّينا للطبيب ؟
قال علي
: وش صاير ؟؟
نظرت الى وليد وقالت بهدء
: ملاك تعبانة مدري وش فيها , وجهها اصفر وترجف وما تقدر تاكل
رفع رأسه بسرعة
ورسم الخوف شبحه في عينيه
وخطّ على جبينه تعاريجه
لتكتم ابتسامتها
قال علي
: اودّيكم انا , جاهزين ؟
قال وليد بقلق وهو ينهض
: خلّك انت , انا بودّيهم
عادت هديل لتقول بحماس
: وليد بيودّيها , فزّ يوم قلت ملاك تعبانة – ضربت كتف ملاك بخفة – يحبّك يا هبلا
ضحكت رتيل ووالدتها
وقالت ام علي
: اكيد يحبها ماهي اخته !
قالت رتيل
: حسستيني زوجها مو اخوها
ضحكت هديل وهي تملأ صحنًا وتقترب من ملاك لتطعمها
: ما علينا , يلا هم
قالت ملاك
: ما ابي والله
: كلي شوي يمكن تطولون لا تغمين من الجوع
قالت ام علي
: رتيل تعالي كلي يمّه
جلست رتيل لتأكل
قالت ام وليد
: ارتاحي رتيل انا اروح معاها
: عادي خالتي انا بروح
اقترب وليد من الغرفة وحمحم
جلست رتيل ليقابل ظهرها الباب , وتتابع طعامها
دخل وهو يصدّ عن رتيل
جلس أمامها وقال بهدوء
: وش فيك ؟
دمعت عينيها وظلّت صامتة
اطعمتها هديل وهي تقول بطريقةٍ مضحكة
: وييه يا حبّة عيني تعيبانة ووجعانة , كلي كلي يا بنت خالتي جعل من ينكد عليك للطيحة قدام الله وخلقه في دوامه
ضحكت رتيل بهمس
ابتسمت ام علي
: هديل لا يكثر
سحب الصحن والملعقة من يد هديل , ورفع الملعقة الى فمها
نزلت دمعتان من عينها , وصدّت عنه
قرّب الملعقة من شفتيها
: يلا بسم الله
ابتسم بحسرة , وتابع
: جات الطيّارة جات , ياكلها وليد ولا لوكا !
ضحكت من بين ادمعها لتقول بعبرة
: لوكا تاكل
فتحت فمها لتأكلها
ملأ الملعقة مجددًا ورفعها
: جات الطيّارة جات , تاكلها لوكا ولا وليد !
بكت وهي تقول بنحيب
: اديد ياكل !
انزل الصحن وسحبها اليه ليعانقها وهو يزفر
تأثرت هديل ومسحت دمعتيها لتلتفت الى خالتها المنهارة بالبكاء
ووالدتها التي دسّت وجهها خلف حجابها العريض , ورتيل التي تمسح ادمعها , وشفتيها متقوستان بتأثر
قالت هديل ساخرة
: كان لازم تمرض يعني عشان تجي تكلمها !
ابعدها عنه قليلًا ومسح دمعها
قبّل جبينها
: يلا بابا كملي صحنك عشان نروح للمستشفى
نهض ليخرج من الغرفة
لتقول هديل بغيض
: لله يا محسنين , يقولون في اخت طايحة لك , ما تبي تشوفها تطالع في وجهها !
قال ببرود
: اذا احترمت نفسها وقصرت لسانها
صرخت بغيض
: روح ماني رادّتها عنّك جعلك تطيح قدّام الأوادم بكشختك ورزّتك وارامكو كلّها عن بكرةِ ابيها تضحك عليك
ضحك رغمًا عنه وهو يلتفت اليها
: اعوذ بالله من دعائك اذا عصبتي , وحدة بوحدة
تهلل وجهها وهي تقفز لتعانقه بشدّة
: يا روححي انا , جعلني فدوا لذي الضحكة
ابتسم وطبطب على ظهرها
: خلاص ردّي دعوتك عنّي
ابتعدت ورفعت كفّيها لتقول
: يارب ما يتفشل وليد ولا يطيح
ابتسم , ثم قال
: يمه تروحين معانا ؟
نهضت وهي تمسح أدمعها , وتقول ببحة
: ايه , بطلع البس عبايتي
قال بهدوء
: اجل خلِك انتي رتيل
: بروح معاها , اريح لي كذا
: طيّب على راحتك , اذا خلصتوا انا منتظركم في المجلس – أكّد على ملاك – خلصي الصحن كلّه زين
هزّت رأسها ايجابًا بصمت
قالت هديل وهي تجلسُ براحة
: ليتك مرضتي من زمان يا شيخة
نهرتها ام علي
: الملافض سعد يا بنت !
ضحكت
: اقصد ربّ ضارةٍ نافعة
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثالثة مساءً
طرق الباب طرقاتٍ خفيفة
فتحت زوجته الباب وابتسمت
قبّل رأسها ودخل
حمحم لتقول والدة زوجته
: حيّاك بو راجح يا هلا
ابتسم من اصرارها الّا تغيّر اسمه
: شلونكم يا عمّة عساكم بخير ؟
: الحمد لله عايشين
: طيّب انا جاي اقول لكم تتجهزون , اجّرت شقّة مفروشة باخذكم لها , وابو منال بعد نص ساعة او اكثر بيطلع ويلحقكم هناك
شهقت منال وهي تقفز
: صج ابوي بيطلع !
: ايه ان شالله
قالت مها بخوف
: وابوي ويدّي وراشد ؟
قال بهدوء
: مو الحين , ادخلي اجهزي
ازدردت ريقها وهي تحبس ادمعها
: بنروح معاهم لنفس الشقة ؟
: لا , هم بيوديهم السوّاق لشقتهم , وانا وانتي بنروح شقتنا , انا بنزل للرسبشن لين تخلصون
هزّت رأسها بصمتٍ وتركته
لينزل هول الى بهوْ الفندق
المحكمةُ غدًا قُبيل المغرب
قلبه يرتجف من الآن
رُغمَ يقينه انّه صاحبُ الحق
لكنّه خائف !
يخجل من ان يعترف بها بينه وبين قلبه
يخشى ان يسمع همسها احد
يودّ الذهاب ليعانق رتيل طويلًا
ليستمدّ منها هدوءً لا يُخزيه كطفل !
يشتهي نغم صوتها ليطرب روحه
يشتهي ضحكتها الخافتة , وعينيها الشقيّة
لن تسمح له ابدًا !
لن تفتح له بابًا قد اوصدته حين عادَ وخلف كتفه مها
زفر بشدّةٍ وهو يدعو الله ان تتمّ جلسة المحكمة على خير
ليرتاح أخيرًا !
ان انتهت سيستطيع جمع شتاته
سيستطيع المُضيّ في حياته دون خوف
سيستردّ رتيله
ويفرُغ نفسه لعبد الله , ليحطّم رأسه !
ثم يعانقه بقوّةٍ تعبّر عن اشتياقه العظيم
ليسترضي والديه , لينظر في امر شقيقته وزواجها
سيعيش كما يجب وكما يستحق !
ليس كما اوجب عليه راشد !
عقد حاجبيه لذكر راشد
ان طلب من الله طلبًا , سيطلبه أن يفنى راشد !
ان تكون نهايته جحيمًا يُسعّر !
لا يذكر انّه كرِه احدًا كما كرهه
الأحمق المتصابي
المتطفل !
قطع افكاره هاتفه
رفعه وردّ بخمول
: هلا
جاءه صوتٌ غاضب
: يعني سوّيت اللي في راسك وطلّعت ابو منال !
تأفف ثم قال
: وش تبي انت ! بالله عليك مانت متأكد مليون بالميّة ان الرجال ما له شغل !
: ما يلزمني له شغل او لا , طلعت حريمهم وسكّت , بس تجي الحين تطلع ذا ! وش رايك نطلع راشد بعد ؟
ضحك ببرود , ثم قال
: انت مزاجك صاير هواش ومنافخ ! يبي لك تتزوج وتركد
زفر ثم قال
: اسكت يا شيخ لا تذكّرني , امّي تقول روح قدّم على جمعية للتزويج ولا كلّم خطّابة عطها مواصفاتك !
انفجر صقر ضاحكًا
: افاا ! ليه كذا , ما ودّها تزوجك يعني !
: تقول من ترضى فيك على عصبيتك ! بالله انا عصبي الحين ؟؟
ضحك صقر بشدّة ثم قال ساخرًا
: ما معاها حق ظلمتك
ضحك ذياب ثم قال
: وتقول شايب وانا ما اعرف لك حرمة كبيرة تناسبك , استغفر الله بس انا وانت من نفس العمر وانت متزوّج اثنين وانا ولا ظل حرمة
ضحك صقر بمرارة
: انت اكبر منّي يا الشايب , وبعدين الله اكبر يا الاثنين ! خلنا ساكتين بس
قال ذياب فجأة
: صقر ما لك نيّة تطلق بنت ابو عقاب ؟
صمت لثوانٍ طويلة , ثم قال
: لا , ليش اطلقها !
: يعني ما تبي بنت عمّك !
اغمض عينيه بتعب , وقال بنبرةٍ مُثقلةٍ بالهم
: ابيها
قال ذياب بسخرية
: ما راح اقول لك انها ما بترجع لك دام بنت ابو عقاب على ذمّتك , انت تدري ما يحتاج اقول
ابتسم بهدوء
: الله كريم , قلت لي تبي خطّابة ها
ابتسم ذياب من تغييره للموضوع , وقال بهدوء
: ايه
ضحك صقر فجأة , وقال
: والله في موّال في راسي , بس اقضي المحكمة بنفذَه ان شالله
: علمني
: انسى
تأفف ذياب
: طيب , وينك الحين ؟
: في الفندق انتظرهم , اجرت شقة لأم منال وام عقاب والبنات بيودّيهم السوّاق , وباخذ زوجتي لشقتي
: متى اجّرت شقق ! ولا جبت لي سيرة قبل
: من فترة كلّمت مكتب عقار وعطيته مواصفات , ونسيت الموضوع , فاجأني امس المغرب قال لقيت لك اللي تبي , عاد اريح من الفندق وقروشته
: زين سوّيت
لم يطيلا الحديث وتوادعا
وضع هاتفه جانبًا
وضحك وهو يتخيّل ما سيحدث ان نفّذ ما يفكّر فيه !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الخامسة مساءً
فرقع أصابعه بغضبٍ يكتمه
ظلّ يجوب الغرفة دون توقّف
التفت اليه وهمّ بالحديث
لكنّه صمت
ركل الحائط وجلس
ثم نهض وظلّ يجوبُ الغرفة بتفكير
ثم قال أخيرًا
: ما راح اطمنك واقول لك معصبة وتقول أي كلام , كلّنا عارفين جدّتي ما تقول مثل هالكلام ولا تطريه حتى لو عصّبت
قال بخفوت
: يعني ؟
جلس أمامه وقال بجديّة
: حاولت تكلمها ؟
: ما رضت تسمعني
: عندك استعداد تنام الليلة وهي غضبانة عليك ؟
قال بتعب وهو يوشكُ ان ينهار
: مالك روح لها , خذ عمامي معاك , اقنعوها , مو عدل انها تساومني على رضاها !
قبل ان يجيبه مالك , فاجأه رقمٌ غريب
ردّ بهدوء
: هلا !
عقد حاجبيه وهو ينهض
قال
: لحظة لحظة هدّي , من انتي ؟
صمتَ لثوانٍ , ثم قال
: ايه عندي , وش صاير !
صمتَ لثوانٍ اخرى ثم شهق بفزع
: وينكم ! , طيّب احنا جايين
اغلق الهاتف وقال بعجلة
: ذي اروى تقول حرقت جوالك اتصالات وانت قافله , وجدّتي طايحة عليهم بعد طلعتك بشوي ومودينها المستشفى
لم تحمله قدماه لينهض
ظلّ في مكانه , وعينيه متسعتين بصدمة
صرخ به مالك
: سلطان قوم !
سحبه معه
ليجرّ قدميه عنوة
وجسده يرتجف برعب
ارجوكِ لا تفعلي يا جدّتي !
ارجوكِ لا تؤذيني فيكِ
سأفعل كل ما تريدينه , لكن توقفّي عن ما تفعليه بي
شهق بحدّة وخوف من ان يفقدها
لن يحتمل ان فعلت
يقسم انّ لا حياةَ له بعدها !
لن يعيش اذا اصابها مكروه
رفرف قلبه بخوفٍ عليها
ظلّ لسانه يلهج الّا يُصيبها مكروه
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الخامسة والنصف مساءً
قال باصرار
: متأكّد ما فيها شي يا دكتور ؟
زفر الطبيب بصبر , ثم قال
: قلت لك الموضوع بسيط تلبك معوي وغالبًا سببه نفسي , ترتاح وتتغذى وكتبت لها دوا بيريحها
التفت اليها وهو ينظرُ الى المحلول الموصّلِ بوريدها الضعيف
قالت رتيل بهدوء
: طيب تقول حاسّة باحتباس في جسمها ودايخة بسببه
قال مؤكدًا
: عادي , انا قدّامك سويت لها تحليل دم , بعلمك شغلك يا نيرس ! شفتي النتيجة بنفسك
قالت باستسلام
: اوكي , الحرارة والدوخة بتخف من المغذي ؟
هزّ رأسه ايجابًا
: ان شالله
قالت ام وليد اخيرًا بعد صمتٍ طويل
: طيب ما تجلس هنا احسن , تحت عينكم يعني
ضحك وهو يرص على أسنانه بغيض
ثم قال
: ما يحتاج والله
اولته رتيل ظهرها لتضحك بخفوت
ابتسم من ضحكتها , ثم قال
: طيب يا نيرس تفضّلي معاي اعطيك وصفة الدوا وأعلمك عليها , وانتي يا ملاك استرخي لين يخلّص المغذي وما عليك شر ان شالله
خرجت رتيل خلفه الى عيادته
جلس خلف مكتبه وضحك
: اختك ؟
قالت بهدوء
: بنت خالتي
: شكلهم حيل مدلعينها ويخافون عليها
: نوعًا ما
كتب اسم الدواء ومدّ بالوصفة الى رتيل وهو يشرح لها استخدامه
قبل ان تخرج قال
: رتيل
التفتت بصمت , ليقول باستدراك
: نيرس رتيل
: هلا ؟
ابتسم وهو يرفع نظارته عن عينه
: انا فخور فيك , كتشخيص مبدأي حتّى انا ظنّيته قولون , بالتوفيق
اومأت بخفّة
: شكرًا لك
خرجت مسرعة , وقلبها يكاد يمزق صدرها من شدّة الضرب
ليست المرّة الأولى , ولا العاشرة !
التي ترى فيها نظرةً مُريبة من عينيه
ازدردت ريقها بقلقٍ منه
سيقتله صقر ان صدق ظنّها !
اعتدت بنفسها وهي تقنع عقلها , ان صقر لا يهمها !
فركت جبينها بتوتر , وهي تعودُ الى خوفها من الطبيب
بعيدًا عن كونه طبيبًا في مشفى تدرس فيها
هو مدرسها ايضًا !
زفرت لتشتت التفكير عن عقلها , ودخلت الى الغرفة
اقتربت من ملاك , ونظرت الى المحلول
: خلاص بفكّه
قال وليد بحذر
: تعرفين ؟
التفتت اليه وصمتت لثوانٍ , ثم قالت بغيض
: الثلاث سنين تمريض اللي درستهم مو مالين عينك !
ضحك بعمق وهو يصدُّ عنها
: معليش ناسي , يلا انا بنتظركم برى
خرج من الغرفة
اقتربت رتيل من كفّ ملاك , لتهتف خالتها بقلق
: بسم الله , يمه رتيل نادي الطبيب يشيله
قالت معترضة
: خاالتي !
ضحكت ملاك بارهاق
: يمه وش فيكم عليها ! البنت ممرضة ذا شغلها
صمتت رتيل
واقتربت ام وليد بغير تصديق
: وش قلتي !
ازدردت ريقها وهي تقول بتردد
: قلت ذا شغلها
ابتسمت ام وليد من بين دمعتين قفزتا الى مقلتيها
واشاحت ببصرها عنها
نزعت رتيل الابرة عن وريد ملاك ووضعت لاصق الجروح
: يلا قومي
نهضت ملاك وساعدتها رتيل لترتب حجابها
وخرجن من الغرفة
اسند وليد ملاك وقرّب رأسه اليها
: خفّيتي
ابتسمت وهي تعانق ذراعه
: أي
قبّل رأسها وصمت
قالت ام وليد بعبرة
: شوفي وش زينهم
ابتسمت رتيل
: الله يديم عليهم , ويهديهم لك , هذا شكلهم الطبيعي من يوم عرفتهم , شي شاذ ومو طبيعي ان يصير بينهم مشكلة او خلاف
زفرت ام وليد بصمت
ركبوا السيّارة ليرنّ هاتف وليد
ردّ وهو يحرك السيارة
تحدّث قليلًا , وأغلق الهاتف بزفرة
قالت والدته بقلق
: مين ذا ؟
: خالد , تعبان شوي
: بتروح له ؟
: أي ان شالله بعد المغرب
: تودّينا معاك انا وخالتك ؟ نشوف امّه ونتحمد لها بسلامته
قال باستحسان
: ما في مشكلة , حتّى البنات خذوهم , يعرفون اخته , كانت مسافرة ورجعت
قالت ملاك باستغراب
: رجعت ؟ سمعنا انها استقرّت برى
قال وليد بهدوء
: لا رجعت الحمد لله
قالت والدته
: خلاص اجل نروح معك , بس كلمه قول له
هزّ رأسه ايجابًا
: ان شالله
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة مساءً
سأل بخوفٍ عنها
ليسرع وهو يسحب ابن عمّه العاجز عن السير معه
التفت اليه بحدّة
: امش وش فيك !
توقّف عن السير وهو يلتقط أنفاسه
: خايف اروح لها , خايف يكون صار فيها شي !
عقد حاجبيه
هذا الضخم القاسي
الذي ترك شقيقته طفلةً وهاجر
الذي تجاهل عجز والده , ورحل !
من اين له هذا القلب الرقيق جدًا !
لم يعلم انّ لسلطان حسًّا مُرهفًا
او قلبًا ضعيفًا أمام جدّته , جدّته فقط !
حدّته وعنفوانه وشراسته
جميعها تتلاشى , وتذروها الريح
أمام جدّته
يصبح وديعًا , مبتسمًا , ساكنًا
وقلقًا عليها دومًا !
شدّ على كتفه
: ان شالله ما فيها شي , بس تعال نشوفها ونسأل الطبيب عنها
قال بنبرةٍ متعبة
: ادخل قبلي
زفر مالك وتركه ليدخل
اقترب منها بلهفة
: بسم الله عليك يمّه
أغمضت عينيها وفتحتها وهي تنظر اليه
لم تجبه بسبب جهاز التنفس المثبت على انفها وفمها
نظر الى عمّه الأصغر
: عساها بخير ؟
زفر وهو يجلس ويمسك بيدها
: الحمد لله , ضغطها هبط فجأة والحمد لله ما صار فيها شي
قالت اروى ببحة
: وين سلطان ؟
نظرت اليه جدّته بلهفة
ليبتسم بحنو
: برّى الحين اناديه
خرج وهو مبتسم
نهض سلطان بحذر
قال مالك بهدوء
: تعال سلّم على امّك
دخل مسرعًا
قال ببحّة
: يمّه
مدّت يدها لترفع الجهاز , لكنّ كفّيه منعتها
قال وهو يقبّل جبينها
: اسف يمّه حقّك على راسي , الله لا يخليني ان كان اعودها , حاضر بتوظّف وبتزوّج بس قومي لنا بالسلامة
شهقت اروى
: سلطان !
بكت جدّته رغمًا عنها وهي تشدّ على كفّه
لم يعلم انّها كانت ستقول افعل ما بدى لك
لكن لا ترحل !
لم يعلم انها تراجعت عن حلمها , مقابل ان لا يتركها !
قبّلها مجددَا بصمت
وربّما لم يكن واعيًا لما قاله !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة مساءً
طُرِق البابُ بخفّة
أغلقت الهاتف وقالت ببحّة
: مين ؟
دخلت والدتها وابتسمت
: صاحية ؟
ابتسمت
: حيّاك يمّه , ما نمت ظلّيت اقرأ
قالت والدتها
: طيّب تعالي ساعديني , بيجون اهل خوي خالد يسلمون علينا
: اهل وليد ؟!
: أي اكيد تذكرينهم , ام علي وبناتها واخت وليد
هزّت رأسها ايجابًا
: أي اذكرهم
نهضت مع والدتها التي قالت
: المجالس نضيفة بس بخريها , وتعاليلي المطبخ
: ان شالله
بخّرت المجالس وذهبت الى المطبخ لتساعد والدتها
انتهيتا سريعًا , ثم استبدلتا ثيابهما
قاربت الساعة الى السابعة وعشرون دقيقة
ليرنّ جرسُ الباب
فتحه بندر , وأشار اليهنّ ليدخلن
دخلت ام علي اولًا , وبجانبها ام وليد
كانت لين مبتسمة
كشفت ام وليد عن وجهها ورفعت رأسها مبتسمةً بهدوء
اختفت ابتسامتيهما
صُعقت لين , ذبلت قدميها وكادت تقع
وصُدمت امّ وليد , وعينيها تكادان تقفزان من محاجرهما !
,
,
الى الملتقى :)
,
*وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة
عذبة الماء , وأنها قيعان
وان غراسها " سبحان الله , والحمد لله , ولا اله الا الله والله اكبر " *
,