بسم الله الرحمن الرحيم
البارت السابع والثلاثون
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
قالت ام وليد بنبرةٍ تُرسل العذاب الى من يسمعها
: عايشة
ظلّت تنظرُ اليها بصدمة , وجنون !
شعرت بالدوار وهي تهمس غير مصدقة
: لـطيـفة !!!
اقتربت ام وليد , تُجبر قدميها على السير
تكاد تجلد نفسها لتسرع
شعرت ام علي انّ قلبها يتهاوى
كانت انفاسها محبوسة , وعينيها مشدوهة
اطلقت انفاسها كآهةٍ أثقلت قلبها
سارت مسرعةً الى شقيقتها
عانقتها وهي تصرخ بلا تصديق
: لطيييفة ! لااا اله الّا الله , ياا الله ! هذه انتي يا لطيفة , رجعتي من الموت يا قلب اختك ! رجعتي غصب عن الكل , يا روحي يا لطييفة ياا روححيي
لم تحملها قدميها اكثر
تخاذلت قواها لتسقطها ارضًا , وتجتذب شقيقتها اليها
تعانقتا عناقًا أبكى هديل التي لم تفهم شيئًا !
وأبكى ملاك التي لا تزال آثار موقفٍ سابقٍ كهذا تنهشها !
وأبكى وليد , الذي ظنّ انّه سيعيش عمرًا على عُمره ولن يرى هذا الموقف !
وأبكى تركي , الذي انفطر قلبه من شهقاتِ والدته التي تصيب قلبه بسهامٍ من وجع !
بكت ام وليد حتى آلمها قلبها
وهي تتلمس شقيقتها غيرَ مُصدقة
مرّت الأعوام تباعًا , أوجعتهم بالفراق
الفراق الذي أبى ان يقشع غيمته السوداء عنهم
الفراق المتجبر
الذي جلد أرواحهم بسياطٍ من لوعة
أبعدتها لتنظر اليها وهي تهتف
: اسألك بالله هذه انتي ! بالله عليك انتي لطيفة ! انتي بنت امّي وابوي ؟
انتحبت ام وليد وهي تعانقها وتقول متعذبة
: حسبي على اللي بعدك عنّي , يا وجع قلبي فيك يا اختي , يا كبر همّي اللي انشال عنّي بشوفتك يا عايشة
فتح الباب ليدخل علي
الذي لم يكن يعلم عن شيء !
قال بصدمة
: يمّه شفيك !
نظر الى وليد وتركي الذين صدّا عنه يمسحان أدمعهما !
اقترب من والدته
: يمّه وش صاير
قال منتحبة
: ردّت لطيفة يا علي , رجعت لطيفة
عقد حاجبيه
: من لطيفة
التفتت خالته اليه , ليصدّ عنها وهو يكاد يجنُ من الموقف
قالت خالته ببحة
: علي يا روحي انت , تعال يا يمّه
قال وليد بعد ان حمحم ليصفّي حنجرته
: هذه امّي
التفت اليه مصعوقًا
: مين !!
شهقت هديل ايضًا
التي لم تستوعب الأمر برمته , الّا بنطق وليد بتصريح !
قال وليد مبتسمًا بوجع
: امّي , خالتك !
نظرَ اليها ببلاهة
ضحك تركي
: علي الله يفشلك سلّم على خالتك !
نظرَ الى شقيقه
: ها
انفجروا ضاحكين , ليقول تركي
: أي حتى انا ما عرفت اسلم , بس شنيوي يا اخوك خالتنا يجوز
انحنى بتردد
ومدّت ذراعيها لتعانقه
: يا حبيبي , يا عمري انت , لا اله الّا الله كبرتوا وتغيرتوا
ابتعد وهو يبتسم بمجاملة
التفتت أخيرًا الى هديل
التي عرفتها من شدّة شبهها بوالدتها
ابتسمت بحنان
: عاد علي ما ينشره عليه اذا ما عرفني , وتركي عادي اذا استغربني , بس انتي ؟
كانت تضع كفّها على شفتيها وترتجف
قالت بذعر وهي تحتمي بتركي الذي كان يقف قريبًا
: شلون يعني خالتي ! وش الميّت اللي يرجع من قبره !
مدّ وليد جسده ليضربها على مقدمة رأسها
: وقص يا هبلا , ما تعرفين تتكلمين انتي !
التفتت اليه لتصرخ به , وهي جدُّ مرعوبة
: وش ما اعرف اتكلم , حرمة ميتة من اثنين وعشرين سنة شلون ترجع للحياة !
قالت والدتها بصوتٍ مُنهك
: هديل تعالي لي يا امّي
تراجعت برعب
: ما ابي
امسك تركي بيدها , وقد شعر انّ الأمرَ حقيقي
: هديل بسم الله عليك
نفضت يدها منه وهي تتراجع الى الدرج برعب
جميعهم مُرعبون الآن !
شهقت وهي تصعد الدرج مُسرعة
قالت ام علي وقد عّقّدت حاجبيها
: تركي يمّه اطلع لاختك , المغرب قريب لا يجيها شي – التفتت الى شقيقتها وقالت بنبرةٍ معبقةٍ بودٍ وحب – والله ان ترحبين
قبّلت ام وليد يدَ شقيقتها وهي تمنع نفسها من البكاء
نزل اليها وليد بحنو
: يلا يمّه قومي للمجلس , مو زين جلسة الأرض القاسية
نهضت بمساعدته , وساعد علي والدته لتنهض
التفتت ام وليد الى ملاك , همّت بالحديث , لكنّها صمتت
,
دخلت الى غرفة رتيل واسرعت لتختبئ تحت لحافها
قالت رتيل مستغربة
: وش فيك !
دخل تركي فجأة لتشهق بذعر
قالت رتيل
: عمى وش فيك وقفتي قلبي !
اقترب تركي لتصرخ به
: لا تقرب منّي
قالت رتيل بصدمة
: وش فيها ذي !
قال تركي بملل
: انتي هيه اعقلي لا اهفّك كف يعقلك !
جلس على السرير والتفت الى رتيل
قال
: شفتي وليد ؟ امّه اللي هي خالتنا قبل اثنين وعشرين سنة أخذها جدّي ابو امي مدري وين واختفت , دورنا عليها ما لقينا لها اثر قلنا خلاص نقول انها ماتت عشان محد يسأل ويطلع كلام على كيف الناس , والحين وليد دورها ولقاها , وموجودة تحت رجعت معاه , وذي انفجعت على بالها عفريت طلع من القبر
قالت رتيل بصدمة
: ام وليد عايشة !
قال متمللًا
: لا تسويلي انفجعتي انتي بعد
قالت بغيرِ تصديق
: شلون ! اثنين وعشرين سنة مختفية !
: هذا اللي صار
التفت الى هديل التي خَفّت رجفتها , لكنّها قالت بخوف
: طيّب ليش قلتوا ميتة
: قلت لك عشان لا يسألون الناس واحنا ما ندري وينها
ظلتا صامتتين , ليقول تركي
: يلا انزلوا سلموا عليها
تبادلتا النظرات , لتقول رتيل بنبرةٍ مبطنةٍ بالجُبن
: انا بنام
هزّت هديل رأسها مؤيدة
: ايه صح بنّام احنا تعابنين
ضحك وأردف
: طيّب يا التعبانين انزلوا سلموا واطلعوا ناموا
ازدردتا ريقيهما , ليقول بمللٍ وهو ينهض
: اخلصي انتي ويّاها
قالت رتيل بنبرةٍ جعلته ينفجر ضاحكًا
: ايه صح عيب لازم ننزل نسلم , واذا هي فيها بسم الله ولا شي ما بتقدر تسوي لنا شي كلهم تحت وامّي موجودة , وما نطوّل بس سلام ونطلع
قالت هديل بتردد
: تهقين ؟
هزّت رتيل رأسها ببلاهة
: ايه ما عليك
هزّ رأسه مستخفًا بهما , ونزل يتقدمهما
قال
: وليد لا هنت
نهض وليد الى الغرفةِ الأخرى
لتدخلان متلاصقتان
دفع تركي هديل
: يلا سلمي على امّك , ولا التحضن في وليد جا من الهوا
اقتربت بتردد
لتقول ام وليد بحنانٍ بالغ , وهي تعانقها
: هلا ببنتي , هلا حبيبتي
قبّلتها كثيرًا وهي تشمُها باشتياق
ابتعدت هديل لتجلس ملاصقةً لوالدتها
قالت رتيل بابتسامةٍ حذرة
: شلونك خالتي
كادت تتقدم , ومنعتها عقدة حاجبي ام وليد وهي تقول
: هلا حبيبتي , ما عرفتك يمّه من انتي ؟
اختفت ابتسامتها تدريجيًا , لتقول ببحة
: انا رتيل
قالت ام وليد
: من بنته ؟
رصّت ام علي على اسنانها وودّت لو تصمتُ شقيقتها !
قالت باستدراك
: لطيفة وش فيها ذاكرتك ! رتيل بنتي نسيتيها !
التفتت اليها مستغربة
لتقول ام علي وهي ترجوها بعينيها
: بنت ايمان الله يرحمها , بنتي اللي رضعتها وربيتها مع هديل !
التفتت ام وليد مستدركة
: آآه , هلا والله حبيبتي , سامحيني يا يمّه ناسية والله
اقتربت رتيل لتقبّل رأسها , وتملصت من عناقها
ابتعدت قليلًا , لتقول ببحة
: الحمد لله على سلامتك , عن اذنكم
أولتهم ظهرها وصعدت
لتنهضان هديل وملاك كالمقروصتان
قالت ملاك بضيق
: وش سويتي !
صعدتها خلفها مسرعتين
التفتت الى شقيقتها التي انكسرت نظراتها
وظلّت صامتة !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانية مساءً
مسحت على شعره بحنان , وهمست برفق
: حبيبي
لم يُجبها
رفعت صوتها
: حياتي , قوم تأخر الوقت
همهم وأدار وجهه عنها
ابتسمت
: اللي يشوفك يقول صار لك سنة مو نايم ! قوم يلا !
قال بخمول
: اتركيني تعبان
: انزين تعبان على عيني وراسي , بس الوقت تأخر وفونك ما سكت
قال ولا زال على وضعه
: من اللي يتصل
: امّك , واحد اسمه ذياب وايد اتصل , وواحد اسمه عبد الله
عقد حاجبيه ونهض
: عبد الله متصل !
أخذ هاتفه واتصل بعبد الله فورًا
ردّ عبد الله بصوتٍ يسبح كراهية , كما يظنُّ هو !
: الو
قال بهدوء
: وش عندك متصل ؟
قال عبد الله متأففًا
: امّي انشغل بالها فيك لك يومين ما بيّنت اجبرتني اتصل عليك
قال بغير اقتناع
: اها
قال عبد الله لينهي المكالمة
: يلا
وظلّ ينتظر ليغلق الهاتف , لم يجرؤ على اغلاقه في وجهه !
زفر صقر وقال
: اوكي , سلام
أغلق الهاتف ورماه جانبًا
التفت الى مها التي كانت تنظر اليه بعمق
ابتسم بهدوء
: صباح الخير
ضحكت
: أي صباح ! الساعة ثنتين الظهر حبيبي
قال بغيرِ اهتمام
: دام توّي صاحي يعني صباح
اكتفت بابتسامة
نهض ليغسل وجهه ويتوضأ
صلَى وظلّ في مكانه يفكر
أحضرت له كوبَ قهوة , وجلست أمامه أرضًا
قالت بهدوء
: بشنو تفكر
زفر وارتشف من القهوة , ثم قال بتفكير
: اشياء كثير
: مثلًا
نظرَ اليها وحبس ضحكته بوضوح
: اللي تفكرين فيه اهم شي واوّل شي افكر فيه
قالت بعصبية تخفيها
: ما فكرت بشي
هزّ رأسه وهمهم
قالت بغيض
: أي وشنو بعد
قال بهدوء
: ضروري نطلع لشقة , وبشوف موضوع عمّك ابو منال لازم يطلع...
قاطعته بخوف
: بس عمّي ! وابوي ويدّي وراشد ؟!
نظر اليها بصمت
قالت وهي تكاد تبكي
: رد علي
قال بهدوء
: ما اعرف شي عنهم , بس اللي متأكد ان ما عليه شي ابو منال
قالت برجاء
: تكفى علمني ليش محبوسين , الله يخليك ابو راجح
احتضن كفّها المرتجف
: وش فيك انفعلتي ! هدّي ما فيه شي
: واهلي !
: ما عليهم شر
قاطعها قبل ان تتحدث
: قفلي لي السيرة ذي مها الله يرضى عليك , حتى انا ما ادري عن شي ومنتظر معك
صمتت , وظلّت تنظر اليه بنظرةٍ اتهام
قال بضيق
: لا تناظريني كذا
رمت ببصرها بعيدًا عنه , وهي تحبس بكاءها
زفر ومدّ ذراعه ليعانقها
لكنّها نهضت وتركته
ظلّ مكانه ينظر الى مكانها الذي تركته
أنهى قهوته
ونهض وهو يشعرُ بالغضب
لبس باستعجالٍ وخرج
اتصل بذياب وهو يركب سيارته
ردّ ذياب بعصبية
: بدري
قال بملل
: انت وبعدين مع العصبية ذي ! لا يجيك شي من عصبيتك روّق يا عمي
قال ذياب ساخرًا
: مشكور يا بابا على النصائح اللي زي وجهك , وينك فيه ؟
: توني طالع من الفندق
: تعال الكوفي شوب
ودعه واتجه الى المقهى
جلس أمامه وهو عاقدٌ حاجبيه
ابتسم ذياب
: شلونك
هزّ رأسه بصبر
: الحمد لله
قال ذياب
: ما في جديد
هزّ رأسه نفيًا , ليسأله
: وش صار معاهم ؟
شدّ ذياب على قبضته بعصبية
: للحين , يدورون شاهد !
ابتسم صقر بهدوء
: ما في شاهد , الّا اذا عمّه او جدّه بيشهدون عليه
قال ذياب
: هذا اللي مجنني , ذول الاثنين لو ايش ما بيشهدون على اللي سوّاه
رفَع صقر كتفيه وقال ببساطة
: لازم نجبرهم
قال ذياب بتفكير
: شلون
: هددهم فيه , او بيّن لهم وضع حريمهم وان حالتهم مبهذلة ومشردين , هو كذا كذا بيتعاقب يعجلون بالموضوع احسن
قال ذياب
: نروح لهم الحين ؟
قال بهدوء
: ما ابي اشوف احد منهم , روح بروحك وقت ثاني
قال بغيض
: ممنوع من دخول السجن
استدرك صقر وانفجر ضاحكًا
: ايه صح نسيت , استغفر الله والله طاغية انت
قال ببرود
: تمنيت اذبحه
ابتسم صقر
: لو ما حرمة الدين ودخول الضرب للسجين من الاعتداء , كان قلت لك سلمت يمينك
ابتسم ذياب
: الله يسلمك اقل الواجب
انفجرا ضاحكين
ضحكا من قلبين متوجعين
ليتناسيا كمّ الألم المترسخ فيهما
ضحكا ضحكة طويلة , ختماها بزفرةٍ مكلومة
مهضومة !
قال صقر بعد صمتٍ قصير
: ما ينفع في السالفة ذي الّا سعد , تحس عنده اسلوب ماهو انا وانت
ابتسم ذياب بسخرية
: أي اسلوب يرحم والديك , من اوّل مرّة استفرد براشد هفّه كف نسّاه اصله وفصله !
ضحك صقر بعمق
: ما اقدر اتخيّل سعد عنيف !
قال ذياب بنبرةٍ مقهورة , هادئة مبطنة بغضبٍ عاصف
: القهر اللي بقلبه ما خلّا فيه عطف
صمت صقر وألقى ببصره بعيدًا عن ذياب
اذا كان هو زوجًا لرتيل ويتعذب من صدّها
رغم انّه يدرك ان مردها اليه
فما بالُ سعد !
الذي لن تعود له يومًا الأنثى التي عشقها يومًا وما زال
التي تُرسلُ ابنيها مع والدهما كلّ يومٍ ليصلوا في ذاتِ المسجد الذي يصلي فيه !
غاب سعد عن أفكاره في ثوانٍ حين تربعت عليها رتيل بتعالٍ وأنفة
يا وجعي يا رتيل !
الى متى يبقى قلبكِ صادًا عن حبيبك !
الم تشتاقي صقر كما اشتاقك !
الا ترحمين ضعف قلبه وشيب رأسه وتعودين لتطمئنيه
زفر بصبرٍ يتجرعه رغمًا عنه
كأنّه يرى الطريق اليها
طريقٌ طويل !
تحفه المستحيلات , لتمنعه من الوصول
لا يدري لمَ يعاقب دومًا بفقدها
فعلها الموت الذي كاد يخطفها مرّة
والأمر الذي قيل له انّه حدث لها ولن تستطيع الخروج معه ثانية " لأنّها كبرت " !
وفعلها راشد
والآن تفعلها هي !
كيف تتصوّرين بعقلكِ الأحمق انّي سأستطيع خوض الحياة دونكِ !
كيف تقتنعين انّي اقدر على تنفس الدنيا , دون ان تمسكي بيدي , وتنفثي معي أيّ وجعٍ او تعب
ألا تعلمين انّكِ حين ولدتِ
كنتِ تحملين بين أصابعكِ الصغيرة حياتي القادمة
كنتِ تدسين في تعاريج يديكِ اللطيفة كلّ ضحكةٍ سأضحكها , وكل السعادة التي سأعيشها
وفي طيّات بكائك , كنت أعدُّ كم مرة سأتألم
وكم مرةً سأهزم
وكم مرّة سأبكي وجعًا !
وحين تضحكين تضيئين حياتي القادمة والماضية , وحتى الحياة التي أتخيلها قبل ان انام
كيف لكِ ان تسلبي كلّ حياتي بصدّك !
كيف تُعطِين نفسكِ الحق بأن تسلبيني نفسي
سرقتيني منّي !
لم أعد سِوى حمّى اسمها رتيل
تسيرُ على الأرض
وحدكِ لكِ القدُرة على جمعي , وبعثرتي , ثم جمعي وتشكيلي كيف ما تشائين
وحدكِ تجعلين قلبي يصلّي الفًا , حين تغازله عينيكِ بضحكتها
انتي فقط التي أكونُ كاملًا معها
لا ينقصني سوى ان تعانقيني
ليكتمل كلُّ شيء
وكأنّي صورَة كُمّلت بابتسامة ساكنيها !
لا تُطيلي البُعد انّي أرجوكِ
روحي لا زالت تتغذى على وجودكِ
لم أعتد فطامك المفاجئ !
,
,
المملكة المتحدة – تشيلسي
السابعة مساءً
طرق الباب بتوتر
فتحه أبو سعود وابتسم بهدوء
: تفضل
قال بنبرةٍ محرجة
: الله يسلمك , اقدر اطلع له !
هزّ ابو سعود رأسه وأشار له ليدخل
دخل وسار مارًا بغرفة الجلوس
التي كان يصدح منها صوتُ القرآن , وبعض الشهقات الخفيفة
صعد الى الأعلى وطرق الباب
لم يأتِه الرد , ففتحه
دخل ليجد سعود مستلقٍ على سريره
يحدق في السقف بصمتٍ مطبق
اقترب ليجلس بجانبه
ازدرد ريقه
: سعود !
التفت اليه وهو صامت
قال عبد العزيز
: شلونك ؟
ظلّ ينظر اليه دون ان يتحدث
شعر عبد العزيز انّه يفقد قدرته على جمع الأحرف ويرتبها ليخرجها على هيئة عبارات
شعر بالضعف من منظر سعود الهزيل
قال وقد بدأ يغضب
: اكلمك انا
لم يجبه
هزّه عبد العزيز
: سعود تحرك , كلمني
قال سعود ببحة عميقة
: وش تبي
قال عبد العزيز وأعصابه مشدودة
: وش مسوي في حالك كذا !
أغمض عينيه دون رد
عنفه عبد العزيز وهو يضرب كتفه بغيض
: قوم , ما انتهت حياتك للحين , خالتك توفت ؟ الله يرحمها ! بتموت معاها يعني ؟ لو الحياة توقف بموت شخص كان شفتني للحين على فراش بندر أبكي عليه , قوم كسّر صرخ ابكي , لا تقتل نفسك كذا
اعتدل بجلسته , واحتقنت مقلتيه احمرارًا
قال مختنقًا
: ماتت خالتي وما شفتها
صرخ به
: انت مو قالب كيانك حزنك على خالتك
قال بنبرةٍ توشِكُ ان تبكي
: ماتوا وخلّوني , ولين شردت منّي , حياتي انقلبت فوق تحت
شدّ عبد العزيز على كتفه
: ارجع رتبها من جديد , دوّر لين وكمّل دراسة , ترحم على اللي ماتوا وتصدّق عنهم وادعي لهم , لا تكون يائس – ناداه مؤنبًا - يا سعود ! انّه لا ييأس من روح الله الّا القوم الكافرين , تبي تكون منهم !!
ظل صامتًا , ينظر اليه بتيه
ناداه عبد العزيز , ليصدّ عنه بضعف
: احس انّي تعبان عزيز , اتركني بروحي
نهض عبد العزيز وهو يمسك بمعصمه بعصبيّة
: قوم , ماني تاركك , ما امنعك من الحزن , انزل تحت ابكي واحزن وازعل , احزن مثل ما المفروض تحزن , ماهو تسوي لي دراما وتجلس لحالك ولا تاكل ولا تتكلم ولا تنام , قوم معاي
سحب يده دون رد
صرخ عبد العزيز باسمه
ليلتفت اليه وقد بدأ يغضب من الحاحه
قال عبد العزيز باستفزاز
: لا تجلس لي زي الحرمة تبكي وتشكي وايدك على خدّك , قوم يا جبان
شعر سعود وكأنّ عبد العزيز يرمي عود ثقابٍ على قلبه الثمِل بالوجع
أصبح تنفسه عاليًا وعينيه تقدح غضبًا
انقض على عبد العزيز يضربه وكأنّه يعاقبه على كلّ ما يحدث معه
استقبله عبد العزيز بلكمةٍ قوية
جعلت سعود يرفسه ويلكمه بجنون
نهض ابو سعود بقلق من صوتهما الذي ارتفع
ورونا وجوليا فزّتا بشهقة
صعد الثلاثة يتقدمهم ابو سعود
فتح الباب بقوّة ليُصعق منهما
اقترب وهو يقول بصدمة
: يا شباب تعوذوا من الشيطان وش فيكم ! يا سعود عيب
حاول ابعادهما ولم يستطع
صرخت جوليا بغضب
: الا تخجلان من نفسيكما انتما الاثنان ! الستما قد كبرتما قليلًا على الشجار
اقتربت رونا ببكاء
: سعود يمّه عيب , عبد العزيز اتركه تكفى
دخل ابو سعود بينهما بقوّة وأجبرهما على ترك بعضهما
جلس عبد العزيز على الأريكة وهو يلتقط انفاسه
وجلس سعود ارضًا
وهو يلهث
جلست والدته امامه تبكي بحرقة
: ناقصتك انا , ليش يا يمّه تهاوشتوا
مدّت يدها لتلمس الكدمة في وجهه
أبعد يدها بهدوء ورفع رأسه لينظر الى عبد العزيز
الذي كان ينظر اليه بأمل , بنظرةٍ حانية , تخبره كم يحبه ويخاف عليه !
ابتسم بلا شعورٍ منه
حتى اتسعت ابتسامته وانفجر ضاحكًا
ليضحك عبد العزيز براحة
قالت السيدة جوليا وهي ستنفجر
: انتما غير مؤدبان !
تركتهما لتذهب الى غرفتها
نهضت رونا بهدوء وهزّت رأسها مستاءة
وخرجت من الغرفة
قال ابو سعود بعصبية
: لا يا شيخ انت ويّاه ! وش يعني هذا الحين
قال عبد العزيز بهدوء
: خير ان شالله
صرخ بهما
: على كذا ما راعيتوا شعور ام سعود ولا جدّته , هذا تصرف غير مسؤول
نهض عبد العزيز وفي عينيه رجاء
: السموحة منّك يا عم
زفر وهو يرمقهما بنظرةٍ أخيرة , وخرج
جلس عبد العزيز بجانب سعود وظلّ صامتًا
قال سعود بعد دقائق
: عوّرتك ؟
قال عبد العزيز ساخرًا
: ابد بس يبي لي كم جبيرة وكم تضميدة
قال سعود بهدوء
: حلال فيك
ابتسم عبد العزيز بمحبة
: فدوة لك
التفت اليه سعود واكتفى بنظرةٍ عميقة
حملت لعبد العزيز مشاعر الاخوّة القويّة , التي يكنّها سعود له
ثم أشاح ببصره عنه , بهدوءٍ تام
هدوءٍ , بعيدٍ عن الصمت والضعف الذي كان فيه !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثالثة مساءً
اقترب الطبيب وجلس أمامه بهدوء
التفت اليه متسائلًا
: خير يا دكتور
تنهد الطبيب وهو يحاول تجميع عباراته ليتحدّث اليه
: الحقيقة مو عارف وش اقول لك , انت عارف طبعًا ان كليتك اللي تصوّبت استئصلناها لانّها فسدت خلاص
هزّ رأسه بصمت
تابع الطبيب
: بعد ما قمت وسوينا لك الفحوصات اللازمة , اتضح لنا انّ عندك مشاكل ومضاعفات , بعضها بيّن , وبعضها للأسف ما قدرنا نحدد وش هو
قال بهدوء
: طيّب ؟
رفَعَ الطبيب كتفيه بارتباك
: كليتك الثانية , متضررة بشكل كبير , والحادث ما له دخل هي تعبانة من زمان وشفت لك بعض التقارير ومراجعات قديمة تشتكي منها وفي الفحوصات الأخيرة بيّن الضرر
التقط انفاسه وهو يزمّ شفتيه بقوّة
أغمض عينيه لثوانٍ , ثم فتحها بصمت
قال الطبيب بمواساة
: انا آسف
هزّ رأسه نفيًا , وتغصّب ابتسامةً صفراء
: الحمد لله
نهض الطبيب وقال
: لا تشغل بالك , ان شالله نتفق على علاج يريحك وتتشافى عليه بإذن الله
أومأ ايجابًا ولا زال صامتًا
حين خرج الطبيب
أغمض عينه وأراح رأسه الى الوسادة بهمْ
كان يظنّ انّه سيخرج بصحةٍ جيّدة
لينتقم لنفسه
ليحمي شقيقته ووالدته
ليأخذ حقّهما !
زفر ببطئ
" ربِ لك الحمد في السرّاء والضراء , اللهم لا اعتراض على حُكمك , أنجيتني من قلبِ المَوت تفضلًا منك وكرم , بيدك دائي وشفائي , وانّي راضٍ بما تكتبه لي "
أغمض عينه متجاهلًا ما سمعه من الطبيب
لن ينال الّا ما كُتِب له
وكُلُّ ما كُتِب خيرٌ ولو بعد حين !
فزّ من صوتِ الباب الذي فُتح
التفت اليه وتهللت أساريره بسعادة
: وليد !
اقترب وليد مسرعًا
عانقه بمحبةٍ واشتياق
قال بصدق
: الف الحمد لله على سلامتك , يا كلب خفت تروح !
ابتسم خالد بمحبة
: الله يسلمك , وين أروح واخليك ! على قلبك
ضحك وليد وجلس على السرير
: بشرني شلونك الحين !
ابتسم بهدوء
: الحمد لله
عقد وليد حاجبيه
: وش صاير !
زفر وتردد , ثم قال
: ولا شي
قال وليد بسخرية
: صدقتك , تكلم وش فيه !
تأفف من وليد الذي يكشف كذبه الواضح دومًا !
صمت لثوانٍ , ثم أخبره بما قاله الطبيب !
,
,
المملكة العربية السعودية – حائل
العاشرة صابحًا
قال مستغربًا
: الله يطوّل لي عُمرك وش فيك معصبة !
قالت بلهجةٍ حازمة
: تقوم الحين ترجع ولا تناقشن
عقد حاجبيه
: يمّه وش صاير
قالت بعصبية
: ماهو صاير شي يمّه , أبطيت علينا ونبيك ترجع , فيها شي ذي !
قال بهدوء
: حامد عندك الله يحفظك أي شي تبينه هو حولك , انا ما كملت يومين على بعض
: تكفي اليومين , همَاك رايحن تشوفُه وتسلم علاه ! ما بعد يخلص سلامك يعني ؟!
ضحك رغمًا عنه
: وش تبين يا ام احمد , وش العلم
قالت بغضب
: العلم في بطنك
قال بهدوء
: والله ما ادري وش تقصدين , علميني انتي
: هاللي انت رايحن لها وتبي اتزوجها على ذي الفقيره
فتح عينيه بصدمة , ازدرد ريقه وقال باستدارك
: من هي !!
: هاللي تقوله زوجتك انت تحب وحدة ورايحن لها
نهض وهو يشعر بالأرض تدورُ به
: هي قالت كذا !
: ايه
ازدرد ريقه بارتباك
: يمّه الله يهديك وانتي صدقتي ! خبال حريم شافتني بسافر قالت اكيد يحب , تعرفين انّ ما لي بالامور هذه , زوجتي وبنتي مغنيني عن حرمه ثانية , وان كنت بتزوج جيتكم وعلمتكم
هدّأت والدته وصمتت لثوانٍ , ثم قالت بتحذير
: انا بصدقك , لكن ان دريت انّك تكذب
قاطعها بضحكةٍ هادئة
: الله يحفظك ليه بكذب يعني !
لم تُطِل عليه الحديث , وأغلقت الهاتف
رمَاه جانبًا وهو يتنفس الصعداء
سمع صوتًا خارج الغرفة واقترب بحذر
رأى جسدها الصغير تلتفُ عليه عباءتها , وتحملُ حقيبتها الكبيرة
تبدو عائدةً للتوْ
سَمِع تأففها
: يا كرهي للجامعة
قال يوسف من بين اسنانه
: صوتتس الرجال هنيّه
التفتت اليه وهي تكاد تبكي , وقد خفضت صوتها
: ما ابي ادرس خلاص
اطلق يوسف ضحكةً رنانة
: توتس داخلة الجامعة ما بعد تشوفين شي , على طول كرهتيها !
اختفى صوتهما حين دخلا الى المنزل
عاد الى سريره وابتاسمةٌ حلوَةٌ تُزين شفتيه
تنهد بعشقٍ لا يليق بمظهره
بعشقٍ ملتهبٍ يسكن قلبه ويسيّره كيف ما يشاء !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
التاسعة مساءً
قالت ام علي
: لطيفة اللهم صلّي على النبي من العصر واحنا على ذي الجلسة وانتي جايّة من سفر
قالت بصدق
: والله ما ودّي اقوم عنّك
قالت ام علي بمحبّة
: الحمد لله رب العالمين اللي رجّعك , والله ماني مصدقة !
دخل وليد الى الغرفة ملقيًا السلام
اقترب من خالته وتوسد حجرها
قالت ام علي وهي تمسح على شعره بحنان
: وين كنت حبيبي
اغمض عينيه وزفر
: عند خالد
: فاق ؟
قال بهمّ
: ايه
دخلتا ملاك وهديل وجلستا بجانب ام علي
ابتسمت لهما ام وليد وقالت
: اجل وين رتيل
قالت ملاك بحقد
: وش بينزلها بعد ما حسّت انها غريبة !
عقدت والدتها حاجبيها , وفتح وليد عينيه مستغربًا
: ليه حسّت انها غريبة
قالت ملاك غير مبالية وهي تشير الى والدتها بغيرِ مبالاة
: قالت لها من انتي ومن بنته
اعتدل في جلسته وهو يكادُ يقتل ملاك
قرصتها هديل لتقول بصراحة
: والله ما كذبت بشي , من جيتي انا تعبت ورتيل انجرحت...
زجرها وليد بغضب
: ملاك !
التفتت اليها خالتها وفي عينيها لومٌ كبير , ودمعتين تلمعان بحزن
: ما تبينها يا ملاك ! براحتك يا امّي , لكن هذه اختي وانا ابيها وما صدقت ترجع , لا تجلسين معنا قومي اطلعي فوق ولا ترمين علينا كلام يسم البدن !
اقتربت من خالتها وهي تقول بسرعة
: خالتي عساني ما ابكيك تكفين لا تبكين انا آسفة
ابعدتها خالتها بحزن
: ماهو انا اللي تعتذرين لي – التفتت الى شقيقتها – امّك اللي راحت روحها عشانكم تجازينها كذا !
التفتت الى والدتها وقالت على مضض
: انا آسفة
كانت ام وليد تمسح دمعاتٍ تمردن عليها وظهرن بقسوةٍ على مقلتيها
نهض وليد وسحب شقيقته عنوة
قالت والدته وهي تهمُّ بالنهوض
: اتركها على راحتها , انا بطلع
نهضت معها ام علي
: يلا نروح فوق نرتب اغراضك
خرجتا سويًا وتركتا ملاك ووليد , وهديل
نهضت هديل وقالت بغيض وهي تضرب كتف ملاك
: والله ما تستحين على وجهك انتي , اللي يشوفك يقول يا الله البنت كيوت وناعمة وما لها حس , وانتي والله عقربة تبن , اللي ما فيه خير لأمّه ما فيه خير لأحد يا حقيرة
تركتها وخرجت الى الصالةِ الأخرى
قال وليد بخيبة
: ما هقيتها منّك !
قالت وهي تبكي رغمًا عنها
: مو قادرة اتقبلها ! مو داخلة راسي
اجتذبها وليد من ذراعها بقسوة , وقال من بين أسنانه
: عنّك لا تقبلتيها , وش هالبجاحة ! هذه امّك غصب عنّك تحترمينها وتنطمين وتخضعين لها
نفضت نفسها منه وقالت
: مسوي فيها مثالي ! هذه اللي توّك تجيبها لي وتفرضها علي ماهي زيّها زي ابوي ؟ اللي من اثنين وعشرين سنة ما وطيت على راسه ولا احترمته ولا مرّة ولا حبيته كثر ما حبّك ! لا تنهَ عن خلقٍ وتأت بمثلـ...
قاطع كلماتها وهو يشدُّ شعرها بغضب
: اشوفك ما عدتي تحسبين حساب لأحد !
كانت هديل قد سمعت صوتهما , وجاءت مسرعة
شهقت وهي تبعده عنها
: يا وليد تعوّذ من الشيطان شيل ايدك عنها
صرخت ملاك بقهر
: ابعد عنّي لا تتمرجل علي
صفعها بيده الخشنة , على وجنتها الناعمة
وضربها بقسوة
خرجت هديل وهي تصرخ
: يمممممه الحقي وليد بيموّت ملااك ! يممماااا
نزلتا بسرعةٍ وخوف
قالت امّه وهي تحاول ابعاده
: وليييد , وليد اترك اختك وش صار لك !
سحبته خالته بقوّة لتحتمي ملاك بها وشهقاتها الخائفة ترتفع
صرخت خالته به غيرَ مصدقة
: انت انجنيت خلاص ! من أعطاك الحق تمد ايدك عليها
ظلّ صامتًا وهو يشيح بنظره عنها
اقتربت خالته وصرخت به
: رد علي
نظر اليها لتضرب كتفه بقبضتها
: يا خسارة الشنب اللي عليك والله
التفتت الى ملاك المرتجفة , الباكية وأخذتها معها للأعلى
قالت ام وليد ببكاء مكسور
: ليش ضربت اختك ! ليش يا وليد حرام عليك يا يمّه تضربها , اختك الوحيدة والصغيرة والخايفة واللي ما لها غيرك , ليش تكسر فيها !
زفر بندم وهو يخرج من المنزل
,
عانقتها خالتها بحنان
: بس يا يمّه بسم الله عليك
مسحت هديل على شعرها
: ملاك هدّي مو زين تبكين كذا
ابعدت وجهها عن خالتها
: بروح لأبوي
عقدت والدتها حاجبيها
: وش تسوين عنده !
قالت بتمرد
: والله ما اجلس , بروح لأبوي
قالت خالتها بحدّة
: لا تصيرين طفلة , ناقشيني بفهم
نهضت ولا زالت تنتفض
: ابوي وبروح له , ما فيها شي , انا خايفة من اختك ومو متقبلة انّ امّي رجعت للحياة , ووليد مدّ ايده علي عشانها , والبيت ضاق علينا , والمكان الطبيعي لي بيت ابوي !
نهضت خالتها وابتسمت ساخرة
: الحين البيت ضاق علينا والمكان الطبيعي بيت ابوك ! اوكي يا ملاك كلمي ابوك يجيك او يرسل فهد , او اوديك انا بنفسي مع علي او تركي
صدّت عن خالتها
: بكلم ابوي
هزّت خالتها رأسها وخرجت من الغرفة
قالت هديل وهي تقترب منها
: من جدّك بتروحين ؟
قالت باصرار
: ايه
: ووجعيه ان شالله حتّى وجعيه
التفتت اليها
: ما لك دخل فيني
صرخت بها هديل
: عساك سالمة يا بنت ؟ كلّنا ما عاد لنا دخل فيك وما عاد نناسبك ولا مالين عينك !
صرخت هي الأخرى
: قلت ما لكم دخل , اتركوني لا تسوون مثاليين على راسي
دخلت رتيل من صراخهما وهي عاقدةٌ حاجبيها
: صوتكم واصل تحت شفيكم !
قالت هديل
: تعالي شوفي الهانم , ما عاد احد مالي عينها ! تطاولت على وليد لين ضربها ورمت على امها قنبلة وش كبرها , والحين تجادلت مع امّي وتبي تروح لأبوها وتقول لي ما لكم دخل فيني !
نظرت اليها رتيل ثوانٍ
وملاك تنظر اليها بقوّة
قالت رتيل بهدوء
: تعالي هديل , معاها حق وش دخلك فيها ؟ هي كبيرة ولها حق تتخذ قرارتها , امشي
حملقت فيها هديل بصدمة
: بتروح لابوها !
كررت رتيل بهدوء
: تعالي
خرجت هديل رغمًا عنها , لانّها لو بقيت قريبةً من ملاك ستقتلها !
,
بعدَ عدّة ساعات نزلت ملاك بحقيبتها اليتيمة
وضعتها أمام الباب وهي تُحكِمُ حجابها على رأسها
فُتِحَ باب غرفة المعيشة لتفزّ شاهقة
التفتت وهي تضع يدها على موضع قلبها
: فجعتيني
عقدت هديل حاجبيها
: وش تسوين !
قالت بهدوء
: فهد ينتظرني برى
فتحت هديل عينيها بصدمة
: بنت من جدّك !
هزّت رأسها ايجابًا
سمعت ملاك صوت تركي من الداخل
: المويا يا بنت
التفتت لتفتح الباب وهي تقول بهدوء , وخوف من ردّة فعلهم !
: فهد اخو وليد واقف برى
فزّ وليد واقفًا ووالدته أيضًا بقلق
قال وليد
: وش يبي
نهضت ام علي وهي تقترب من الباب لتسأل هديل بعينها
أومأت هديل بارتباك
اقترب وليد وأبعد هديل ليخرج من الغرفة
قال وهي ينفي ما فهمه
: وش تسوين هنا ؟
صدّت عنه , ليزمجر
: قلت وش تسوين
اقتربت خالته لتقف بينها وبينه , وقالت بهدوء
: وليد تعوّذ من الشيطان , عادي البنت بتروح بيت ابوها
صرخ بها
: بتروحين بدون اذني !
صرخت هي الأخرى , بقوّةٍ تستمدها من ضعفها الهزيل !
: ما لك كلمة علي ! انا عندي اب أولى فيني منك
اقترب ليسحبه علي ويقول بحدّة
: بتمد ايدك عليها مرّة ثانية !
التفت اليه وهو يقول بغيرِ تصديق
: بتروح !
اقتربت والدته
: اتركها تروح لأبوها يا وليد , ما فيها شي ! الأب له حق يا يمّه
التفت اليها
: انتي اللي تقولين كذا !!
صدّت عنه لابنتها
قالت بحنان
: روحي يا امّي , لا تبطين عليْ !
قال وليد بغضب
: انا ماني راضي تروح , ووصايتها عندي واقدر امنعها
قالت والدته برجاء وهي تهمس قريبةً منه
: تكفى يا وليد , لا تكرهني وتكرهك اكثر ! عشان خاطري يا حبيبي
قال برفض
: مستحيل اسمح لها تطب بيته , لو يمسك السما ما يشوفها
قالت والدته بنبرةٍ كسرت ظهره
: اذا تبي رضا امّك اللي توّك تلقاها !
قال برجاء
: يممممه
قال تركي وهو منزعجٌ من ملاك
: ملاك ادحري ابليس وادخلي , وش يوديك لابوك ! انتي شفتي شكثر ضركم
قالت والدته بحدّة
: اطلع منها انت
قال بغضبٍ يكتمه
: ما عندنا غيرة نهيّت بناتنا بذا الليول
قالت والدته بذهول
: عنبو ابليسك وين مهيتينها ! اخوها دمها ولحمها جاي ياخذها لبيت ابوها !
أشاح ببصره بضيق
: حتّى لو
قال علي بهدوء
: امشي اوصلك سيارة اخوك
قال وليد باستنكار
: علي !
امسكت به والدته وهي تنظرُ اليه برجاء
صمتَ لثوانٍ , ثم قال بقهر
: روحي يا بنت ابوك , ولا عاد ترجعين
ودخل الى الغرفة
شعرت انّ الكلمةَ كسهمٍ اخترقها بقوّة , وأراق دماءها على طول جسدها
كادت تسرعُ اليه لتقبّل كفّيه الحانيتين !
كانت ستعتذرُ اذا ما آلم جسدها يده حين ضربته !
لكنّها داست على بنوّتها له , وتكبرت بقوّة
وخرجت دون ان تودّع حتى خالتها الأم !
حملَ علي حقيبتها وخرج قبلها
سارت خلفه ببطئ
ترجو ان يناديها أحد !
لكنّ " أحد " لم يكُن موجودًا ليناديها !
نزل فهد وصافح علي مبتسمًا
أخذ حقيبتها ووضعها في الخلف
ودّعهم علي ملوحًا بيده ودخل الى المنزل
ركب فهد والتفت اليها مبتسمًا
: حيّ الله ملاك !
قالت بهدوءٍ شاحب
: الله يحييك
: وش طاري عليك وتبين تجين ؟ ووليد وينه
رمَت ببصرها بعيدًا عنه وصمتت
ولم يسألها أكثر !
,
ركل الوسادة الثقيلة بغضبٍ ثائر وهو يصرخ
: صرت كخّه الحين ! صار وليد ما يمون ولا يتكلم ولا يفتح فمّه
قال تركي
: يا رجال تعوّذ من ابليس , بسلامتها بكرة هي تندم
التفت اليه بغضب
: سلمتها لهم ببرود
قال علي بحدّة
: سلمتها لمين بفهم ! يا وليد حط عقلك براسك ما في قوّة بالعالم تمنع بنت من ابوها !
قالت ام وليد بحرقةٍ وحسرة
: وقوّة ظلم البشر وتَجَبّرهم تحرم بنت من امها ! تبعدها عن حضنها وهي بنت نفاس !
صمتوا جميعًا
لتمرّ ثوانٍ , حتى صرخ وليد بجنون
: انا شلون طاوعتكم !
هبّ واقفًا ليخرج من المنزل
أمسكا به تركي وعلي , وعلي يصرخ به
: بس يا مجنون , خلاص تعوّذ من ابليس
قال تركي وهو يدفعه للخلف
: انطم واجلس لا تهايط الحين , قبل شوي زي الكلب تركتها تمشي والحين جالس تناقز على روسنا
انفجرت هديل ضاحكة لينظروا اليها بحدة
وضعت كفّها على شفتيها وابتسمت
: آسفة !
تمتم تركي باستصغار
: تافهة
ضحكت بهمسٍ وهي تنهضُ من مكانها
: انا بطلع انام والله ما من جلستكم فايدة , يلا ماماتي
نهضت والدتها والتفتت الى شقيقتها
: يلا لطيفة نطلع ننام
نهضت معها بتثاقل
,
,
*بعدَ شهر*
,
,
المملكة المتحدة – لندن
السادسة مساءً
وضع آخر قميصٍ في الحقيبة وزفر براحة
ابتسم سعود ابتسامةً صفراء
: وأخيرًا
هزّ رأسه وضيّق بصره بطريقةٍ مضحكة
: وأخيرًا
ضحك سعود بخفّة
جلس أمامه وقال
: يظلْ بكرَة أروح استلم مَلفّي وشهادتي الصبح , وبعد العصر أسافر ان شالله
قال سعود بصدق
: زرعت وجنيت , الحمد لله اللي تمم لك بخير
قال متضايقًا
: والله على كثر فرحتي بنفسي , متضايق عليك , ياخي لو انّك كملت اللي بقا لك وبعدها نروح للسعودية مع بعض
ابتسم بهدوء
: نهاية الشهر بسلّم آخر تقرير للتخرج
قال عبد العزيز بصدمة
: تكذب !
رفع كتفيه ببساطة
: والله , بعد وفاة خالتي الله يرحمها وجيّتي لبريطانيا أجبرتني جدتي أكمّل
قال عبد العزيز بفرحةٍ حقيقة
: يسلم راسها
ابتسم وأشاح ببصره بصمت
قال عبد العزيز
: طيّب متى تلحقني
: ان شالله اخلّص امور الجامعة وكم شغلة هنا وأسافر
: الله ييسر لك
أمّن بهمسٍ وغرق في صمته مجددًا
لا زالَ مرهقًا من موتِ خالته الحبيبة
الصديقةِ المقربة الى قلبه
تألّم لفراقها وكأنّه لم يتألم من قبل
كان يعلم انّ ما مرّ به قبل وفاتها له دورٌ في حزنه الذي انفجر مع رحيلها
يشعر بخوفٍ من السفر مرّةً أخرى
يخشى فشلًا ذريعًا لم يتحمله
يخشى ان لا يجدها , تلك التي يكره ذكرها !
,
,
المملكة عربية السعودية – الرياض
الثالثة مساءً
أدخلوه الى المنزل على كرسيٍ مُتحرك
يدفعه بندر , وفيصل يتقدمهما ليفتح الباب
حين فتح , انطلق هتافُ السعادَةِ من والدته وعينيها دامعتين بترحيب
عانقته والدته بحبٍ وهي تقول بنبرةٍ مهتزّة
: يا هلا ومسهلا , توْ ما نور البيت يا حبيبي
ابتسم وهو يقبّل ما بين عينيها
اقتربت لين وقبّلت رأسه
: الحمد لله على سلامتك يا روحي
: الله يسلمك
دفع بندر الكرسي ليدخل به الى غرفة الجلوس
ضيّفته لين بالشوكولا وهي تقول ضاحكة
: خالد لا تكثر شوكولا مشتريتها غالية !
ضحك بخفّة وهي يدس في فمه قطعة
جلست والدته بقربه
: عساك طيّب الحين يا امّي
: الحمد لله
تمتمت برضىً وامتنان
: الحمد لله
بعد قليلٍ قال خالد وهو ينظرُ الى لين
: الّا لين من جيتي ما سألنا عن سعود ! وينه وش اخباره ؟
ارتجف الكَون من حولها , وتوقف قلبها عن النبضِ لثوانٍ
شعرت بأنّ جسدها يغوص الى الداخل , لم تعدْ تَشْعر بأيّ نبضةٍ او حركةٍ به
أنقذها سُعَالُ بندر الحاد , وصرخته المتأوّهة
التفتت اليه والدته
: شفيك !
نهض وهو يعقدُ حاجبيه بألم
: حرقت نفسي بالشاهي
نهضت لين تؤنبه بارتجاف
: كم عمرك عشان ما تعرف تشرب شاهي !
ضحك خالد
: لا يكون انحرق لسانك منّه وكبيته !
نظر اليه بطرف عينه
: يعني موعشانك متدلع هاليومين تقعد تستظرف على راسي !
ضحكا منه فيصل وخالد
وانسلّت لين من بينهم الى المطبخ
متعللةً بخرقةٍ لتمسح الشاي !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الرابعة مساءً
طرقت الباب بخفّة
لتردّ عليها من الداخل
: تفضل !
فتحت الباب ودلفت مبتسمة
فزّت الأخرى مستغربة
: خير خالتي فيه شي !
اقتربت لتجلس قريبةً منها
: بسولف معك , عادي !
ابتسمت مجاملة
: أكيد عادي , حيّاك
سألتها بهدوء
: ليش ما تزلين تجلسين معانا تحت !
قالت وهي تدسُ خصلةً من شعرها خلف اذنها , وتهرب بعينيها عنها
: وليد تحت , ما آخذ راحتي ولا هو ياخذ راحته
رفعت كتفيها بهدوء
: بس وليد من الصبح للعصر يطلع لدوامه , وأحيانًا يطلع مع تركي للاستراحة
صمتت
لتقول ام وليد بدفء
: انتي زعلانة منّي يا رتيل ؟
رفعت عينها بسرعة , ثم بعثرت نظرها بعيدًا
: لا , ليش ازعل منّك
امسكت بيدها وقالت بحنان
: طالعيني يا حبيبتي
نظرت اليها بصمت
قالت ام وليد
: ادري انّك من اوّل مرّة سلمتي علي وما عرفتك أخذتي موقف , وادري انّ موقفي بايخ
قالت رتيل بتبرير
: لا...
قاطعتها ام وليد وهي تطبطب على يدها برفق
: يشهد الله يا رتيل , الله اللي مرسل لساني وقادر يوقفه ويقطع حسّي ونفسي , انّك مثل هديل بالنسبة لي , احبّك واعدّك بنتي , ويشهد الله انّي ما اشوفك غريبة مثل ما تظنين , شلون اشوفك غريبة وانتي راضعة من عايشة ؟! وانتي بنت ايمان حبيبة الكل ! انا سنين الغربة اللي عشتها نسّتني كل شي , ما كنت اذكر غير وليد وملاك وعايشة , اذكر ان عندها عيال بس والله ناسية اسماءهم واعمارهم , ذكرني فيهم وليد من سوالفه عنهم
ازدردت ريقها
: مو مشكلة يا خالتي
أومأت ايجابًا
: يا بنتي والله حاز في خاطري انّك عازلة نفسك عننا , قلت لك انتي بنت عايشة يعني مثل بنتي , ما احب اشوفك وحيدة ومعزولة
ابتسمت ابتسامةً صفراء
عانقتها ام وليد وهي تمسحُ على شعرها
: سامحيني يا رتيل
قالت بشحوب
: مو زعلانة منّك والله
قبّلت رأسها ولم تبعدها عنها
كانت قد علمت عن أمرها مع صقر
ولأنّها نذرت ما في جعبتها من حنانٍ لكلّ مكسورة
كانت تبرُّ بنذرها , وهي تحاولُ جذب حُزنِ رتيل منها , وايداعه الى جوفِ الأرض
دخلت ام علي وهديل خلفها
ابتسمت ام علي بهدوء واقتربت
: رتول ؟
همهمت رتيل
قالت هديل وهي تضع يدها على خاصرتها
: لا والله ! وخري عن امّي بالرضاعة
نظرت اليها بصمت
ويجوب في خلدها انّ الجميع هنا من اجلها
جميعهم ينزعون ابتسامةً من قلوبهم ليحاولوا جاهدين زرعها على شفتيها الشاحبة
جميعهم يجاهدون ليخرجوها من صمتها وحزنها
لم تكسر بالجميع وتستمرُ في حقن الخيبة لنفسها
لم تبقى حزينة !
والجميعُ قد مضى بحياته !
ازدردت ريقها وهي تضمُّ ام وليد , وتقول بتملك
: والله عاد خالتي , والخالة ام !
صمتن بتعجبٍ وصدمة
لم يصدقن ما سمعنه
تبادلنَ نظراتٍ سريعة
لتقفز هديل على سريرها وهي تقول مبتهجة
: وخّري بس اقول
قالت ام وليد بحنانٍ بالغ
: هديييل , اتركيها
مسحت ام علي على شعرِ رتيل مبتسمة
: كذا انا اغار !
ضحكت وهي تبتعد عن ام وليد لتقبّل كفّ امّها بحب
قالت ام علي بعبرة
: الله يرضى عليك يا روحي
اختنقت بعبرتها من دعوتها الصادقة
سمعن صوتَ تركي في الأسفل
: الغدا يا جماعة ! بنموت من الجوع
نهضت ام علي
: هديل...
قاطعتها رتيل
: انا بنزِل اساعدك
ابتسمت ابتسامةً أبلغُ من كلّ حديث العالم !
نزلن سويًا ووضعن الغداء للشبّان الثلاثة
وتناولن غداءهن في الغرفةِ الأخرى
بعد ان انتهوا نهضت رتيل الى المطبخ , لتجد علي هناك
نظرت اليه بصمت لثوانٍ , ثم قالت بحزم
: علاوي
التفت اليها بابتسامة
: عيوني
ابتسمت بهدوء
: الله يسلم عيونك , معليش بجلس معاك انت وتركي شوي !
عقد حاجبيه بقلق
: خير ؟!
طمأنته وهي تخرج من المطبخ
: خير ان شالله , بس عندي موضوع معكم
هزّ رأسه
: اصعدي غرفتك الحين نجيك
صعدت الى غرفتها لتتبعها هديل بسرعة
: ليش صعدتي !
ضحكت رغمًا عنها
: وش فيك وجهك مخطوف !
: ليش صعدتي ؟
قالت بهدوء
: انتظر تركي وعلي عندي معاهم موضوع
زفرت هديل براحة
: على بالي بترجعين لعزلتك يا شيخة !
ضحكت وهي تشيحُ ببصرها عنها
لتخفِي الخيبة التي لا تزال متربعةً في مقلتيها
دخلا تركي وعلي وألقيا التحية
جلسا ليقول تركي
: شغلتي بالي وش صاير
التفتت الى هديل
ليقول علي بحزم
: هديل برى وسكري الباب
قالت معترضة
: تراني بنت عادل زيي زيكم ! انا اختكم
اجتذبها تركي من طرف ثوبها
: طيّب يلا
أخرجها وأغلق الباب وجلس
أخذت رتيل شهيقًا هادئًا وعميقًا
ثم قالت بهدوء
: ببدأ بالموضوع بدون مقدمات , انا ابيكم ترجعون علاقتكم بـ - صمتت قبل نُطق اسمه , ثم نطقته باستثقال – بصقر ! مثل ما كانت
عقدا حاجبيهما
ليقول علي بحدّة
: يا شيخة !
قال تركي بعصبية
: هو ذا موضوعك ؟ على بالي عندك سالفة !
قالت برجاء
: تكفون اسمعوني , انتوا اخواني ومعاكم حق تنقهرون عشاني وتاخذكم الحمية لي , بس هو ولدم عمكم والقطيعة مو زينة والرحم معلقة بالعرش وتقول لله سبحانه وتعالى الله اقطع من قطعني وصِل من وصلني ! بصراحة موضوعي معاه معقد وطويل , وحرام انتوا ما لكم ذنب نتقطع علاقتكم بأخوكم عشاني !
صدّا عنها ليقول تركي بحزم
: محد شكا لك الحال
قالت باصرار
: اسألكم بالله , باللي شق سمعكم وبصركم – ازدردت ريقها وكأنها تستحلف نفسها , قالت بهدوء – ما اشتقتوا له !
صمتا , لتقول ببحة
: انا سألتكم بالله , أعطوني !
قال علي بعد صمت , وباستسلام
: ما فيها شك اننا اشتقنا له , صقر مو حيّ الله ولد عم والسلام
التفتت الى تركي
: وانت يا تركي !
نهض من مكانه
: مستحيل , انتي عندي فوق كل شي
نهضت وتمسكت به
: انا سألتك بالله !
قال وعينيه تهربُ من حدّة عينيها
: ايه بس...
قاطعته فورًا
: لا بس ولا غيره , انا ما يرضيني ولا احللكم ان كنتوا تقاطعونه بسببي , اتعضوا من غيبته اللي راحت اتعضوا من قصّة خالتي ام وليد , اتعضوا من القصص اللي حولنا , اليوم هو موجود , يا عالم بكرة وين يكون
كانت تتحدث وتواصل الدعس على قلبها
كأنّها تجلده بكلماتها
كان ضميرها يسخر منها
وكأنّه يرفع احد حاجبيه ليسألها
وماذا عنكِ !
الا تنصحين نفسك بهذا الكلام !
وكأنّ علي سمعه ليقول بهدوء
: وانتي يا رتيل ! ليش ما قلت لنفسك هالكلام
صدّت عنهما
: تكفى يا علي لا تفتح لي السيرة هذه , انا توّها روحي تتعافى , توني اقوم على رجليني , لا تكسر حماسي برجعتي للدنيا , اتركني , والله يقضي في أمري
قال باستسلام
: طيّب
همّا بالخروج من غرفتها لتلتفت اليهما
: روحوا له الحين !
نظرا اليها بنظرةٍ فهمت معناها
نظرةٍ تخبرها انّهما يعلمان كمّ الانكسار فيها
وكم تضغط على نفسها , من اجلِ علاقةٍ ستؤذيها اكثر من ان تنفعها !
,
,
المملكة العربية السعودية – الدمام
الخامسة مساءً
ناولتها كوب الشاي مبتسمة
أخذته بهدوءٍ وارتشفت منه ببالٍ مشغول
نظرَ اليها والدها بمحبة
: بنطلع بكرة كشتة مع عمامك , تروحين معانا اكيد !
توترت قليلًا , وقالت بلطف
: ما لي نفس اطلع !
قال فهد بنبرةٍ هادئة , مبطنةٍ بشيءٍ لم تفهم ماهيته
: ليش ؟
نظرت اليه دون ان تُجيبه
قالت روان بغيرِ اكتراث
: اكيد عشان وليد ما يرضى !
ارتجفت حتى كادت تحرق نفسها بالشاي !
قالت بارتباك
: لا مو كذا...
قاطعها فهد بهدوء
: ملاك , لك شهر هنا وماحنا فاهمين ليش جيتي ووين وليد
التفتت اليه لتقول معاتبة
: مستثقلني بهالشهر يعني
قال يحذرها
: لا تقلبين الطاولة وتتذاكين علي , هذا بيتك بدون تفضل مني , حتى لو استثقلك غصب عنّي تدخلين وتجلسين قد ما تبين , انا بس بفهم وش وراك
رفعت كتفيها بهدوء
: ما وراي , عادي يعني بيت ابوي وبجلس فيه
همّ فهد بالحديث ليقاطعه والده بهدوء
: اتركها يا فهد
صمتَ رغمًا عنه
نهضت من مكانها وقالت بلطف
: يعطيك العافية خالتي على الغدا
ابتسمت لها
: عافية حبيبتي
اتجهت الى الدرج
: انا بطلع انام صاحية من بدري
تابعها فهد بنظرته حتى صعدت , وهو يتوعدها سرًا !
نهض من مكانه وخرج الى حديقة المنزل
اتصل على وليد
ليردّ بعد اتصالين
: هلا
: السلام عليكم
عقد حاجبيه
: وعليكم السلام , مين ؟!
قال فهد ساخرًا
: اخوك فهودي
صمتَ لثوانٍ , ثم قال ببرود
: خير
: الخير بوجهك
: وش تبي
صمت فهد لثوانٍ , ثم قال
: والله مو كفو احد يسأل عن أخبارك
: اخلص
: ملاك وش سالفتها
فزّ من مكانه
: وش فيها ؟
قال فهد بهدوء
: ما فيها شي , بس مو مقتنع بطلعتها من بيت خالتها وبدونك ولها شهر عندنا بدون لا تجيها انت , وش صاير !
جلس في مكانه وحبس زفرَة راحةٍ ان تنطلق
سأله بحذر
: ليش هي قايلة شي يعني ؟!
: لا , من جت ما تقول الّا بيت ابوي وما فيها شي , آمنت بالله بس ماهو انت اللي تتركها لبيت ابوها بدون لا تاخذها او حتّى تجي تشوفها , ويمكن حتى ما تتصل عليها !
قال ببرود
: لا تحشر نفسك بيني وبينها , ويلا انقلع
أغلق الهاتف لينظرَ اليه فهد مغتاضًا
وهو يقسمُ ان خطبًا ما أصابهما !
,
,
المملكة العربيّة السعودية – الرياض
السابعة مساءً
دخلت الى المنزل وهي تهلل وتسبح , وحفيدتها تساعدها على السير
دخلتا الى الغرفة ليعتدل في جلسته مبتسمًا
: وين كنتي يمّه
جلست لتقول وهي تمدد أرجلها
: وحدة من جاراتنا مسوية عشاء , استقبال لبنتها
قال مستفسرًا
: والدة يعني ؟
هزّت رأسها نفيًا
: كانت تدرس برى وتوها رادّة
عقد حاجبيه
: بروحها !
قالت غيرَ مكترثة
: والله ما ادري , الوكاد انها وحيدتها وتوّها ترجع عاد سوت عشا
ابتسم
: بس بدري على العشا الحين , شكلك ما تعشيتي !
قالت
: لا والله ما تعشيت تعبت من الجلسة , وحلفت عليّ الّا اشيل عشاي معاي , الحين تحطّه اروى ونتعشى جميع
دلّك رجليها بحنان
: بسم الله عليك
رمقته بمحبة , وصمتت دقائق حتى عقدت حاجبيها
: سعود ما كلمك ؟!
: كلمت عمّي محمد , يقول طيّب الحمد لله وبيخلص جامعة ويجي ان شالله
قالت بحنين
: عمّك زين ؟
ابتسم بهدوء
: زين ويسلم عليك كثيير ومشتاق لك ويبي يجي
هزّت رأسها بيأس
: ما يجي , من سنين يقول لي بجي ولا جا , محمّد نسا امّه خلاص
قبّل يدها بعطف
: تعوذي من ابليس يمّه , الأم ما تنتسى وش عاد لو انها انتي
نظرت اليه بعمق ليسترجع كلماته على عقله مرةً أخرى
اترجف كفّه وأشاح ببصره عنها
كان يشعرُ بالغثيان ينهش معدته
وبوخزٍ كخناجر حادّة تمزق قلبه
وكأنّ بابًا أغلق منذُ أعوامٍ يفتحُ لينفث سمومه عليه
شعرَ انّه يتهاوى
كأنّه يعود بشريطٍ الى الوراء
ويوقفه عند نقطةٍ سوداء
سوداء قاتمة
لوّنها عقله بدقةٍ وحرفية
وكأنّه يعيشها من جديد !
يداهمه شعورٌ بأن يستفرغ ما في جوفه
وان ينفث كل الشهقات التي تجرعها في تلك اللحظة
جميعها تحملُ رائحةَ الذكرى المقيتة
طبطبت جدّته على كفّه ليشهق ويلتفت اليها بحدّة
قالت بحنان
: بسم الله عليك , تعوّذ من ابليس يا امّي
نهض من مكانه وهمّ بالخروج واروى تدخل الى الغرفة
قالت مبتسمة
: العشا سلطان !
قال وهو عاقدٌ حاجبيه
: ما اشتهي
وضعته وسألت جدتها
: وش فيه !
قالت بحزن
: ما فيه شي حبيبتي , ارفعي له عشاه
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السابعة وخمسٌ وثلاثون دقيقة
سمِعَ جرس الباب واتجه اليه ليفتحه
ابتسم ابتسامةً واسعة حينَ رآهم
رفع صوتَه بترحيب
: هلااا والله , يا مرحبًا نورتوا
سلّم عليهم وأدخلهم الى المجلس
نادى قبل ان يدخل
: القهوة
دخل وجلس بجانب تركي مقابلًا لعلي ووليد
: يا الله انّك تحيهم , شلونكم عساكم بخير !
ابتسم علي
: الله يسلمك , شلونك انت !
ابتسم عبد الله
: والله من شفتكم انا بخير , وش الزيارة الحلوة هذه
تبادل الثلاثةُ النظرات
ليقول وليد بعد ان حمحم
: جايين نشوف صقر ونسلم عليه
عقد حاجبيه بصدمة
: صقر !
قال تركي ساخرًا
: ايه اغبر الوجه ما غيره
قال عبد الله ببداية غضب
: وش مسوي بعد !
قال علي وهو يهزّ رأسه نفيًا
: جايين نطيّح الحطب
قال بصدمة
: مع صقر !
قال وليد بهدوء
: ولد عمهم والدم عمره ما يصير ما
قال بغضب
: عقب ايش ؟ ما هو خلّى الدم ماء بفعايله
شدّ تركي على كتفه
: يا عبد الله لا تقسّي قلبك على اخوك , رتيل ماهي بفايدتك اكثر منّه , ما لك بالدنيا غير اخ واحد
التفت اليه
: من جدّكم انتم !
قال علي بابتسامة
: اسألك بالله ما اشتقت له !
قال بتهرب
: صقـ...
قال تركي باصرار
: سألك بالله اعطيه
قال بغضب
: اكيد بشتاق لأخوي , لكن...
قال تركي بصدق
: شوف يا عبد الله , انا وعلي ولا عمرنا كنّا مفكرين نرجع نكلم صقر واحنا عيال عمّه , لكن سمعنا كلام اللي يبي مصلحتنا ويبي لنا الخير , لازم نتعض بالفقد والفراق اللي صار , وصقر اليوم بيننا بكرة ما ندري وين بيكون , انت اخوه واقرب له , لا تقسّي قلبك عليه
ظلّ صامتًا
قال وليد
: ولا تنسى كبر الذنب بقطيعته , هذا اولى الناس بوصلك بعد والدينك
نهض وهو يقول ببرود
: انتم احرار
خرج من الغرفة ليضحكوا بخفّة
دخلَ الى غرفة المعيشة وظلّ ينظر اليه بصمت
قالت والدته
: من عندك عبد الله
زفر ليقول
: ماهم جايين لي
: لمين ؟
نظرَ الى صقر
: ضيوف لك
نهض صقر وهو يقول
: اكيد ذياب
سارَ الى غرفةِ الاستقبال ليقول عبد الله
: يبه تعال سلّم عليهم
قال بهدوء
: بعد شوي قبل يمشي اجي اسلم عليه
: ماهو ذياب
: من ؟!
: علي وتركي ووليد
قالا مذهولين
: مين !!
ابتسم بهدوء
: عيال اخوك ووليد
نهض وهو يقول بقلق
: وش صاير
قالت ام صقر بخوف
: رتيل وش فيها ؟
: مو صاير شي جايين يصالحون صقر
خرّت والدته ساجدة
وتهللت اسارير والده
وذهب عبد الله الى المطبخ
: خلصتي
التفتت اليه متضجرة
: من ذا اللي جاي بدون موعد
قال وهو يقضم من التفاحة
: يور هازبند
التفتت بسرعة
: كذاب
: والله , ومعاه تركي ووليد
اقتربت بخوف
: وش يبون
ضحك رغمًا عنه
: طردة يعني !
قالت بعصبيّة وتوتر
: عبد الله
زفر وهو يحمل الصينية
: يتصالحون مع اخوك
خرج وتركها مع صدمتها !
,
دخل مبتسمًا
ثمّ اختفت ابتسامته تدريجيًا
قال بحذر
: وش صاير !
نهض الثلاثة ليقول وليد وهو يجبرُ نفسه على الابتسام
: كذا تستقبلنا !
قال ببطئ
: رتيل فيها شي ؟
قال تركي ببرود
: اكثر من اللي سويته فيها ! ما اظن
قال علي بهدوء
: ترككي – التفت اليه ليقول بوجوم – جايين نصالحك ونحط ايدنا بايدك في النهاية احنا عيال عم
ظلّ صامتًا لثوانٍ حتى استوعب
ثم ابتسم بمحبةٍ صادقة
: اعز من لفا والله
اقترب ليسلّم عليهم , ثم جلس متصدرًا المجلس
دخل عبد الله بالقهوة ليقول ساخرًا
: ها
قال تركي بذات سخريته
: جب القهوة بس , الله يعينّا على ما بلانا , جينا للشقا برجلينا
ضحك وليد وهو ينزلُ رأسه ليخفي ضحكته
وعقد علي حاجبيه مؤنبًا
وابتسم صقر بهدوء
يعلم الثلاثة , انّهما لم يكفّا عن تعليقاتهما وسخريتهما اللاذعة !
جلس عبد الله بعد ان ضيّفهم
بجانبِ تركي !
,
,
الى الملتقى :)