بسم الله الرحمن الرحيم
البارت السادس والثلاثون
,
,
المملكة المتحدة – مطار هيثرو
السادسة صباحًا
تثاءب بكسل وهو يفرك عينيه بكفه
رفعَ رأسه يتأمّل الواصلين
ليرَى شابًا معه فتاة ترتدي عباءة
اقترب , وقال بتردد
: وليد !
نظر اليه وليد وقال
: عبد العزيز ؟
ابتسم عبد العزيز وهو يصافحه
: الحمد لله على السلامة , طوّلت !
ابتسم وليد
: والله اخرونا شوي عند الدخول
: ما في مشكلة , تفضل يا اخوي , تفضلوا
سحب عبد العزيز عربة الحقائب وسار أمامهما
ازدردت ملاك ريقها
: يعني انت حتى ما تعرفه وجاي له !
كان وليد فيه ما يكفيه من التوتر والترقب
: اكرميني بسكوتك الله يخليك , قولي يارب
همست برجاء
: يارب فكني من جنونه , الولد مو صاحي وبيجنني معاه
ركبا السيارة التي استأجرها عبد العزيز من اجلهما
كانت نبضات قلبِ وليد تستصرخ , تودُ لو يسمعها العالم بأسره
كفّاه يرتجفان
كان خائفًا من ان يجدها !
ومرعوبٌ من ان لا يجدها !
بعد قرابة الساعة وصلوا الى منزل عبد العزيز
صعدوا الى الشقة , قال عبد العزيز
: طيب يا وليد , انا بروح للجامعة , انتوا تفضلوا ناموا وارتاحوا واذا رجعت لنا كلام ان شالله
قال وليد ممتنًا
: يعطيك العافية ما قصرت
اكتفى عبد العزيز بابتسامة وهو يمدُّ له بالمفتاح
ثم نزل وتركهما
كان عبد العزيز ايضًا متوتر
هو يتعامل مع شخص يراه لأولِ مرة , وكأنه يعرفه منذ دهر !
لا يعلم من اين اتى بهذا الغباء ليتركهما في منزله ويذهب
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم واتجه الى الجامعة
وهو بالكاد يرى طريقه !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
العاشرة صباحًا
نزلت الدرج وهي ترتدي عباءتها
القت نظرة على غرفة الجلوس
لتجد الجميعَ فيها
قالت بنبرةٍ جامدة
: من فيكم يوديني الكلية
عقد تركي حاجبيه
: وش تسوين ! اوّل اسبوع ما لكم دوامات صح !
قالت بذات النبرة
: بشوف الجدول واعدله
قال علي
: انا اوديك , تعالي افطري
: مو مشتهية
صمت ونهض وهو يأخذ كوب الشاي خاصته
اشار لها ناحية الباب
: تفضلي
خرجت امامه وركبت السيارة
انتبه علي الى سيارةٍ تلاحقه مذ خرج من المنزل
اوقف سيارته وظل ينظرُ اليها
لتقف خلفه بمسافة
قال
: في سيارة تلاحقنا
التفتت لتمعن النظر
ثم ابتسمت بسخرية
: هذا ولد عمك
: عبد الله ؟
: لا
قال بتردد
: صقر !
همهمت دون رد
تابع سيره لتسير السيارةُ خلفه
توقف امام الكلية
: بتتأخرين ولا انتظرك ؟
: انتظرني
ونزلت
نزل صقر من السيارةِ التي خلفهما واقترب بخطوات
لم تُعره اهتمامًا ودخلت
اقترب ليطرق على نافذة علي الذي نزل وصافحه
: شعندك لاحقنا !
: قالت لي داليا انها جاية تعدّل جدولها وجيت
قال علي وهو لم يفهم
: اها ؟
: ممكن تروح وانا ارجعها
قال علي برفض
: انا اسف
قال صقر بجمود
: هذه زوجتي كانك ناسي , اتركها وما لها الّا تركب معي , لازم اتكلم معاها
قال علي بغضب
: انا ماني مرخص رتيل عشان اردها لك بهالاسلوب
صرخ صقر
: من قال لك ردها , انا بتكلم معاها بس , وبجيبها بيتكم
قال علي بتردد
: ما ابي افرض عليها شي
: يا علي اتقِ الله لا تصير من اللي يفرق بين الزوج وزوجته
زفر علي
: واذا عندت ؟
: قلت لك ما لها غيري
وافق علي على مضض وذهب
بقيّ صقر ينتظرها
لتخرج بعد دقائق
اقتربت وهي تبحث عن سيارةِ أخيها
قال صقر ببرود
: علي مشى , انا بوصلك
قالت ببرودِ أشدّ منه
: تعقب , وبعدين علي ما يسويها
غضب صقر من كلمتها لكنه كظم غيضه وقال وهو يشير حوله
: شوفي حولك , وين سيارة علي !
صمتت لثوانٍ , ثم هزّت رأسها بتفهم
: اها
اخرجت هاتفها وأجرت اتصالًا
مرّت ثوانٍ لتقول
: هلا فيك
وينك !
اوكي انا عند الباب يقدر سعيد يوصلني
ماشي انا منتظرتكم
أغلقت الهاتف وظلت في مكانها
اقترب منها صقر وهو يكاد ينفجر
: وش سويتي
رفعت كتفيها
: ابد بس برجع مع صديقتي واخوها
ابتسمت ببرود وتابعت
: اخوها اللي من ايام الثانوي مجنون فيني ويبيني بأي طريقة
امسك صقر بيدها بقوّة وقرّبها اليه
: لا تلعبين بالنار يا رتيل
نفضت نفسها منه وهي تقول بحدة
: لا تلمسني
قال بلا تصديق
: انتي جنيتي !
قبل ان تجيبه توقف سيارة امامهما فتحت نافذتها ونادتها فتاة
: رتيل يلا
تركته وسارت مسرعة قبل ان يمسك بها
ركبت وهي تقول
: حرّك بسرعة بليز
تحرك سعيد مسرعًا وهو مستغرب
تبعهم صقر بجنون وهو يشير اليه ليقف
قال رتيل بجمود
: لا توقف كمّل
حاول متابعة سيره , لكنّ صقر كان يضيق عليه حتى اضطر للوقوف
نزلت رتيل ليقول سعيد
: اجلسي انا بتفاهم معه
اشارت بلا وأغلقت الباب
قالت شقيقته بخوف
: خلاص امش هذا ولد عمها
تحرك سعيد وهو مشدوه من الموقف برمَته
اقترب صقر مسرعًا وهو يصرخ
: وين رايح يا جبان
لكنّه كان قد ابتعد !
اخرجت هاتفها دون ان يلاحظها واتصلت
مرّت ثوانٍ ثقيلة حتى اجابها
قالت برجاء
: استفزعتك يا اخوي
فزّ من مكانه وهو يقول
: وش فيك
بكت رغمًا عنها
: علي تركني عند الكلية – التفت صقر واقترب منها لتتابع بسرعة – وصقر غصب بياخذني انا قدام باسكن اللي عند الكلية تكففى تعال
قال بجنونٍ وغضب
: يا ويلك تروحين معه انا جايّك
اغلقت الهاتف وجلست على الرصيف
اقترب صقر ووقف امامها ليغطيها عن أعينِ المارّة
صرخ بغضب
: وش الحركات الغير مسؤولة هذه , قومي معاي كفاية لحد كذا
لم تجبه وهي تحاول السيطرةَ على بكائها
سحب يدها لتصرخ به
: ابعد عني
قال من بين اسنانه
: صوتك احنا في الشارع , وش صاير لعقلك انتي الناس تكبر ما تصغر , من متى انتي بهالعقل الصغير ! من اللي ربّاك على عدم المسؤولية
كانت تزيدُ في بكائها
تعلم يقينًا انّها مخطئةٌ في كلِّ البلبلةِ والجلبةِ التي احدثتها
لكنّها لا تستطيع حتى النظرَ اليه
ان نظرت اليه ستخر صريعة حبّه الذي يفتك فيها
حبّه الذي كبرت عليه , وتربّت في ظلّه
ستضعف أمامه
وهي لا تريدُ ان تضعُف
بقيت على حالها حتى جاء صوتُ عبد الله مزمجرًا
صـقـر
التفت اليه صقر بصدمة
: وش جابك !
اقترب عبد الله وحين لمح رتيل اسرع اليها
قال بخوف وعطفٍ كبير
: فيك شي !
هزّت رأسها نفيًا وقالت برجاء
: وديني البيت عبد الله
: قومي قومي
نهضت ليشير لها الى السيارة
حاول صقر منعها ليلكمه عبد الله بحقد
قال بهمسٍ ناقم
: حسبي الله عليك يا حقير , وآخرتها معاك ! ما بترتاح لين تموتها ؟ والله مانت اغلى منها يا صقر , والله اني اذبحك عشانها , ابعد عن طريقها – صرخ من أعماقه – ابــعــد
ظلّ صقر صامتًا
مبهوتًا
ومصعوقًا
ابتعد عبد الله وبصق عند اقدامه
ثم اتجه الى سيارته
ركب والتفت اليها
: رتيل
كانت تبكي وترتجف
: ردني البيت عبد الله تكفى
قال بحنانه الذي يغدقه عليها منذ أعوام
: خلاص يا بابا هدّي , لا تخافين والله ما يقدر يسوي لك شي , انا ظهرك يا رتيل لا تخافين والله ما له عندك شي الا برضاك
كانت تنتفض وتهذي
: علي علي تركني وراح , هو جابني اعدّل جدولي بس تركني عشان صقر
غضب عبد الله وشد على قبضته
قال بزفرة
: خلاص هدّي انتي , ما لك الا طيبة الخاطر , عشان خاطري رتول
ظلت تكتم شهقاتها , وتفلت دمعاتها بين كل دقيقة وأخرى
كان يسمعها ويرصُ على أسنانه بقهر
يا صغيرتي , ماذا عساي افعل
أأقتله !
هذا الأحمق لا يفقه كيف توجع أدمعكِ أرواحًا تهوى قلبك الباسم
كيف يؤذيكِ في مشاعركِ
ماذا افعل يا رتيل !
شقيقي احمق
احمق يا رتيل !
رمقها من مرآته , ثم قال بحنان
: رتيل بس
افلتت شهقاتها وانفجرت باكية
: عبد الله عبد الله عبدد الله شسسسوي , قتلني صقر , احبه والله , انت تدري كلكم تدرون وش صقر في قلبي , وش صقر في حياتي , صققر كل شي فيني , صقر اللي اعيش فيه , صقر وصقر وصقر , وش انا من غير صقر ! انا ميتة من يوم اللي راح ولا رجع للحين
قال عبد الله بألم
: طيب تحبينه ليش ما تحطين زواجه ورى ظهرك وترجعين له
صرخت بقلة حيلة
: ما اقدر , مو قاادرة عبد الله , صقر مو بس تزوج , صقر خنق احساسي , صقر تركني وما رجع , رجع لكم ما رجع لي , انا صقري للحين ما رجع , هذا مو حبيبي , مو ابوي , ماهو دنيتي اللي وعيت عليها
تأمّل عبد الله كفّه بابتسامةٍ مكسورة
: ولا احنا ما رجع لنا صقر , ماهو اخوي الوحيد , عضيدي ! ماهو بس انتي فقدتي صقر يا رتيل
أطلقت آهةً أصابت عبد الله في مقتل
التفت اليها
: تبين صقرك ؟
قالت بحسرة
: ابي صقري
قال من اعماقه
: نذرٍ علي بيرجع لك صقرك , خليها برقبتي يا رتيل وارتاحي
نظرت اليه وهي تشهق كطفلة
: صدق عبد الله
ابتسم عبد الله بهدوء
: صدق , امسحي دموعك ابوي , ولا عاد تشيلين هم
أوصلها الى منزلها ونزل معها
نظرت اليه مستغربة
قال بهدوءٍ خلفه غضب هائج
: بتفاهم مع علي
ابتسمت رغمًا عنها رغم ارهاقها
دخلت وعبد الله يتحمحم
خرج تركي من المجلس مستغربًا
: حيّاك عبد الله
صافحه عبد الله وقال
: وين علي
اشار له ان يدخل
دخل عبد الله الى المجلس
اتجه الى علي ولكمه بقوّة
قال علي بصدمة
: شفيك !
سحبه عبد الله من ملابسه وهمس
: اقسم بالله لا اذبحك انت وياه لو ترمي رتيل هالرمية عنده مرة ثانية
قال علي بجنون
: وش صار فيها
رماه عبد الله وقال باستصغار
: ما صار لها شي , ماهو رتيل اللي يصير فيها شي , اقوى مني ومنّك ومن ذاك الكلب , بس وربي يا علي
قاطعه علي وهو ينهض
: اسألك بالله وش صار
تأفف عبد الله
: مو شي كبير , بس انت عارف اختك شكثر تعبانة , حرام عليكم ياخي خافوا ربكم فيها
هزّ علي رأسه بغيرِ تصديق وخرج مسرعًا الى رتيل
دخل الى غرفتها واقترب منها
: وش سوّالك صقر ؟
التفتت اليه بحقد
حقد تتقوى به
تُخفي خلفه انكسارًا
وأدمعًا ملتهبة
آخر ما لا اتحمله انت يا أخي
انت يا سندي
كيف لك ان تسنّ لصقرٍ سكينًا يقتلني بها
قالت
: اطلع برى
: رتيـ..
: اطلع برى
قاطعته بصرخة قبل ان يتكلم
: برررررااا
دخلت ام علي بخوف
: رتيل يما وش فيك , سوّالك شي صقر
رصّت على اسنانها بقوّة حتى لا تنهار مجددًا
ظلّت صامتة
اقتربت ام علي وهي تقول بفزع
: رتيل
قال علي
: بس قوليلي سوّالك شي
صرخت وهي تجلس ارضًا وتضرب فخذيها
: قلت لك برررااا اطلع برا علييي اطلععع
جلست امها وهي تضمها وتهتف بجنون
: يمما بنيتي , رتييل وش جااك
التفتت الى علي وصرخت به
: وش فيها
خرج واسرع الى عبد الله
: اسألك بالله وش فيها
كان قلبه يكاد يقفز من مكانه من الخوف عليها
ومن الرعب من ان يكون السبب
هذا اصعب ما يكون
ان نكون سبب شقاء من نحب بشدة
ان نؤلم من وثقوا بنا وأسندوا ثقلهم الينا
نؤلمهم بذات الكفِّ التي نربتُ بها على قلوبهم !
نجرحهم بذات الروح التي احتويناهم بها !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الحادية عشرةَ صباحًا
جلسَ أمامه وقال بحنان
: ليش ما فطرت ؟
همهم وفي عينيه انكسار
هزّ رأسه ايجابًا
: مرّت سنين , متى بترتاح
همهم مجددًا بضعف
ضحك ببحةٍ منكسرة
: لأ ما نسيت , للحين مكسور , بس انت لازم تقاوم عشان صحتك – قبّل كفّه , وعينيه محمرّة يحبس فيها آلاف الدموع – تكفى ما ابي يصير لك شي
هزّ رأسه بيأس
قال باختناق
: تذكر يوم دخلت انت قبلي
سالت دمعتي الكهل على جانبي وجهه
تابع بعذابٍ يدك روحه
: اذكر والله , اذكر كل التفاصيل , تصدق , احس انّي مو مصدق , احس اننا فاهمين غلط , احس انّها مو هي
همهم الكهل برجاءٍ لأن يسكت
بكى وهو يشدّ على يده
: تكفى قول لي , انت شفتها قبلي , كانت هي !! ضربتين على القلب تقتل والله يا يبه , كافي علينا كسرة الظهر الأولى , هدتنا طعنة القلب
زاد بكاء الكهل وهمهمته
عانقه وهو يقول ببحةٍ عميقة
: آسف , خلاص والله آسف تكفى هد , ششش بس يبه خلاص , آسف والله
دخلت اروى وتراجعت بسرعة ووقفت قريبةً من الباب وهي تسمع بكاءهما
وضعت كفّها على فمها وهي تقاوم أدمعها
كادت تهرب من صدرها آهة
آهة تخدش قلبها وتسيل دماءه
سمعت شقيقها
: انا اكثركم وجع , انا هربت من صدمتي لقيتها قدامي , مع الوقت صارت حزن وهم محبوس بصدري , ومع السنين زاد الألم وزاد التعب , صرت قاسي من الهم يبه , صرت مو انا من الحزن , الصدمة هدتني يبه
صمتَ لثوانٍ
ثم تابع
: اروى كاسرة ظهري , ما بقى لها غيري يبه , وماني قادر اعيش لها , ماني قادر اضمها لي , ماني قادر ارجع لها سنين عاشت فيها بعمر ماهو عمرها , انا اضعف منها , انا احتاج لها اكثر من حاجتها لي يبه
ابتعدت وهي تبكي
عادت ادراجها , اكتفت مما سمعت
وتابع هو هذيانه
كان محتاجًا الى ان يتحدث
الى ان يفرغ ما في قلبه
يفرغ ما تراكم منذ أعوام
كثرةُ الكبت أرهقته
وقد تقتله !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانيةَ عشرةَ مساءً
تلفتَ حَوله في المنزل
مساحاته شاسعة
وفارغة !
مجرد بناء , وأرضية لامعة
دونَ روحٍ أو حتى أثاث
اقترب منه مالك
: مرتاح الحين ؟
التفت اليه
: لا , باقي الأثاث والكماليات
: انا تحت أمرك تبيني اوديك أي مكان
: ابي كاتلوجات لمحلات أثاث
هزّ مالك رأسه
: بسيطة , اليوم العصر بروح لبيت جدتي القاك هناك واجيبها لك
خرج الى باحةِ المنزل
اقترب من حمام السباحة
أمعن النظر فيه , ليسمع مالك يقول
: عميق مرة , حط له سور
التفت اليه
: ليه ؟
رفعَ مالك كتفيه
: يمكن يجيك احد ولا احد لا يصير لبزرانهم شي
قال بنبرةٍ ميتة
: ما ابي احد يجيني
ضحك مالك بدهشة
: طردة من بدري يعني
تجاهله وهو يشعل سيجارة ويبتعد ليخرج من المنزل
تبعه مالك وهو يشعر بالضيق من تغير سعود
لم يعد ذاك الممتلئ بالحياة
بل الحياة التي كانت ممتلئةً به
ابتسامته البسيطة , ولو كان في مشكلةٍ عويصة
شهيقه العميق الذي يملأ رأتيه به , ثم يقول
" بسيطة ما صار شي "
اين ذهب سعود !
من سرقك يا ابنَ عمي
من بعثر قلبك الطيّب الذي أحببنا
تبعه وركب السيارة
التفت اليه وقال بصدق
: مفتقدك والله
قال سعود بلا مبالاة
: هذاني معاك
: سعود
لم يجبه
: قول لي شفيك , انا اخوك !
: ودني البيت
: والله فاقدينك , جدتي محترق قلبها عليك وماهي دارية وش فيك , ليش تسوي فينا كذا ! وابوك وامك كل يوم يتصلون يتطمنون عليك , وانت ولا هنا !
عقد حاجبيه ببداية غضب
: ودني البيت يا مالك
زفر مالك وتحرك بسيارته
التفت سعود الى النافذة
حلم بها ليلة الأمس
غاب عن محيطه لدقائق وهو يسترجع ابتسامتها اللطيفة
ولكنتها الرقيقة
*: سعود !
ضحك وهو يشير الى عينيه
: يا عيونه
ضحكت وهي تميل رأسها جانبًا بخجل
اقترب منها ورفع كفّها الى شفتيه ليقبّله برقّة
همس
: خلاص آسف
تلعثمت وهي تقول
: لا , لالا عادي
انفجر ضاحكًا لتضرب صدره بخفة
عانقها وقال
: لين
همهمت وهي تغمضُ عينيها براحة وابتسامة
: تحبيني
صُدِمَت من سؤاله ولم تجبه
شدّ عليها وهي بين ذراعيه
: هاا
قالت بعد ثوانٍ
: احب اشوفك واسمع صوتك , احب اسولف معاك واجلس معاك , احب ضحكتك ونظرتك , احب عيونك احب ملمس ايديك , بس ما ادري اذا احبك ولا لأ !
ضحك بعمق وهو يحملها عن الأرض
قال بعد نوبةِ الضحك
: وانا احب احضنك واحب لكنتك واحب ضحكتك واحب قصرك واحب نعومة ايدك واحب اطالعك , وما ادري اذا احبك ولا لأ !
ابعدت وجهها عن صدره لتنظرَ الى عينيه مبتسمة
قالت بنبرةٍ غريبة
: احسن كذا
داعب أنفها بأنفه
: ايه احسن , تجين تتغدين معاي ؟ *
أطلقَ زفرةً من صدره
اختناق يكاد يفتك بحويصلات الهواء في صدره
ضيق يوشك ان يفجر عروقه ويودي بحياته
فراقها موتٌ يقترب منه ببرود
قلبه خائف
يشعر بالوحدةِ من بعدها , وحدةٌ تذيب السعادة من مخيلته
رمت به على قارعةِ الحياة
حلُمَ ان يسعد بها ومعها !
لكنّها أبت ان تريه السعادة
ردمت الطريق الذي لا زال في بدايته
كسرت ساقه التي يخطو بها للحياة معها
تركته على شفا موت !
يحاول التوازن حتى لا يسقط فينجرف
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
شدّت على ابنتها بالعناق وهي تردد اسم الله الفًا
كان بكاء رتيل حادًا
يوجع الصخر اذا سمعه
وترق له الجبال اذا خُيّل لها ان تراه
قالت بخوفٍ وقلبِ أمٍ منفطر
: بس يا يمه بسم الله عليك وقفتي قلبي , وش فيك يا يمه
انتحبت باستجداء
: يممممااا , آآآه يا يمممه
قالت ام علي بحرقة وحسرة
: ليتها في قلبي آهتك يا روح امّك , ليتها تحرق قلبي يا رتيل ولا توصلك , ليتني متّ ولا شفت همّك يا يمه
توسدت رتيل قلب امّها
قلبها الممتلئ بها وبأخوتها
قلبها النقي
الشبيه بالسحب القطنية برقته
قلبها الذي يعيش على شفا دمعةٍ ودعوة
لأبنائها الأربع , في سكون الليل
وظلمة الديجور
نادتها برتيل
: يما تعبانة
: يا روح امّك , يا قلبها الشقيان عليك , اعيذك بعزة الله وقدرته من شرّ ما تجدين وتحاذرين , اعيذك بأسماء الله ورحمته وعدله من شرّ كل ذي شرّ , استودعك الله يا بنتي , استودع حزنك عند الله وهو يفرجه عنك يا يما , ليت التعب فيني يا يما ليت الهم فيني يا رتيل , ليتني اقدر اخذه منك , ليتني اقدر انسيك همّك , بس يا يما , بس يا حبيبتي , اوجعتي قلب امّك عليك يا رتيل
بكت رتيل وهي تدفن نفسها اكثر في قلب امّها
,
قال ثائرًا
: الخسيس الحقير
قال عبد الله ببرود
: مو احقر منّك , هو خبل بس انت اللي احملك الذنب , بالعقل تتخيل انها بتركب معه ؟! وين عقلك يوم خليتها
قال تركي بحقد
: والله ان الذبح فيك حلال يا علي , ياللي ما عندك نخوة ولا مسؤولية
خرج علي وتركهما
كان يشعر بالخزيّ والعار
يشعر بفداحة فعله
بمنكر صنيعه
ضرب الجدار بقبضته بقوّة
احمق , احمق
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانيةَ عشرةَ مساءً
أغلق سحاب الحقيبة ورفعَ رأسه
كانت تنظر اليه بنظرة غريبة
او خُيّل له ذلك
قالت بهدوء
: لو تاخذنا معك , ودّي اشوف ربيع حايل
داعب أنفها بلطف
: مرّة ثانية ان شالله
رفعت كتفيها بهدوء
: على هَواك
أخرج حقيبته من الغرفة وانحنى ليقبّل رأس والدته
: توصين شي يمه
قالت بغيرِ رضىً
: والله ما ودّي بروحتك
ابتسم
: الرجال له حق عليّ , اخوي وازود , جالس في بيته ماكلٍ شارب , عطلته عن حياته وعن اخوياه وأجّل عرسه عشاني , له حق يا يمه اروح له واسلم عليه
زفرت , ولم تقتنع بعد
قبّل رأسها مجددًا ونهض
اتجه الى الباب وهو ينادي
: تالا
بعد ثوانٍ أتته مسرعة
على وجهها بهجته
بين خصل شعرها الناعمة حياته
وفي تجعيدات وجهها الخفيف حين تضحك , روحه
وبين كفّيها الصغيرين , أودع قلبه
وفي بريق الحياة في عينيها , تكمن سعادته
رفعها عن الأرض
: وش تبين يجيب لك بابا
عانقته بدلال
: عروسة كبيرة
: وش بعد
: فستان اميرة
ضحك وهو يشير الى عينيه
: حاضر
قبّلها طويلًا , ثم أنزلها ليعانق زوجته بخفّة
قالت بنبرةٍ تُقطعها من الداخل
: تروح وترجع سالم
قبّل ما بينَ عينيها
: جعلك تسلمين , استودعكم الله
حمَل حقيبته وخرج
وعادت لتجلس قريبةً من عمتها
التي نظرت اليها طويلًا قبل ان تقول
: وش علمتس
قالت بعبرة
: ما به شي يمه , لا تشغلين فكرك
: افا , ان ما شغلته بتس وبزوجتس واخوه , من لي غيركم احاتيه واداريه , تعالي , تعالي قولي لي وش العلم
اقتربت لتقول
: احمد ماهو على خبري يمه
قالت باستغراب
: ماهو على خبرنا كلنا , الرجال توّه رادّه ذاكرته , لا اتحسسين
هزّت رأسها نفيًا وقالت بحرقة
: هقوتي انّ احمد عاشق
قالت العجوز بفجيعة
: اعوذ بالله تفّي من فمتس , وش هالحتسي الله يهداتس يا ام تالا , ما هقيت بتس خبال !
بكت رغمًا عنها
: هو يظن انّي هبلا ولاني حاسة بشي , يا يمه المرة اذا انخانت تحس , احمد خانّي باحساسه , مبيّن على وجهه وتصرفاته , وهذيانه اذا نام , احمد عشق وظنّي انّه راح للي عاشقها
ضربتها العجوز بعصاها بغضب
: قومي سوّد الله وجهتس , قومي
همّت بالنهوض , لتزفر العجوز بقهر وتسحبها اليها
: اعوذ بالله منّك يا ابليس , بس تعوّذي من الشيطان لا تبتسين , اسكتي بس
كيف يا امّي اصمت
وفي قلبي جرحٌ ينزف
فيني روحٌ تبكي
فيني انثى مجروحة
أحبّ رجُلها غيرها
كيف يا امّي اصمت
وزوجي اليها ذاهب
الا يكفيني عامان قضيتهما في لوعة غيابه
يعود لي بقلبِ عاشقٍ هاوٍ , يعودُ لي مراهقًا بعد أن قارب الأربعين !
,
,
المملكة المتحدة – لندن
الواحدة والنصف مساءً
طرق الباب طرقاتٍ خفيفة
لم ينتهِ منها الا وقد فتح وليد الباب
ابتسم له بتودد
: مرحبا
ابتسم وليد ابتسامةً باهتة وتنحى جانبًا
قال عبد العزيز
: اذا تحب تنزلون تتغدون ولا نجلس ؟
قال وليد بسرعة
: نجلس نتكلم اوّل
: طيب , اختك اذا تحب تقعد عند جارتي – وأشار ناحيةَ بابِ شقة السيدة سارة – اريح لها , حرمة كبيرة وبروحها
قال وليد باستنكار
: اخلّي اختي عند حرمة غريبة اجنبية !
ابتسم عبد العزيز
: سعودية وكبيرة بالسن وطيبة وثقة , بس انا قلت اريح لها اذا ودكم , لكن مو مشكلة
فكّر وليد لثوانٍ
الشقّة صغيرةٌ جدًا , ووجود ملاك وعبد العزيز فيها يشكل حرجًا
قال باستسلام
: خلاص تروح
هزّ عبد العزيز رأسه والتفت الى شقة سارة يطرق الباب
ودخل وليد وهمس
: ملاك قومي لجارة الرجال , يقول حرمة كبيرة وبروحها , انتبهي لنفسك ولا تاكلين ولا تشربين شي , وجوّالك بيدّك وحجابك على راسك وخلّك قريبة من الباب
هزّت رأسها ايجابًا ونهضت لتخرج من الشقة
تنحّى عبد العزيز جانبًا وأشار الى الشقة التي كان بابها نصف مفتوح
دخلت بهدوء وهي تهمس
: مرحبًا
أغلقت السيدة سارة الباب وابتسمت
: يا هلا
التفتت ملاك وابتسمت بهدوء وراحة حينَ رأت انّها عربية
أشارت لها لتدخل
: ادخلي حبيبتي حيّاك
: تسلمين
جلستا متقابلتان
قالت سارة
: متغدية يا امّي ؟
هزّت رأسها ايجابًا , وهي تشعر بالجوع يقرص معدتها
قالت سارة
: اجل نتقهوى
همّت بالنهوض لتقول ملاك بعجلة
: تسلمين يا خالة ماني مشتهية
جلست وقالت بابتسامةٍ هادئة متفهمة
: ماهي مشكلة , وش اسمك حبيبتي ؟
: ملاك
: ما شالله عليك , صدق ملاك
لا تعلم مالرغبة التي تُلِحُ عليها بشدة لتعانقها
تتمنى لو تتجرأ وتطلب منها ان تتوسد صدرها , تتمنى لو تستطيع شم رائحتها والعبث بخُصلِ شعرها
لكنها بلعت رغباتها وامنياتها الصغيرة
خافت ان تفزعها
اذا كانت رفضت قهوتها
كيف ستقبل بعناقها !
تبادلتا حديثًا قصيرًا , وانهته ملاك باختصار , حتى لا تطيل الحديث معها
,
قدّم له فنجان قهوة
: اسلم يا وليد
سحب هواءً عميقًا الى صدره وزفره بوجل
قال بعد صمت
: الحقيقة ما ادري وش اقول لك ولا شلون ابدأ , الموضوع معقد وما ادري اذا بتفيدني او لا
ابتسم له عبد العزيز بثقة
: ان شالله انّ أي شي اقدر عليه بسويه , آمر يا اخوي
صمتَ مجددًا , ثم زفر
ثم عدّل جلسته
وارتشف من القهوة
حك ما بين حاجبيه بتوتر
ثم زفر
أنطق لساني يارب
شُلّ لساني حين احتجته
اني استجديك يارب ان ترسله
ان تعينه على سرد الحكاية الطويلة
وان لم يكُن في يدِ هذا الرجل شيء
شُلّه أكثر يارب
جفف بحر كلماته
وأصمت عباراته
أنسه نُطق الحروف
قال عبد العزيز بلطف
: وليد !
زفر أخيرًا وقال
: امّي انفصلت عن ابوي لها حول خمس وعشرين سنة وابوي اخذنا وامي اختفت ولليوم ما ندري عنها
لم يستطع قول المزيد
لم يستطع توضيح شيء
كانَ يَعْلَمُ أنّه يحتاج الى المزيد من التوضيح
ليساعده هذا الرجل
امّا عبد العزيز
ارتجف كفّه بفزع
رنّت في اذنه انتحابات تلك المرأة البارحة
المرأة التي يعرف قصتها منذ أربعة أعوام
التي تبكي سرًا
وتدعو ليلًا
وتخفي حُزنها بابتسامة كسيرة
التي تنفجر بين الحين والآخر باكيةً مشتاقةً لابنها وابنتها
تذكر اسم وليد الكامل
الذي أرسَلَه له تركي
كيف لم يربط بين الأمرين !
كيف قرَأ الرسالة وبعدها بساعة جلس معها واستمع الى بُكائها وواساها ولم يربط اسم ابنها بالاسم الذي عنده !
نهض من مكانه باستعجال
: وليد دقايق وراجع لك
سار الى الباب مسرعًا وخطف جواز وليد من أعلى التلفاز بخفة
خرج من شقته ليطرق باب شقة سارة طرقاتٍ سريعة
فتحت الباب بخوف
: بسم الله عليك وش صاير !
: خلّي البنت تروح لأخوها بتكلم معاك
دخلت بقلق
: يمه حبيبتي روحي لأخوك عبد العزيز عنده شغله هنا
نهضت وسارت الى شقة عبد العزيز
وهي جدُّ متضايقة من هذا الوضع
دخل عبد العزيز وجلس أرضًا أمام الخالة سارة
قال برجفةٍ بسيطة
: خالتي
: عزيز يمال الصلاح وقفت قلبي
مدّ لها بالجواز
: اقري الاسم
قَرأته ورفعت رأسها
: وش فيــ....
أخفضت رأسها وجحظت عينيها وهي تقرَأه ألفًا
شعرَ عبد العزيز بأنها ستفقد وعيها
سحب صحن التمر وألقمها واحدة
: بسم الله عليك , لا اله الا الله
ارتجف جسدها الهزيل بأكمله
رددت بهذيان
: وليد وليد وليد , يمه وليد , ولدي وليد , وليد يمه , وليد ولييد
رفع عبد العزيز صوته
: خالتي , خالتي قولي لا اله الا الله , بسم الله عليك هدّي هدّي , خالتي
: وين وليد ؟ وين ولدي وينه ؟ وليد يمه ولييد
: هذا ايّاه عندي بشقتي , والبنت اللي معه ملاك اخته , هو جايني ومتأمّل فيني خير , سبحان اللي دلّه لي ووصله لك
نهضت من مكانها
: عيالي , ابي عيالي
نهض وأعادها الى مكانها
: الحين الحين أجيبهم انتظري بس
خرج مسرعًا الى شقته
طرق الباب ليفتحه وليد بقلق
: وش فيك !
سحبه عبد العزيز وتبعتهما ملاك بخوفٍ على شقيقها
أدخله عليها وهي لا تزال تهذي
: وليد يمّه , ولدي , عيالي , وين عيالي
التفت اليه وليد وعقله لم يستوعب بعد
قال عبد العزيز
: هذه امّك
نظر اليه ثوانٍ قبل أن يُصعق
شُلّ لسانه وضاعت منه الكلمات
ظل ينظر اليه بضياع
نهضت من مكانها وهي تبكي بأنين
: انت وليد ! انت ولدي , هذا انت والله , قلبي قلبي ما يكذب علي , انت ولدي
صرخ بهم وليد
: تسوقونها على مين انتوا ! ما امداني اكمّل سالفتي لك الّا وطلعت لي ام من تحت الأرض ! عصابة انتم
اقتربت منه وهي تنتحب بحدة
: ولييد
تمسكت بذراعه ليبعدها بقسوة
: ابعدي عنّي صدقتي نفسك انتي ! يا ويلكم من الله , ما يكفيني عمري اللي قضيته بالهم والقهر والحزن تجون تلعبون فيني
سقطت أرضًا وزاد بُكاؤها
ودّت لو تقبل قدميه , من اشتياقها ولوعتها عليه
لكمه عبد العزيز بقوّة
: الزم حدّك يا حقير , واطلع برى منت كفو انّ خالتي سارة تكون امّك وتبكيك عمرها كلّه , ماهو كلّ الناس طماعة وحديثة نعمة ورخيصة لك , اطـلـع بـرى
صرخت باستجداء
: تكفى لا تروح , والله شاب قلبي وانا انتظرك , والله ذابت روحي يا يمّه عليكم , لا تروح وليد تكفى
ضحك وليد بقهرٍ وغبن , وفي عينيه انكسارٌ مذبوح
: امّي اسمها لطيفة
صرخت
: انا لطيفة والله , وعزة رب العالمين انا لطيفة , اخت عايشة , انا اللي خلعت ابوك , واخذكم منّي انت وملاك , انا امّك والله , والله امّك يا وليد والله
تزلزل جسده
لم تحمله قدميه من هوْل الصدمة
سقط أمامها بضعف
انسابت على جانبي وجهه دمعتيْ يُتمٌ عاشه طوال حياته
يتمٍ رغمَ حياة والديه
يتمٍ بطعمٍ مر
برائحة كريهة
بلون قاتم
يتمٍ كنصلِ سَيف
وكحدة خنجر
بكى رُغْمًا عنه
بكَى بوجع ثملَ منه قلبه
نادى بيأس
: يمه
قالت بحرقةٍ ولهفة
: يا لبيه يا يمه
قال برجاء
: تكفين لا تكذبين
حاوطت وجهه الحبيب بكفّيها
: يا ويل قلبي يا وليد , يا وجع حالي عليك يا يمّه
سحبته الى صدرها بقوّة
لتبكي وكأنها لم تبكِ قط
ليصرخ قلبها بعذابٍ لم يشهده قط
لتنسل منها آهاتٌ كأنها روحها تفارقُ جسدها
لتتلوى بحرقةٍ , وكأنها في مخاضٍ طويل , وحزنها وانكسارها , الذان همّا جنيناها التوأمان , يأبيَان مفارقةَ رحمها
بكت وبكى
انتحبت وانتحب
تأوّهت بحرقة دامية , وتأوّه !
نادته بلا تصديق
: يا روح امّك صدق انت هنا ! تكفى لا تكون حلم يا وليد , تكفى يا يممه تكفى
لأوّل مرةٍ بعد ان فارقها
يشمُ الياسمين !
الياسمين خاصتها
رائحتها التي لا يشبهها فيها أحد
لأوّل مرّة
يشعرُ براحة قلبه
يشعر باطمئنان روحه
يشعر بالسكينة
بعبقِ الطهر
ابتعد عن صدرها ليملأ عينيه بها
لا يصدق انّها هي
: انتي امي ؟
قبّلت جبينه بعذاب
: يا امي انت وابوي واهلي
قبّل جبينها وعينيها وكفّيها مرارًا بغير تصديق
نزل الى قدميها وهي تنتحب وتهتف
: ياربي يا حبيبي لك الحمد والشكر , ياربي يا حبيبي وين اروح من أفضالك ونعمك , سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ولا شكرناك كما ينبغي لكرمك
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
العاشرة صباحًا
فتح عينيه منزعجًا من الهاتف الذي لم يتوقف عن الرنين منذ البارحة
ردّ بضجرٍ وعصبية , دون أن يعلم من المتصل
: خير خير , وش هالأذيّة والازعاج من امس , خلاص ما ابي ارد ما تفهمون !
جاءه صوت الطرفِ الآخر بغضب
: ووجع يوجعك تكلّم عدل
فز من سريره وقال بفزع
: يبه !
صرخ به والده
: وحطبه , وينك انت ؟؟ وش حركات البزران هذه , ذي مرجلتك يعني !
قال باعتذار وندم
: آسف يبه حقّك على راسي , والله ما طالعت الشاشة ولا ادري من المتصل , اعذرني
قال والده بغضب لم يتوقف ولم يهدأ , والذي استغربه هو لقلة ما يغضب والده
: احجز اقرب طيّارة وتعال بدون نقاش , يا الردي
عقد حاجبيه استغرابًا
: يبه وش صاير !
صرخ والده
: خالتك توفعت يا حمار , رنا توفت واحنا مختبصين في التغسيل والصلاة والدفان , وحرقنا جوالك وانت ما ترد !
لم يسمع من كمية الكلمات تلك سوى كلمتين
" خالتك توفت "
ظلّ لثوانٍ يستوعب
ثم فزّ شاهقًا وهو يهتف
: يبه من اللي مات ! يبه لحظة شوي دقيقة بس قول من اللي مات , والله ما سمعت زين
كان يحلف وهو يشعر أنّه صادق !
هدأ والده وزفر
: رنا توفت الله يغفر لها , خالتك رنا
قال بصوتٍ لا يفسر
: من رنا
: يبه سعود , اذكر الله
جلس أرضًا بضعف
: تكفى قول لي مين رنا
استغفر والده بهمس
: يا يبه لا تشغل بالي عليك , لا يصير لك شي وانت بعيد عنّي , تعوذ من ابليس
: شلون تموت !
قال والده بنفاذ صبر
: سعووود
ملَأ رئتيه هواءً قبل ان يقول وهو يحاول التماسك
: بشوف أوّل رحلة وأجي , حط بالك على امّي ونانا , مع السلامة
قال والده بقلة حيلة
: بحفظ الله
أغلَق الهاتف وأنزله
ظلّ ينظرُ في الفراغ
يا حبيبتي !
مُتّي وحيدة , أشعرُ بذلك
كما عشتي سنواتك الأخيرة , وحيدة
ليتني بقيت بجانبكِ يا حبيبة قلبي
ليتني لم أفارقكِ , لتغمضي عينيك وانا ممسكٌ بيدك
لم ترحلون دومًا دون وداعي
لمَ !
تحرمونني اللحظات الأخيرة الى جانبكم
لكنني هذه المرة انا من تركك , انا من اختار الرحيل دونَ وداع
سامحيني يا رنا
يا اميرة الشرق والغرب !
نهض من مكانه عنوة
يجر جسده المثقل بالحزن
غسل وجهه مرارًا
وهو يقاوم رغبته باستفراغ كلّ ما في معدته
خرج من غرفته بعد ان استبدل ثيابه
نزل الدرجاتِ بعقلٍ مغيّب
خرجت أروى من المطبخ وشهقت حين رأته وتراجعت
ولم ينتبه
لها
دخل الى المطبخ لتصرخ بفزع
ولم ينتبه !
لم يشعر بما حوله الّا حين سحبه سلطان من ثيابه وهو يصرخ بغضب
: وش تسوي يا حيوان
كان صامتًا ينظر اليه بلا تركيز
صرخ سلطان
: ردّ علي
قال بانتباه
: هلا !
: وش تسوي داخل على اختي المطبخ !
قال بعد صمت
: اختك !
ضربت الجدة بيدها كفّي سلطان وأبعدته وهي تنظر الى سعود بتفحص
: وش فيك يا امّي
نظر اليها
: هلا ؟
فزعت الجدّة وقلق سلطان
أجلسته على الكرسي وهي تسمّي
: وش فيك . اهلك فيهم شي ؟
قال بعد صَمت
: توفّت خالتي
شهقت الجدّة بحزن
وتراجع سلطان بصمت
قالت الجدة
: لا اله الا الله , لا اله الا الله , ما يظل الا وجهه سبحانه , الله يغفر لها ويرحمها ويسكنها الفردوس الأعلى , لا حول ولا قوّة الا بالله , الله يبدلها بدار خير من دارها واهل خير من اهلها , عظم الله أجرك يا امّي , قوم يا حبيبي قوم بسم الله عليك , تعال نشوف عيال عمّك واحد منهم يشوف لك طيارة تروح عليها
نهض بتعب وسار معها بصمتٍ مطبق
امسك به سلطان وهو يشعر ان حالته غير طبيعية
: سعود , قل لا حول ولا قوّة الّا بالله
ظلّ صامتًا
ليهزّه سلطان وهو يردد
: قل لا حول ولا قوّة الّا بالله
قال بعد ثوانٍ , وبصوتٍ لا يظهر منه الا الفحيح
: لا حول ولا قوّة الّا بالله
: انّا لله وانا اليه راجعون
ردد
: انّا لله وانا اليه راجعون
: احسن الله عزاك , روح اجلس عند جدتي انا بشوف لك الحجز
سار بصمت وهو يشعر بألمٍ في مَعِدَته
جلس وعينيه حائرتان في الفراغ
ويسمع الى بكاءِ جدته الخفيف
: الله يرحمها , الله يغفر لها ويصبر اميمتها
سمِع صوت أروى
: عظم الله اجرك يا سعود
لم يجبها لتزفر وتشير للخادمة ان تدخل بكوب الماء
مّته له لتأخذه الجدّة وتقترب منه
: يمه سعود , اشرب حبيبي
لم يجبها , لتضع بعضًا منه في كفّها وتغسل وجهه برقة
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثالثة مساءً
كان يجلس بصمت
قالت بزفرة
: صار لك ساعة على هالقعدة , انزين حاجني قول لي شفيك , فهمّني شصاير لك
لم يجبها
اقتربت لتقول
: حبيبي
مسحت على كتفه بعطف
: مسفـ.. – بترتها وقالت بعد تردد – صقر
التفت اليها بصمت
ابتسمت
: شفيك
قال بهدوء
: ما فيني شي شوية ضغوط
صمتت وهي تداعب نهاية شعره
قال بهدوء
: مها
: عيوني
ابتسم وهو يمسك بكفّها الرقيق
: مانتي زعلانة مني ؟
قالت بعد ان زفرت
: كنت زعلانة , وللحين شايلة بخاطري , بس شلون اشوفك بالك مشغول او متضايق من غير لا اييلك واشوف شفيك
قبّل كفّها
: شلون ترضين
حاوطت وجهه وقالت بنبرةٍ لطيفة , مُحببة
: بس علمني ليش اهلي للحين ما طلعوا
رفع أحدَ حاجبيه
: على اساس بس هذا اللي مزعلك يعني
ابعدت يديها وقد استفزها
: أي بس هذا اللي مزعلني
ضحك بخفة
: طيّب طالعيني
نظرت اليه من طرف عينيها
قبّل جبينها
: اهلك والله موضوعهم مو بيدي , ان شالله قريب نعرف وش بيصير معاهم
: انزين علمني اهم شنو جريمتهم , ليش جذي قاطينهم بالسجن , وماخذينهم من المطار جَنْهُم مجرمين !
قال بهدوء
: لا تسألين عن امور ما بتفيدك , بتتضايقين منها وبس
: تكفى قول لي !
قال بحزمٍ لطيف
: مها !
صمتت مجبرة
نظر الى ساعته وهمّ بالنهوض
لتعانقه , وتقول بغصّة
: لا تروح
خلل أصابعه في شعرها
: وش فيك ؟
: مشتاقة لك , من يينا هني وانت كلّه مشغول وما اشوفك , انا زوجتك بعد ! ولي حق عليك , ولا شرايك ؟
قبّل رأسها
: لك حق يا روحي أكيد
قالت بتردد واتسجداء
: بات هني الليلة !
قبّل رأسها
: حاضر
ابتعدت عنه بدهشة
: من صجّك !
ابتسم وهزّ رأسه ايجابًا
قالت بلا تصديق
: بتبات عندي !
ضحك رغمًا عنه
: ايه بجي ابات عندك , الحين بطلع اقضي كم شغلة , وبمر امي ما شفتها اليوم , وارجع لك بالليل
عقدت حاجبيها
: شنو الشغل اللي بتقضيه ؟ اقصد وين يعني
نهض وهو يقول بزفرة
: خل عنّك شغل الاستذكاء هذا وخلّي سؤالك مباشر , ماني رايح لرتيل
نهضت وهي تقول بمكابرة
: شياب هالطاري
قال ببساطة
: انتي
رفعت احدَ حاجبيها
: ولا هامتني هالياهل ولا سألت عنها , اظن ما فيها شي اعرف ريلي وين بيروح وشنو بيسوي
قال يسايرها
: أي صح , شوفي لي طريق بس
تأففت وخرجت
ضحك بقهر
أتراها الحياة تسمَع ظنونكِ فتحققها وتعيد لي زهرة قلبي اليّ !
خرج من الفندق يسير في الشوارعِ بلا هدىً
زالَ ألم لكمةِ عبد الله
ولا زال اثرها في قلبه
مالذي يخبؤه قلبك يا شقيقي
كيف غافلني القدر وزرع فيك ما ليس لك
كيف سرقتني يا عبد الله
كيف دنت نفسُك على ما في يدِ شقيقك الوحيد
اقسم ان اقتلك راميًا بأخوّتك عرض الحائط
وصل الى منزل أهله
دخل وجلس قريبًا من والدته
سألته
: متغدي يمه ؟
: أي تغديت مع مها
لوت فمها متضايقة
قال بوعيد
: ولدك رجع ؟
عقدت حاجبيها
: طلع الظهر مستعجل وللحين ما رجع
قال من بين أسنانه
: انا يا ذابحه يا ذابحه
التفتت اليه بتساؤل
: وش صاير
قال بحقد
: ولدك خانّي , ما احترم الدم اللي بعروقي وعروقه , ما احترم الاسم اللي نتشارك فيه , ما احترم انّي اخوه الوحيد , ولدك سرق مني اهم شي في حياتي , ولدك خاين ما عنده شرف
هتفت والدته بتعجب
: وش تخربط انت
صرخ بغضب
: عبد الله يبي رتيل
اسكتته والدته وهي تكتم كلماته
وضعت يدها على فمه وهي تقول بصدمة
: اص , بسس , لا تطيح علينا السما , اعوذ بالله من لسانك اللي بيودينا بداهية , يا يمه حرام عليك اتقِ الله , من وين لك هالتفكير
قال بقهرِ الرجال
: يبيها يمه والـ..
اصمتته قبل أن يحلف
: صقر , والله ما ارضى عليك لو تطري هالطاري , اعوذ بالله من الشيطان الرجيم , ابليس لاعب بمخك انت قمت ما تجمع
حينها دخل عبد الله
: السلام..
بتر سلامه حين رآه
عقد حاجبيه وهمّ بصعود الدرج
قال صقر بحدة
: وقف
توقف عن السير ولم يلتفت اليه
قال صقر وهو يحاول كبح غضبه
: وش بينك وبين رتيل ؟
نهرته والدته
: صقر !!
التفت اليه عبد الله ساخرًا
: وانت وش دخلك ؟!
صرخ به
: هذه زوجتي اذا ناسي
قال عبد الله ببرود
: بتطلقها وما تعود زوجتك
تحكم صقر بأعصابه , ليقول بهدوء مفتعل
: دام انها للحين على ذمتي , انا مسؤول منها , واطالبك تقول لي وش تبي منها
رفع عبد الله كتفيه
: بنت عمي صغيرة وخلوقة واعرفها زين , وبتتطلق قريب...
قبل ان يهجم عليه صقر ليهشم وجهه , وقبل ان يتابع حديثه اقتربت والدتهما وهي تتكلم بغضبٍ كبير
: بس انت وياه , عيب عليكم , واحدكم وش كبره الشيب مالي راسه وتتكلمون بالوقاحة هذه , استحوا على وجيهكم ! عنبو غيرتكم بنت عمكم هذه ماهي قطعة حلا تتقاسمونها ! والله اللي يجيب سيرة البنت على لسانه ما يلوم الّا نفسه , لا بارك الله في رجولتكم ان كان بنت بتفرق بينكم وهي ما لها ذنب ! انقلع انت وياه ما عاد لي بشوفتكم ولا جلستكم
خرج صقر غاضبًا
وقبّل عبد الله رأس والدته
: حقّك علي
تركته صاعدةً الى غرفتها
وجلس هو على الأريكة وهو يزفر بضيق
تذكر بكاء رتيل فأغمض عينيه
اقسم ان ارد ثمن أدمعك
لن يفلت صقر ابدًا بما فعله بكِ
لا تستحقين منه هذا
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
لحفتها ومسحت على شعرها
دخلت ابنتها لتشير لها ان لا تتكلم
اقتربت وقالت
: شلونها الحين
زفرت وجعًا
: الحمد لله , حسبي الله على اللي كان السبب
قالت هديل بحقد وحرقة
: الله ياخذه عساه ما يربح ولا يشوف خير في حياته
انزعجت والدتها
: لا تدعين ما يجوز
فتحت رتيل عينيها , وقالت ببحة تجرح حنجرتها
: يمه
التفتت اليها والدتها
: ها يمه , ليش صحيتي
رفّ رمشها عدّة مرات , ثم قالت
: عطشانة
اقتربت هديل وقالت برجاءٍ حانِ
: رتول طلبتك
قرصتها امّها , لكنّها تجاهلتها
قالت رتيل بتعب
: وش تبين
قبّلتها هديل
: تكفين طلبتك , قومي انزلي معاي تحت , تغدّي معاي ونجلس تحت , تكفين رتول تكفين
صمتت لثوانٍ , ثم قالت
: تعبانة
قالت هديل برجاء
: تكفين
زفرت وصمتت , ثم قالت
: ساعديني أقوم
لم تصدق هديل , ولم تصدق والدتها !
تحركتا بسرعة لتساعدانها على النهوض
نزلت وجلس في غرفة المعيشة
أحضرت هديل الطعام وجلست مقابلةً لها
وام علي بجانبها
رفعت ام علي الملعقة , وهي مبتسمة
: خذي , من ايدي
اكلتها وابتسمت ابتسامةً باهتة
دخل تركي
: السلـ... – ابتسم ابتسامةً واسعة حين رآها – هلا هلا هلا , توْ تــوْ تبارك البيت ورجعت روحه
ابتسمت له ممتنة , ومعتذرة
قبّل رأسها وجلسَ بجانبها
: ارحبي
قالت هديل وهي ترفعُ احدَ حاجبيها
: اعصابك ! كم لك مو شايفها على ذا الترحيب
رمقها بنظرةٍ متهكمة
: مو شغلك , عطيني خبز
مدّت له برغيف الخبز , واستغلت الموقف
: اقول تريكي
: بـنـت
: تركي تركي
همهم , لتتابع
: وش رايك تطلعنا اليوم
قال ساخرًا
: لا والله
قالت والدته بحنان
: أي والله ودّنا نطلع
قالت رتيل بهدوء
: انا تعبانة
قال تركي بمحبة
: ما في طلعة الّا معك
قالت بضيق
: لا تضغطون علي
قالت والدتها
: يا يمه ما نبي نضغط عليك , تركناك على راحتك وشوفي وش صار فيك , ما ابي منّك غير تجلسين معنا , ساعدينا عشان تطلعين من التعب اللي انتي فيه , لازم نتعاون ونتخطى النقطة هذه , الحياة ما راح تنتظرك تتشافين من صقر ! بتمشي ولما تفوقين على نفسك بتلقينها تعدتك
مسحت أدمعها بصمت
امسكت هديل بيدها وقالت بحب
: لا تبكين يا روحي , تكفين رتيل والله قلوبنا انخبصت عليك الايام اللي فاتت , حنّا اهلك وما لنا غيرك ولا لك غيرنا
حمحم تركي
: هاه وش قلتي
قالت باستسلام
: اوكي
قفزت هديل تعانقها
: روووحي انننتي
ابعدتها والدتها
: النعمة يا بننت
جلست مكانها وعادت تأكل
قاطعها هاتفها
ردّت بمحبة
: هلا والله
: شلونك هديل
قالت هديل بسعادة
: الحمد لله طيّبة , وانتي
ابتسمت
: شكلك مستانسة
قالت هديل بحماس
: رتيل نزلت تتغدى معانا ونبي نطلع بعد شوي
فزت داليا وهي تهتف
: احلفي
ضحكت هديل
: والله
دمعت عيني داليا بسعادة
: الحمد لله , والله كنت خايفة عليها خصوصًا بعد ما عرفت وش صار اليوم
قالت هديل بثقة
: حنّا بنات عادل ما ينخاف علينا
ضحكت داليا
: اجل انبسطوا , وونسوها
توادعتا , وأغلقت هديل الهاتف مع دخول علي للمنزل
حين رأته رتيل همّت بالنهوض
وصُدِم هو من رؤيتها
منعها تركي من ان تنهض
قالت ام علي
: كملي غداك , وانت تعال تغدى
جلس أمامها وقال
: انا آسف
لم تجبه
: ما ادري وش اللي خلّاني اتركك , انا غلطان واعتذر , وحرام بالله ما اسمح له يقرب لك مرّة ثانية الّا برضاك
رمت ببصرها بعيدًا عنه
قلبها غاضبٌ منه جدًا
شقيقها الذي ظنّت انّه اول من يسندها
خذلها
وسلّمها برخصٍ الى ذاك الرجل
الرجل صاحب أقسى قلبٍ عرفته البشرية
قالت هديل تقاطع أفكارها
: رتول , لا تخلين ذاك الشايب العايب يكون سبب انّك تتهاوشين مع اخوك , اصلا الحقير مبينة خطته يبيك تتهاوشين معانا كلّنا عشان ترجعين له
شد علي شعرها بخفّة
: لا تغلطين قلنا , ما تفهمين انتي ؟
تأوّهت وابتعدت عنه , لتقول بحقدٍ أحمق
: هذا وانا اصالحك عليها ياللي ما يبين فيك الخير
ضحك وهو يعود لطعامه
وظلّت رتيل صامتةً تفكر في كلمات اختها
أيعقل ان يكون يخطط لهذا !
زفرت بهمٍ , وتشاغلت بالطعام !
,
,
المملكة المتحدة - لندن
التفت وليد الى ملاك وكان قَد نسيها في خمرة لقاء والدته
كانت شِبه مغشيًا عليها
نظرها غيرُ ثابت
وجسدها مضطرب
وترتعش كريشة في أوّج الريح
فزّ اليها بخوف
: ملاك , بسم الله عليك , ملاك كلميني
ضرب خدّها بخفة وهو يناديها بخوف
نهضت والدته وأسرعت اليهما بفزع
: ملاك يمّه
كان كُوب الماء على الطاولة
أخذته لتغسل وجه ملاك وهي تسمي
قالت ملاك بهذيان
: وليد
: ابوي , وش فيك كلميني
: وليد , انا تعبانة , ابي انام وليد , ما ادري وش فيني
عانقتها والدتها وبكت
: بسم الله على قلبك يا قلب امّك من التعب , يا يمّه لا تفجعين قلبي اللي ما حيَا ولا ردت روحه الا توْ
أبعدها وليد عنها ونظر اليها
بَكت ملاك بضعف
: وليد والله ماني طبيعيه , تكفى نوّمني
عانقها وهو يهمس في اذنها بآيات الله علّها تسكن
لم تفهم والدتهما ما خطبهما
ظلّت تنظر اليهما لدقائق قَبْلَ أن تشهق
كانت قد قالت لها ملاك قبل قليل انّهما يتيما الأم , انّها لم تعرف والدتها التي توفيت عقِب عامين من ولادتها وتولى وليد رعايتها
قالت بلا تصديق
: اختك ما تدري..
هزّ رأسها نفيًا وهو يعض على شفته السفلى
صرخت ملاك
: وليد والله اسمع واشوف واحس , وليد يمكن تلبسني شي ! نوّمني بنااام ما ابي اسمع ما ابييي
: بس , بس يا روح وليد هدّي واسمعي وليد
قالت بهزل
: ما ابي اسمعك
: تبيني اقول لك امّك موجودة وما ادري وينها ؟ وتعيشين معي بعذاب لهْ أوّل ما له آخر ؟؟ تبين تموتين الف موتة بالدقيقة ؟ ما نويت فيك سوء يوم خبيت عنّك , حبيتك اكثر من نفسي وبديتك على نفسي , مستحيل كنت أرضى تتعبين مثلي وتبكين مثلي وتنقهرين مثلي
ابعدته وهي تصرخ
: اسكت , اسسسكت خلاص , مو حقيقي اللي يصير , مستحيل يكون حقيقي , رجعني لخالتي وليد رججعني
شعرت بشيءٍ يسقط في حجرها
وصوتٌ باكٍ يخاطبها
: قلبي هالصور , وقوليلي اللي يصير حقيقي ولا انتي تعبانة
نظرت الى الصور بجنون
وليد , ووالدتها التي تعرفها
والدتها التي تضع صورتها بجانب رأسها وتتحدث اليها كلّ يوم
وبعض الصورِ فيها والدها
وبعضها تظهر هي فيها طفلة رضيعة لم تتم اسبوعان من عمرها
شهقت شهقات متتالية بغير تصديق
لا يمكن !
كيف لهذا ان يحدث !
كيف لروحٍ فارقتنا أن تعود
وكيف لقلبٍ ان ينبض وقد جف وتآكل بعد عقود
دارت فيها الدنيا
لتفقد وعيها على صدر شقيقها
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السابعة مساءً
فتحت له الباب بابتسامةٍ واسعة
دخل وجلس أمامها بصمت
جلست بجانبه وقالت بمحبة
: بنتعشى مع بعض
التفت اليها
ولا يعلم من أين نزلت عليه الفكرة
قال مباغتًا
: وش رايك نطلع انا وانتي نتعشى مع اهلي ؟ تتعرفين عليهم !
قالت بضيق
: ودّي نكون بروحنا اليوم
امسك بيدها برفق
: احنا طول العمر مع بعض , ودّي تتعرفين على اهلي
: بس اهم ما يبوني ! يتضايقون مني
هزّ رأسه نفيًا وهو ينهض ويسحبها لتقف امامه
: يلا البسي , بنتظرك عند الباب
رغمًا عنها استبدلت ثيابها وخرجت ليمسك بيدها وينزلا سويًا
كان يدرك ان والدته سترفض
وداليا ستقلب الدنيا رأسًا على عقب
لكنّه مصر !
وصل الى منزلِ اهله والتفت اليها
: انتظريني بناديهم
ابتسمت مجاملة
نزل ودخل الى غرفة المعيشة
اقترب من والدته
: يمه
اعرضت عنه
زفر وجلس امامها
: يمه , انتي حرمة تخافين الله وعندك عدل وتخافين تظلمين احد
عقدت حاجبيها وظلّت صامتة
قال والده
: وش عندك
قال برجاء
: زوجتي ما لها ذنب بأي شي انا اسويه , هي حتى ما كانت تدري اذا لي اهل او لا
قال والده بعدمِ فهم
: طيب ؟
: انا طلبت منها تجي معاي ونطلع كلنا نتعشى , تتعرفون عليها
رفع والده حاجبيه
: لا والله !
نهضت والدته وقالت برفضٍ قاطع
: انسى
وقف امامها مسرعًا وهو يقول
: يمه حرام والله , ما لها ذنب , هي زوجة ولدك زيّها زي رتيل
قالت تقاطعه بعصبية
: لا تقول زي رتيل
زفر وقال
: طيب بس اثنينهم حريمي
انفجر والده ضاحكًا وضحك هو ايضًا
مؤمنًا بمقولة , شر البلية ما يضحك !
قالت والدته
: ما ابي اشوفها
قال والده بهدوء
: يا ام صقر تعوذي من ابليس , الولد معاه حق
التفتت اليه متعجبة
: رتيل ماهي بنت اخوك !
قال ببساطة
: بنتي مو بس بنت اخوي , وصقر ولدي , وهذه زوجته , ولها حق علينا بغض النظر عن فعايل ولدك
قالت بغصّة
: مالي قلب اقابلها ولا اكلمها واللي في رتيل من وراها وبسببها
قبّل صقر كفّ والدته
: بسببي يمه ماهو بسبب مها
نزلت داليا وحين رأته كشرت في وجهه
التفت الى والده , كان يرجوه بعينيه ان يتصرف
لانّه يكاد يقسم انّه ابدًا لن يستطيع اقناع داليا
قال والده
: داليا
قبّلت رأسه وجلست بجانبه
: سم
: اطلعي البسي يبه بنطلع
التفتت اليه مندهشة
: من يطلع !
: نطلع نتعشى مع صقر
التفتت الى صقر ثم الى والدها
ثم قالت مشمئزة
: عليكم بالعافية ما ابي اطلع
قال والدها بهدوء
: ما قلت ممكن تقومين , قلت قومي
قالت معترضة
: يبه !
: قومي
نظرت اليه لتجد في عينيه حزمًا
نهضت مجبرة , لا يمكنها عصيان والدها ابدًا , مهما بلغ تدليله لها
التفت ابو صقر الى زوجته وقال باستعطاف
: يلا يا ام صقر , عشان خاطري
زفرت , ورضخت
قبّل صقر رأس والده ممتنًا
قال والده بجمود
: ماهو عشانك , عشان الضعيفة زوجتك , ما ابي ربّي يحاسبني عليها
صمت صقر ونهض والده ليبدّل ثيابه
ظلّ ينتظرهم
حتى نزلوا ليخرج ويفتح باب مها
قال مبتسمًا
: مها ابوي جاي تعالي ورا
نزلت مبتسمة وانتظرت لتسلم عليهم
خرج والد صقر , ثم والدته وشقيقته
اقترب ابو صقر وقال بهدوء
: السلا عليكم , شلونك يبه ؟
اقتربت وقبّلت كتفه باحترام
: الله يسلمك عمي , عساك بخير
هزّ رأسه
: الحمد لله
اقتربت مها من ام صقر مبتسمة
: شلونج خالتي , ان شالله طيّبة
ضغطت ام صقر على نفسها واجبرت ابتسامةً باهتة ان تظهر
: الحمد لله
كادت داليا ان تعود الى المنزل
كانت تشتم صقر وزوجته بكل شتائم العالم التي تعرفها
كان صقر يعلم انّها ستعود
لذا امسك بها وهو يبتسم برجاء
: عشان خاطري
قالت بشراسة
: ما لك خاطر
قالت مها بلطف
: شلونج حبيبتي
نظرت اليها بحقد ولم تجبها
قال صقر وهو يكتم ضحكته
: ما عليه ترى داليا تستحي
هزّت مها رأسها بابتسامة والتفتت الى السيارة
ركبت وبجانبها ام صقر ثم داليا
كانت تأكل اظافرها بغيض ليس له نهاية
وصلَ صقر الى المطعم ونزلوا جميعًا
امسك بيدِ زوجته وسار يتقدمهم
,
اوقف علي سيارته امام المطعم ونزل
فتح باب السيارة لرتيل التي كانت تجلس خلفه
ساعدها على النزول
ودخلوا الى المطعم !
,
,
الى الملتقى :)