بسم الله الرحمن الرحيم
البارت الثاني والعشرون
*
الى القلب الذي يعانق قلبي
الى الروح التي تصافح روحي
الى حبيبتي وصديقتي وابنةِ عمي
أهديكِ هذا الجزء بمَا فيه <3
" نونتي "
*
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الواحدة والنصف بعد منتصف الليل
مددت أطرافها بتعب
لتقول أمُّها بحنان
: قلتلك لا تسوين , انا والبنات نخلصه
ابتسمت
: عادي يمه !
: خلصتوا شغلكم انتي وداليا ؟
هزّت رأسها نفياً
: للحين ما بدينا قلتلها اذا رجعت من عندكم قعدنا نشتغل
: الله يعطيك العافية
ابتسمت ونهضت الى المطبخ لأختها وابنةِ خالتها
قالت هديل بمحبة
: حبيبتي تعبتي نفسك
قالت ساخرة
: لا على ايش , أهم شي راحتك طال عمرك
انفجرت ضاحكة ثم قالت
: لا تسمعك امي , تراها تدور اللي يهاوشني عشان تنصاره
ضحكت رتيل وهي تغسل يدها ثم التفتت الى ملاك
: يقولون بكيتي عشان وليد ما بارك لك بالشهر
ضحكت وهي تغطي وجهها بكفيها
: متى أمداهم يقولون !
غمزت رتيل وهي تشير برأسها ناحية هديل
: أول ما وصلت وهم يسلمون عليّ قالوا
ضحكت ملاك
: يا ساتر , وكالة أنباء
حينها دخلت ام علي الى المطبخ وقالت مبتسمة
: قبل عشرين سنة بكرة تنولد رتيل
قالت هديل باستدراك
: صحييح بكرة يوم ميلادها , النذلة انولدت في رمضان وتعبّت خالتي الله يرحمها
اقتربت رتيل من أم علي بتحايل
: قولي لنا سالفة ولادتي
ضحكت ام علي وهي تحاوط بذراعها كتفي رتيل
: كل سنة ليلة رمضان اقول لك السالفة !
قالت هديل برجاء
: أي أي تكفين يمه قولي
قالت ملاك بحماس
: انا ما سمعت السالفة الّا مرة او مرتين قوليها
ابتسمت
: طيب , هديل جيبي القهوة وتعالوا للمجلس
,
,
الرياض
الحاديةَ عشرةَ وخمسون دقيقة مساءً
وضع حقيبته أرضاً والتفت الى جدته
انحنى بجسده ليعانقها ويدسّ دمعاتها على صدره
يكتنزها ويبقيها قريبةً من قلبه
حتى يراها في المرةِ القادمة
كم يؤلمه أن يفارقها بعد أن يعتادها
كم يشتاقها , بمجرد أن يتجاوز هذا الباب
شدّت بذراعها على رقبته وهي تبكيه
يا ابنَ قلبي كم تؤلم قلبي
تتركني أشهراً وقد تمضي أعوام دونَ رؤيتكَ
التاع من فراقك
كم تنازلت وابقى اتنازل
تنازلت من قبلِ عن ابيك , أحبَّ ابنائي الى قلبي
وها أنا ذا اتنازل عنك , وانت ثاني أغلى احفادي
أتترك قلبي الشغوف بكَ يا سعود ؟
أتفارقني وقد غزى الشيب رأسي
وقد تخرج من هنا وتعود فلا تجدني
قال بحنان
: أشوفك على خير ان شالله , بإذن الله على العشر الأواخر بنجي عمرة وأكيد نجي الرياض , فديتك يا يمه انتبهي على نفسك ولا تقهرين قلبك , نفسك غالية علي
قالت بحرقة
: لو انها غالية ما تتركها
قبّل رأسها مبتسماً
: والله انّها غالية وانتي تدرين
تركها حتى تبتعد عنه بإرادتها
ثم ودّع عماته وأعمامه وابناءهم جميعاً
خرج الى حديقة المنزل وهي خلفه
قالت بحزن
: استودعك الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك
ضمّها مجدداً
: استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه
: سلّم على ابوك القاطع , وعلى امك وجدتك وزوجتك
: يوصل فديتك
التفت ليبتسم لسلطان ومالك
قال مالك
: خير ؟ بنوصلك للمطار وهناك نسلم عليك
ضحك وخرج معهما
ركبَ في المرتبة الخلفية ومالك يقود وسلطان بجانبه
ودّع المنزل بنظرةٍ أخيرة
ثم التفت الى الأمام بزفرة
,
,
جلسن حولها
لتبتسم ثم تتنهد بحنين
: هذيك السنة كانت مميزة لنا , انا وام صقر وام رتيل حوامل , وكلنا خلفنا بنات , وكلنا بناتنا كانوا بعد سنين طويلة ما فيها عيال , يعني صقر الله يردّه سالم عمره وقتها " 15 " وعبد الله الله يخليه " 13 " وعلي الله يحفظه عشرة وتركي الله يبارك فيه ثمانية , أوّل وحدة حملت فينا ام رتيل الله يرحمها ويغفر لها
تمتم الفتيات
: آمين
واسترسلت ام علي في حديثها
-
الرياض
1315هـ الموافق 1994م
1/ رمضان
الثانية ظهراً
خرجت من غرفتها بتعب وهي تضع يدّها على بطنها
التفتت اليها ام علي وقالت بقلق
: ايمان وش صاير لك
قالت ببحةٍ مُتعبة
: ما ادري , كل جسمي يعورني , وو – بكت من فرط الاعياء – مدري والله
اقتربت منها ام علي لتساعدها على الجلوس
: على هونك , بسم الله عليك , شكلك بتولدين
قالت بخوف
: ما ابي اولد
ضحكت ام علي وهي تمسح على شعرها
: استغفر الله العظيم , بجيب لك شي تاكلينه ما تقدرين تصومين
هزّت رأسها نفياً
: ما ابي افطر
قالت ام علي بحزم
: ماهو على كيفك , ربي سامح لك تفطرين
نهضت لتحضر لها بعض ما يشدّ قوتها
أكلت قليلاً وابتعدت
: ما اقدر , نفسي مسدودة
مدّت لها بكوبِ مشروبِ القرفة الساخن
: اشربي وتمشي , يسهل لك الولادة , انتي جايك الطلق والله أعلم
نهضت تتمشى بتعب وهي تشرب منه
مرّت ساعتان ونصف ليعلو صراخها
: عايششششة , عااادلل
نقلوها الى المشفى فوراً وام علي تقرأ عليها وتهدئها
أدخلها طاقم الطوارئ الى الغرفة لتخرج الطبيبة بعجلة بعد خمسِ دقائق
: استاذي تفضل وقع على دخولها العملية , حالتها جداً صعبة ومستحيل نقدر نولدّها طبيعي
ذهب معها مسرعاً وقلبه يلهج بالدعاء والرجاء
مرّت ساعةٌ ونصف وهي في غرفةِ العمليات
لتخرج الطبيبة أخيراً وتقول بإنهاك
: الحمد لله على سلامتها , ولدت بنت
قال ابو علي بسرعة
: كيف حالتها الصحية ؟ وحالة الطفلة ؟
: الطفلة حالتها مستقرة وتُنقل الآن للحضانة , والوالدة تحت الملاحظة , ونحتاج بعض الفحوصات لأنها تعبانة غير تعب الحمل والولادة
قال بتوتر
: وش فيها ؟
أجابته بصدق
: ما عندي خلفية الى الآن , لكن بعد الفحوصات بإذن الله نعرف وش فيها
قالت ام علي
: نقدر نشوفها ؟
: بس ينقلونها لغرفة ثانية ويثبتون الأجهزة ويسحبون منها عيّنات دم تقدرون تدخلون , عن اذنكم
تركتهما وذهبت تتابع عملها
التفت الى زوجته بهمّ
ربتت على كتفه
: اذكر الله , ان شاء الله انّ ما فيها شي , تعرف خرابيط الدكاترة
زفر ثم قال
: طيب اجلسي انتي هنا , انا بروح اتصل على ابو صقر يجيب زوجته والعيال , ويجيبون لنا فطور بعد
مرّ الوقت سريعاً
نُقلت ام رتيل الى غرفةٍ أخرى
دخل زوجها وام علي ليجلسا معها بعض الوقت قبل أن يأتي ابو صقر مع زوجته والأولاد
دخلت ام صقر الى الغرفة واقتربت منها
: ايمان ! يا روحي الحمد لله على السلامة مبروك ما جاك
ابتسمت بارهاق
: الله يسلمك
أذن المغرب ليفطروا ويصلوا
خرجت ام صقر من الغرفة لتطلّ برأسها مجدداً
: ايمان العيال بيسلمون عليك , وعادل راح يجيب البيبي
اعتدلت في جلوسها ورفعت حجابها على رأسها
: خلهم يدخلون
دخلا علي وتركي أولاً ليقبّلاها ويقفان على مقربة
ثم دخل عبد الله بخجل
: الحمد لله على السلامة عمتي
ابتسمت
: الله يسلمك
دخل ابو علي وبجواره صقر
اقترب منها ومدّت ذراعيها بلهفة
ابتسم وقبل أن يعطيها الطفلة قال صقر
: أشوفها عمي
استأذنها ابو علي بنظراته لتبتسم وتنزل ذراعيها الى جانبها
التفت اليه ومدّ اليه الطفلة
حملها ولم تكن ملامحه تنبئ بشيء
هادئ , حتى نظر اليها
ابتسم لا شعورياً !
ظلّ ينظرُ اليها قبل أن يرفع رأسه مبتسماً
: ايمان كم أدفع لك وتعطيني اياها
ضحكت بتعب ولم تجبه
التفت الى عمه
: والله اني جاد
ابتسم عمّه
: وش تسوي فيها ؟
رفع كتفيه
: مدري , بس ابيها
قالت ام علي
: وش تبين تسمينها ؟
قالت بحيرة
: ما ادري !
قال صقر بتردد
: عادي أسميها ؟!
التفت اليه عمه بابتسامة
: وش تبي تسميها ؟
صمتَ قليلاً قبل أن يقول
: اليوم في التحفيظ الشيخ تلى علينا من سورة المزمّل , وقرأ الآية " أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلاً " وقال لي هو يوم كان صغير شيخه المحفظ قال له هذه الآية وهو يوم كبر وصارت عنده بنت سمّاها رتيل , وانا أعجبني الاسم وقلت اذا كبرت وجاتني بنت سميتها رتيل – ابتسمت وتابع – ودامني مبطي عن بنتي بسمي رتيل هذه – ورفع يديه ليشير الى الطفلة –
ضحك عمه ورفع حاجبه الأيمن
: وانت خلاص اعتمدت الاسم مشالله
التفت صقر الى ايمان رافعاً حاجبه
: ما هقيت بتردني ام رتيل ؟
ضحكت ايمان ثم التفتت الى زوجها بتفكير
: حلو اسم رتيل !
قال ببساطة
: ما عندي مانع براحتكم , الاسم حلو وخفيف
قال صقر بابتسامةٍ واسعة
: خلاص أجل دامني سميتها صارت بنتي بآخذها وامشي
قالت ايمان بابتسامةٍ متعبة
: صـققر جيب البنت بشوفها
التفت الى عمه ساخراً
: وش تقول زوجتك ؟ صوتها ماش كأنها صرصور بأنفاسه الأخيرة
قال عمه مهدداً
: ولد
ضحك وصمت يتأمل الصغيرة ثم التفت الى شقيقه
: عبد الله افتح الباب وقول لأبوي وامي يقربون بقول لهم شي
استغرب عمّه وزوجتيه
فتح عبد الله الباب
: يمه يبه , صقر بيقول لكم شي تعالوا
اقتربا مستغربين
قال بعد تردد
: جدي الله يرحمه قال لي مرة , انّ قبل في زمن أجدادنا كانوا أحياناً يسمون البنت من صغرها لولد عمها ويوم يكبر يتزوجها , انا ذي البنت خذت قلبي والله من أول نظرة , مو قادر حتى أعطيها لايمان , هذاني أقولها قدامكم كلكم رتيل انا ابيها
حلّ الصمتُ عليهم أجمع
تبادلَ والداه النظرات , وكذلك عمه وزوجتيه
ابتسم بخجلٍ وحرج , ثم قال ببلاهة
: قلت شي غلط ؟
قال والده بحزم
: صقر الكلام ذا ما ينلعب فيه , عط البنت لأمها وتعال
قال بصدق
: والله اني صادق
غضب والده
: وش اللي صادق ؟ بكرة تكبرون وكل واحد يشوف طريقه , تختلف عقلياتكم ويختلف تفكيركم
قال صقر
: انا قد كلمتي يبه
ضحكت ايمان وهي تقول
: صقر عطني البنت
قال عمّه بعد صمت
: انا أعطيك كلمتي , انا موافق ازوجك بنتي اذا ظلّيت كفو ورجّال وتقدر ترعاها , عطها لأمها واذا كبرت بإذن الله هي لك
ابتسم واقترب من ايمان ثم قال
: خليها عندي شتبين فيها
غضبت منه
: صقير عطني بنتي لابو هالوجه لها نص ساعة معك آثرتك على نفسي وخليتها عندك
ضحك وأعطاها ابنتها
قالت ام علي بضحكةٍ مذهولة
: وش ذي الخطبة ! البنت ما كملت يوم
ضحكت ايمان وقالت لتغيض صقر
: وانتي مصدقة أضحي في بنتي لذا البدوي !
اقترب منها مهدداً
: لا تخليني آخذ زوجتي منك الحين
ضحكت بذهول وابتعدت عنه
: صقر بقوم عليك والله , انقلع من قدامي
قال والد صقر
: الحمد لله على سلامتك يا ام... – صمت ليقول صقر –
: رتيل يبه
ابتسم وتابع
: يا ام رتيل , تتربى في عزك ان شالله
: الله يسلمك ويحفظك مشكور
قال والد صقر
: يلا يا شباب تعالوا
خرج الأربعة وخلفهم ابو علي لتدخل أم صقر وتقول بخجل
: والله مدري وش اقول لك ! لا تزعلين من صقر , صغير ما يعرف وش يقول
ابتسمت بهدوء
: من قال لك اني زعلانة ؟! صقر صديقي وأخوي الصغير , بالعكس عسل على قلبي والله , وعلى كلامه ليش لأ !
قالت ام علي بجدية
: مو وقته ذا الكلام , اذا كبروا وأصلحهم الله وبارك فيهم وكتب بينهم نصيب محد يمنعه
ابتسمتا ولم تُعلقا
-
مسحت أدمعها وتابعت
: بس ما كملت مع رتيل عشان تشوفها كبيرة وعروسة , ماتت بعد اسبوعين من ولادتها الله يرحمها ويغفر لها ويُحسن اليها
شهقت رتيل بالبكاء وغطت وجهها لتخفي أدمعها عنهن
مسحت هديل على ظهرها
: رتوول , اذكري الله شفييك
أشارت لها ملاك أن تتركها
كانت ملاك أيضاً تبكي
تُدرك فقد الأم !
تعيه وتعرف أدق تفاصيله
عاشته واستشعرته في كلِّ دقيقة عاشتها
كم أرثي حالكِ يا رتيل !
كم يؤلمني قلبي من أجلكِ
رغمَ أني لا أذكر أيّاً من تفاصيل أمي , الا أنني عشتُ في كنفها عامان
ولم تبقي معها سوى اسبوعان !
كانت رتيل تبكي بحرقة
تبكي ولا تعلم على أيَّهما حُرقتها أكبر
على الأم التي لم تعرفها يوماً , أم على حبيبها الذي ضاع منها منذُ سبعةِ أعوام !
أمي يا قطعةً من قلبي , مدفونةً في أرضِ احدى المقابر
امي يا من أخذت شكلك وصفاتك
امي , يا من أفتقدك بجنون !
رغمَ أني لم أعرفكِ من قبل !
لو كنتِ هنا لخففتي عليّ فراقه , لاحتضنتيني وضممتيني اليكِ
لو كنتِ هنا يا أمي , لما شعرتُ بالغربة أبداً
كم أتوق لأعرف رائحتكِ
كم أشتاق لأستشعر دفئ صدركِ
كم أتمنى لو جلستُ معكِ , لأخبركِ أسراري , لأحدثكِ عن يومياتي
كم أغبط داليا وهديل !
ترتمي كل واحدةٍ منهما على صدرِ والدتها متى شاءت
واقبع انا في زاوية البؤس وحيدة
لا أمّ لي أعانقها !
لا أمّ لي تُدللني وتنصحني وتوبخني !
انا يتيمةٌ يا امي
يتيمةٌ وحيدة
بائسةٌ وحزينة
اشتاق لأمٍ أتوسد صدرها
أشتاق لأمٍ أبث اليها ألَمِي
اشتاق لأم !
أيّاً كانت
عمياءٌ ام بكماءُ أم صمّاء
لا يهم
يكفي أم يكون اسمها أم !
آهٍ يا امي
لو سمعتي آهتي لأجبتيها !
لو رأيتِ أدمعي لكفكفتيها !
لو علمتِ عن عمقِ حزني لطردتيهِ بعيداً عني
وإن أبى أثقُ بأنكِ ستنتشلينه من صدري لتسكنيه نفسكِ
رحلتي يا امي , وعزّاني صقر
وها قد رحلَ صقر
ها قد رحلَ من أرى العالم من حبي له
رحلَ من أتنفس الحياة من تعلقي به
ابتعد عني صقر , أتراه يُعاقبني على حبي له !
آهٍ يا امي لو تعلمين كم هو مرٌ فراق صقر
لا أعلم اين هو !
كيف غاب !
منذ خرج ما عاد
شبحُ غِيابه يرعبني
في كلَّ ليلةٍ أغفو وحدي
وأطياف الفراق تحومُ حولي
حتى أفزع من نومي
وأظلُ أبكي الى ان ينتشر الضياء
لأنام مُجدداً !
سرقت الأيام صقر مني
لتخذلني كما خذلتني فيكِ من قبل
وفي أبي من بعدك
ثم تقضي عليّ بِ صقر
الّا صقر !
فليعد , او فليأخذني الغياب اليه !
ان استحالة عودتكِ يا أمي , فهلّا يعود صقر !
ضمتها أمّ علي بقوة وهي تقول
: بسم الله عليك , رتيل يمه قولي لا اله الا الله , بس يا حبيبتي , بسم الله عليك يمه
نظرت الى ابنتها
: قومي جيبي لها موية
أحضرت لها كوب الماء لتشرب وهي تشهق بالبكاء
شربت نصفه وأبعدته لتدُسّ وجهها في صدر ام علي
ظلّت على حالها حتى هدأت نفسها واستكانت , ثم ابتعدت متوجهةً الى دورةِ المياه
قالت ملاك بقلق
: وش صار فيها !
أجابتها خالتها
: كل مرة تسمع السالفة يصير فيها كذا , خصوصاً بعد صقر الله يرجعه بالسلامة
قالت هديل بحرقة
: الله ياخذ...
قطعت كلماتها ولم تستطع اتمامها
استغفرت بحرقةٍ وصمتت
عادت رتيل وقالت ببحة
: يمه وين تركي او علي ؟ الوقت تأخر الساعة اثنين
: خليك وش وراك
: لازم ارجع عندنا شغل انا وداليا وابي اصلي واقرأ قرآن
قالت ام علي بهدوء
: طيب براحتك , الحين أكلم تركي أشوف وينه
جلست بصمت , وهديل وملاك صامتتان أيضاً !
,
,
المملكة المتحدة – مطار هيثرو
السادسة صباحاً
خرج من صالة الواصلين متعباً
واتجه الى المقهى
تلفت يبحث عن عبد العزيز حتى رآه واتجه اليه
نهض عبد العزيز وعانقه مرحباً
: هلا والله , الحمد لله على السلامة حبيبي
: الله يسلمك ويخليك , شلونك
جلسا متقابلين ليقول عبد العزيز
: طيّب الحمد لله , عسى ما تعبت
تنهد بارهاق
: والله تعبت , وانا صايم بعد !
قال عبد العزيز يلومه
: انت مسافر يجوز تفطر
: ما عطتني نفسي أفطر
:سعود والله منت صاحي ! الساعة تسعة بيأذن المغرب !
: مو مشكلة الحين بروح البيت وأدقها نومة لين الظهر
: في أحد منتظرك ؟
أخرج هاتفه وأجابه وهو يجري اتصالاً
: أي مكلم السواق , تلاقيه ينتظرني الحين
ردّ عليه السائق وأخبره سعود عن مكانه ليأتي لأخذ الحقائب
جلس مع صديقه نصف ساعة ثم دخل عبد العزيز الى المطار لاقتراب موعد رحلته
وذهب سعود الى منزله
استقبله والده ووالدته وجدته ولم يُطل الجلوس معهم توجه الى غرفته ونام حتى الظهر
ثم نهض وصلى وتوجه الى لندن
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثامنة صباحاً
أغلقت مصحفها ووضعته جانباً لتستلقي وتغمضَ عينيها بمحاولةٍ للنوم
استنزفت طاقتها في البكاء الليلة الماضية
لا يزال قلبها يؤلمها من الحزن
قبل أن تنام غزت عقلها ذكرى تعود لِ ثلاثةِ عشر عاماً
*كان يجلس في باحة المنزل الخارجية وأمامه شيءٌ لم تعرف ماهيته وهي تنظر اليهِ من المافذة
خرجت اليه واقتربت , نادته وهي خلفه
: صقر !
التفت اليها وابتسم
: تعالي شوفي
اقتربت لتشهق وتبتعد
ضحك وقال
: وش فيك ما يخوف !
هزّت رأسها بخوف
: شفته في التفزيون ياكل الأرنب !
ابتسم
: هذاك اسمه نسر , هذا صقر حبوب ما يسوي شي
قالت غيرَ مقتنعة
: وش ياكل هذا طيّب ؟
ضحك ولم يستطع الكذب
قالت غاضبة
: ياكل الأرنب ؟
هزّ رأسه نفياً
: لا ما أخليه , بشتري له لحم وأعطيه , ياكل زيّنا يعني
وبعقلِ طفلةٍ صدقت أنه لا يأكل الأرنب , انما يأكل اللحم الذي سيحضره صقر !
قال مبتسماً
: تعالي المسيه
تراجعت بخوف
: تعالي رتيل ما بيسوي لك شي , انا ماسكه
اقتربت ومدت سبابتها اليمنى لتلمسه ثم تراجعت
حينها دخل عبد الله وصفر بإعجاب
: الله أكــبر , وأخيراً جبته
ضحك وهو يغمز له
: اخوك ذيب , باقي اثنين في خاطري بإذن الله أشتريهم
ضحك عبد الله
: شعلييك صرت " صــقّــار "
,
( بعض الناس قلوبهم طلعت من مكانها الحين :p )
,
ابتسم بسعادة
: الله يا زين الكلمة
التفت عبد الله الى رتيل
: رتول قولي صقر صقّار
قالت بغير فهم
: وش يعني صقّار ؟
جلس عبد الله أمام صقر وصقره
: يعني يربي صقور , زي اللي وريتك في التلفزيون عنده أحصنة يسمونه خيّال
هزّت رأسها ايجاباً
: اهاا فهمت*
زفرت بحنين
تشتاق لرؤية صقوره الثلاثة
لكنّها ليست في المنزل
أخرجها عبد الله واستأمنها عند صديقٍ له يملك محلاً يبيع الطيور
سحبت صورته من تحت وسادتها
ظلّت تتأمله لبعض الوقت حتى غلبها النعاس فنامت وهي تضمُ صورته اليها
,
,
المملكة المتحدة – لندن
الثانية مساءً
خرجت من دورة المياه مرتديةً منشفةً على هيئة معطف يصل الى نصف ساقها
رنّ هاتفها فأسرعت اليه
ردّت بابتسامة
: أهلاً
: هلا فيك يا خلف سعود
ابتسم بخجلٍ ولم تجبه
: شلونك ؟
قالت بخفوت
: الحمد لله , وانت
: طيّب , افتحي الباب
صمتت , ظناً منها أنه يتحدث الى أحدٍ بجانبه
قال
: لين ؟!
أجابته
: هلا !
: افتحي الباب !
قالت مستغربة
: أيّ باب ؟!
ضحك بخفوت
: باب شقتك
: ليه !
: يا بنت وش فيه عقلك موقف , ليش بقول لك افتحي الباب يعني ! انا برى
اختفت ابتسامتها وظلّت لثوانٍ تستوعب
ثم نهضت مسرعةً الى الباب تنظر من العين المثبتة عليه لتكشف عن هوية الطارق
شهقت وتراجعت
ليضحك ويقول
: بسم الله عليك
: انت قلت بتوصل في الليل !!
: كنت غلطان مو منتبه للتوقيت , افتحي الباب !
قالت بارتباك
: طيب سعود انتظر شوي
: ليش انتظر !
صمتت ثم قالت
: اصبر شوي وافتح لك
قال بذهول
: وش صاير لك انتي !
صمتت لثوانٍ قبل أن تقول بخجل
: انا توّني مخلصة شاور , ابي البس !
صمت لثوانٍ ثم قال بخفوت
: بانتظرك تحت
أغلق الهاتف وضرب رأسه وهو يقول
: غبي
ابتعد ونزل
ولم يعلم أنها كانت تنظر اليه وضحكت من حركته رغم خجلها
ارتدت ملابسها وعباءتها ونزلت
كان يقف بالقرب من باب العمارة حينَ رآها ابتسم ودخل ليسلّم عليها بعيداً عن أعينِ المارّة
عانقها وأطال عناقها بصمت
رفعت يديها بخجل ولفتها حوله
قال بخفوت
: نحفانة !
: لأ !
ضحك بخفوت وهمس
: كنتي أمتن لمن ضميتك قبل لا أسافر
ابتسمت بخجل
: كنت لابسة كوت كبير
قبّل رأسها وابتعد
أمسك بيدها وسار معها الى السيارة
: بتفطرين معاي اليوم
التفتت اليه بصدمة
: وأهلك ؟!
: عادي وش فيهم ! كل واحد يفطر مع اهله , انتي الأهل عندي , وابوي أمي أهله
ضحكت ولم تجبه
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الخامسة مساءً
كانت تقف في المطبخ مع ابنة عمها وزوجة عمها
جلست على الكرسي وأمامها الخضروات لتقطعها
اندمجت لتسرح بعقلها الى ذكرى مضت
*كان يجلس في غرفة الجلوس , وهو يعبث بهاتفه
اقتربت وجلس في حجره
كان مندمجاً ولا ينظر اليها
مدّت بأصابعها الى وجهه ليعضها بشفتيه بحركةٍ سريعة
ضحكت وسحبتها
وأعادت الكرّة ليحاول عضّها , دون أن يلتفت اليها
انتهى من هاتفه ثم التفت الى التلفاز
كان يدندن بكلمات قصيدة
حتى سمعته يقول
: وأحبك كثر صقارٍ , تولع في محبة طير
قاطعته بسرعة وكأنها اكتشفت أمراً
: انت صققار !
ضحك ونظر اليها
: ايه , انا احبك انتي كثر ما احب صقري
ضحكت لاكتشافها ليقول
: رتيل قولي , كثر ما دلة الطيّب بريحة هيلها فاحت
هزّت رأسها نفياً وهي تضحك
: ما اعرف
: انا اعلمك يلا قولي , كثر ما دلة الطيّب
: كثر ما دلة الطيّب
: بريحة
: بريحة
: هيلها فاحت
: هيلها فاحت
كرر الشطر مرتين حتى حفظته
قال مبتسماً
: وأحبك كثر صقارٍ , تولع في محبة طير
تعلقت في رقبته مبتسمةً بدلال
: كثر ما دلة الطيّب , بريحة هيلها فاحت
ضحك وعانقها
: شطوورة *
ابتسمت ووجدت نفسها تدندن
: وأحبك كثر صقارٍ , تولع في محبة طير
كثر ما دلة الطيّب , بريحة هيلها فاحت
التفتت اليها داليا بضحكة
: الله الله
ابتسمت دون أن تجيبها
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة مساءً
دخل الى المطبخ ليبتسم ابتسامةً بسيطة وهو يرى شقيقته تعمل مع الخادمة
جلس لتلتفت اليه مبتسمة
: هلا سلطان
أشار لها ان تقترب
أحضرت ما تعمل به وجلست مقابلةً له
ابتسم وقال
: واصلتني أخبار عنك
عقدت حاجبيها لتسأله
: وش واصلك ؟
: يقولون أروى متغيرة , ما عاد هي البنت الحبوبة الطيبة اللي تجلس مع الكل وتسولف مع الكل ودايماً مبتسمة , صايرة جدية وانطوائية ودايماً ساكتة وحازمة وما تتكلمين مع أحد
صمتت ولم تجبه
قال بحنان
: ليش ؟
رفعت رأسها اليه وقالت بنبرة حادةٍ مرتجفة
: لا تسألني عن خطأ انت اللي علمتني عليه , لا تحاسبني على ذنب انت اللي وصلتني له
قال بعد صمت
: وش دخلني ؟!
قالت بسخريةٍ مريرة
: وش دخلك ؟! كم كان عمري يوم تركتني ؟ كم كان عمري يوم...
قطعت كلماتها وهي تعض على شفتها السفلى بأسنانها العلوية وهي تدافع عبراتها
ثم قالت باختناق
: انا ما عدت اروى الطفلة سلطان , اربع سنوات من عمري مو بس انت تأثرت وتغيرت فيها , انا تعبت فيها اكثر منك , انت هربت وانا واجهت , انت تركت كل شي وراك وانا شلت كل اللي تركته انت , انت كوّنت حياتك الخاصة وتركتني في بقايا الحياة اللي تحطمت من اربع سنوات , ما ابي اذكرك كل شوي انّ في شي صار من اربع سنوات , لكنّي واجهت الأربع سنوات بكل قسوتها , واجهت النظرات وواجهت مرض ابوي وانكساره , واجهت حزن جدتي , واجهت كلام الناس , انا كنت طفلة ! بنت " 18 " سنة وقفت قدام كل شي , وانت رحت تعيش
كان صامتاً ينظرُ اليها بضياع
كان من المحتمل والوارد ان يغضب ويقلب المنزل رأساً على عقب , كان يجب ان يحطم رأسها وينهرها ويردعها عن قولها
لكنّه أضاع كل الكلمات
وكأنه لم يتعلم يوماً كيف يتكلم
كأنه عاد طفلاً ذو عامٍ واحد !
تلعثمت الأحرف ووقفت كغصةٌ في حنجرته
كم تحملتي يا اروى لتنفجري في وجهي !
كم واجهتي من قسوةٍ لتنثريها علي الآن !
تركتكِ طفلةً خجولة , مبتسمة , مندفعةً الى الحياة
لتتحطمي حينَ أوليتُكِ ظهري !
تبعثرتي , وجمعتي نفسكِ لتكوّني شخصيةً جديدة تفردتي بها !
كم أبدو جباناً وقد تركتكِ لتواجهي ما توجب عليّ انا حمله
كم استصغر نفسي , حينَ اراكِ تحملتي همّاً يفوق عمركِ أضعاف المرات
حمحم ثم قال
: انا ما تركتك , انا خليتك عند جدتي وابوي ! مو مبرر انك تخلقين لنفسك شخصية جديدة , المفروض ما تتأثرين !
قالت بحرقة
: خليتني عند جدتي وابوي ؟ ابوي اللي يحتاج من يقوم فيه ! وجدتي العجوز اللي تحتاج رعاية وانتباه ؟ صح , انت صح يا سلطان المفروض انا الأنثى الضعيفة الصغيرة المكسورة الوحيدة ما اتأثر , ليش اتأثر , ما في شي يستحق اتأثر فيه , المفروض أظل مبتسمة وضاحكة دايماً
صمتت لتستعيد رباطة جأشها ثم قالت
: انا احتاجك انت ! انت اخوي وعضيدي وسندي , انت اللي كان المفروض توقف معاي , كان المفروض تشيل عني مو ترمي علي , ليش تركتني يا سلطان ؟ شلون هنت عليك تتركني , ما خفت علي أنهار ! ما قلت في نفسك انّ ذا الهم أكبر مني ! نفس السبب اللي خلاك تترك كل شي كان المفروض تفكر فيني اني ما راح أتحمله
صمتت لثوانٍ , ثم قالت بحدة
: بس انا اقوى منك وتحملت وواجهت
نهرها بحدة
: اروى !
قالت بحدته ذاتها
: ما يحق لك تسكتني ! الوقت ذا انت تسمع فيه وانا اتكلم
كفى !
كان يشعر بالانهيار من داخله من جلسة المحاسبة هذه !
كفّي يا اروى عن ارهاقي !
لستُ مثلكِ , انا رجلٌ وانكساري لا يشبه انكساركِ
كان يتهرب بعينه عن عينها
لا يتحمّل نظراتها المُتهِمة !
قالت بضعف
: احتاجك يا اخوي !
قال بنبرةٍ مقتولة
: وانا احتاج نفسي يا اروى ! لكنّي ضيعتها ! من اربع سنوات أدور على نفسي ولا لقيته !
قالت برجاء
: لا تتركني سلطان !
قال بتعب
: ما اقدر
كانت مؤمنةً أنّه سيقول " لا اقدر "
لذا قالت بسرعة
: طيب لا تقطعني ! خلني أكلمك , لا تنسلخ عني مرة ثانية طلبتك سلطان
هزّ رأسه ايجاباً وهو ينهض من مكانه
: ان شالله
تركها خارجاً من الطبخ
أرهقته بمواجهتها
هرب من المنزل ليختلي بنفسه
,
,
المملكة المتحدة – لندن
السابعة مساءً
قالت بتعب
: سعوود الله يهديك طالعين من بدري الحين بمووت جووع !
ضحك وهو يريح رأسه الى الطاولةِ أمامه مرهقاً
: لسا باقي ساعتين ونص
قالت بحنان
: افطر ! انت كنت مسافر يجوز
رمقها بنظرة واجمة
: الساعة سبعة باقي بس ساعتين وتبيني افطر !
ابتسمت ولم تُعقب
فتح هاتفه ليرسل رسالةً الى والده
( انا بفطر مع لين , بقفل الجوال , قول لأمي ونانا )
وأغلق هاتفه
نظر اليها مبتسماً
: تقومين نروح أي مكان بعدين نرجع على الفطور ؟
هزّت رأسها نفياً
: خلنا هنا , بنتعب من الفرفرة , ما قلت لي شلونهم أهلك هناك ؟
: الحمد لله طيبين – ضحك ثم قال – طبعاً جدتي معصبة مني لأني ملكت وما درت الّا يوم رحت لها , وأرسلتلك هدية
تأوهت محرجة
: تسلم عليك , وعماتي بعد يسلمون عليك
ابتسم بنعومة
: الله يسلمهم
قال بزفرة
: عزوز سافر , انا وصلت وسلمت عليه وهو طلع للسعودية
قالت مبتسمة
: كم لك تعرفه ؟
ابتسم بمحبةٍ أخويةٍ صادقة
: تقريباً اربع سنوات
: وخالتي سارة من متى تعرفها ؟
: يعني ثلاث سنوات ونص يمكن , عرفتها لأن عزوز جارها
تحدثا لبعض الوقت
قال وهو يتنهد
: اليوم انشغلت وما زرت المقبرة , بكرة ان شالله بروح
قالت مستغربة
: تزور مين ؟
ابتسم بحنين
: جدي الله يرحمه ويغفر له , وبوب
قالت بتردد
: مين بوب ؟
نظر اليها بصمت
قالت محرجة
: سوري , ما اقصد اكون فضولية
ابتسم بهدوء وقال
: عادي ! بقول لك
زفر ثم قال
: لمن كان عمري " 12 " سنة , تركوني امي وابوي وجدتي في البيت , كانوا معزومين وظلّيت نايم والخدم موجودين , قدّر الله وصار حريق في ذاك اليوم , وغرفتي بعيدة والوصول لها خطر , جات فرقة الإنقاذ , ومنهم كان بوب
*صرخ وهو يتراجع مرعوبٌ من النار
سمع أصواتاً قريبة ليهتف برجاء
: أرجوكم فلينقذني أحد !
فُتح الباب وظهرَ رجلا إطفاء
قالَ أحدهما برفض
: لا يُمكن أن أدخل , كل شيءٍ هنا محترق ! سنموت ان دخلنا !
صرخ سعود بخوف
: سيدي انقذني !
اقترب رجلٌ يناهز الأربعين من عمره ليصرخ بهما
: ايهالأحمقان ألا تريان أنّ الطفل يستنجد !
دفعهما ودخل
قال بلطف
: لا تخف يا صغيري ! – اقترب وهو يبتسم ليُلهِيهِ عن النار – حسناً ما اسمك !
قال بخوف وهو يبتعد أكثر
: سعود
: سآود ! اسمك جميل
اقترب أكثر وبحركةٍ سريعة سحبه , لكنه لم يحسب خطواته جيداً وهو يلتفت لتقعَ خشبةٌ محترقة على ظهره , صرخ بلوعة وفَلتَ سعود من يده ليسقط أرضاً وتحترق ساقه من الخشب المحترق
حينها وصلت فرقةٌ أخرى مساندة لتخمد الحريق من الجهة الأخرى للمنزل , جهة غرفة سعود ! *
ازدرد ريقه وصمت
شعر بأن عينيه تُحرقانه
قال باختناق وهو يجاهد ابتسامته
: لين بعدين أكمل لك السالفة
قالت بقلقٍ عليه
: طيب مو مشكلة , انت كويس ؟
ابتسم رغماً عنه
: كويس
أشاح بوجهه عنها وهو يتنفس بقوة ويتذكر تفاصيل ذلك اليوم
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الواحدة وخمسٌ وأربعون دقيقة بعد منتصف الليل
فتحَ باب المنزل ودخل بهدوء
خرجت والدته من المطبخ لتبتسم وتقترب منه
قبّل رأسها وأحاط كتفيها بذراعه
قالت بحنان
: وين كنت يمه ؟ توّك اليوم واصل من الحين بدَت مشاويرك
قال بابتسامةٍ حزينة
: زرت بندر
تغيرت ملامحها واحتقنت عينيها بالدمع
قبّل رأسها وهو يقول بضحكة
: لو داري بتبكين ما قلت لك
جلسَ وقالت
: الله لا يجعلني معترضة على قضاءه , بس قلبي يا عزيز يوجعني من طاريه
زفر ولم يُجبها
تركته وهي تقول
: الحين بجيك
خرجت ليدخلن شقيقاته الثلاث
جلست أصغرهن ملاصقةً له وقبّلت وجنته
: حيّ من لفانا
ابتسم وهو يستريح في جلسته
قالت أكبرهن
: تهاني وخري عنه كتمتيه
اقتربت منه أكثر
: ماا ابي – قبّلته مرةً أخرى – وه فديته أنا حبيب أخته
ضحك وابعدها
: اهجدي – التفت الى اخته الكُبرى – شلونك ام بندر شلون زوجك وعيالك
ابتسمت
: الحمد لله , انت بشرنا عنك , شلون دراستك وحياتك
زفر وهو يقول
: والله ماشي الحال , لندن كريهة , مهوّن علي سعود
قالت تهاني بضحكة
: عزوز ضبطني مع خويك , طقيت اثنين وعشرين ومحد طق بابنا
التفت اليها بنظرةٍ متهكمة
ضحكت وهي تبتعد عنه
: امزح امزح – التفتت الى غالية شقيقتها – شوفي نظرته يمما
قالت غالية مبتسمة
: تستاهلين , قليلة ادب
قالت الكبرى بجدية
: تهاني عيب ذا الكلام
اقتربت تهاني لتقول بصوتٍ خافت
: أميرة صايرة تخوّف , مستقعدتلنا على الكلمة
نظرَ اليها ببرود
: يا شيخة !
دخل والدهم وانضم اليهم
ثم جاءت والدتهم
قال والدهم
: والله اشتقت لذي الجمعة , غالية واميرة انشغلوا بحياتهم وانت مسافر , ما غير مقابلين تهاني هبّلت بنا الله يصلحها
قالت تهاني معترضة
: اشوف ما عاد تعجبك تهاني ! من اللي يقهويك ومن اللي يقرى لك الجريدة ومن اللي...
قاطعها وهو يضع يديه على رأسه
: اووه , خلاص خلاص ادري والله اسكتي
جلست وهي تنفخ صدرها
: ايه على بالي بعد
ضحك عبد العزيز والتفت الى شقيقتيه
: وين عيالكم ؟
حمحمت تهاني ليصمت
التفت اليها مستغرباً
والتفتتا اميرة وغالية الى والدتهما تتحدثان اليها
عقد حاجبيه من تصرفاتهن , لكنه صمت
نظر اليه والده
: كم باقي لك عزوز وتخلص ؟
ابتسم بهدوء
: سنة ان شاء الله
عدّل والده جلسته
: ايه على خير , نبي نزوجك
ضحك ولم يعلق
ظناً منه أنها مزحةٌ فقط !
ولم يعلم أنّ والديه قد أعدّا الأمر وانتهيا منه فقط ينتظران أن ينتهي من بعثته !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة صباحاً
قبّل رأس والدته وهو يقول
: يلا يمه , توصيني على شي
مسحت دمعاتها وقالت بغصة
: خلّك يا مالك ! انا وش دخلني في ولد عمك , هو يشيل همّه ويدبر عمره , انا وش ذنبي تفارقني عشانه !
قال بجدية وهو يبتعد عنها
: يمه قلتها قبل وبقولها الف مرة بعد , سلطان ما اخليه لين يجيني الموت , ان رجع السعودية فخيراً على خير , وان كان ما يبي يرجع والله ما اخليه
بكت والدته وابتعدت عنه
ودّع شقيقته وهمس في اذنها
: حلليه يا لينا !
قالت مبتسمة وهامسة
: حللته من يومها ! لا تشيل هم
قبّل رأسها براحة
: الله يرضى عليك ويعوضك خير
ودّع والده وخرج لِحسن ابنِ عمه ليذهب الى منزل جدته
,
جلس على الأريكة وهو يلبس جواربه
اقتربت شقيقته لتضع حذاءه بجانبه
قالت جدته بحزن
: والله ما شبعت منكم
ابتسم بهدوء
: اسبوعين يا ام مساعد !
قالت بحسرة
: وش تسوي الاسبوعين عقب اربع سنين يا سلطان !
: والله الشغل يمه , طويل العمر كلمته قبل يومين قال الشغل محتاجنا !
قالت بغضب
: الله ياخذ...
قاطعها بحنان
: انتي صايمة يا بعد هلي
استغفرت بهمس وقالت
: اللهم اني صائمة
نهضَ أخيراً وقد انتهى من ارتداء حذائه
ذهب الى غرفة والده وودعه بحنان وعطف
ثم عاد الى جدته
جلس عشرةَ دقائق حتى وصل مالك
خرجت اروى من غرفة جدتها ليدخل مالك
دخل وهو مبتسمٌ , ثم عقد حاجبيه
: آأوو , وش فيك يمه !
أشاحت ببصرها عنه ليغمز له سلطان
اقترب وقبّل رأسها وهمس
: لا تزعلين طلبتك , للحين ما تشافى سلطان ! ان تشافى والله بيرجع لك من غير لا تطلبينه
زفرت ولم تجبه
كم تعشق مالك وكلماته التي تقنعها وتبدِدُ غضبها
بعد أن ودّعها ابتعد لينحني سلطان اليها ويقبّل رأسها ويديها
يؤلمني أن افارقكِ , لكنّ بقائي فوق طاقتي !
اعذريني يا من ضممتيني اليكِ من طفولتي
سامحي قلبي الذي تعلق بقلبكِ
سأُفارقكِ مرغماً !
بكت وهي تضمه
تشعر ان روحها هي التي تُسلب منها في كلّ مرةٍ تودع أحد احفادها !
ينسلون منها واحداً تلو الآخر
ويغيبون بلا عودة !
حتى تترجاهم , وينقطع صوتها من رجاءاتها
كم تقسون عليّ يا احفادي
سمحتم للحياة بأن تأخذكم من حضني !
فارقتني اربعةَ أعوام وها انت ستفارقني مجدداً
تركتني ارعبةَ اعوامٍ لتتركني الآن ببرود !
ارحل يا سلطان , سيبقى قلبي ينتظرك !
وتترقب عيناي وصولك
ابتعد عنها وهو يقول
: لا تزعلين يا ام مساعد , خلي حبي لك يشفع لي عندك
قالت بغصة
: روح يا ولد قلبي مسموح , الله بيردّك لحضني !
خرج ليذهب الى اخته
التي عانقته بكلِّ قوتها بصمتٍ مُطبق
ابتعد عنها بعد دقيقتان ومسح على شعرها
: الله الله في نفسك وفي ابوي وجدتي
قالت مبتسمةً بِصبر
: وانت خلْ بالك على نفسك , ولا تقطعنا فديتك
قبّل جبينها باحترام
: ما بقطعكم
قبّلت كتفه وسمحت له بالابتعاد
ابتعد وهو يزدرد ريقه
اكبرُ مني انتِ والله يا اروى !
ابدو لا شيء بجوارك !
تحملُكِ وصبرك
ابتسامتكِ الهادئة !
ماذا اقول عنكِ يا صغيرتي التي تكبرني !
خرجَ أخيراً مع ابنِ عمه مودعاً المملكة مجدداً
ولا يعلمُ كم سيطول الوداع هذه المرة !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثامنة والنصف مساءً
خرجا من المنزلِ مسرعين
ركبا والتفت خالد الى فيصل
: اطلع على بيت خالة وليد
اتصل على وليد الذي أجابه بعد رنتين
: هلا خالد
قال بعجلة
: اجهز جايينك , كلمني عبد الاله يقول الشباب موجودين في الاستراحة
نهض وليد وقال يهدأه
: طيب انا جاهز , انت هدْ أعصابك
قال بارتباك
: لا لا انا هادي
ودّعه وأغلق الهاتف , التفت بزفرةٍ الى فيصل الذي تأبط شراً !
,
,
الى الملتقى :)