بسم الله الرحمن الرحيم
البارت العشرون
,
,
المملكة العربية السعودية – الشرقية
السابعة مساءً
نزلا الدرج وهمّا بالخروج
نادته روان بملل
: وليد
التفت اليها دون ان يتحدث
: بتطلعون ؟!
: ايه
: خذني معاكم !
قال بهدوء
: خليها على مرة ثانية
قالت بتذمر وتمرد وهي تضرب قدمها بالأرض
: انت وش ذي القسوة اللي فيك , ليش تكرهني ! انا اختك ! ما تحب تجلس معاي ولا تطلعني معاك
نظرَ اليها بحدةٍ وغضب
وبعنفوان المراهقة لم ترتدع , ولم تكسِر نظرتها أمام أخيها الأكبر
نهرتها والدتها وضربتها بعصبية
: لا ترفعين صوتك وتطولين لسانك , انقلعي لغرفتك
تأففت وتركتهم صاعدةً الى غرفتها
سارَ وليد بغضب الى الباب وملاك ممسكةٌ بذراعه تهمس
: وليد ما عليك بزر ما تفهم
قالت ام فهد بارتباك
: وليد لا تاخذ على كلامها بزر !
نظر اليها بحدة
: البزر ما تقول شي ما سمعته من اللي اكبر منها
شهقت ملاك وهي تضربه بخفة ليصمت ونظرت اليه زوجةُ أبيه بصدمة
: وش قصدك !
: فهمك يكفي يا ام فهد
تركها وخرج
التفتت ملاك اليها باعتذار
: لا تزعلين منّه هو صاير ما يتحمل ذي اليومين
وتبعته مسرعة
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
قالت ببطئ
: وش قلت ؟!
ازدرد ريقه وهو يكرر
: انا بسوريا
مرت ثوانٍ ثقيلة
حتى شهقت بحدة وانزلق الهاتف من يدها
نظرت الى خالد وصرخت
: الحق عليه الولد يقول بسوريا
عقد خالد حاجبيه ليستوعب , واسرع فيصل لهاتف والدته ليكلمّ شقيقه
قال بغضب
: وينك يا كلب
قال بهمّ
: فيصل انا في سوريا
صرخ به
: الله ياخذك قل آمين , اخلص علي مو فاضي لهبالك وينك فيه
قال بلوعة
: والله في الشام , ابي اجاهد
صمتَ لثوانٍ وهو ينظر الى والدته
قالت أمه بجزع
: وينه !
لم يُجبها
صرخت بانهيار وجلست على الأرض تضرب رأسها بيأس
أوقف خالد يدها وهو يقول بصوتٍ عالٍ
: يمممه يمه تعوذي من ابليس
: رجعووووه , رجعوا ولدددي رجعوووه
قال بندر برجاء
: فيصل خلني أكلمها
قرّب الهاتف من اذنها لتسمع بندر يرجوها
: يمه تكفين اسمعيني , انا رايح أجاهد رايح لرب العالمين , تكفين هدّي يمه
قالت بحدة وصراخٍ لم تسيطر عليه
: والله مو راضية عنك يا بندر , والله مو راضية عنك , ارجع يا بندر والله ماني راضية
قال بوجع
: لا تساوميني على رضاك يمه
صرخت به وهي تضرب صدرها
: والله ما ارضى عليك جعلك تموت وانت منت ناطق الشهادة
رمت الهاتف بعيداً عنها وتمسكت بخالد
: جيبه يا خالد , جيب ولدددي ردّه يا خالد
قال خالد بمحاولاتٍ يائسة
: يمه بأرجعه والله , هدّي لا يهبط الضغط
صرخت به
: خلّه يهبط رجع الولد , رجعه لا يمووت – صكت وجهها بجزع ناسيةً نهي الرسولِ عن ذلك – بنددددرررر , رجعوووه رجعوا ولدددي بيذبحوونه
,
,
المملكة العربية السعودية – حائل
الرابعة عصراً
تلفتت رتيل حولها بابتسامة
: يا جمالها سبحان الله
قالت هديل مؤيدة
: ايي , أجمل مناطق المملكة , ربيعها يفتح النفس
قالت داليا بشقاوة
: صحراء نجد احب لقلبي منها
نظرتا اليها بتهكم , فضحكت
مدّت أم علي لرتيل سلةً صغيرة
: رتول انزلي لعمك والشباب خذي لهم القهوة
عدّلت عباءتها وأخذت السلة وذهبت
كنّ يجلسن على تلة مرتفعة قليلاً
والرجال يجلسون أسفلها بمحاذاة الشارع
نزلت واختفت عن أعين النساء ولم تظهر للرجال بعد
كانت تسير ببطئ وهي تفكّر بعمق
كم تتمنى لو كان صقر موجوداً
كم كانت رحلتهم ستكون أجمل
كم سيكونُ قلبها فرِحاً مسروراً
ابتسمت بشرود وعينيها تراقب العشب دون أن ترفع رأسها
,
أوقف السيارة وابتسم
: مشالله زحمة , تلاقيهم اهل نجد وحولها جايين يصيفون
ابتسم دونَ تعليق
: طيب انزل انت وانا ابوقف السيارة زين والحقك
: طيب
نزل من السيارة وراح يتمشى ببطئ صاعداً التلّ
كانَ يسير وهو يراقب العشب وذهنه شارد
,
اصطدمت بجسدٍ غليظ فتراجعت فوراً وهي تشهق بقوة
لم تجرؤ أبداً على رفع رأسها
قالت بارتجاف
: معليش
وأسرعت للجهة الأخرى لتنزل التل متوجهةً الى عمها وابنه وأخويها
,
لم ينتبه أنه يسير دونَ تركيز الا حين اصطدم به جسدٌ صغير وفوراً ولّى هارباً
رفعَ رأسه ليراها من الخلف
لا تزال نبرتها تُحدث صداً في رأسه
" معليش "
ابتسمَ وهو يتخيل أن تكون قريبته !
زوجته أو شقيقته !
ضحك بخفةٍ من نفسه وظنونه , دوماً يُخيلُ له أنّ هذا شقيقه وذاكَ ابنُ عمه وتلك زوجته والأخرى أخته والمرأة العجوز المتعبة أمه !
عاد أدراجه وهو يتنهد ويتصلُ على يوسف
,
,
المملكة العربية السعودية – الشرقية
الرابعة عصراً
دخلا للمنزل وهمّا بصعود الدرج دون القاءِ التحية
قال ابو وليد بهدوء
: وليد ابي أكلمك
التفت اليه ببرود
: بخصوص ؟
نهض وقال
: تعال ونتكلم
: بوصل ملاك
أوصلَ ملاك الى غرفتها واطمئن الى اغلاقها للباب ونزل
توجه الى مكتب أبيه ليستمع الى ما يريده
قال والده بهدوء
: طبعاً ما راح أحاسبك انّ اخوك له اسبوع قام من العملية والى الآن ما تحمدت له بالسلامة , ولا بأقولك ليش تعاقب اخوك بذنب غيره
ابتسم بسخرية وهو يقول بلا اهتمام
: اللي بعده
تماسك والده وتحكم بأعصابه وهو يقول
: لمتى بتعاملني على اني عدوّك ؟
قال بهدوءٍ وفلسلفةٍ ساخرة
: لين تدلني على أمي
نظر اليه والده بعمق , ثم قال
: انت ما تؤمن بالموت !
ضحكَ بسخرية ثم قال
: الموت ! وش طاري عليك يا ابو وليد أول مرة تكلمني عن جريمتك بأمي !
: انا ما اجرمت فيها !
هزّ رأسه مستهزئاً
: ايه صحيح انت طيّب وهي جانية
تنهد والده وصمت قليلاً قبل أن يقول
: امك توفت يا وليد , توفت من زمان
قال ببرود
: والميت ما له قبر يزورونه ؟
: ما تصدقني !
: للأسف !
: انا ابوك !
: ابوي اللي أجرم بأمي ! ابوي اللي ما أعرف معنى ابوته
قال بألم
: طول حياتي حاولت أضمك لي وأحسسك بأبوتي وانت اللي صديت
: بعذري أصد , وانا أمي مختفية من عمري ثمان سنوات وانت الجاني , تبيني أحبك واتودد لك مثلاً ؟
قال والده بتبرير
: انا مو مسؤول عن اختفاءها , جدك الله يرحمه اللي أخذها وبعد فترة توفى وعرفنا انها متوفية من قبله , يعني بعد ما اخذها على طول !
نظر اليه بجدية
: ما راح أصدقك الا بدليل
صمتَ قليلاً ثم قال باستسلام
: بوديك قبرها
جحظ بصره بصدمة
ظلّ عاجزاً عن الردّ لثوانٍ
يأخذني لقبر أمي !
لَمْ أُصدقه يوماً , فلِمَ أُصدقه في موتها وانا الذي عشت عُمري أنتظر لحظةَ عناقها !
كيف يخبرني ببرودِ العالم أنها ميتة وأنه سيأخذني لقبرها
وانا الذي أنتظرتها اثنان وعشرون عاماً بكل اشتياق العالم واللهفة الملتهبة للقاء
اكذب مجدداً يا ابي
لا تقلْ بأنها ميتة !
ذاك الوجه الطاهر , والبسمةُ العميقة , والروح الطيّبة
كيف تموت !
هل ماتت أمي حقاً
هل مات الطيِبُ ورحلَ الجمال عن هذا العالم
كيف لم تأبه بِ أسَى قلبي !
كيف لم يخطُر على بالها احتياج ملاك !
كيف تموتُ أمي ويبقى الشرّ في الكون
كيف ترحلُ امي عن الحياة
قال بصعوبة
: امي ميتة ؟!
قال والدُه بحزن
: من زمان يا وليد ! انت ما فكرت بأن اثنين وعشرين سنة كثيرة على اختفاء شخص موجود ! امك فارقت الحياة بعد ما فارقتك بأشهر
هزّ رأسه بعدم تصديق
اختنق ولم يعد يستطيع التنفس
لا زلت أحتاجكِ والله
لا زلتُ لم أروِي قلبي منك وانا الذي انتُزِعتُ من حضنكِ انتزاعاً وانتِ تهتفين " أمنتك على ملاك يا وليد خلك رجال وارعاها "
اقترب منه والده
: وليد !
قال بتعب
: خذني لها
: ملزم ؟
نظر اليه بشراسة
ها أنتَ تكذب كما عهدتك
ها هي صورتكَ الحقيقية
أمي لم تمت
شعرَ بأن قلبه يتراقص بابتهاج
نهض وقال بحدة
: شفت انك ما تصدق
أمسك والده بيده وهو يقول
: انتظر لحظة ! اذا تبي أبوديك
قال بتحدٍ وهو موقنٌ بأنه سيتهرب وبأن والدته لا تزال على قيدِ الحياة
: يلا مشينا
قال والده مستسلماً
: مثل ما تبي , مشينا
سارا خارجين من المنزل , وقد نسيّ وليد أمرَ ملاك من فرط اضطرابه
وفي داخله احساسان متضادان
خوفٌ جامح
وفرحٌ خائف
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
مطار الملك خالد
السادسة مساءً
نزلا من الطائرة بمشاعرَ لم يسبق لها أن لامست قلبيهما !
ارتباكٌ وتوتر
ارتجافةُ قلب
أحدهما لا تكاد الأرض تحمله من سعادته واشتياقه
والآخر تكاد السماء تصرخ في وجهه أن ابتسم !
والأرض تهتز من تحته , أن امشي على هونِك !
واجمٌ بشدة
وتنفسه ضيق
وارتجافةُ يدِه واضحة فيدسها في جيبه كي لا يراها أحد
انتهيا من اجراءاتهما
وسارا الى بوابة الواصلين
تأفف سلطان لينهره مالك
: لا تنكّد علي من أولها , يكفي انك أخرتنا اسبوع !
مرّ عامٌ لم يرَ أهله !
عامٌ مضى لم يترك سلطان رغم أنه لثلاثة أعوامٍ سابقة كان يتركه اسبوعاً كلّ ستةِ أشهر
بحثا في وجوه المنتظرين ليجدَا ابنَي عميهما
سعود وحسن
ابتسم مالك وسار مسرعاً اليهما
هتف سعود
: حسسن شوفهم
اقترب من الحاجز الفاصل بينهما ليعانق مالك بشدة
واقترب حسن ليعانق سلطان الواجم
قال سعود
: الله حيّهم هلا والله
قال مالك مبتهجاً
: سعود ي حيي , حيّ ذي الشوفة
سلّم سعود على سلطان ومالك على حسن
وخرجوا من المطار
ركبوا سيارة حسن
التفت سعود اليهما مبتسماً
: كذا يا قليلين الخاتمة لي اسبوع هنا توكم تشرفون
قال مالك بقلة حيلة
: واللي معاه هالغول يقدر يعيش !
ضحك سعود وهو يضرب فخذ سلطان بخفة
: حيّ الله ابو مساعد
: الله يحييك
قال حسن بصدق
: والله انّ فرحتي اكتملت بوجودكم الثلاثة
ردّوا بأصواتٍ متفرقة
: الله يسلمك
وصلوا الى المنزل الكبير
أمسك سلطان بيد مالك وشدّ عليها
كأنه يخبره بشدِه عليه أنه خائف !
كأنه يرجوه أن لا يتركه ولا يبتعد عنه
ابتسم له مالك مطمئِناً
وقال هامساً
: سَم بالرحمن ! أهلنا داخل كلهم منتظرينك , ما بيصير شي بنسلم عليهم وبنستانس معاهم , يلا سلطان
ازدرد ريقه ونزل من السيارة
كانت نظرته ووقفته وعقدة حاجبيه
تنمُ عن جمودٍ ولا مبالاة وثقةٍ عمياء
بينما كان داخله احساسُ طفلٌ يتيم مشرَدٌ في العراء خائف من أصواتِ الغرباء
ابتسم سعود وهو يتقدمهم
: شوي شوي على قلب جدتي ! خايف عليها يجيها شي لا شافتكم
ضحك مالك
: انا اخف من هالكلب اللي له اربع سنين عنها
نظر اليه بحدة فقال بتراجع
: خلاص امزح
فتحَ حسن باب المنزل وسعود خلفه
قال سعود بصوتٍ عالٍ
: يا جماعة , وصلوا مالك وسلطان
ارتفعت الأصوات والشهقات , وبعض الصرخات !
خرجت الجدةُ من أول غرفةٍ على اليمين
شهقت بلوعة ودموعها تبلل وجنتيها
: ياا وجه الله , ياا وججه الله
شعر سلطان بقلبه ينخلع من جوفه ليتدحرج على الأرض الصلبة
وهو يرى دمعاتِ هذه العجوز وضعفها ! بكاءها وعدم تصديقها لرؤيته
اندفع اليها دون ان يشعر بخطواته
عانقها وخبأ وجهه في كتفها
كان منحنياً بطوله الفارع الى قُصرِ قامتها
كانت تشهق بلا تصديق وهي تتلمسه وتبكي
: ياربي لك الحمد والشكر , ياربي لك الحمد الف مرة يومك ذكرتني ورجعتّه لحضني , آآآه يا سلطاان آآه يا بعد روحي
أربعةُ أعوامٌ يا ابن قلبي لم أرك فيها !
أربعةُ أعوامٌ كنت أنام فيها كلّ ليلةٍ وأنا أدعو الله أن يطيل عمري لليوم الذي بعده علّني أراك
أربعةُ أعوامٍ تقتلني فيها بحرماني منك
آهٍ يا سلطان كم أتعبتني
كم ظننت أن قَلبي ثكل وروحي ذبلت
شمّت ائحته وهي تبكي بصدق وتتمسك به
أخفى سعود تأثره بضحكةٍ لطيفة أتبعها بنبرةٍ حنونة
: يممه شوي شوي على نفسك
ابتسم مالك بحزن والتفت الى صوتٍ يناديه من الغرفة المقابلة
: ماالك !
توجه الى الغرفة بلهفة
دخل وعانقها بقوة
: يممه يا روحي انتي
قالت ببكاء
: يا روح امك وقلبها , يا بعد كلي يا مالك
قبّل رأسها بابتسامةٍ على لهفتها
ابتعد والتفت الى شقيقته
التي قفزت وتشبثت به
: ملووووك
ضحك وهي يدور بها ثم أنزلها ليعانقها
: يا حياتي انتي , كبراانة
ضحكت وهي تبتعد عنه لتمسح دمعاتها
ناداه سعود
: ماالك تعال سلم على ابوك عمامك
خرج مسرعاً ليجتذبه سعود الى صالة الاستقبال في نهاية الممر
كانت الصالة ممتلئةً بالرجال
شباباً وشيباً
حينَ انتهوا من السلام وهمّوا بالجلوس
أمسكت الجدةُ بيد سلطان لتهمس
: أختك وابوك في غرفتي
لا ! لا أحتاج لأن تذكريني بهما
كفاني الى هذا الحد سلامي عليكِ
لا أحتمل رؤيةَ أبي وأروى ! قد أُصاب في مقتل
نظرَ الى مالك باستنجاد
كان مالك يجلس بين والده وابناءِ عمومته
ابتسم له ونهض مقترباً منه
: وش فيك
قال برجاءٍ هامس
: ابي أطلع ما ابي اشوف اروى وابوي
قال مالك بحدة
: سلطان استح على وجهك ! اللي يشوفك ما يقول ذا صك الثلاثين ! في احد يخاف يشوف ابوه واخته ؟ تعوذ من ابليس وانقلع
قال ابو مالك
: لكم اربع سنين مع بعض خلكم معنا شوي !
كفوا عن ترديد كلمة اربعةِ أعوام
تطعنني بشدة
تعيدني الى يومٍ انقتلت فيه آلاف المرات
الى يوم كُسر فيه ظهري
الى يومٍ قتل فيه سلطان , وولد سلطان آخر
التفت مالك الى والده مبتسماً
: سألته عن شنطة الجوازات اذا معاه او لا
قالت الجدة مجدداً
: سلطان ابوي ! تعال يمه اختك متشفقة على شوفتك
زفر بارتجاف وخرج معها
دخل الى الغرفة وفوراً شهقت اروى واندفعت الى حضنه تهتف بعذاب
: سلطااااان
ظلّ على وجومه لثوانٍ
استعصى عليه رفع يديه ليبادلها العناق
صعُبَ عليه ان يبادلها اشتياقها
كانت تهذي بكل شيء
بعتابٍ واشتياق وشكاوى
رفع يديه بصعوبة وربت على ظهرها وهو يقول بوجوم
: عساك على وعدك يا اروى
ابتعدت عنه ونظرت اليه بابتسامةٍ كسيرة
: والله على وعدي ما نقضته
أبعدها واتجه الى والده الذي لم يلتفت الى كل الفوضى التي حصلت
وهو يسمع نشيج جدته من خلفه
ركع أمام والده وأمسك بيده
: يبه
نظر اليه ثم فاضت عينيه بالدمع
شدّ على يدِ ابنه بضعف وهو يتمتم بصعوبة
وكأنو يشكو اليه
قبّل يدَه وهو يقول باختناق
: ادري والله ادري
ارتفع بجسده قليلاً ليعانقه
ظلّ ثوانٍ طويلة يشد عليه , والكهل يبكي ويشتكي بهمهمات لا تُفهم أبداً
اقتربت أروى حينَ اشتد الكرب بأبيها وأبعدت شقيقها عنه
قالت ببحة
: سلطان ابوي ما يتحمل
نهض ونظر اليها بجدية
: أروى سألتك بالله...
قاطعته بصدق
: والله واللي رفعها سبع وبث فيني الروح اني ما أخلفت وعدي
قال بانكسار
: لا تكسريني يا أروى , لا تلوين ذراعي فيك
اندفعت اليه وهي تبكي وتقول بحرارة
: ما عاش من يكسرك ويلوي ذراعك يا بعد هلي
,
,
المملكة العربية السعودية – الشرقية
توقف أمام المقبرة والتفت الى ابنه
: تنزل ؟
ارتجف فكّه وهمّ بالتراجع
التفت الى والده ونظر اليه بضياع
هل تكذب مجدداً يا أبي ؟
أرجوك اكذب وسأسامحك على هذه الكذبة
سأقبّل رأسك بامتنان
اكذب يا أبي فصدقك لم يَرُقْ لي
اكذب يا ابي فأنت لا تجيد الصدق !
ها انت تصدق وتقتلني
هزّ رأسه ايجاباً
ثم قال بتحدٍ لوالده " الكاذب " !
: يلا ننزل
رفع والده كتفيه باستسلام ونزلا
دخلا الى المقبرة ووجلت قلوبهما
تمتما بتحية القبور
وسار الأب يتقدمُ وليد بخطوتين
الى أن توقف أمام قبر والتفت لابنه
: تعال ! سلّم على أمك
ازدرد ريقه واقترب
أنت تكذب !
ليس بقبرِ أمي
ليست أمي الراقدة هنا
اقترب ونظر الى القبر مكرهاً
سقطت عينه على اللوحة الصغيرة المُعرِفةِ بِصاحبِ القبر
" لطيفة بنت فلاح السلمان – 1414هـ "
اختل توازنه
وأُغلِقت الشعبُ الهوائية التي تسمح له بالحياة
توقف قلبه عن الضخ
ضاعت نظرته في اللا شيء
ارتجفت شفتيه بمحاولةٍ للتنفس
مرّت ثوانٍ ليتماسك وهو يشعر بكفّ والده تربت على كتفه ويقولُ بنبرةٍ دافئة
: وليد ! هذه أمك , ما كنت أبيك تعرف لأني أدري انك منتظرها , وادري شكثر بتتألم اذا عرفت بموتها , يا يبه انسى اللي صار ! انا ابوك واحتاجك وتحتاجني , اشتاق لك واشتاق لملاك ولا اقدر اجلس معكم ولا اعطيكم ولا اعيش معكم مثل أي أب وعياله , سامح وانسى يا يبه , العمر يمشي والموت ما بيستأذن اذا جا
صمتَ قليلاً ثم قال بهدوء
: اتركني معها
: بنتظرك بالسيارة
ابتعد عنه وخرج من المقبرة
جلس وليد على ركبتيه وهو يملأ رئتيه من رائحة القبور !
قال بارتجاف فكّيه
: كذا يا ام وليد تفجعيني فيك ! كذا يا يمه تتعبين قلبي وتشقينه ! آآه يمه شكثر اشتقت لك وشكثر انتظرتك وشكثر تخيلت لقانا , واليوم أنصدم انك مو موجودة ! أول مرة يصدق ابوي ويكون صدقه مثل الخنجر بالقلب , ما ابي صدقه يا يمه خلّه يكذب طول عمره ولا مثل هالصدق – تهدج صوته وهو يحاول برغبةٍ حقيقية أن يبكي لكنه عاجز – ابي ابكيك يا يمه ومو قادر , عجزت عيوني تنزل دموعها عليك ! شلون اعيش الحين ! شلون أنام بدون لا أحلم اني بشوفك بكرة ! كذبت على ملاك وربي ابتلاني وطلعت حقيقة , من وعَت ملاك على الدنيا قلت أمك ميتة وانا امك وابوك واخوك , وهذا انا بعد اثنين وعشرين سنة انتظار تطلع امي ميتة ! يا كبر فجيعتي فيك يا يمه , يا حدة الوجع اللي سكن قلبي من اليوم عليك يمه , يا قسوة الحداد اللي في روحي عليك يمه
ظلّ أمام القبر يرتجف رُغمَ لطافة الجو
لا يستطيع التنفس بأريحية رُغم أنّ ملابسه مريحة
أطالَ الجلوس حتى عادَ والده واقترب منه بقلق
: وليد وش صار لك ؟
رفعَ رأسه الى والده ووجهه يثير الريبة
أسنده والده اليه وساعده على المشي وهو يلتفت الى القبر دون ان يتكلم
قال والده
: الله يهديك يا يبه ! مقبرة هذه شلون تجلس فيها كل هالوقت !
قال بلا تصديق
: امي ماتت !
لم يستطع والده اجابته
جلسا في السيارة وأسندّ وليد رأسه الى الشباك بضعف
نعم هو ضعيفٌ الآن !
هو متعب ! ويحاول البكاء !
قال والده بتردد
: وليد !
لم يجبه وصدّ بنظره عنه ليصمتَ الأخير
وصلا الى المنزل ونزل وليد قبل والده
دخل الى المنزل ليجدَ زوجةَ أبيه أمامه
قالت بابتسامةٍ وارتباك
: وليد !
لم يجبها وصعدَ الى الأعلى فوراً
طرق باب غرفة شقيقته
فتحت الباب بابتسامة وحينَ ورأت ملامحه اختفت
دخل وعانقها بشدة
قالت بتردد
: وليد !
قال باختناق
: امنا ماتت يا ملاك !
قالت بخوف
: الله يرحمها , بسم الله عليك حبيبي امي ميتة من اثنين وعشرين سنة !
ملأ رئتيه هواءً بارتجاف وظلّ معانقاً أخته لثوانٍ حتى ابتعد ومسح على شعرها وهو يقول
: ملاك , خلاص حبيبتي متى ما تبين تنزلين انزلي واذا ما تبين تقفلين الباب براحتك , وراح يصير أكلنا هنا , واذا تبين تطلعين مع ابوي او فهد مو مشكلة
قالت بصدمة
: منجدك !
ابتسم مرغماً وقبّل جبينها
: تصبحين على خير
أمسكت بيده بسرعة وهي تهتف
: لحظة وليد
التفت اليها وهو ينتظر أن تتركه ليختلي بنفسه
قالت بقلق
: وش صاير لك !
هزّ رأسه نفياً
: مافي شي ! بس اُمي ميتة الله يرحمها وابوي ومرته وعياله مالهم دخل !
كان يقصد أمي متوفيةٌ منذُ أعوامٍ طويلة ! وليست مختفيةً كما ظننت أنهم من أخفوها وابعدوها عنوة !
ترك ملاك ليدخل غرفته ويغلقَ الباب
ليقيمَ مراسِم العزاء وحده !
ليشكو فقدها لجُدران غرفته
ويبكيها على مخدته
لينعى فراقها وحيداً بعيداً عن العالم
اقترب من سريره وعينيه مركزةٌ على صورتها
جلس وأمسك بها وقربها اليه
قال بهمس
: شلون خذاك الموت ! شلون انتي ميتة كل هالسنين وانا ما أدري
ضمها الى قلبه وهو يتنفس بقوةٌ وعينيه مغمضةٌ بشدة
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الرابعة عصراً
مرّ يومان عصيبان على منزلهم الهادئ
فزَع الأم باستمرار يُقلقهم عليها
ارتجافتها
انهيارها المتكرر
نحيبها !
زفر فيصل بتعب وهمّ بالنهوض لدخول غرفته حينَ مرت والدته من أمامه بعباءتها وحقيبتها
قال بسرعة
: يمه على وين ؟
قالت بلا وعي
: بروح أجيب بندر !
قال بصدمة
: من وين تجيبينه !
تركته وتوجهت للباب وهي تقول
: بجيبه , بيذبحون ولدي
تبعها وأمسك بكتفها
صرخت به وبكّت فوراً وكأنها عادت الى وعيها
: ابي بندر , ردّ لي ولدي فيصصل رجع لي بندر
ازدرد ريقه وقال برجاء
: يمه تكفين ارتاحي , والله خايف عليك يجيك شي من كبر همك , انا وخالد مو تاركين الموضوع جالسين نسأل عن اصدقاءه اللي كان يجلس معاهم عشان نعرف شلون راح ومن موديه ونقدر نرجعه
جلست أرضاً تضرب رأسها بهستيريا
: البنت راحت ولحقها الولد والرجال مات , وش بقى لي وين اروح وش اسوي بحياتيي
لم يعرف كيف يتصرف
هو ليس خالد او بندر حتى يجيد تهدئتها !
هو يعشقها بجنون , لكنه يجهل كيفية التعامل معها !
ظلّ ينظر اليها بغيرِ حولٍ ولا قوة حتى دخل خالد وصُعق ! ظنّ أنّ فيصل من ابكاها
صاح فيه بغضب
: وش سويت لها
ترجع وهو يقول
: ما سويت شي ! تبي بندر !
اقترب خالد وعانقها وهو يسمي عليها بصوتٍ عالٍ ويقرأ آيات الله عليها لتسكُن روحها المتعبة !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الحادية عشرةَ مساءً
قال ابو مالك
: طيب حنّا نمشي أجل
قالت والدته
: وراه تمشون ! خلكم نجلس كلنا لين تصلون الفجر وتتيسرون
ضحك أحد احفادها
: يمه شكلك من الفرح ناسية انّ السهر مو زين عليك
قالت بصدق
: والله ان الدنيا مو سايعتني , يا الله لك الحمد والشكر , ناقصني بس محمد وتكمل فرحتي
قبّل ابو مالك رأسها مبتسماً
: عسى دوم الفرحة يا بعدي , ام مالك واخته مشتاقين له وهو لازم ينام ويرتاح , الصبح نجيك ان شالله
: اجل براحتكم بس لا تبطون الصبح نبي نفطر كلنا
ابتسم سعود لترديدها كلمة " كلنا " دون شعورٍ منها
وكأنها غيرُ مصدقة وتؤكد لنفسها أنّ احفادها الثلاثة موجودون !
ذهبَ ابو مالك مع عائلته
قرابة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل نهض سعود
أمسك بمعصمه أحد ابناء عمومته
: وين رايح !
أشار له بالهاتف
: عندي مكالمة
تركه وابتسم
خرج من البوابة الزجاجية التي تحتل نصف الجدار في صالة الاستقبال وتطل على حديقة المنزل الخارجية
ابتعد واتصل بوالدته وكلّم والده وجدته أيضاً
ثم اتصل على عبد العزيز ليطمئن عليه ويعرف أخباره
أغلق الهاتف من عبد العزيز واتصل بلين
مرّت ثوانٍ لترد
جاءَ صوتها كثغرة النور في عتمة الديجور
كقشةٍ وحيدة , في أمواجٍ مديدة
كروح تنعش , بعد انتزاع الأنفاس
: هلا
ابتسم لنبرتها وتنهد دون شعور
ابتسمت وقالت
: سعود ؟
: يَ بعد كلّه
ضحكت بخفة , وقال هوَ
: شلونك !
أجابته بهدوئها الذي يبعثره ويجمعه ثم يبعثره مجدداً
: الحمد لله , انت شلونك !
: طيّب ما علي
استمرا في حديثٍ قصير
حتى سألته
: متى راجع ؟
: نهاية هالاسبوع ان شالله , اليوم جونا عيال عمامي من استراليا وجدتي بتطير من الفرح فيهم , كسرت خاطري وهي تسلم عليهم وتبكي
قالت بتعاطف
: حبيبتي قرّة عينها فيهم
مرّت ثوانٍ صامتة بينهما
حتى ناداه أحد ابناء عمومته
: سعوود جدتي بتقوم عليك بالعصا , تقول بتسحب جوالك
التفت اليه بسرعة وأشار له أن يصمت لكنه لم ينتبه
جاءته ضحكتها التي تحاول كبتها
نظرَ اليه بغيض وأشار له بيده بمعنى " أوريك "
قال مبتسماً
: استانستي الحين
حمحمت وقالت
: لا مالهم حق
: طيب اسمعي
أجابته بخفوتٍ وابتسامة وهي تعبث بخصلات شعرها المبعثرة على جانبي وجهها
: همم
تلفت حوله ليتأكد من خلو المكان ولا متطفل يسترق السمع
قرّب شفتيه الى الهاتف وهمس
: وحشتيني
صمتت لثوانٍ وتوقفت يدها عن الحركة على شعرها
ازدردت ريقها
ما هذا السحر الذي تمارسه عليّ !
ما هذه النبرة التي تأسرني بها وتنقلني الى عالمٍ لا يسكنه الّا انا وانت ونبرتك !
ضحكت بخجل وأردفت
: ما يوحشك غالي
قال بتمتمة
: هذا اللي قدرك عليه ربي
ضحكت ولم تجبه
ابتسم
يعلم أن ضحكتها تجيبه بأنها اشتاقته أيضاً
قالَ بحنان
: انتبهي لنفسك , جدتي بتقوم علي
ابتسمت
: وانت انتبه لنفسك
ودعها وأغلق الهاتف وعاد اليهم وهو يشعر بروحه ترفرف من مكالمته معها
يشعر بالسعادة بسماع صوتها
يحب أحاديثها
أيُ قدَرٍ جميلٍ وضعكِ في طريقي يا لين !
,
,
الى الملتقى :)