بسم الله الرحمن الرحيم
البارت التاسع عشر
,
,
المملكة المتحدة – لندن
الثالثة والنصف مساءً
التفت اليها
: تبين عصير ؟
هزّت رأسها نفياً
: لأ
رفع حاجبه الأيمن
: ابيك تذوقينه ذا أحبه مرة
ضحكت بخفة
: طيب
سار معها حتى جلست على مقعد في الشارع
وتوجه هو لكشكٍ يبيع العصير
عاد سريعاً وهو يمدّ لها الكوب
أخذته وهي تبتسم بنعومة
قالت متسائلة
: وانت ما تبي ؟
حك رأسه وهو يقول
: مو مشتهي
رفعت حاجبها الأيمن غير مصدقة
سعود لا يجيد الكذب !
يجهل ماهيته
تنطق عيناه بأنه كاذب اذا ما حاول
لكنها صمتت
وهو , لم يشأ اخبارها أنّه وجد قطعةً نقديةً واحدة فقط في جيبه !
لذا لم يشترِ لنفسِه !
مرّ الوقت وهما يتحدثان
شربت بعض العصير وتوقفت
قال متسائلاً
: وش فيك ما كملتيه ؟
ابتسمت
: ما اقدر أشربه كلّه ! خلاص معدتي امتلت
مدّ يده وأخذه منها ليشرب منه بعفوية
وتابع حديثه
احمرت وجنتيها , من فرط خجلها شعرت بالدمع يقفز لمقلتيها
ي الله ! تثير جنوني ب تصرفاتك ي سعود !
لمستك اللطيفة لِ يدي
نظرتك الممتلئة بما لا أفهم
ابتسامتك الفريدة
عفويتك التي تفقدني رباطة جأشي !
تُجبر قلبي على الابتسام ! وقد حَرّمْتُ عليه ذلك
تجبر روحي على الرفرفة مع أحلامٍ وردية
وأنا أرفض !
أرفض أي مشاعرٍ قد تسكنني
لا اريد أن اشعر بودٍ تجاهك !
يكفي أن استلطفك
واستلطافك يقتلني !
انتبه لنظرتها وتَغَيُرِ مَلامِحها
نظر للكوب
قال محرجاً
: مو قصدي والله ! بس انا عادي يعني اشرب بعد عزوز وامي وابوي وجدتي من نفس المصاص
هزّت رأسها نفياً وهي تشيح ببصرها عنه
سحب " المصاص " من الكوب ورماه في الحاوية وهو يقول
: هذا اللي سبب لك أزمة وشلته ! ريلاكس
ضحكت بخفة
حينها رنّ هاتفه
رفعه واتسعت ابتسامته
: هلا والله
: لا هلا ولا مسهلاً يا قليل الخاتمة
ضحك بعمق قبل أن يقول باستعطاف
: وش فيك علي ! والله اني أحبك
: حبتك القرادة
عاد ليضحك , ثم قال
: يا بعد حيي يا هالصوت , روقي يا فديتك !
قالت ب " زعلٍ " حقيقي
: والله انّ قلبي مليان منك , من متى مكلمتك ومحلفتك تجيني ؟! ما تخاف الله فيني يا سعود , والله بياخذني الموت وانت لاهي ولا شفتك وشميتك
قال بحنان
: بسم الله عليك الله يطول عمرك , والله ظروف غصب عني يا بعدي
قالت بغضب
: خلّه يفيدك شغلك
أغلقت الهاتف دون أن تسمع ردّه
زفر بضيق وهو يضع هاتفه في جيبه
لم تعتد رؤية الضيقِ في عينيه
دوماً مبتسم , متفائل , لا يهتم
قالت بتردد
: وش فيك ؟
نظر اليها وابتسم بهدوء
: جدتي أم ابوي زعلانة مني
: ليش !
زفر ثم قال
: لي فترة طويلة مو رايح لها الرياض ودايماً تطلبني ولا اقدر اروح
قالت بعد صمت
: طيب احجز وروح لها نهاية الاسبوع وخذ اجازة !
نظر اليها
: صعب
: ليش
: مقدر أتركك بروحك
هزّت رأسها بصدمة
: لا تقول انا اللي مانعتك !
قال بهدوء
: انا مسؤول عنك قدام رب العالمين , ما اقدر اسافر واتركك الا اذا تجين معاي !
اختنقت أحرفها , تشنج لسانها , وجف حلقها
كانت تنظر اليه وتستجدي الحروف لتظهر
تذهب معه !
تذهب الى الرياض ؟
يعني أن تذهب الى قبرها المحفور , الذي ينتظرها !
يعني أن تعود الى الشقاء , الى المأساة !
قالت بصعوبة وبعد صمتٍ طال
: لا , ما اروح معك
ابتسم يطمئنها
: انا أصلاً ما ابي أوديك
قالت برجاء
: الله يخليك سعود روح لجدتك
قال بعدم اقتناع
: وانتي !
: بكون بخير والله , انا عشت سنتين هنا بدونك , بقدر أعيش اسبوع ولا اسبوعين
نظر اليها بصمت
أيذهب الى الرياض !
صوت جدته المبطن بالحزن يستدعيه بشدة
وعيني هذه التي تجلس أمامه تمنعه بشدة
فأيهما يطيع !
بعفويةٍ شديدة أمسكت بكفّه بِ رجاء
: تكفى روح لها
ابتسم وهو يستشعر لذة لمستها وقربها
رفع يدّه التي تتشبث بها يدها
قبّل كفّها بِ رقة
وفي عينيه بريقٌ يأسر روحها
قال بخفوت
: بشوف التذاكر على النت اليوم , والله انّ ما ودي أتركك , لكن عشان هالمسكة وهالنظرة بروح
كانت متجمدةً تماماً
توقف كل ما في الكون عن الحركة
سوى قلبها
ينبض بجنون !
ويضخ الدم باسراف , حتى ارتجف جسدها من قوة الضخ !
تمساكت وحمحمت , حاولت الابتعاد ومنعها ولا تزال ابتسامته الجميلة تزين مُحياه الفاتن
توقف يا سعود !
توقف عن فتنة قلبي , توقف عن الاقتراب من احساسي
مرّ اسبوعان وثلاثة أيام على عقد قراننا !
هذه أول مرة تكون بهذا القرب الحميمِ مني
هذه أول مرةٍ تمس شفتيك جزءً مني
أبعد عيناك المهلكة ! لا تنظر اليّ ف ترهقني ب ابتسامة عينيك
اقترب أكثر حتى قبّل جبينها ثم همس
: ماله داعي كل هالتشنج , انا زوجك !
ابتعدت عنه وفي عينيها حار الدمع
نهض وقال دونَ أن ينظر اليها
: تعالي يلا أرجعك وأشوف موضوع التذكرة
نهضت وسارت بقربه دون أن تنبس ببنت شفة
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
العاشرة صباحاً
تفقدت حقيبتها للمرة الأخيرة قبل أن تسمع نداءاتٍ مُتكرِرَة من الأسفل
: رتييل اخلصي بنمشي
أخيراً غطت وجهها وحملت حقيبتها ونزلت
كان عبد الله يقف في نهاية الدرج
قال بلوم
: صيفتي الله يهديك !
أخذ الحقيبة وتقدمها للباب الخارجي
خرجت وأغلقت الباب من بعدها
أخذوا جميعاً مقاعدهم
وحركَ عبد الله السيارة لمنزلِ عمِه
أمام المنزل كانت سيارةُ علي والجميع فيها بانتظار قدوم عائلة ابو صقر
حينَ رأى علي السيارة تحركَ أخيراً
قفزت هديل بحماسة
: ييسسسس , يااه متى بسسس نوصصل
ضحكا أخويها منها
قالت ام علي بهدوء
: انا ما ادري وش لكم بسالفة البر هذه ! لو نطلع للشرقية على طول ومنها على حايل وقضينا
ابتسم علي
: من زمان مو رايحين للبر يمه , وبعدين كلها يومين
قالت منزعجة
: رمضان مو باقي عليه شي , المفروض نستغل الوقت يومين في الشرقية ويوم سفر ل حايل وثلاث ايام في حايل ويومين سفر رجعة من حايل وصلى الله وبارك
ضحكا تركي وعلي بشدة قبل أن يقول تركي
: يمه مخططة بالأيام
لم ترد عليه وانشغلت بهاتفها
نظر اليها ثم الى الأمام
في السيارة الأخرى
كانتا رتيل وداليا في أوج سعادتهما
صوتهما مرتفعٌ في أحدايثهما
وداليا بين الفينة والأخرى تتقدم وتطل برأسها على عبد الله لتزعجه
قالت ام صقر منزعجة
: الدرب طويل , انطمي انتي وياها , تراني مصدعة ومو نايمة
تبادلتا النظرات قبل أن تغمز رتيل ل داليا التي تقدمت بجسدها لتتحدث الى عبد الله بهمس
: عبود
: همم
: خل أمي تروح في السيارة الثانية وتجي هديل هنا
ضرب رأسها بخفة وهو يضحك بخفوت
: تبغينا نوقف في نص الشارع عشان نسوي تشينج ؟
قالت معترضة
: امي تبي هدوء ! وحنّا فينا طاقة نبي نستانس
: معليش اصبروا لين نوصل , واذا طلعنا للشرقية وحايل بدلوا على راحتكم
تأففت وعادت الى مقعدها
همست رتيل
: وش قال ؟
أجابتها بذات الهمس
: يقول اصبروا واذا طلعنا الشرقية غيروا
تأففت رتيل أيضاً
قالت داليا بملل
: خل نسولف ع الواتس أبرك
ضحكت رتيل وهي تخرج هاتفها وتتحدثان بالرسائل
,
,
استراليا – كانبرا
التاسعة صباحاً
نظرت الى الشاشة الكبيرة وهي تقول بعجلة
: يلا دشي الاستوديو بعد دقيقتين بنبدأ
سارت وهي تحمل أوراقها لتدخل
لكن ضحكةً رنانة شدتها
التفتت باستغراب لتجدّ شابين يقفان بميلان , بلبسٍ ألوانه فاقعة لا يجرؤ أبداً أيٌ من العاملين هنا على لبسه
اقتربت بتساؤل
: من أنتما ؟
اعتدلا في وقفتهما وابتسما
قال أحدهما
: نحن ممثلان قادمان من مصر , ونريد التعاقد مع شركة الانتاج الخاصة بالقناة
نظرت اليهما بتقييم , قبل أن تقول بالعربية
: عرب يعني
تبادلا النظرات قبل أن يبتسما ويردّا
: أيوه
ابتسمت برسمية وهدوء
: هلا فيكم , تقدرون تستريحون بالمقهى لين نخلص من حلقة بتظهر الحين
قال أحدهما
: كُل اللي في القناة بيشتغلو في الحلأة دي !
هزّت رأسها نفياً
: المخرجة اهيا المسؤولة حالياً لأن مسؤول الانتاج في اجازة واهي أكثر وحدة تقدر تتحكم بالادارة , تقدرون تتفضلون وتنتظرونها
جاء صوتٌ حاد من آخر الممر
: عايشششة ثانيتين ونبدأ شتسوين هنيي
: آووه , ياية ياية – التفتت اليهما باعتذار – عندي حلقة عفواً
تركتهما مسرعةً الى غرفة البث
التفت أحدهما للآخر
: بُص ! هما مُزّتين , وحدة تاخدها انتَ والتانية ليّا انا
قهقه الآخر بصخب وهو يقول
: ماشي يَ برنس
سارا ناحية المقهى بينما جلست منال في غرفة الكواليس وعائشة في غرفة البث
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانية مساءً
قال بهمس وهو يتحدث بالهاتف
: خلاص قلتلك ساعة تقريباً وانا عندك , أصلاً حامد ينتظرني برا
أغلق الهاتف ثم انضم الى شقيقيه ووالدته
اقترب من والدته وقبّل يدها بعمق
قال بمحبة
: أحبك يمه
مسحت على رأسه مبتسمة
: وش تبي
ضحك بخفوت
: ما ابي الّا رضاك
: اجل دامك ما تبي الّا رضاي انا بعد احبك
: راضية عني ؟
نظرت اليه بصمت , ثم قالت بحذر
: ان شالله اني راضية , وش ذا السؤال !
قبّل يدها مرةً أخرى وهو مبتسم
: سلامتك يا بعدي
ابتعد عنها بعد قليل ليقترب من خالد
قبّل رأسه
: يشهد الله اني احبك
ابتسم خالد وهو منشغلٌ بهاتفه
اقترب من فيصل ليقبّل كتفه
: وانت بعد احبك مع انك ما تستاهل
تجاهله فيصل الذي كان مندمجاً بمشاهدة التلفاز
نظر الى والدته التي كانت مستلقيةً على الأريكة مغمضةً عينيها
ابتسم بحزنٍ وخرج من غرفة الجلوس الى غرفته
حملَ حقيبةً متوسطةَ الحجم وخرج من المنزل
ركب السيارة التي كانت تنتظره أمام المنزل
التفت السائق مبتسماً
: ودعت أهلك ؟
لم يجبه
كان يرمق المنزل بنظراتٍ أخيرة
المنزل الذي احتضنه اربعةً وعشرين عاماً
الجدارن التي تحكي له في كل ليلةٍ حكايةً عن زمانٍ مضى
غرفته التي ضمته طويلاً
كيف سيترك والدته
كيف سيجرح قلبها المتعب , برحيله
شقيقيه !
عضيديه في حياته
ابتسامةُ خالد المشرقة , وانفعالاتُ فيصل التي لا تنتهي
قال الذي بجانبه بسخرية
: لا يكون تراجعت ! – ضربَ كتفه بقوة – استرجل وخلك قد كلمتك
نظرَ اليه ببرود
قال الآخر بحنق
: وش فيك ! تبيني أرجعك ي الدجاجة !
قال من بين أسنانه وببطئ شديد
: حامد أقسم بعزة جلال الله واصلة معاي , كل تبن وامش وانت ساكت لا اطلع جنوني عليك , لا تكلمني خير شر
تأفف حامد وتابع طريقه بصمت
بينما بندر ينظر الى الخارج ودمعتين متبلورتان في مقلتيه
حرك شفتيه من غير صوت
: يارب
,
,
المملكة المتحدة – لندن
الثامنة مساءً
رفع حاجبيه متسائلاً
: خلاص يعني بتسافر بكرة ؟!
هزّ رأسه ايجاباً
: مو بكرة , 4 الفجر طيارتي
زفر عبد العزيز ثم قال مبتسماً
: بشتاق لك
: يا رجال كلها اسبوعين , بس تكفى عزوز انتبه ل لين , كل شوي خذ خالتي سارة لها تتطمن عليها
هزّ رأسه مبتسماً
: ازهلها وانا اخوك لا توصي
مضى الوقت سريعاً وهما يتسامران
حتى أشارت عقارب الساعة الى الحاديةَ عشرةَ مساءً
نهض سعود وهو يمدد أطرافه
: بروح أسلم على لين وأروح بيتنا أرتاح ساعة وأطلع للمطار
اقترب منه عزيز وعانقه وأطال عناقه
قال بخفوت
: استودعك الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك , الله يحفظك ويردك سالم
قبّل سعود كتف عبد العزيز المقابل لوجهه وهو يقول
: استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه , انتبه لنفسك عزوز
ظلّا على حالهما لثوانٍ
حتى تباعدا وهما مبتسِمَيْن
قال سعود
: توصي على شي من هناك ؟
: سلامتك
فتحَ سعود باب الشقة والتفت لرفيقه وصافحه بحرارة
: أشوفك على خير
ابتعد وطرق باب شقةِ الخالة سارة
فتحته بقلق
: وش فيك سعود ؟
ابتسم
: سلامتك , بس قلت أسلم عليك طيارتي للسعودية 4 الفجر
دمعت عينيها وهي تقول
: استودعك الله , الله يحفظك يمه
قال بمحبة
: وش تامريني من هناك ؟
: أبد يمه سلامتك
: انتبهي لنفسك وأمانة ان بغيتي شي اطلبي من عزوز , وطلي على لين كل يوم الله يخليك
قال عبد العزيز مؤنباً
: حرام تحلفها بالأمانة
قال باستدراك
: بالله عليك
ضحكت بخفة وهي تقول
: لا توصيني عليها ي امك , انت بس خل بالك على نفسك
أخيراً استدار لينزل بعد أن ودعها
سار بخطواتٍ سريعة الى العمارة التي تقطنها لين وصعد لشقتها
طرق الباب بخفة
اقتربت منه وهي تقول بخوف
: من هناك !
قال بلطف
: انا سعود
صمتت قليلاً ثم فتحت الباب وقد ارتدت معطفها
قالت بقلق وارتباكٌ طفيف لا زال يسيطر عليها من بعد عصِر اليوم
: وش فيك !
ابتسم بحنان
: جيت أسلم عليك طيارتي 4 الفجر
شهقت بخفة واغرورقت عينيها بالدمع سريعاً
: بهالسرعة !
اختفت ابتسامته وقال
: ليه ليه هالدموع ! ماني رايح اجل دام أولها كذا
هزّت رأسها نفياً بسرعة وهي تقول
: لا لا مو قصدي , بس ما توقعت بهالسرعة , يعني قصدي راح افقدك تعودت كل يوم اشوفك !
ابتسم وهو يمسح دمعتيها قبل ان تنزلا
: اسبوعين وراجع , ابيك تنتبهين لنفسك زيين زين , واي شي تحتاجينه تبلغين خالتي سارة وهي بتقول ل عزوز , انا وصيتهم عليك , وان شالله امي بعد بتجيك بين يوم ويوم تشوفك , وانا كل يوم بتصل عليك
زادت دمعاتها امام كرمه العاطفي
كم تُعطيني من قلبك يا سعود , وكم أصدّ بمشاعري عنك
أَكُلُ هذه الوصايا فقط لتغيب اسبوعين !
نبهها سعود وهو يشير بيديه أمام عينيها
: وين رحتي !
ابتسمت باستدراك
: معاك !
: بتنتبهين لنفسك صح ؟
هزّت رأسها ايجاباً كَ طفلة
: وما بتخليني أشيل همك ولا أقلق عليك صح ؟
هزّت رأسها نفياً
قال مبتسماً
: وش توصيني من الرياض ؟
قالت بصدق
: سلامتك
اقترب منها ليعانقها بخفة
لم يكُن عناقه لها كَ حرارة عناقِه لعبد العزيز
كان يعانقها عناقاً خفيفاً عابراً
لكنه استنزف مشاعرها , وأوقد حرارة جسدها
ابتعد عنها وهو يؤكد
: انتبهي لنفسك , استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه
: وانت انتبه لنفسك , أشوفك على خير
قالَ أخيراً
: مع السلامة
: بحفظ الله
أولاها ظهره ونزل الدرج ليخرج من العمارة
أغلقت بابَ شُقتها واتكأت عليه
رفعت بصرها الى الأعلى وهمست
: اللهم احفظه وأعده سالماً
وخرجَ هو من العمارة ورفع بصره وهو يقول بصدق
: اللهم اني استودعتك اياها فاحفظها بعينك التي لا تنام
ركبَ سيارته متوجهاً الى تشيلسي
,
,
استراليا – كانبرا
العاشرة صباحاً
جلست في مقدمة طاولة الاجتماعات بهدوء
حتى اكتمل أعضاء ادارة قسم المالية
نظرت الى أحدهم مستغربة
قالت بتساؤل
: عفواً من انت ؟
قال ببرود
: ذياب بن محمد الضاحي
ابتسمت بذهول وأردفت
: أقصد شلون انت من أعضاء مجلس ادارة المالية !
أجابها بملل واضح وهو يقلب في الوريقات أمامه
: جاتني ترقية
أذهلها بأسلوبه
جميع من في الشركة يخشى أن يُقلل من احترامها ب نظرةٍ أو كلمة
وهذا يتحدث اليها وكأنها تعمل عنده وليس العكس !
قالت بهدوء ولا زالت مبتسمة
: آوكي يا ذياب , بما انّ هذا أول اجتمال تحضره راح أعطيك أساسيات وبنود ادارة المالية , الاجتماع الياي لمجلس ادارة الشركة العام لازم تكون موجود وتلتقي بالادارة
لم يرد عليها سوى بنصف نظرةٍ باردة
استفزها بردود أفعاله لكنها افتعلت الهدوء وبدأت اجتماعها
بين الفينة والأخرى كانت تسقط ببصرها عليه فترتبك بسبب نظراته وطريقة جلوسه اللا مبالية
انتهت أخيراً من حديثها
قالت
: انا انتهيت من كلامي , اللي عنده تعقيب يتفضل
رفعت كأس الماء لتشربَ نصفه على دفعةٍ واحدة
قال ذياب ببرود
: انا مو عاجبني كلامك كلّه
أنزلت كأس الماء على الطاولة بصدمة
قالت ببطئ
: عفواً !
قال بذاتِ البرود المستفز
: بما اني من اعضاء مجلس الادارة يحق لي الرفض والقبول
نهضت من مقعدها بقوة وهي تقول بحدة
: في اسلوب تتحجى فيه , احنا مو بِ سوق خُضره عشان تكلمني بالسوقية هذه ! في اسلوب تعترض وتقبل وترفض فيه , للمعلومية انت اللي تشتغل عندي مو آنا اللي اشتغل عندك ! وانا تاركتلك الاجتماع واعترض على كيفك
همّت بمغادرة القاعة قبل أن ينهض وهو يقول بحدة أكبر
: لا وعلى ايش , انا اللي اترك لك الشركة بكبرها وتفاهمي مع الادارة وقتها
بعثر الأوراق التي أمامه وخرج بغضب من القاعة
حين عبَر باب القاعة
اعتلت شفتيه ابتسامةُ سخرية مُرّة وزفر
أمّا هي فقد ظلّت مذهولة
حتى كلّمها أحد الأعضاء بحذر
: آنسة لولوة ما عليج منه !
نظرت اليه ثم الى الباب المشروع
قالت بخفوت وهي تجمع أوراقها
: مينون !
نظرت اليهم باعتذار
: تقدرون تتفضلون الظاهر الاجتماع هذا ما وراه فايدة , أعتذر
نهضوا جميعاً بصمت وسبقتهم هي بالخروج مسرعةً الى الدور الرابع لترى عمّها
,
,
المملكة العربية السعودية – صحراء الربع الخالي
الحادية عشرةَ وخمسون دقيقة صباحاً
توقفت السياراتان أمام خيمةٍ كبيرة
وجلسةٍ شعبية بجانبها
نزلوا جميعاً
قفزت هديل بمرح
: يآآه , لبيه ي ترابك ي نججد
قال تركي مبتسماً وهو يرفع النظارة عن عينه
: أي والله ترد الروح
اقتربتا داليا ورتيل من هديل وهنّ يهتفن بمرح
: يلا تعالي ما نبي نضيع ولا ثانية
انطلقن الفتيات بحقائبهن الى الخيمة
وضعن أمتعتهن وخرجن مسرعات
كنّ يتمشين الى شجرة تبعد حوالي سبعينَ متراً
قال عبد الله بصوتٍ عالٍ
: بنات لا تبعدون كثير ولا تطولون , بنسوي الغدا نحتاجكم
هتفت داليا
: بالمشمش لو تفحط ما ساعدنا
قال علي ضاحكاً
: لا تخليني أحلف انّ محد يسوي الغدى الّا أنا وانتي
غطت وجهها وتوارت بجسدي هديل ورتيل بخجل
انفجرن ضاحكات وقالت هديل
: لا تهايطين مرة ثانية
قالت بحنق
: أخوكم ملقوف انا اكلم أخوي شدخله
قرصت رتيل ذراعها وهي تعنفها
: قص بلسانك لا تقولين عن علاوي ملقوف
ابعدت ذراعها وهي تقول بألم
: آآي وججع عورتيني
ضحكت هديل وهي تتقدمهن
,
بعد أن رتبوا أمتعتهم وجلسوا
نظر ابو صقر الى ساعة هاتفه ثم قال
: واحد منكم يقوم يأذن دخل وقت الظهر
نهض عبد الله وهو يوجه هاتفه في الأماكن ليكشف عن القبلة
ثم تولّاها ورفع يديه الى جانبي اذنيه
حمحم ثم صدح صوته شجياً
: الله أكــبــر الله أكــبــر
,
التفتت بفزع
قالت بجنون
: صوت صقر ! اذان صقر والله
التفتتا داليا وهديل وهما تزدردان ريقيهما
قالت داليا برجفة
: أي والله اذان صقر !
قالت هديل ضاحكةً بارتباك
: بنات طالعوا هذا عبد الله !
كانت رتيل تسير عائدةً الى الخيمة دون تركيز
قلبها ينبض بجنون
هل هيأ لها شوقها صوتَ صقر !
لكنّ داليا سمعته أيضاً
هل رحمتَ ضعفي واحتياجي وعُدت ! أتعودُ يا صقري وتُطَمئن قلبي وتُسكِنَ حواسي !
اقتربت أكثر حتى سقطت بتعب أمام أُمِها
قالت بِ رجاء
: مين اللي أذن ؟
لم تنتبه الى دمعات امّ صقر , ولو انتبهت لها لأقسمت أنّ صقر هنا
ضمتها أمها بقلق
: رتيل وش فيك حبيبتي !
قالت برجاء
: من اللي أذن يمه
أجابتها بهدوء
: عبد الله
تأوهت برفض
: صوت صقر والله , يممه سمعته سمعت أذانه
قالت بهدوء وهي تمسح على ظهرها
: صحيح عبد الله يقلد أذان صقر
قالت بتعب
: ما رجع يا يمه ما رجع
تنهدت وهي تخفي دمعاتها على حزنِ ابنتها
" ما رجع " أيُّ كمٍ من القسوةِ تحمله الكلمة
أيُّ وجعٍ يتخلل معانيها
ان لا يعود صقر يعني أن يضلّ قلبي في غربة
أن لا يعود صقر يعني أن تضلّ روحي عطشى
آهٍ على غيابكَ الدامِي يا صقر
آهٍ على فراقك الخادش
همست والدتها
: رتيل حبيبتي لا تنكدين الطلعه , تماسكي يا روحي , تعوذي من ابليس
لا أنكد جمعكم , لكنّ قلبي في كل حينٍ مُنكّد
حمحمت وهي تبتعد عنها وتمسح دمعاتها
نهضت وولتهن ظهرها لتختلي بنفسها بعيداً عنهم جميعاً
,
قال تركي مبتسماً
: الله عليك , وأخيراً ضبطت أذان صقر
قال ببحةٍ جارحة وابتسامةٍ اختلقها
: ايه
كبّر ليصلي السُنة دونَ أن يُسهب في الحديث
لأنه اذا أسهب بكى !
يفتقد شقيقه الى الحدّ الذي يدمي قلبه
لكنّه ملزمٌ بالصبر والتجلد
ملزمٌ بالصمود واظهار الهدوء
ملزمٌ أن لا يبكي ! لأنّ قوةَ والده ووالدته وداليا ورتيل تستند الى قوته
فاذا انهار انهاروا
وان صبر , مثلوا الهدوء
سَجدَ بين يدي الله وهو يهمس في جوف الأرض
: سبحان ربي الأعلى وبحمده , سبحان ربي الأعلى وبحمده , سبحان ربي الأعلى وبحمده
صمت لثوانٍ , ثم همس بحرقة
: يارب انك ترى مكاننا وتسمع سرنا وعلانيتنا , وتعلم ما في قلوبنا , اللهم انّ البلاء قد طال , فأذن للفرج أن يحل , اللهم اسقي قلوبنا طمأنينة , واقر أعيننا بعودة غائبنا يا أكرم الأكرمين
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانية صباحاً
زفرت بقوةٍ وهي تقول
: استغفر الله العظيم
حاولت أن تتصل مرةً أخرى وكانت ذاتُ النتيجة
رمت الهاتف بعصبية وهي تتحرك بتوتر
فاجأها رنينه فحملته بسرعة
عقدت حاجبيها من الرقم الذي لا اسم له
ردّت بهدوء
: الو
أجابها الصمت
قالت بقلة صبر
: الووو
أجابها بهدوء
: يمه
صمتت لثوانٍ قبل أن تقول بلهفة
: بندر ! وينك يمه تأخرت وجوالك مقفل اخوانك طلعوا يدورون عليك – صمتت قليلاً وهي تنظر الى الباب ثم قالت – هذا هم رجعوا
سألها خالد
: مين ؟
أجابته
: هذا بندر , الو بندر وينك
قال بهدوء
: يمه , اناا
قالت تحثه على الحديث
: وش فيك
صمتَ لثوانٍ ثم قال
: ادعيلي يمه , انا في سوريا
صمتت لثوانٍ لتستوعب كلماته القليلة
قالت ببطئ
: وش قلت ؟!
ازدرد ريقه وهو يكرر
: انا بسوريا
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
مطار الملك خالد الدولي
الواحدة والنصف مساءً
انتهى من اجراءات الدخول
وحوّل النقود التي معه الى عملة سعودية
سحب حقيبته وسار خارجاً من المطار
أوقف سيارة أجرى وأخبره عن وجهته
سار السائق للمنطقة المنشودة حتى أوقف سيارته أمام المنزل
حاسب السائق ونزل
اقترب من البوابة الكبيرة
ابتسم للحارس وقال
: افتح الباب
قال الحارس هنديّ الجنسية مستغرباً
: مين انتَ ؟
قال سعود بابتسامة
: ولد ماما كبير
لم يصدقه الحارس
ضحك وهو يخرج هاتفه ويفتح صورةً له مع أعمامه
هنا صدقه الحارس وفتح الباب معتذراً
دخل وهو يشعر بانتعاش
ستُسعدُ جدَته ان فاجأها بدخوله
فتح الباب الداخلي للفيلا ودخل بهدوء
رأته الخادمة وكادت تصرخ فأشار لها بأصبعه أن تهدأ
اقترب منها وهو يقول بخفوت
: أين السيدة الكبيرة ؟
قالت بخوف
: من أنت !
: انا حفيدها وأريد مفاجأتها
اتسعت ابتسامتها وسارت أمامه وأشارت له ليدخل الغرفة
حمحم ودخل
ابتسم حين رآها متربعة ومحنيةً ظهرها وفي يدها سُبحة
وتتمتم بالاستغفار والتسبيح
قال بدفئ
: السلام عليكم
رفعت رأسها بفزع وشهقت
تهدج صوتها وهي تهمّ بالنهوض
: هلا والله , هلا بحبيبي , هلا ابوي
منعها من النهوض ونزل اليها وعانقها بشدة وهو يقبّل رأسها ويديها بمحبة
: هلا فيك يا بعدي , وشلونك يا مال الخير وش اخبارك
بكت وهي تضمه اليها
شعرَ بالحزن لأنه تسبب بدمعاتِ امرأةٍ عجوز لا تعشق من الدنيا شيئاً بقدر عشقها لرؤيته واحتضانه
ضمّ جسدها الصغير الى قلبه , استنشق رائحة الرضا فيها وقبّل تعاريج السنين التي خطّت على جبينها وتحت عينيها
قال بصدق
: والله مشتاق لك يمه
قالت الخادمة وهي تمسح دمعاتها
: ماما لا تبكي
ضحك وهو يبتعد عن حضن جدته
: انتِ تتكلمين عربي أجل
هزّت رأسها بحماس
: ايوا فديتك
قهقه بشدة بينما لوحت جدته بالعصا بعصبية
: انقلعي لا بركةٍ بهالوجه , مير تتلصق في عيالي وتتميلح عندهم , جيبي عصير بارد يبرد على قليبه
ذهبت وهي تدمدم
قبّل سعود كفّ جدته بحنان
: بشريني عن أحوالك وش أخبارك
قالت بسعادة
: والله اني يوم شفتك انا بخير وراحة , شلون أمك وابوك ؟
: الحمد لله بخير ويسلمون عليك كثير والله , ابوي تمنى يجيك بس طلعت له شغلة ما يقدر يخليها
تحدثا قليلاً حتى قال بتساؤل
: وين عمي مساعد أجل
زفرت بحزنٍ وقالت
: في الغرفة الثانية قوم نروح له
نهض وساعدها على النهوض وذهبا الى الغرفة المجاورة
كان رجلٌ كبير , بجسدٍ ضعيف يجلس على كرسيٍ متحرك
يبدو على هيأته وكأنه أكبر من الجدة
كان ينظر في الفراغ بلا هدى
اقترب منه سعود وفي عينيه دمعتين كسيرتين
قبّل يده وهو يقول بصوتٍ مرتفع
: السلام عليكم
نظر اليه دون أن يعي ما يقوله
قال سعود مبتسماً
: شلونك عمي وش اخبارك ؟
نظر اليه دون رد
ربتت الجدة على كتفه وهي تنزل برأسها الى مستوى اذنه وتقول
: يقول لك وشلونك
هزّ رأسه ايجاباً وهو مغمض عينيه ولم تتغير ملامحه
قال سعود وهو يبلع غصته ويجبر نفسه على الابتسام
: انا سعود ولد محمد , محمد اخوك
اومأ برأسه بخفة
قال سعود وهو يقبّل رأسه
: يسلم عليك ابوي ومشتاق لك
لم تظهر منه أيُ ردةِ فعل
قالت الجدة
: اخوك محمد اللي في امريكا يسلم عليك
ضحك سعود من اصرار جدته أنهم يعيشون في الولايات المتحدة وليس في المملكة المتحدة
قالت جدته بتعب
: قوم ما بتاخذ منه لا حق ولا باطل
نهض وقال
: خل ناخذه يجلس معنا في الغرفة الثانية !
قالت باستسلام
: براحتك
سبقته بالعودة الى غرفتها وسعود يحرك الكرسي تابعاً اياها
جلسوا لبعض الوقت حتى جاءت اصواتُ ضجيج ثم مجموعة فتيات دخلن للغرفة
شهقن وتراجعن
سمع همسهن
: سعود هنا !
: سعود عند جدتي !
: سعود ولد عمي محمد موجود !
قالت الجدة بصوتٍ عالٍ
: ما تسلمن يا قليلات الحياء
صمتن جميعاً باحراج
قال سعود مبتسماً
: شلونكم يا بنات !
رددن بهمسٍ متفرق
: الحمد لله
وابتعدن عن الغرفة
دخلن الى صالة الجلوس
قالت احداهن
: محد قال انّه جاي اليوم !
غطّت الأخرى وجهها بخجل
: يا فشلتنا درعمنا عليه
ضحكت احداهن
: أهم شي شهقة أريج فجعت الرجال
قالت أريج بحنق
: انا اللي انفجعت منّه
ابتسمت احداهن
: الله يجزاه خير على جيتّه تلاقون جدتي بتطير من الفرح فيه
تمتمن جميعاً
: أي والله
: صادقة
: صحيح
بعدَ نصف ساعة دخلت فتاة الى المنزل
نادينها الفتيات فوراً
: أروى تعالي هنا
دخلت بهدوء وقالت بتساؤل
: نعم ؟
: لا تروحين لجدتي سعود ولد عمي محمد هنا
قالت ببرود
: طيب
صعدت الى غرفتها واستبدلت ثيابها ونزلت
ذهبت الى الغرفة التي كان فيها الرجل المُسن ولم تجده
خرجت وسألت الخادمة
: وين أبوي ؟
أجابتها
: ما يعرف
: طيب شوفي في غرفة جدتي
ذهبت وحين وجدته همّت باخراجه واستوقفتها الجدة
: وين بتودينه
: مس أروى يقول جيبي بابا
: قوليلها جدتك تبيك ولا تقولين لها ابوها هنا , سمعتي
هزّت رأسها بطاعةٍ وخرجت
ذهبت الى اروى التي كانت بجوار غرفة والدها
: ماما كبير قول روحي لها مافي بابا هناك
ذهبت الى غرفة جدتها وهي تكلمها من وراء الباب
: ناديتني يمه ؟
قالت جدتها
: وراه ما تدخلين ؟
صمتت لثوانٍ ثم قالت باستغراب
: ما عندك أحد !
قالت الجدة بهجوم
: ودامك تدرين انّ عندي أحد وراه ما تسلمين
وصلتها ضحكت سعود المكبوتة
حمحم وقال
: شلونك يا اروى
قالت بهدوء
: طيبة الحمد لله
ذهبت فوراً ولم تترك مجالاً لأي كلمةٍ أخرى
نادت الجدة
: أريج , أريـج
جاءت اريج مسرعة
: نعم يمه
: قولي لأروى ولا لينا تتصل على أخوها يجوني اليوم أو بكرة دام سعود موجود
: سمّي
ابتعدت عائدة الى غرفة الجلوس
: لينا وأروى تقول جدتي اتصلوا على اخوانكم يجون اليوم او بكرة دام سعود هنا تبيهم يتجمعون يعني
نهضت أروى وقالت بحدة
: وخير يعني سعود موجود ! وبعدين كلكم عارفين انّ ما عندي رقم أخوي ولا أكلمه
تركتهن صاعدةً الى غرفتها
قالت لينا
: انا بكلمهم ان شالله يجون
,
,
استراليا – كانبرا
العاشرة مساءً
كانا مستلقيان أمام التلفاز
حينَ رنّ هاتف أحدهما
ردّ بودّ
: أهلاً وسهلاً
: يا هلا فيك بعد عمري , شلونك
: الله يسلمك , انتي شلونك والأهل كلهم عساهم بخير
نهض الآخر بغيض ودخل الى غرفته مغلقاً الباب
قال الآخر
: قلعتك , ايوا لينا حبيبتي قوليلي شلونكم
ضحكت وهي تقول
: من ذا اللي بقلعته !
: سليطين النفسية
ابتسمت بهدوء ثم قالت
: ملوكي
: يا عيونه
: آمم , سعود ولد عمي محمد عندنا
قال مبتسماً
: مشالله , زين وأخيراً جاكم وفرح جدتي
: ايه مرة مستانسة , بسس
: بسس ؟
: تقول جدتي لازم تجون انت وسلطان , قرار حازم وبلهجة شديدة ما فيها أي مساومة
ضحك بعمق ثم قال
: ممكن انا اجي , بس النفسية ذا وش يقنعه !
قالت بلا اهتمام
: يتجازى مع جدتي بس اللي عليّ سويته
زفر ثم قال
: خلاص بشوف ان شالله , اشوف الشغل والتذاكر وسلطان وأرد لك خبر
: على خير ان شالله
ودعها وأغلق الهاتف ثم ذهب الى غرفة سلطان
طرق الباب بخفة ثم دخل
قال بجدية
: هالمرة ما في أي نقاش بتجهز شنطتك وتمشي معاي غصب عنك
قال ببرود
: اطلع برا وسكّر الباب
: سعود ولد عمي محمد في السعودية عند جدتي , وقالت لازم تجون
: بشر أمك
: سلطان انت تدري جدتي ان درت اننا رايحين للندن قبل فترة وما رحنا لسعود بتقلب الدنيا على راسي وراسك
: مالك اطلع برا لا تصدع راسي
جلس بقربه وهو يقول برجاء
: ما اشتقت لعمي ؟ لأروى ! لجدتي ! انا والله مشتاق لأهلي كل ابوهم , تكفى سلطان خل نروح
قال بهدوء وهو يغالب غصته
: روح انت اما ما ابي اروح
قال برجاء
: مستحيل أروح واتركك , طلبتك سلطان امش معي , طلبتك !
قال سلطان باختناق
: اذا طبيت الرياض يمكن أموت
قبّل كتفه وهو يقول بحنان
: بسم الله عليك , انا معاك ما راح اتركك ابد , نروح نغير جو عن الشغل , نشوف اهلنا ونرجع
قال بسخرية
: اهلنا !
شعر مالك بالدمع يحرق مقلتيه
: سلطان لا تسوي بنفسك كذا
: اطلع برا يا مالك ماني رايح للرياض
نهض وتركه بمفرده وهو يدرك أنّه بدأ باقناعه وسيغلبه
,
,
المملكة العربية السعودية – الشرقية
الخامسة عصراً
قبّلت جبينه وهي تقول بعبرة
: تقوم بالسلامة
ابتسم بارتباك وهو يشد بيده على يد أمه
قال وليد بهدوء
: تقوم بالسلامة
: الله يسلمك
اقترب الطبيب وقال
: يلا فهد ندخل !
هزّ رأسه ايجاباً
شهقت والدته بالبكاء
: يارب تقومه بالسلامة
قال الطبيب يطمأنها
: لا تشيلين هم ! بسيطة ان شالله
دفعت الممرضات سريره الى غرفة العمليات وظلّ أهله بانتظاره في الخارج
قال وليد وهو ينظر الى ملاك
: مشينا
قالت برجاء
: انتظر لين يقوم
قال ببرود
: وش دخلنا فيه , تراني جاي عشانك بس
قال والده بغضب
: انقلع اجل وش مقعدك
: قلتلك جاي عشان ملاك وماشي الحين
صرخ به
: حاقد ومريض ومتخلف
ابتسم باستفزاز
: تربيتك يا ابو وليد
اقترب ليلكمه لكنّ وليد دفع بيده بعيداً وهو يقول بحزم
: لا تمد يدك
قالت ام فهد وهي تبكي
: مو وقته , فهد داخل في العمليات خلوا مشاكلكم بعدين !
أمسك وليد بيد ملاك وخرج من المشفى
جلس ابو وليد بجانب زوجته وهو يزفر بغضب
قالت ببكاء
: بس يا محسن خلااص والله تعبت من هالسيرة اللي مو راضية تنتهي
صمتَ قليلاً قبل أن يقول
: بعلمه عن مكان أمّه ونخلص
نظرت اليه بصدمة
: صدق !
قال بتعب
:.......
,
,
المملكة العربية السعودية – حائل
السادسة مساءً
: يووه نسيت جوالي
: انزله جبه بسرعة
نزل من السيارة ودخل للمنزل
,
: أنمار اطلعي جيبي الملابس
خرجت بخطواتٍ سريعة لتحضر الملابس من حبل الغسيل
حينَ فُتح الباب
التفتت مبتسمة
: يوسف م... – شهقت بحدة وهي تتراجع –
اشاح ببصره عنها وهو يقول بارتباك
: انا آسف
تباً لكِ , تباً لكِ حتى آخر يومٍ في حياتي
كيف تظهرين أمامي بفتنتك , وتنظري اليّ بخبثِ براءتكِ
للمرةِ الثانية يراها
هذه المرة تختلف عن المرةِ الأولى
تبدو أنثى حقيقية !
تبدو كتلة جاذبية
بثوبها الذي يصل الى نصف ساقها ويظهر ذراعاها
ويتوسطه حزامٌ أنيق
شعرها المجنون الذي ينسدل على ظهرها ويتمردُ على جانبي وجهها
تباً لكِ , لم تلفتني أنثى منذ وعيت من غيبوبتي
لا اعرف ان كنّ يلفتنني قبلاً
لكنّي منذ فقت ووعيت لم أنظر الى اية امرأة
فلمَ تبدين في نظري جميلة !
وانتِ شقيقة يوسف !
صاحب الفضل الذي لا انساه
حمحم وهمّ بالخروج من المنزل ناسياً هاتفه
حينَ دخل يوسف
نظر اليها ثم الى عمر
خرج عمر من المنزل وهو لا يتمنى سوى أن تنشق الأرض لتبتلعه
نظر الى شقيقته بحدة
قالت بتبرير
: والله العظيم امي أرسلتني اشوف الغسيل وهو دخل
اقترب منها وهو يشعر بجمرةٍ ملتهبة في جوفه
رفع يده لأقصى حد , وكادَ يهوي بها على وجنتها الرقيقة
لكنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وتراجع
قال بحدة
: ادخلي لا ادفنك , الله ياخذك ويفكني منك
خرج من المنزل بسرعة
ركب السيارة بصمت وسار بأقصى سرعة
قال عمر بتردد
: يوسف !
قال بهدوء
: لا تبرر
ازدرد عمر ريقه وهو يقول
: ما ابيك تظلمني !
: ماني ظالمك
: ابيك تفهم بس اني ما اخونك ابد
: طيب
: يوسف والله كان حادث بس
قال بصدق
: عمر انا ما اشك فيك , قفل السيرة لأن قلبي محترق غصب عني
: سَمْ
صمت لأنه يُدرك أن يوسف على حق
لا يعرف كيف انسلخ من ذاته
كيف لم يتصرف كما لو كان " عمر "
يتكلم بخوفٍ وارتباك وكأنه مذنب
هو في قرارة نفسه يعلم أنه مذنب
تمنى مرةً بعدَ أن رآها للمرةِ الأولى أن يراها مجدداً , ونهر نفسه
وحينَ رآها , شعر بأن الدنيا ترتفع به ليلامس السماء
ثم تهبط بقوةٍ ليرتطم بالأرض
ذنبه أنه سُعدَ برؤيتها , رغمَ أنه أشاح بنضره عنها
استغفر الله سراً وهو ينظر خارجاً ويشد على قبضة يده بغيض من نفسه
,
,
المملكة العربية السعودية – صحراء الربع الخالي
الثالثة والنصف مساءً
أمام الجمر جلسن الفتيات
هديل وداليا يشوين أشياش قطع الدجاج واللحم
ورتيل تشوي عرانيس الذرة
وام علي تقطع الخضار للسلطة
والشباب قد حفروا حفرةً داخل الأرض ل طبخة " المندي "
وضعوا القدر فيها وجلسوا في الجلسةِ الشعبية
قالت داليا معترضةً بهمس
: الحين تاركين لنا الشغل الكثير وهم حطوا المندي وجلسوا !
قالت هديل ضاحكة
: لا تصيرين جاحدة ! تعبّهم المندي والحفر وآخر شي يدفنونه , انتي وش سويتي ! حتى هم اللي مسيخين لك اللحم والدجاج بس تشوين
تأففت وصمتت
لكزتها هديل وهي تومأ برأسها ناحية رتيل
زفرت داليا ثم قالت بحنان
: رتول وش فيك ساكتة
نظرت اليهن بانتباه
: هلا ؟
قالت هديل مبتسمة
: وش فيك ساكتة وسرحانة !
هزّت رأسها نفياً وابتسمت
قالت داليا
: عطيني عرنوسة
ضحكت وهي تمد لها الصحن لتنتقي
,
( ملاحظة : قلت مدت لها الصحن لأني ما أعرف مفرد عرانيس وشكراً :p )
,
تذوقتها داليا لتقول بلتذذ
: الله ! ي زين الزين زيناه
حينها نهض عبد الله واقترب منهن ليرى شواءهن
قال
: تركبون دبابات ؟
تبادلن النظرات دون رد
قال ضاحكاً
: وش فيكم !
قالت داليا
: اذا علينا ودنا ! بس نخاف والله
قال ببساطة
: مو مشكلة تركبين معاي ورتيل وهديل وحدة مع علي ووحدة مع تركي
قالت داليا ساخرة
: من زود الثقة أركب معاك
غمز لها بخبث
: اركبي مع علي أجل
شهقت بخجل وهي ترمي بالمسند الذي بقربها عليه وتهتف
: قليل أدب
قهقه وهو يبتعد عنهن
: اجل بنتصل على خوينا راعي الدبابات يجيب لنا ثلاثة
نادته داليا بنبرةٍ طفولية
: تعااال
عاد أدراجه وهو مبتسم
: وش تبين
: قول والله ما تسوي نذالة وتخوفني
ضحك رغماً عنه ثم أشار الى أنفه
: ابشري , على هالخشم
: لا ما يفيدني ذا الخشم , احلف
ضحك مجدداً وهو يقول
: مخفة قسم بالله , طيب والله ماني مخوفك
: خلاص روح اتصل على خويكم
ابتعد عنهن عائداً لابني عمه
قالت ام علي
: بنات وش رايكم بكرة نطلع للشرقية
قالت هديل
: ممااامممااا انتي من الصبح مستقعدة لطلعة البر هذه !
رمتها بعلبةٍ بجانبها
: اسكتي انتي
ضحكت وهي تتفادى العلبة
: ما علينا منكم , الحين بتقوم ام صقر وتقول لزوجها بكرة الصبح نمشي للشرقية
قالت داليا برجاء
: تكفيين عممتي نبي تجلس يومين
: يا بنتي تضييع وقت , في حايل والشرقية استانسوا على كيفكم
التفتت داليا الى هديل ورتيل هامسة
: اقنعوا امكم لا افجر فيكم , ما ابي اتجادل معاها ثم تقول وش ذي العوبة اللي ماخذينها لولدنا , بسوي نفسي خلاص اقتنعت وبهاوشكم وانتوا قولوا الا بنجلس
التفتت مرةً اخرى الى عمتها ام علي
: صحيح عمتي صادقة والله انا رأيي من رأيك
نظرت اليها والدتها بذهول وابتسمت ام علي التي تعرف الاعيبها
وانفجرتا ضحكاً رتيل وهديل
قالت هديل تجاري جنون داليا
: لا يمه نبي نجلس
قالت داليا تنهرها
: عيب اسكتي , خلاص الشور شور عمتي
قالت رتيل وهي تحبس ضحكتها
: يمه خلينا نجلس يومين الله يخليك
رفعت داليا اصبعها بتهديد وهي تقول
: رتيل خلاص , ما يصير نجلس يومين تضييع وقت
غمزت لهن وهي تهمس
: زيدوا زيدوا
انفجرن ضاحكات وضحكت معهن رغماً عنها ثم التفتت لعمتها بأسف
: الله يعينك عليهم يا عمة
ضحكت عمتها وهي تقول
: خلكم مثل داليا عاقلة ومطيعة
نظرت اليهن وهي تضحك بهمس
: ياربي سامحني
ضربتها هديل على رأسها وهي تضحك
: أهم شي انك مصدقة نفسك
أخرجت طرف لسانها بمرح وتابعت الشواء وهي تشعر بالسعادة لضحكة رتيل
تقسم أنها مستعدةٌ لأن تكون متفرغةً للمرح والضحك طوال حياتها حتى تكون رتيل مبتسمة
حتى تسعد قلب رتيل الميت
رتيل , الأخت التي أهداها اياها عمّها المتوفي , وشقيقها المفقود
رتيل التي تحبها بجنون
رتيل , التي يغفو حبها في قلبها بسلام
نظرت اليها بابتسامة , وعينيها تلمعان بالدمع لأجلها
,
,
استراليا – كانبرا
العاشرة صباحاً
كانا يجلسان في طرف المكتب ويتحدثان بهمس
سلطان باردٌ غيرَ مبالٍ , ومالك حانقٌ يكاد يحطِمُ رأسَه
نظر اليهما ابو راجح بابتسامة ثم قال
: شعندكم
نظرا اليه , واجابه مالك محرجاً
: لا ما في شي
قال بلومٍ خفيف
: عليّ هالكلام
ابتسم مالك
: جالس احاول فيه يمشي معاي للرياض وهو رافض
نظر ابو راجح الى سلطان بعتاب
: احد تجيه سفرة للرياض ويرفضها ! الله يسامحك يا سلطان , بدون نقاش عندك اجازة اسبوعين وتذاكركم علي
قال سلطان بسرعة واحراج
: لا و...
قاطعه بحزم
: خلاص قلت اللي عندي وما ارجع فيه , الحين اكلم حمد يشوف اول طيارة للرياض ويحجز لكم عليها
نظر سلطان الى مالك بغيض
رفع مالك يديه بتبرير
: انا مالي شغل , وبعدين لا تسويلي منحرج من ابو راجح وبتسافر عشانه انت اعوذ بالله منك اذا حطيت في راسك شي غصب عن الكل تسويه , يعني اساساً انت مقتنع بالسفر
ضحك سلطان رغماً عنه وضحك ابو راجح ايضاً
قال لهما بلطف
: يلا روحوا لبيتكم جهزوا شنطكم
قال سلطان بمحاولةٍ أخيرة
: طيب احنّا نحجز !
: سلطاان
تأفف سلطان ونهض
نظر اليه ابو راجح بطرف عينه
: قليل حيا لا تتأفف
ضحك رغماً عنه وخرج ومالك خلفه
,
,
الى الملتقى :)