المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
تشى من جديد - د/ أحمد خالد توفيق
تشى من جديد
14 أكتوبر 2013
فى التاسع من هذا الشهر (أكتوبر) عام 1967 قتل التشى العظيم..
جالسا فى مكتبى رأيت التقويم فعرفت أن الوقت قد حان لتذكر مصرع هذا الثائر العظيم. الثائر الذى ألهم كل شعوب الأرض، وتحول وجهه إلى أيقونة فى كل مكان.. يخيل لى أن جيفارا هو الوحيد الذى لم يكسب من بيع صورته الحالمة الشهيرة وهو ينظر للأفق. أنا سأكسب بفضل جيفارا مقالا جديدا.. بعبارة أدق: مات جيفارا خصيصا كى يلهمنى بهذا المقال، ولو لم يمت لما وجدت ما أقوله.
تشى (الجدع)... تشى جيفارا الطبيب الأرجنتينى الذى جاب أمريكا الجنوبية كلها، يعالج المجذومين ويطالع الكتب السياسية. وعرف أن عليه أن يثور ضد الامبريالية ومن أجل أن تصير أمريكا الجنوبية حرة موحدة.
يعرف الجميع قصته مع رفيق عمره فيدل كاسترو. وقصة الرحلة إلى كوبا لمواجهة الطاغية باتيستا، ثم جبال (سييرا مادري) ورفقاء الثورة، ثم النصر ودخول العاصمة..
جيفارا صار وزيرا.. لكنه لا يتحمل المناصب. الحقيقة التى تكررت فى الثورات أن هناك سحرا خاصا للثورة وهدم الأنظمة القديمة، مع حماسة الشباب والرومانسية الثورية، بعد ذلك تأتى بداية الثورة الحقيقية، وهى البناء.. هنا يكتشف الثوار أن الأمور أصعب مما توقعوا..
لهذا لم يستطع جيفارا أن يستمر وكتب لصديق عمره كاسترو أشهر خطاب استقالة فى التاريخ:
«إننى أتخلى رسميا عن مهامى فى قيادة الخلية الثورية.. حينما أستعرض الأيام الماضية أعتقد أننى عملت بأمانة وإخلاص فى سيل دعم الثورة، لكنى أشعر بأن دورى انتهى فى كوبا وأنه لم يعد لى مكان هنا.. إن بلادا أخرى كثيرة تحتاج إلى جهودى المتواضعة وأنا أستطيع القيام بذات الدور فى مكان آخر.
إننى راحل وأنا أشعر بمزيج من المسرة والألم، وأنا أترك ورائى هنا أعظم آمالى فى التشييد والبناء. وأترك أعز أحبائى الأمر الذى يمزق نفسى.. لكنى سأحمل معى هذا الإيمان الثورى والرغبة فى الكفاح ضد الامبريالية حيثما وجدت.. فإلى النصر دائما أو الموت..أعانقك بكل ما أملك من حرارة ثورية..»
هذا جميل.. المقال ثورى وجريء حتى هذه اللحظة.. المهم أن أستمر..
بالطبع هناك مغامرة فاشلة لجيفارا فى الكونغو.. لكن العالم كله صار يعرف الاسم والشخص، ولهذا ذهب للكونغو متنكرا كرجل أعمال. كان يبغى أن يفيق البلد ويتحرر من السيطرة البلجيكية ومن مصاصى الدماء الذين يعتصرون ثرواته و(يورانيومه). لم يكن الأمر سهلا مع ثقافة مختلفة تماما وعادات قبلية يصعب فهمها. لا يجب أن تكون هنا أدغال وهناك أدغال كى ينجح، وهكذا فشل.
عاد التشى إلى أمريكا الجنوبية وقرر أن يلعب فى ذلك الملعب الذى يعرفه جيدا.. اتجه إلى بوليفيا. لكن الكل كان قد أفاق لوجوده وعرف خطره.. المخابرات المركزية الأمريكية عرفت معنى وجود هذا الرجل الميكروب فى بلد ما. كانت الثورة قد بدأت تتسرب فى كل مكان.. كان (جيفارا) أسطورة والرمز الذى يقود الثوار جميعا. قبل إعلان خبر موته كان شاب فلسطينى يدعى (مازن جودت أبو غزالة) يخوض معركة فى منطقة (طوباس) استمرت ثلاثة أيام.. وقد فجر نفسه فى الإسرائيليين عندما أوشك على السقوط فى قبضتهم.. هذا الفتى كان من تلاميذ (جيفارا) ولم يدر أن أستاذه مات قبله بيومين. فى تلك الحقبة كانت هناك حركة ثورة عالمية تتجاوز الحدود والجنس. تذكر اليابانيين اللذين قاما بعملية فى مطار اللد الإسرائيلى وتذكر كارلوس.. لابد أن كل واحد من هؤلاء كان يعلق صورة جيفارا.
تحالفت المخابرات الأمريكية مع قوات الأمن البوليفية، وتمت محاصرة جيفارا. كان يحمل اسم رامون على سبيل التمويه. كانت موقعة جيفارا الأخيرة فى كويبرادا دل يورو.. وقد أصيب فى ذراعه ثم طار السلاح من يده، وعندما تقدموا نحوه، قال لهم إنه هو تشى جيفارا. تم إبلاغ القيادة بالرسالة الشفرية: «لقد وجدنا بابا.. لكنه مريض». نقلوا هذا الصيد الثمين إلى لا هيجيرا على بعد سبعة كيلومترات. وهناك ألقوا به فى فصل مدرسة خالية. عندما جاء القائد فيلكس رودريجز رأى الرجل الذى أرهق العالم كله، وهو مقيد وسط الوحل، والطين يغمر وجهه وحذاؤه قد تحول لشريط جلدى. التقط صورا عدة للرجل وتكلم معه. كانت المخابرات المركزية ترغب فى نقله لاستجوابه فى باناما، بينما رأى البوليفيون قتله حيث هو حتى لا يتحول لشهيد وتصير المحاكمة حدثا إعلاميا. قرروا إعدامه والإعلان عن أنه مات أثناء الاشتباك. قال لهم تشي: «هكذا أفضل.. ما كان يجب أن أقع فى أيديكم حيا»
أنا سعيد بهذا المقال. لو لم يكن جيفارا موجودا لاضطررت لأن أخترعه.
قاموا بسحب الأعواد لمعرفة من يقتل التشى، فالتقط الرقيب جيم تيران أقصر عود. هكذا اتجه للمدرسة ليقتل جيفارا. وقف الرجل ونظر فى عينى الرقيب الذى يرتجف خوفا وقال له العبارة الشهيرة:
ـ«أطلق الرصاص.. أنت فقط تقتل رجلا»ـ
قيل كذلك إنه قال: «أنا تشى جيفارا.. وقد فشلت». أغمض الرقيب عينيه وأطلق الرصاص على صدر جيفارا. يقول عم أحمد فؤاد نجم: «صور كتير.. ملو الخيال وألف مليون احتمال.. لكن أكيد..أكيد أكيد ولا جدال.. جيفارا مات موتة رجال..»
سمحوا للجنود بالدخول وإطلاق مزيد من الطلقات على سبيل التشفى السادى، ثم غسلوا الجثة وبدأ مهرجان التقاط الصور مع الجثمان. قالت معلمة فى المدرسة: «كان خطأ فادحا أن التقطوا الصور معه.. لقد حولوه بذلك إلى أيقونة، وقد خطر لى وأنا أرى جسده أنه يبدو حيا.. كما أنه ذكرنى بصورة المسيح جدا».
يقول عم نجم: «عينى عليه ساعة القضا من غير رفاقه تودعه. يطلع أنينه للفضا..يزعق.. ولا مين يسمعه. يمكن صرخ من الألم. من لسعة النار ف الحشا..يمكن ضحك.. أو ابتسم.. أو ارتعش.. أو انتشى.. يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع لاجل الجياع..»
فى 11 أكتوبر يرسل والتر روستو مدير المخابرات المركزية مذكرة للرئيس جونسون يقول فيها إنهم متأكدون الآن أن جيفارا مات. هذا يؤكد زوال فرصة اضطرابات مؤكدة، ويؤكد نجاح سياستنا الوقائية ضد الثورات فى مناطق نفوذنا.
فى 18 أكتوبر نعى فيدل كاسترو رفيق عمره للكوبيين.. الشعب الذى حارب من أجله، واعتبر نفسه واحدا من أبنائه. دفنوا جيفارا فى مقبرة جماعية مع رفاقه قرب بلدة فاليجراندى الجبلية فى وسط بوليفيا. وسوف تظل الجثة هناك حتى يوليو 1979 حين تنقل رفاته ليدفن فى كوبا. كان هذا هو جيفارا العظيم.
انتهى المقال وأعتقد أننى راض عنه فعلا.
هكذا أثبتت أننى مثقف وربما ثائر شجاع كذلك.. لن أكتب عن الفوضى التى تسود البلاد. لن أكتب عن جو الفاشية الحالى والعنف.. لن أكتب عن مئات الجثث التى تتناثر فى الشوارع وكل هذه الشوفينية والشعبوية والمكارثية، وتحول المواطن نفسه إلى وحش بفعل وسائل الإعلام وبفعل المثقفين الآخرين مثلى. أستطيع أن أحيى شجاعة جيفارا لكنى لن أسحب الكلام على مصر. سأقنع نفسى إن هذه جراحة استئصال ضرورية سوف نغض النظر عنها. أنا لا أختلف فى شيء عن المثقفين الآخرين الذين طالبوا بالمذابح أو صمتوا عنها أو باركوها، والذين يرون إن إبادة الخصوم حل سعيد جدا. وفى كل يوم يثبت مثقف آخر أنه فاشى عنده استعداد تام للإبادة العرقية، وأنه مجرد بائع كلمات يقف بعربته على الكورنيش.. منذ عام ونصف كنت إذا امتدحت جيش بلادك انهالوا عليك بالشتائم واتهموك بالنفاق!. حتى كلامهم القديم فى الماضى عن البترودولار والمد الوهابى.. إلخ.. كل هذا ابتلعوه لأن المصالح تغيرت..
عندما ينتهى صوت الطلقات ويعود الهدوء ويدفن القتلى، فسوف أعود للكتابة عن الحرية والقمع ولوركا والشاعر العظيم بابلو نيرودا والليندى وبينوشيه، وأقتبس مقاطع كاملة من شعر بريخت.. وسوف أسب حكومة التفرقة العنصرية فى جنوب أفريقيا.. لماذا أختلف عن الآخرين؟.. أنا مثقف منافق آخر على رأى الخواجة بودلير..
لكن أكيد..أكيد أكيد ولا جدال.. جيفارا مات موتة رجال
|