بالطبع , لن تستطيع سؤال روك ميلمان لقد قالت له لتوها ان ينتظر الى ان يعرف المزيد عنها قبل ان يستنتج شيئاً , ونفس النصيحة تنطبق عليها. فلو ان والدها والسيدة ميلمان لا زالا مرتبطين عاطفياً , فلن يفوتها الأمر عندما تراهما معاً , فالناس لا يستطيعون إخفاء مشاعرهم , لكن إذ كانت عائلة ميلمان لم تلاحظ اي شيء خلال السنوات , فربما يكون العشاق بارعين بلعبة التخفي !
كل هذه الأمور نظرية الآن ! فوالدتها ماتت , ولن يهمها ما إذا كانت شكوكها صحيحة أم لا .
وزمت شفتيها , فالأمر يهمها مع ذلك ! وتريد ان تعرف , من اجل والدتها , تريد ان تعرف ما إذا كانت تتخيل هذه الأمور كل هذه السنوات , ان شكوكها كانت تعميها , او أنها كانت أذكى من غيرها , لقد حان الوقت لتعرف الحقيقة , وهي مدينة لأمها كانت كي تعرف , إذا استطاعت .
وقال لها روك ميلمان :
- هاهي المزرعة .
ونظرت الى فوق , وتذكرت فوراً اين يقع المنزل على جانب التلة التي كانا يصعدانها , وقالت بخفة :
- إنها لم تتغير .
واجابها روك راضياً :
- الأشياء هنا لا تتغير.
ولسبب ما جعلها قوله تضحك , ونظر اليها بعينان ضيقتان :
- و المضحك في هذا ؟
- لا اعرف .. لا شيء كما اعتقد ! لقد بدوت فقط وكأنك مسرور بالأمر !
- ولماذا لا أكون مسروراً؟
منتديات ليلاس
ولم تجب كارن للحظات , وتجولت عيناها في الأراضي والتلال والسماء , و أشجار الخريف , والوادي الذي بدأ الضباب يغزوه , ثم التفتت الى روك , وقالت معترفة :
- في الواقع انا مسرورة ايضاً , لقد كنت خائفة ان لا اتعرف على شيء , ان يكون كل شيء قد تغير , كنت اتمنى بشدة ان أرى كل شيء كما اتذكره .
ونظر اليها وعيناه قلقتان :
- اوه .. لا اتمنى لك هذا , فما تتذكرينه قد لا يكون ماتعرفينه حقاً , فالمرء يميل الى النظر بمثالية الى ماتركه خلفه .منتديات ليلاس
ونظرت ثانية الى معالم المنزل , ومايحيط به, لقد كان لهذا الريف جماله الخاص , جمال تجاوب معه قلبها , فهنا فتحت عينيها لأول مرة, ورأت الجمال الذي لا يقدر ان يراه أي غريب , وقالت مبتسمة :
- اوه . . لا اظن انني انظر الى شيء بمثالية .
فابتسم روك ميلمان ابتسامة عفوية مليئة بالدفء والسحر , وقال :
- اهلاً بك في بيتك إذاً.
وشعرت بخفقة غريبة في قلبها , كان قد وصلا قمة التلة , واوقف روك السيارة فجأة الى جانب الطريق , والتفت اليها وهو يبتسم , وذراعه ممدودة على ظهر المقعد , واجفلت كارن , وبدا القلق على وجهها , هل سيحاول التودد إليها ؟ وهل يعتقد ان ابتسامة واحدة منه تكفي ؟
- لماذا توقفت ؟
- وماذا تعتقدين ؟
هكذا إذاً , لقد تأكدت الآن انها لا تتخيل , لا لهجة صوته الناعمة ولا ابتسامته الصغيرة الساخرة .
- هل لك ان تحرك هذه السيارة ثانية .. ارجوك ؟
ومدت يدها الى مقبض الباب استعداداً للخروج فيما لو اقترب منها أكثر , واجابها :
- اوه .. ليس بعد!.
ومد يده بسهولة نحوها , ولكن بدلاً من لمس وجهها , أرجع شعرها الأحمر عن جانب وجهها كي يراها اكثر.

- ابق يديك بعيدتان عني!
- لا حاجة بك ان تثوري , فلم اتوقف هنا لأغتصبك , لذا توقفي عن التنفس بصعوبة و الارتجاف !
- انا لا أتنفس بصعوبة ولا ارتجف !
- ألست كذلك ؟ إذا فأنت تقلدين المرأة وهي مرعوبة , ولست ادري لماذا , لقد توقفت هنا كي تشاهدي المنظر !
- المنظر؟ من تعتقد انك تخدع ؟ لست حديثة الولادة .
- لا؟ لقد بدأت اعتقد ان هذا هو التفسير الوحيد !
- ألست مضحكاً ؟
- آنسة كارادس .. لقد بدأت اشعر أنك لا تحبيني.
- و ماالذي يجعلك تعتقد هذا؟
- اخرجي من السيارة!
وتوترت اعصابها من الطريقة التي قالها بها , ومال نحوها وهو ينهي كلامه , ولمس جسده جسدها قليلاً , ولكن لم يكن هناك أي إثارة لهذه اللمسة , وكانت عيناه تقدحان بالعداء عندما نظرت اليهما وفتح الباب وكادت ان تقع , ونزلت ومن دون ثبات سارت نحو الجدار الحجري , ووضعت يديها على الحجارة الخشنة , لم تستطع ان تلاحظ المناظر من حولها , بل كانت تفكر بغضب بما حدث.
وخرج من السيارة وتقدم الى خلفها قائلاً:
- لو نظرت فوق الجدار تستطيعين ان تري الوادي بكامله من طرف الى طرف , إنه منظر أفضل مما ستشاهديه من مزرعة والدك , واعتقد انه قد يساعدك على استعادة قدراتك , وذاكرتك قليلاً.
منتديات ليلاس
وحدقت الى الوادي البعيد , وهو يمتد مابين التلال المستديرة .ريحانة
واستطاعت رؤية البلدة الصغيرة ذات المنازل بسقوف خشبية , والمستشفى الواقع في ضواحيها , والطريق الرئيسية والسيارات تتحرك عليها وكأنها لعب صغيرة , وقرية هالوس كروس عند قدمي التلة .
وقالت له :
- لست بحاجة لاستعادة ذاكراتي , لم أنس شيئاً.
- ماعداي؟
وشعرت برجفة خفيفة غريبة تجري في عروقها , وكانت سعيدة لأن ظهرها اليه , لأنها لم تكن واثقة مما قد يقرأ في وجهها.منتديات ليلاس
- لم أكن اعرفك .. في الواقع.
- ألم تكوني تعرفيني ؟.
وعادت اليها تلك الرعدة الباردة , ماذا يعني بقوله ؟
- لا اذكر أننا تصافحنا كثيراً!.
- ومع ذلك تعانقنا !
ولكنها عندما استدارت , وعيناها متسعتان وغير مصدقتان , كان يسير عائداً الى السيارة , وهو يقول من فوق كتفه :
- من الأفضل ان نكمل طريقنا قبل ان يرسل والدك تفتيش!
وعادت كارن الى السيارة , وصفقت الباب وراءها كي تربح اعصابها , من الواضح ان هذا كلام هراء , لم يتعانقا ابداً, وحق المساء , لقد كانت في الثالثة عشر عندما غادرت هنا , وروك كان.. بكم يكبرها ؟ عشر سنوات ؟ لا بل على الأكثر اثني عشر , ولابد انه الآن في الخامسة والثلاثين .
ونسيت افكارها بينما كان روك يخفف سرعة السيارة ليستدير ويدخل مابين دفتي بوابة مزرعة هاي هالوز , جدار حجري يمتد على جانبي الطريق , يخفي المنزل عن الأنظار .

وتابع روك سيره عبر الطريق الضيق مابين حافتي شجيرات الغار و الورود التي تنمو بين الأشجار , وأغصانها تئن وتتلاطم بفعل الريح .
كان المنزل يبرز و يختفي بين الأشجار , منزل قديم , مربع البنيان , احجاره رمادية , سقفه من الواح الخشب , وبابه الأمامي من حشب السنديان , وله مدلاة حديدية تستخدم للدق عليه.
وتوقف روك ونزلت كارن من السيارة , وهي تنظر الى البيت , وتتذكر , وظهر والدها من وراء البيت , وهو يرتدي ثيابا موحلة , وقبعة كبيرة على رأسه , وسألها عندما انضم اليها:
- هل تغير كثيراً؟
- لم يتغير ابداً.
وقال روك وهو جالس في سيارته :
- انا مستعجل يا جورج .. أراك فيما بعد.
- انتظر يا روك .. كارلا هنا!
- ماذا ؟
وانحنى جورج كارداس فوق السايرة قائلا:
- روك .. لا تكن قاسياً عليها هاكذا , إنها لا تزال صغيرة , وتجد صعوبة في التكيف.
- لن تصبح الأمور اسهل إذا استمرت بالهرب ! ولماذا تأتي اليك ؟
منتديات ليلاس
واستدارت كارن , وسارت نحو الباب , غير راغبة في الاستماع الى نقاش خاص بينهما , وبينما هي تسير رأت فتاة تقف عند العتبة , ترتدي الجينز وتي شيرت, بشكل بسيط جداً, جمالها جعل كارن تقف وتحدق , هل هذه هي الفتاة التي يتكلم عنها والدها ؟ لا يمكن ان يكون عمرها اكثر من العشرين , ولكن بنيتها كانت كاملة , بحيث ان كارن اعتقدت انها لو بلغت الستين فستبقى جميلة .
ونظر روك الى الفتاة وامسكها وجرها نحو السيارة :
- إذاً ها أنت هنا!
- لا تدفعني هكذا يا روك ! لقد اكتفيت من هذه المعاملة , ولا استطيع تحمل المزيد!
- اصمتي !
ودفعها الى داخل السيارة رغم مقاومتها , وصعد بدوره وفي لحظات ابتعدا , وتنهد جورج قائلاً:
- آه يا عزيزتي .. لم اتدبر الأمر جيداً, أليس كذلك ؟ لقد وعدت كارلا ان احاول إقناعه بوجهة نظرها , ولكن لم تسنح لي الفرصة , فروك صعب المراس.منتديات ليلاس
- إنه صعب المراس فعلاً.
وشعرت بالصدمة لتصرفه مع تلك الفتاة , هل هي صديقته ؟ لا يمكن ان تكون زوجته , أيمكن ان تكون ؟ لم تكن تتصور لسبب ما, ان يكون روك متزوجاً , إنه لا يتصرف كرجل متزوج! ولكن الرجال المتزوجون يمكن لهم ان يعبثوا , أليس كذلك ؟ وقال جورج :
- بإمكانه ان يكون رائعا لو أراد ! هل هناك من خطأ ياكارن ؟ هل أزعجك روك ؟ لم يعد غاضبا من الحادث , أليس كذلك ؟ ولكنه لا يستطيع ان يلومك , فخطيبك من كان يقود السيارة ! أنا آسف لأنني لم استطع إحضارك بنفسي.
- اعلم ذلك , لقد شرح لي الأمر, لقد هرب بعض الخراف .. لقد فهمت الأمر .. كنت سأتصرف نفس الشيء لو كنت مكانك.
- وهل كنت ستفعلين ؟
- اعرف انني ابنة أمي .. ولكنني ابنتك ايضاً .. أبي لا تنسى هذا!
وابتسمت له بحنان , فلف ذراعه حولها وضمها اليه:

- لن انسى ! الآن , تعالي وشاهدي غرفتك , لقد اعدتك الى غرفتك القديمة , اتساءل اذا كنت تتذكرينها؟
- طبعاً أتذكرها , أتذكر كل شيء.
وتبعته الى الردهة, كانت أرضها لامعة حمراء, بمدفأة كبيرة تتذكر انها كانت تختبئ فيها , وتقدم والدها الى الأمام, يحمل حقيبتها وصعد الدرج الى الطابق الأول , واخذت تتذكر شيئاً آخر...
كم مرة كانت مستلقية في فراشها تستمع الى صوت خطوات أبيها على الدرج ؟ المزراعون عادة ينامون باكراً ويصحون باكراً , وهذا شيء كانت تكرهه والدتها .
ووضع جورج حقيبتها أرضاً, ووقفت عند مدخل الغرفة , تنظر الى السقف المعتم , والسرير النظيف الصغير , بمفرشه الساتان الزهري , وكومة من الوسائد البيضاء , وارضيته الخشبية الملمعة الورود, تعرفت على كل شيء , حتى ترتيب طاولة الزينة كان كما هو , وقالت بتعجب:
- لم يتغير شيء!
وابتسم والدها , ثم تغير وجهه , وبدت بعض الكآبة في بسمته :
- اخشى ان يكون الكثير قد تغير .. أنت مثلاً , لقد كبرت , ولم تعودي طفلتي الصغيرة .. وأمك ...
وانقطع صوته , واستدار لينظر من النافذة وطهره لها , وبعد لحظات قال :
- أنا سعيد جداً لعودتك يا كارن , ولا اتمنى الضرر لخطيبك , أنا واثق انني سأحبه , ولكنني غير آسف لكونك بمفردك معي لفترة , بدل ان يشاركني فيك .
منتديات ليلاس
ولم ينظر ردها , فاستدار وسار نحو الباب قبل ان تستطيع فهم كلماته وتابع :
- خذي وقتك للتعود على المكان ثانية, وإذا احتجت إليّ سأكون في مكتبي ..
ومضى النهار بهدوء , واخرجت كارن ثيابها من الحقيبة واستقرت في غرفتها القديمة, ثم نزلت الى الأسفل , واخذت تتجول في المنزل والحديقة , تعيد زيارة أماكن طفولتها وتشعر بغرابتها , ومع ذلك بالسعادة الهادئة.ريحانة
ووجدها والدها تجلس على الأرجوحة تحت شجرة التفاح وإلى جانبها كلب راعي , وراقبها قليلاً ثم ابتسم وقال :
- لقد اتيت لأقول لك إن العشاء جاهز.
- هل طبخته بنفسك؟ كنت انوي مساعدتك.
- كان عليّ ان احضر الطعام بنفسي على كل الأحوال , وتحضيره لاثنين ليس صعباً , في الواقع لقد سرني هذا , لأن تناول الطعام وحدي اضجرني .
وتساءلت وهي تتبعه الى البيت , ما إذا كان قد شعر فعلاً بالوحدة خلال تلك السنوات , لماذا لم تكتب له؟ وهل هو غاضب منها لهذا ؟ ولكن لايبدو عليه لا الغضب ولا العتب .
في اليوم التالي اتصلت بالمستشفى فأبلغوها ان زيارة تشارلز ما زالت ممنوعة , وأمضت بقية يومها مع أبيها, تتجول معه في المزرعة , والأراضي الجبلية, ومايحيطها من الريف , واخبرها عن الخراف التي يملكها , وراقبت الديوك وهي تصيح والغربان والصقور , تطير دائرة حول القطيع .
في طريق عودتهما قال لها والدها :
- سنتعشى الليلة في قصر ميلمان؟ أم أنك تفضلين عدم الخروج الليلة ؟

- هذا عائد لك يا أبي.
ونظر اليها والدها متردداً بعبوس , هل كان يتساءل عما تعرفه ؟ فهو لم يذكر كلمة عن سبب اقترافه عن والدتها, هل يعتقد انها لا تعلم شيئاً عنه وعن السيدة ميلمان ؟ وقال :
- حسناً لنرى اولاً كيف تشعرين .. فلقد خرجت بالأمس فقط من المستشفى.
- النوم باكراً سيكون أفضل لي , وأرجو فقط ان لا يسبب لك طبخي عسر هضم .
- لا تخدعيني يا كارن , فوالدتك كانت طباخة ماهرة, وأنا واثق أنها علمتك!
- لقد علمتني .
كان غريباً منع ان يذكر والدتها دوماً, دون وخز ضمير , كأنها صديقة قديمة لم يرها منذ سنوات , هل يفكر بها دوماً ؟ هل اشتاق اليها عندما تركته ؟ وهل أحبها ؟ وبدا لها والداها كسر غامض.
وتنهدت , لم تكن واثقة من حقيقة شعورها حول أي شيء , ونظر والدها الى ساعته :
- لقد تأخرت .. يجب ان اسرع , لماذا لا تنامين لساعة او لساعتين, وعندما أنهي عملي , نستطيع تحضير العشاء معاً.
- حسناً يا أبي .. سنحضره معاً, سيكون هذا مسلياً أكثر.
وذهب والسعادة بادية على وجهه , ودخلت الى المنزل , والقت نظرة على البراد , واخرجت منه ما سيحضر انه للعشاء, ثم صعدت الى غرفتها واستلقت في الفراش , لتستريح نصف ساعة فقط , ولكنها ما لبثت ان استغرقت في النوم فوراً.ريحانة
واستيقظت عندما سمعت الباب يفتح , ورفعت رأسها وهي نصف نائمة وقبل ان ترى احداً, كان الباب قد أغلق من جديد, وجلست وهي تتثائب.
- أبي؟
ولم يجبها أحد, ولكنها أحست بوجود شخص في الخارج , ونادت ثانية :
- أبي ؟... هل هذا أنت ؟.
ولم تتلق رداً, فذعرت , وخاصة ان صوت الأقدام قد عاد من جديد , شخص ما يتحرك بحذر محاولاً عدم إصدار صوت , واحست بفراغ المنزل بضغط على اعصابها بثقل, إذا لم يكن والدها , فمن هو , ولماذا لا يجيب ؟
وأنزلت قدميها عن السرير ووقفت, وقد اقشعر جلدها من الخوف , وسارت على اطراف اصابعها نحو الباب , وفتحته بسرعة .
كان الدرج معتماً, فقد حلّ المساء , وعتمة الخريف بدأت تهبط بسرعة , ولمحت ظلاً اسوداً في منتصف الدرج, ظل رجل بدأ يتطاول الى ان لمس السقف وكأنه منظر من فيلم رعب.
وجمدت كارن , وتطلعت الى الأسفل , وقلبها يخفق بسرعة .