كان مرتدياً بدلة رمادية يتناسب لونها مع سمرة بشرته و مظهره الوسيم . و لكن عندما اقترب منها, شعرت بأنه أصبح أكبر سناً منذ تلك المواجهة بينهما .
ثمة خطوط أحاطت بفمه بينما بدت بشرته السمراء شاحبة , كما رأت فى عينيه البنيتين ألماً زاد وضوحه أهدابه السوداء كالفحم.
رغم أنه لم يحدق إليها بنفس الإحتقار و الأنفة كما من قبل , لم تشعر بأن شعوره أصبح أكثر مودة نحوها . هذا إلى أن مرور الزمن قد خفف من غضبه كما يبدو.
قال دون تمهيد :"بول فى المستشفى"
كان هذا آخر ما توقعت سماعه. و صرخت بذعر :"ماذا حدث له؟"
ــ أبنى ليس على وشك الموت إذا كان هذا ما تخافينه . على الأقل ليس بسبب ألم جسدى .
ــ ما الأمر إذن؟
سمعته يتنفس بحدة :"صدمته شاحنة بعد أن ترك الشقة تلك الليلة"
ــ آهـ , كلا.....
و أرتجف جسمها
كما أخبرتك , سيشفى . كل ما أصيب به هو أرتجاج فى المخ و بعض الرضوض .
أغمضت عينيها بشدة:" الحمد لله أنه حى. كان من الكدر بحيث لا يدهشنى عدم إدراكه إلى أين كان يسير"
ــ فى هذا أنت مخطئة . عندما أحضرته الأسعاف إلى المستشفى , كان غائباً عن الوعى . و عندما صحا فى قسم الطوارئ ظن نفسه قد مات و أنه فى العالم الآخر. و عندما اخبر الطبيب أنه لم يمت بل هو حى تماماً , لم يشأ بول تصديق ذلك . ثم اعترف بأنه تعمد الاصطدام بالشاحنة.
فصرخت :"ماذا؟ هل أراد بول ان يموت حقاً؟"
عسكت عيناه المعذبتان ذعرها و شعرت بيده تقبض على مرفقها :"علينا أن نتحدث و لكن ليس بإمكاننا ذلك هنا. أظنك أنهيت عمل اليوم؟"
فأجابت شاعرة بدوار :"نعم , كنت فى طريقى إلى .... بيتى"
عليها أن ترجئ موعدها مع الأم مارى كلير إلى ما بعد. فهذا أهم .
ــ فى هذه الظروف , أفضل أن آخذك إلى شقتى أولاً . و أثناء تناولنا الطعام أخبرك بما قاله لى الطبيب قبل أن أغادر المستشفى هذا المساء .
منتديات ليلاس
أومأت برأسها و هى ما زالت ترتجف لهذا الخبر . و بدأ شيئاً من الارتياح على ملامحه المتوترة لتجاوبها هذا و وجّهها بيده التى ما زالت على مرفقها نحو سيارته . كانت زهرة منسية واثقة من أن هذه الحركة آلية منه , و مع ذلك شعرت بحرارة يده تسرى فى جسمها .
كانت دون شك شارعة بقربه منها إلى درجة بالغة لأنها لم تسر مع منذ موت زوجها . منذ تلك اللحظة الهائلة التى أدركا فيها أن الطائرة تسقط , سحقها بين ذراعيه لآخر مرة . و منذ ذلك الحين أهملت كل رجل آخر .
ساعدها على الصعود إلى السيارة ثم جلس خلف المقود و سرعان ما انضم إلى حركة السير . و ساد الصمت بينهما دقائق و قالت بعدها :"إنه ذنبى لأننى لم أكن واعية إلى شعور بول نحوى"
ــ قبل أن تبدأى بلوم نفسك , إنك بحاجة لأن تعلمى أن هناك عوامل عدة أدت إلى هذه الأزمة . أخبرنى بذلك الدكتور موروا , الطبيب النفسانى الذى فحص أبنى . و حسب قوله , لا يمكن لوم أحد . و ان نعاقب أنفسنا لإعتقادنا بإننا أخطأنا بحق بول لن ينفع بشئ و لن يحل الأزمة.
فقالت بصوت ينبض بمشاعر لم تستطيع أن تخفيها :"و هل أستطعت أن تتخلص من شعورك بالذنب؟"
قال بعد صمت طويل جعلها تظن أنه لم يسمعها :"لا."
همس بذلك بصدق ملئ بالألم ما جعل جرحها ينفتح من جديد. إنها فرصة ثانية تمنحها لها الحياة بعد حادث الطائرة لتفعل شيئاً نافعاً فى حياتها .
على الأقل كان ذلك هدفها منذ البداية فلم تفلح إلا فى إشاعة الإضطراب فى أسرة رولاند .
قالت :"كان يفترض أن أكون أكثر حكمة ... أنا أكون الشخص الذى يجلب قبساً من الضوء فى يوم سئ ..... الشخص الذى يزود حياتهما بالراحة و السلوى لمجرد وجوده و إصغاءه لهما فيما لو كانا بحاجة إلى سند لكننى لم أر ذلك يحدث"
ــ لست وحدك من فوجئ بحدوث ذلك.
هتف بذلك متهماً نفسه , فشعرت بكلماته تتغلغل فى كيانها , بينما تابع يقول :"لا أتذكر أمى جيداً , لكن أبى فقط هو الذى قيد حريتى أثناء نموى. كان يخاف من أننى إذا تركت كرم العنب و لو لرحلة قصيرة , لن أرضى أبداً بالبقاء فى البيت بعد ذلك . و حاول جداى أن يتدخلا لأجلى , و لكن عبثاً. و بقيت سنيناً ألعن أبى و أسم أنه إذا أصبح لدى أولاد , سأحرص على أن يتعرفوا على أماكن أخرى و خبرات جديدة. وعندما أخبرت التوأمين بأننى سأرسلهما إلى مدرسة داخلية فى باريس , و هو شئ كنت متلهفاً عليه عندما كنت فى سنهما, لم يظهر عليهما حماسة لترك البي . و عجبت لماذا لم يقفزا فرحاً لهذه الفرصة للتعرف إلى الحياة"
و نظر إليها :"كان من سخرية القدر أن أراهما لا يريدان الرحيل لكننى كنت واثقاً من أننى أقوم بالشئ الصواب إذ أدفعهما إلى خارج العش معتقداً أن هذا فى مصلحتهما."
فقالت و قلبها يتحطم :" لقد منحت ولديك الكثير من الحب إلى حد ما يشعرا معه برغبة فى الإبتعاد عن البيت . لكنهم ما كانا يريدان أن يجرحا مشاعرك فى إبداء رغبتهما بالعودة إلى البيت"
فقال بخشونة :"و هكذا أخبراك أنت بذلك. آسف لاضطرارك إلى تحمل مسؤولية غلطتى طوال هذا الوقت"
فصرخت :"إياك أن تقول هذا. تلك لم تكن غلطة. فقد أمضيا فى باريس وقتاً رائعاً . و قد أكتسبا خبرة ما كانا سيكتسبانها فى أى مكان آخر . أن لديك أروع منتديات ليلاس ولدين فى العالم , و انا شديدة الحب لهما . و قد أحببت كل لحظة أمضيتها معهما . وإن حاجتهما إلى أصدقاء من خارج المدرسة يبرر عملى. و قبل أن أحضر إلى فرنسا , كان علىّ أن أؤدى القسم , ولكن , مثلك أنت , شعرت الأم المقدسة بأن فتاتها قليلة الخبرة و بحاجة إلى قضاء مزيد من الوقت فى العالم ... كانت تريدنى أن أكون واثقة جداً من رغبتى فى إداء رسالتى الدينية قبل أن أصبح راهبة . و قد رتبوا لىّ عملاً هنا فى باريس , لكننى لم أشاء البقاء , عند ذلك تعرفت إلى والديك فكان ذلك بمثابة صرخة من القدر بالنسبة إلىّ . كنت حريصة جداً على وجودى هنا لأجلهما . لم ادرك أن بول يعتبرنى أكثر من مجرد صديقة . لم أعرف...."
و تلاشى صوتها.
ــ هل نسيت أننى أنا من أستحال غولاً و طرده من الشقة؟ و الآن أصبحت أبنتى من الخوف منى بحيث تجفل كلما حاولت أن أتحدث إليها .
لكن هذا كله أنتهى .