كاتب الموضوع :
Ahmad Rufai
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: 13
-2-
ويهرب الإنسان دوماً.. من قدرٍ لن يصيبه إلى قدرٍ سيصيبه!!
رغم يقينه وإيمانه به إلا أنه لا يتورع عن الهرب، مسهلاً مهمته دوماً، ومثله كنت أهرب، أبتعد خوفاً من أن يقتلني كل شيء هناك، حتى الهواء الذي طالما تشاركنا استنشاقه باستمتاع.
ولم أكد أنفض رجلي من غبار تلك التجربة حتى وقعت مرة أخرى، فلمعت حذائي، ارتديت ملابسي وخرجت على عجل..
هنا في الهند لن يعرفني أحد، أقصد.. سيعرفني كل أحد!!
كنت أرى في نظرة سائق الحافلة وهو يحدث من بجانبه كأنه يقول له:
- هذا المجنون سافر الأميال بحثاً عن مكان لا يصله الهواء الذي تستنشقه حبيبته.
فيضاحكه صديقه بصوت عالٍ وهو ينظر إليّ بشفقة!!
كل الأشياء كانت تعرفني وتشمت بي، حتى مفتاح الغرفة ومزلاج الباب.
ولم تستطع الهند بكل آثارها، أديانها، لغاتها وثقافاتها المتعددة أن تحتوي رجلاً جاء هارباً إليها بصمت، علمت حينها أنه لو اجتمع كل رجال الكون لن يستطيعوا تغيير شيء فيك ما دام هذا التغيير لم ينبع من داخلك.
لذلك حاولت أن أفعل أي شيء يساعدني لأتغير من داخلي فقررت أن أدرس..
لا أريد أن أعود قبل أن أنساها، أريد أن أخطو على الجرح مستمتعاً، أن أقف على قصتي ضاحكاً مستفزاً لذاتي، فهل بالإمكان أن يحصل ذلك؟؟
صعدت إلى الحافلة على عجل، وما أن اقتربت من وجهتي المنشودة حتى قفزت مسرعاً واتجهت نحو المدخل، وعلى حائط طويل صفّت عليه الأوراق بحثت عن اسمي ورقم قاعتي، ولم أستطع الوصول إلى القاعة حتى تبللت بالمطر تماماً.
نقرت الباب نقرتين بإصبعي السبابة ثم عدت إلى الخلف ففتح الباب رجل قصير، حليق شعر الرأس وله ذقن كثيفة ويرتدي بزة رسمية وبادرني بالقول
- Master Qusay
حركت رأسي بالإيجاب فتابع:
- You are late
أفسح لي الطريق حينما وجدني مبللاً فدخلت وأنا أنفض شعري من الماء، وأصابني القلق حين اكتشفت أنه لم يبقَ في القاعة سوى كرسي واحد، بجانب فتاة نحيلة نوعاً ما يبدو أنها عربية، اتجهت للكرسي أبعدته عنها كأنني أعيده إلى مكانه بلباقة وجلست.
بدأ المدرس القصير في سؤالنا عن أسمائنا وأعمارنا والدول التي قدمنا منها.
لم يفهم البعض مقصده فراح يشرح لهم ويشير إلى نفسه، ماي نيم إز (نعيم) وات إز يور نيم؟ كان رائعا في إيصال فكرته.
وجاءني الدور فقلت:
- ماي نيم إز قصي.
أما هي فقالت:
- ماي نيم إز ربى..
كونها تنتمي لنفس المنطقة التي أنتمي إليها لا يعطيها الحق في أن ترمقني بالطريقة التي كانت تنظر بها إلي، أردت أن أقول لها بالعربية.. المعلم بهذا الاتجاه، لكنني أحجمت عن ذلك لعدة أسباب لست أعلمها!!
في الأيام التالية وجدت نفسي مضطراً للجلوس في نفس الكرسي بجانبها، خفت إن أنا جلست مكان أحدهم أن يطلب مني مغادرة الكرسي.
فأصبح لزاماً عليّ أن أشاركها المجموعة عندما يقسمنا ذلك (النعيم) إلى مجموعات ليقوم بتنشيط أدمغتنا وتحفيزها على التعلم مما ولد جواً من الألفة بين كل من في القاعة، وساهم في نشر المزاحات اللطيفة، حتى باتت تغششني بيدها كلما سألني الأستاذ نعيم فوجدني سارحاً في اللا شيء.
ساعدنا جو القاعة وطريقة الأستاذ نعيم على التأقلم مع الوضع الجديد بسهولة، فكان هو محور أول حديث يدور بيننا. قلت لها بالعربية:
- طريقته لطيفة ورائعة في التدريس
قالت:
- نعم، لكنك تسرح كثيراً.. لا أعلم، هل أنت بخير؟
قلت:
- نعم.. أشكرك
وعدنا للصمت مرة أخرى فربتت على يدي بالقلم بلطف، قالت:
- أمتأكد أنت من أنك لا تعاني من أي شيء؟
لم أجبها.. نظرت إليها ثم عاودت النظر باتجاه الطالب في الجهة المقابلة لي وهو يبتسم.
قالت:
- مالذي جاء بك إلى الهند؟
قلت:
- الطائرة
ابتسمت:
- لم أسألك عن الوسيلة التي جئت بها، أقصد لماذا جئت إلى هنا؟
قلت:
- أخبرني الأصدقاء أنها مكانٌ جيد للتعلم..
قالت:
- وكيف تقضي وقتك هنا؟؟ هل أعجبتك الهند؟
علمت أنها لن تتوقف عن الأسئلة أبداً طالما كنت أجيب، فاخترت إجابة قصيرة ومقتضبة في الوقت ذاته، قلت:
- أعتقد أنها جيدة.
تظاهرت بالانشغال بكتابة ما يقوله الأستاذ (نعيم) حتى تكف عن طرح الأسئلة على هذا النحو المربك فعلا، كانت هذه أطول محادثة دارت بيننا حتى الآن، وبالرغم من ذلك فأن تلك المحادثة القصيرة جعلتها تجسر على الاقتراب مني أكثر.. ودون مقدمات وجدتني أرضخ لطلباتها حتى أستطيع تجنب ثرثرتها على الأقل!!
استقبلني عم (موجود) عندما عدت إلى الفندق مساء ذلك اليوم، كان رجلاً قد تجاوز الستين من عمره، هو من ساعدني في كثير من خياراتي منذ أن جئت إلى هنا.. كان أبيض البشرة طويل شعر الرأس.. يضع (عمة) على رأسه تذكرني بعلاء الدين، ويرتدي ثوباً فضفاضاً أغلب الوقت.. ينحني بابتسامة مرحة حين يصافح زبائن فندقه الصغير، قال لي أنه عاشر العرب كثيراً حين كان يعمل على متن السفن التجارية.. صافحته وبادلته الابتسامة فقال لي:
- سيد قصي، سأسهر اليوم أنا وأحد أصدقائي العرب، أعتقد أنك ستستمتع بذلك.
اعتذرت منه بأدب وصعدت إلى غرفتي وأنا أفكر في ربى، لا أستطيع منعها من الاقتراب أكثر، كما لا يمكنني السماح لها بذلك، لا أريد أن أضعها في مقارنة خاسرة ولا أريد أن أكون تجربة فاشلة في حياتها تحملني وزرها فيما بعد كما حدث معي، لكن الأحداث جاءت أسرع مما كنت أتوقع!!
وجدتني وأنا أجلس أمامها في مطعم يقدم لزبائنه وجبات على الطريقة العربية، فجلست أتأمل وجهها بعد أن خلعت الحجاب عن رأسها، بينما راحت هي تقلب قائمة الأطباق في يدها، شعرت أنها لم تزل في الصف السادس، قصيرة و نحيفة جداً، شعرها قصير وعينيها صغيرة بفعل النظارات التي لا تفارق وجهها أبداً.
كانت لا تكف عن الحديث أبداً.. ما أن تجد مساحة فارغة في ناموس الوقت حتى تملؤها بحديثها عن نفسها وحياتها الخاصة وأحلامها.. قالت وهي تلعب بقطعة القماش في طرف الطاولة:
- أمي مدرسة جغرافيا.. عندما علمت أنني لا أفضل التخصصات العلمية بدأت تبحث لي عن تخصصات أدبية تمكنني من إيجاد عمل مناسب، قالت أنه لا يمكنني الاعتماد على الرجال والزواج في حياتي، كما أن مجموعي لم يمكني من الدخول في أي جامعة وطنية، فأخبرتها خالتي - التي كانت قد أرسلت ابنها إلى هنا ومن ثم ابنتها- أن الهند مكان رائع جداً.. وأن وجود أبنائها سيسهل الكثير من الأمور إن هي أرادت أن ترسلني إلى هنا.
كنت أستمع لها دون مقاطعة وأكتفي بابتسامة عندما أجدها تنظر إلى وجهي مباشرة لتبحث في ملامحه عن انطباعات ربما تكون قد رسمت على صفحته لتحدد من خلالها الشعور الذي أعيشه في تلك اللحظة.
واصلت حديثها:
- في البداية واجهت صعوبات كثيرة جداً.. تخيل أنني بقيت لشهور لا آكل سوى المعلبات والفواكه الطازجة فقط.. استغرب كيف تأكل ابنة خالتي من أكلهم، حتى أنها تحب أفلامهم وتحاول تعلم لغتهم وتقلدهم في كل شيء حتى في ارتداء الملابس، حتى خالد ابن خالتي اندمج كثيراً معهم.
أيقظتني من غفلتي عندما أمسكت بيدي، وابتسمت عندما رأت معالم الحرج ترتسم على ملامحي فضحكَت، لكنها شعرت بتوتري من لمسها ليدي، خاصة وأنني كنت قد بدأت أبتعد عن نقطتها لأعود إلى نقطتي الأصلية هناك داخل وطني، كالكترون لا يتأثر بأي مجال مغناطيسي غير الذي ينتمي إليه.
شعرت هي بتسرعها فحاولت أن تغطي الموضوع وأن تكمل حديثها بتلقائية، قالت:
- قليلاً ما أجلس معهما، فهما مشغولان بالخروج دائماً ، كما أنني لا أفضل الجلوس بصحبتهم أبداً..
صمتت قليلاً حين رأت أنني لا أتفاعل مع حديثها فربما حاولت تغيير مجرى الحديث، قالت:
- حتى جاء اليوم الذي سمعت فيه صوتك.. جاء رخيماً كأنه صوت أمي.. لدرجة أنني لم أعد أعلم هل بت أواظب على الحضور باكراً من أجلك أم من أجل الأستاذ (نعيم)، صدقني يا قصي.. توقيت ظهورك في حياتي مهم جداً، كنت قد بدأت أشعر باليأس من الحياة هنا و..
قاطعتها بتوتر:
- وأين يعمل والدك؟
- في الجيش.
- ضابط؟؟
- لا.. إنه طبيب بيطري .. يعمل في الجيش، عمله يتطلب منه أن يتأكد من سلامة المواشي التي يقومون بذبحها لتموين الجيش.
إنه طيب جداً.. لكنه يقول أن انفصاله عن أمي ليس بسببها ولا بسببه، وإنما نتج ذلك عن عدم ملاءمتهما لبعضهما، أعتقد أنهما يقولان ذلك حتى لا يجعلاني أتخذ موقفاً سيئاً من الارتباط بأحدهم.
- وما رأيك في ذلك؟
قالت بخبث:
- في ماذا؟
- فيما يقوله والدك؟
- وماذا قال..
لم أجبها فتابعت:
- قصي.. لست غبية.. أعلم أنك تتهرب من إدخال مشاعرك في حديثك معي، حتى أنك لم تتحدث عن نفسك أبداً.. لكن مجرد استماعك لي يكفيني حتى الآن.
حاولت أن أجد رداً مقنعاً، لكنها تابعت الحديث مرة أخرى:
- ليس كل البشر متشابهون يا قصي، لكل شخص تجاربه وما يؤمن به في حياته، ربما تؤثر علاقة والدي بولدتي في حياتي لكنني أؤمن بأن الالتقاء بأشخاص جيدين، يجعل حياتنا أجمل.
ابتسمت قليلاً وشكرتها في نفسي، قلت لها بصوت منخفض:
- أنا آسف..
ردت لي الابتسامة بابتسامة أجمل، قالت:
- لا بأس.. لن أكفّ عن المحاولة.
لا أعلم هل كنت أنا رائعاً لهذا الحد لتتقرب مني أم أنها صنعت مني أسطورتها بنفسها، لابد أنها الغربة التي كنا نتشاركها، فأن تجد شخصاً من نفس بيئتك في دولة أخرى، سيخيل لك أنك التقيت به قديماً هناك، وأن وجودكما هنا جاء ليحقق ذلك الحلم القديم، بينما ليس هناك سوى الاشتياق، ليس له وإنما للديار.
لم يكن لديها الوقت لتفلسف أي شيء، شرعت مباشرة في تعليمي كيف أفعل كل شيء تحبه هي، لم تكن أنانية بقدر ما كانت تحاول أن تشعر أن أحداً ما بالغربة بجانبها، تعبت كثيراً لتحصل علي، أو لتحدثني حتى، كانت تجلس في وقت الاستراحة داخل القاعة بانتظار أن أتحدث معها لكنني لم أفعل، وحينما أخرج من القاعة أجدها تمشي بهدوء خلفي، فما يكون مني إلا أن أشعل سيجارتي وأتوجه إلى موقف الحافلات.
المساحات الضيقة لا تسمح لك بالطيران، ومساحات الغربة مهلكة دائماً، بدأت ربى في تضييق الخناق حول رقبتي، تريد أن ترافقني أينما ذهبت، قلتها لها مرة بصراحة:
- كيف تريدين أن أحبك وأنت تجثمين على صدري كأنك ليلة لا تنتهي.. أرجوك، قفي قليلاً ، دعيني أتنفس..
لم تجب، تجمعت الدموع في عينيها وصمتت، نظرت لي بعتب وغطت فمها بكلتي يديها، ثم بدأت تحرك رجلها بتوتر ملحوظ.
للحظة.. تذكرت دموعي القديمة، لا أريد لها أن تمر بنفس تجربتي.. فشعرت باليأس وبدأت بالكذب، قلت:
- دعيني أشتاق إليك.. أنا أفعل هذا من أجلك، أريد أن ينمو الشوق ويزيد الحنين، أريد أن ألتقيك ليس لمجرد اللقيا، أريد أن التقيك لأنني أشتاقك جداً..
قاطعتني بعتب، وعيناها تجود بمائها:
- لكني أشتاقك في كل ثانية أقضيها بعيداً عنك.
صمتُّ قليلاً، لن يكون الحل سهلاً كما توقعت، كلما توقفت لصدّها تردعني دموعها بشدة فلا أقوى على متابعة الحديث. فأسلك مساراً آخر لا يروقني.. ربما لأنني حينها أكون قد شعرت بالتعب، لا فائدة من هذا كله.
قلت:
- أنا أيضاً حبيبتي، لكنني متعب قليلاً هذه الأيام، سامحيني، رفعت صوتي دون قصد.
أغمضت عيني وقطعت رأيي، الحجارة الصغيرة المتتابعة تؤدي دورها صخرة كبيرة واحدة، هذا هو الحل الوحيد، فبدلاً من أن أتجنب دموعها الصغيرة يومياً، سأتجنبها مرة واحدة بدموع أكثر، وسينتهي كل شيء، لكن تلك الفكرة كلما راودتني صاحبها خوف شديد من ردة فعلها، فأجدني أحجم عن ذلك.
كانت العودة إلى الجرح.. إلى الوطن، أهون بكثير من الكذب، فنحن نكذب على أنفسنا حينما نشعر باليأس، ثم نطلق على تلك الكذبة جزافاً مسمى الأمل.. لكن الكذب على الذات أو منحها الأمل، لا يبرر لنا الكذب على أناس أحبونا بكل حواسهم ومشاعرهم..
يتبع..
|