كاتب الموضوع :
Ahmad Rufai
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رواية 13
-7-
أعتقد أنها وبعد فترة من الزمن أصبحت مشبعة بكل ما هو جديد ولطيف من عبارات المدح والثناء، والأكيد أنني لن أكون الأول الذي سيحاول التقرب منها، وإن أردت الفوز فلا بد أن أكون مختلفاً عن الجميع، أن أبهرها بطريقة لم يسبقني إليها أحدهم.
جميع هذه الأفكار كانت تدور برأسي وأنا أهم الاقتراب من الحائط لرؤية ما يخبئه خلفه، ولم أجد صعوبة في معرفة اللوحة التي كان يخبئها إذ لم يكن هناك سوى لوحة واحدة.
الغريب أنها كانت رديئة جداً مقارنة ببقية اللوحات إذ دمجت ألوانها بطريقة غير متناسقة، حاولت أن أفك الشفرة بين الفوضى البصرية التي أمامي وبين قولها في الأمس: (أشعر أنها حياتي) لكنني لم أستطع أن أتوصل إلى أي شيء، لم تترك لي فرصة لأعيد ترتيب السيناريو الذي كنت قد أعددته سلفاً لأنني تفاجأت حقاً وبات من الصعب محاولة إكمال الطريق.. شعرت بالسخط حين علمت أنها أنثى معقدة كهذه اللوحة تماماً، وأن الدرب للوصول إليها سيكلفني الكثير.
كنت أعلم أن وقوفي أمام هذه اللوحة سيشد انتباهها سريعاً، خصوصاً أن الجميع تجنبوا الوقوف أمامها، ففكرت بالابتعاد قليلاً لأعيد ترتيب ما سأقوله لكنني لمحت ظلها ينعكس على اللوحة فعلمت أنها تقف خلفي تماماً لكنني تجاهلتها حتى سألتني.
- هل أعجبتك؟
التفت إليها بهدوء مصطنع، قلت:
- بعض الأشياء لا يجب أن تكون جميلة كي نحبها.
صمتت لبعض الوقت ثم قالت:
- كيف؟
- أنا أحب أبي بالرغم من أنه ليس وسيماً أو قويا، لكنني لا أستطيع الاستغناء عنه، وأعشق وطني وقد أحارب من أجله بالرغم من أنه ليس رائعاً.
نظرت إلى عيني مباشرة بطريقة أربكتني، قالت:
- وما الذي قد يدفعك إلى أن تحب لوحتي؟
- تقصدين.. ما الذي دفعك إلى أن تعجب بلوحتي.. أعتقد أن فيها ملامح من كل اللوحات الموجودة في المعرض.. كأنها المسودة التي أوحت لك بجميع اللوحات الأخرى، كما أنني أعتقد أن مكانها المنزوي في هذه القاعة يعبر عن روحك، وطريقة تداخل ألوانها تعبر عن بداياتك.
تابعت حديثي وأنا أشير إلى اللوحة مخبئاً ضحكة كادت أن تفلت مني:
- وعند تدقيق النظر فإن توقيعك هنا جاء مختلفاً عن كل اللوحات، الخط هنا مستقيم أكثر من اللازم.
لم يكن التوقيع مختلفاً لكنني استطعت أن أوهمها بذلك بالرغم من أنها صاحبة التوقيع، فعندما تأتي بمعلومة حقيقة يظن الجميع أنك لا تعرفها، ستمنح نفسك الحق في تزوير بعض الحقائق!!
بدت على وجهها ابتسامة خفيّة لم أستطع فهمها، قالت:
- هذه أول لوحة رسمتها، وحتى الأمس لا زلت أضيف إليها بعض التعديلات، كأنها حياتي.. في كل يوم أستيقظ فيه من النوم، أضع عليها بعض اللمسات التي تشعرني أنها لا زالت غير مكتملة.
للحظة شعرت أنني نجحت في الوصول إليها، قلت:
- وبكم تباع هذه الحياة الجميلة غير المكتملة؟
عادت إلى رشدها بمجرد أن حاولت تملقها، قالت:
- قلت قبل قليل، أنها ليست جميلة.
- لم أقل ذلك.. قلت أنه لا يشترط أن نحب الأشياء فقط لأنها جميلة، هناك أسباب أخرى..
بات من الواضح أن وصولي إليها صعب، خصوصاً وأنها لا تتأثر بسهولة فآثرت الصمت واختارت هي عدم الحديث، لكنني ما أن منحتها ظهري حتى قالت:
- هي لك، لا أعتقد أنها تقدر بثمن، يعزّ عليّ بيعها.
عندما بدأت تعالج اللوحة وتبعد الخيط عن الحائط لتخرجها شعرت أنها امرأة تحاول التخلص من فضلات ذكرياتها الفارهة بإهدائها لأول عابر سبيل يلتقطها، بعض الأشخاص - وأعتقد أنها منهم - يفضلون الحديث مع الغرباء على أشخاص يحبونهم، لأنهم على ثقة بأنهم لن يلتقون بهم مجدداً.
لابد أنها حين عرضت الماضي للبيع ولم يشتره أحد، قامت بإهدائه لأول غريب يأخذه ويرحل، وأنا لا أريد ان أكون غريباً يشتري منها أثقالاً سئمت حملها منذ زمن، أريد أن أقيم إلى الأبد!!
قلت:
- لا تخرجيها، سآتي في الغد لشرائها.. حتماً سأجد قيمة مناسبة لها.
قالت بإصرار:
- هي لك دون ثمن، إنها أغلى عندي من أن تقدر بثمن.
- وأنا لا أحب الهدايا.. فهي تذكرني بأصحابها.
رأيت ملامح الخيبة تعلو وجهها، كأنها تلعن نفسها ألف مرة على تسرعها فتابعت وأنا أشعر بانتصار داخلي:
- لا أستطيع أن أقبلها الآن، لا أقبل الهدايا من الغرباء، غداً عندما أعود سيكون لك حق إهدائي لأننا حتماً سنعرف بعضنا البعض، أنصحك أن تضعيها في غلافٍ موقع باسمي، لأن الهدايا لا تهدى بهذه الطريقة.
رن هاتفي فنظرت إلى الشاشة لأجد رقم خصال يومض فيها، فنظرت إليها نظرة أخيرة وقلت:
- للمعلومية.. اسمي خالد.. المهندس خالد.
قالت بتلقائية وهي تنظر إلى ياقة قميصي كأنها في عالم آخر:
- وأنا تالا..
- سررت بمعرفتك..
تركتها ممسكة بلوحتها وغادرت وفي رأسي ملايين الأفكار، أبحث عن ثمن مقبول للوحتها التي لم تعجبني!!
واتصلت بخصال التي أوحت لي باسم (خالد):
- أهلاً خصال، كيف أنتِ؟
- بخير..
- اشتقت إليكِ..
صمتت للحظة ثم قالت:
- حقاً؟؟!
- وما الذي قد يدفعني للاتصال بك إن لم أكن قد اشتقت إليكِ؟؟
- لابد أنك رأيت اتصالي قبل دقيقة.. مخادع.
- لم أنتبه لهاتفي إلا حين أخرجته للاتصال بك.
- سأصدقك..
ثم تابعت بصوت منخفض:
- لأنني أريد أن أفعل ذلك.
لا بأس بالكذب أحياناً على شخص يعلم يقيناً أنك تكذب، ذلك سيجعل الكذبة تبدو جميلة كشمع أعياد الميلاد، لا يهمنا عددها بقدر ما تهم حاجتنا إلى وجودها، التفكير بهذه الطريقة سيوسع مداركنا لنعيد النظر في كثير من الأمور التي نفعلها في حياتنا متجملين بها كالمساحيق النسائية، أزرار القمصان الملونة، إعلانات الشوارع والكثير من الزوائد الحياتية المثيرة التي قد يصبح الحب أحدها يوماً ما!!
مررت بالمكتبة لأشتري بعض أوراق الرسم وعلبة ألوان مائية بعد أن سألت صاحب المكتبة عن طريقة استخدامها، ثم عدت إلى البيت وأعددت فنجان قهوة وقمت بتحميل برامج تعديل الصور وتحويلها إلى رسومات على جهاز الحاسوب، قمت بوضع صورتها التي أخذتها من الأستاذ (عادل) في الماسح الضوئي لتحويلها إلى رسمة، ثم طبعتها.. لم تعجبني فقمت بتعديلها مرة أخرى وطبعها على ورق الرسم، ثم بحثت في الإنترنت عن طريقة التلويين بالألوان المائية، لم يكن يهمني سوى أن أنجح في تحقيق ما أود فعله، فعقولنا نحن الرجال تصبح كعقول الأطفال عندما نريد شيئاً بقوة، ليس مهما كيف سنحصل عليه، المهم أن نقوم بتحقيق ما نصبوا إليه، وهذا ما حدث قبيل الفجر بدقائق، قمت بتصميم اللوحة الأولى في حياتي التي كانت توازي لوحة (تالا) في السخف، إلا أن ملامح صاحبة الصورة، كانت واضحة إلى حدٍ بعيد.
جلست أتأمل اللوحة حتى نمت على الأريكة من الإرهاق العقلي والجسدي الذي أصابني من العمل المتواصل لعدة ساعات، واستيقظت ظهر اليوم الثاني وأنا أشعر بآلام شديدة في مفاصلي، فأخذت حماماً سريعاً ثم تناولت فطوري وأنا أتأمل لوحتي.
سينتابك الشعور بالرضا عن الذات عندما تنجز عملاً توقعت عدم قدرتك على القيام به كالرسم مثلاً.. وتشعر حينها أنك تفوقت على أشهر رسامٍ في العالم، فهو حتماً لن يستطيع فعل ما فعلته أنت(كمبتدئ) في ليلة واحدة.
اتصلت بخصال بعد الظهيرة ودعوتها إلى الغداء في أحد المطاعم، وحالما جلست أمامي أخرجت لها وردة من وسط كمي - بحركة خفة تعلمتها من أحد العروض المسرحية - وقدمتها لها، ارتبكت قليلاً واحمرّت وجنتاها وظلت تنظر إلى الوردة وهي في يدي دون أن تأخذها وبعد لحظات من الصمت، قالت:
- قالت لي أمي منذ زمن.. احذري الرجل الذي يقدم لك وردة دون أن يشرح لك أسبابها، فالرجال يهدوننا الورود عندما يكذبون.. أو يخونون.. ليشعروا بالرضا عن أنفسهم.. لكنني على ثقة بأنك لست مثلهم يا قصي، ليس لأنك لا تكذب أحياناً.. بل لأنك لا تخشى من قول الحقيقة مهما كلفك الأمر.. هذا أكثر شيء تعلمته عنك يا قصي..
اكتفيت بابتسامة باردة وأنا أشعر أن الوردة تحولت إلى كتلة من النار تحرق أصابعي حتى التقطتها بابتسامة، وتابعت:
- هل تذكر ذلك الاتصال في المساء؟؟.. تملك قدرة عجيبة على جعلي أتحدث دون حياء، فحين أهرب مني أجدني أبحث عنك، وما أن أسمع صوتك حتى أقول كلما كنت أخشاه ولا أريد قوله لنفسي.. كأن الاعتراف لك بكل شيء يمنحني شعوراً أفضل..
شبكتُ أصابعي بيدها وضغطت عليها بقوة فراحت تنظر إليها وتقبلها وتسحبها نحو وجهها لتعانقها وتمسح بها دمعة تجرأت على النزول وسط كل فوضى المشاعر التي تعتريها، قالت:
- آسفة.. لا أريد أن تشعر أنني ..
قاطعتها بابتسامة:
- لا بأس.. ما رأيك أن نأخذ جولة بعد تناول الغداء في المجمّع التجاري.
حركت رأسها بابتسامة مرتجفة وعادت لمتابعة طعامها سارحة فأحببت أن أضفي بعض المرح لأغير من مسار الموقف، فقلت:
- تخيلي أنني أستطيع أن أخبرك ماذا يقول ذلك الرجل السمين على يميني لزوجته.
نظرت إلى وجهي باستفهام فقمت بتثخين صوتي وقلت:
- حبيبتي.. لقد أتيت بك اليوم إلى هنا لأخبرك أن الإدارة قررت أن تزيد من راتبي.. صحيح أنني كسول ولي بطن ممتلئة لكنهم رأوا ذلك سبباً وجيهاً لبقائي على مكتبي أغلب الوقت مقارنة بأصدقائي الذين يختفون ما أن تسنح لهم الفرصة بذلك..
- انظري هناك إلى تلك المرأة إنها تحاول أن تعاكسني.. يبدو أن النساء أصبحن يملن إلى الأشخاص ذوي البطون الممتلئة.. ها ها ها..
تزامن حديثي مع تحريك الرجل يده باتجاه النساء فتابعت:
- لم لا تهتمين بنفسك قليلاً يا عزيزتي لتظهري مثل هذه المرأة..
أجابت خصال مباشرة:
- ولم لا تهتم أنت ببطنك الممتلئة؟؟
- إنني أقوم بخطة تكتيكية في حال تحولك إلى رجل مع الوقت فإنني من سيحمل الطفل بدلاً عنك.
ضحكت خصال لدرجة أنها جذبت انتباه بعض الناس لها، قالت:
- هل تتوقع أنهما يقولان ذلك فعلاً.
- إنهما أقل من أن يقولا ذلك حتى. انظري إلى نفورهما من بعضهما.. كأنهما مجبران على الجلوس سوية.
اقتربت أكثر ووضعت يدها على يدي مرة أخرى، قالت:
- وماذا تقول أنت؟
- أقول هيا بنا لنأخذ جولة في السوق.
اكتشفت أن (خصال) أنثى حسيّه، تحب أن تلمس كل الأشياء التي تتعامل معها مباشرة، فما أن تنجذب لشيء أو حديث ما فإنها تضع يدها في يدي مباشرة، أخذنا جولة صغيرة في السوق ثم أعدتها إلى المكتب وذهبت إلى البيت لآخذ حماماً سريعاً أذهب بعده إلى (تالا).
دخلت المعرض وأنا أحاول أن أقلل من حدة توتري، كان عدد الزوار أقل من اليوم السابق، فبات من السهل ملاحظتي وأنا أحمل في يدي مغلف لوحة كبير تتوسطه وردة بيضاء، وضعت اللوحة التي زودتها ببرواز أنيق على الأرض ثم رحت أتجول في المعرض كي لا أحرجها في حال شاهدني بعض الموجودين، توقفت أمام نفس اللوحة فسمعت صوتها يأتي هادئاً من الخلف.
- أهلاً أستاذ...؟؟
التفت إليها بنفس الهدوء، لم أتوقع أن تنسى الاسم الذي اخترعته بهذه السرعة، قلت:
- خالد.. اسمي خالد.
- وماذا تعمل يا أستاذ خالد.
ولأنني قررت أن أكذب مرة أخرى - لعدة أسباب - فإن أول ما خطر ببالي هو حديث خصال وعلاقة الوردة بالكذب، قلت:
- أنا مهندس كما أخبرتك بالأمس.. مهندس ديكور.
- مممم رائع.. لو كنت أعرفك قبل ذلك لسلمتك مفتاح المعرض حتى تنتقي لي ديكور المكان، لقد تعبت حتى أحصل على المستوى الذي تراه الآن، لكنه لم يأت كما كنت أريد.. ما رأيك أنت؟
عندما تنتقص النساء من قيمة ما يفعلنه، فإنهن يطلبن منك بطريقة غير مباشرة أن تحترمه، أن تخبرهن أن ذلك كان رائعاً بحق، فهن يحتجن دائماً لرفع معنوياتهن للعيش!!
ابتسمت بثقة وتقمصت شخصية خصال، قلت:
- اختيارك لوضع المرآة هنا في المدخل كان رائعاً جداً فهي تعكس اللوحات المعروضة للقادم من الخارج فتشجعه على الدخول.. كذلك الإضاءة، جاء توزيعها مناسباً، لكنك لو فكرت في الاستعانة بإضاءة عمودية مائلة بدلاً من الإنارة الأفقية لتلافيتِ خطأ الظلال المنعكسة هنا على الحائط، حتى أنها سرقت من ألوان الحائط بعضاً من جمالها الذي يبدو من الواضح أنك أنفقت عليه كثيراً جداً.. فدرجة اللون على الحائط مكرر بشكل رائع، مما يعطي انطباعاً لمن يشاهده للوهلة الأولى أنه نوع من القماش الفاخر جداً.
عندما يستشيرك الناس متوقعين أنك مهندس، فعليك أن تتصرف كمهندس، حتى لا تخيب ظنهم على الأقل!!
قالت:
- فعلاً، وهذا ما أردته.
- أما إذا تحدثنا بشكلٍ عام، فإن هذا المستوى رائع جداً.. بالمناسبة، لقد أحضرت جزءاً من الثمن.
ابتسمت:
- أين؟
- وضعته هناك على الأرض.
نظرت إلى المكان الذي أشرت إليه وقلبت نظرها بيني وبين المغلف والوردة، حاولت أن تبدو طبيعية أكثر، قالت بمكر:
- والجزء الآخر من الثمن؟!
- سيقرره رأيك في الجزء الأول.. فربما أجد نفسي ملزماً بعدة أجزاء..
ولأنها كانت رسامة لم تستطع أن تنتظر لترى ما يخبئه لها المغلف، وضعت الوردة أمام أنفها وهي تجاملني بابتسامة زائفة، ثم وضعتها على الطاولة ورفعت اللوحة وشرعت تزيل عنها الغلاف الورقي وهي ترمقني بين الفينة والأخرى.. ثم توقفت وهي تحاول أن تخفي انفعالاتها، قالت:
- أنت من رسمها؟
- نعم، أتمنى أن تكون قد أعجبتكِ.. وأن تعذري أخطائي كوني فنان مبتدئ..
وبعكس كل النساء، لم أستطع أن أقرأ شيئاً في عينيها.
*****
قد يؤلمك أحياناً ألّا تحصل على ما تريد، لكن الأكثر إيلاماً هو أن تحصل عليه حين تفقد الرغبة في امتلاكه، وبالرغم من أن التحكم في هذا الأمر صعب جداً لأنه مرهون بالقدر، لكن ترتيب أولويات حياتك بشكل جيد يمنحك القدرة على توقع المستقبل بحيث تعد له متطلباته مسبقاً لتحصل على كل شيء في الوقت الذي تريده.
أصبحت - في اليوم الثالث- مخيراَ بين الذهاب إلى معرض (تالا) أو أمسية (سمر)، فإن فكرت في الذهاب إلى المعرض فإنني غالباً ما سأفقد لقائي بـ (سمر)، وإن كانت الأخيرة لا تعني لي شيئاً مقارنة بـ (تالا) وقد أستطيع الوصول إليها مرة أخرى بأي طريقة كانت، لكن اليوم هو الأخير لمعرض (تالا)، وإن لم أذهب إلى هناك فسأفقدها.. وربما للأبد.
ورغم أن ما أفكر فيه الآن يدفعني لتفضيل (تالا) على (سمر) إلا أنني لن أستطيع الذهاب إلى معرضها لعدم امتلاكي لسبب حضور، وأنا لا أريد أن أظهر ضعيفاً أمام (تالا).. أرجو أن يكون الأمر يستحق هذه المجازفة.
بقيت أفكر طول اليوم إلا أنني غيرت رأيي في اللحظة الأخيرة، سأذهب للقاء سمر ثم أعتذر منها للذهاب إلى المعرض، أغلقت باب سيارتي متجهاً إلى المدخل وأنا أشعر بالرضا النسبي عن هذا القرار، لم أهتم لأمر الأمسية التي بدت مخملية نوعاً ما، كنت أهم بالاقتراب من المنصة لأبحث عن مكان تستطيع (سمر) أن تجدني فيه بسهولة، لكنني ما أن اقتربت من المنصة حتى أصابتني خيبة أمل كبيرة حين رأيت (سمر) تجلس بالقرب من (تالا) فانعطفت بجسمي لأجلس على آخر كرسي في الزاوية اليمنى خلفهم.
لم أتوقع أن ألتقي بهما سوية أبداً ولم أضع ذلك ضمن احتمالاتي نهائياً، لكن احتمال بقاء (تالا) لنهاية الأمسية ضئيل جداً فقد بقي أقل من ساعة ونصف على موعد افتتاح معرضها، هل باعت جميع لوحاتها بالأمس أم أنها؟؟ لا أعلم، كل ما أملكه الآن هو وقت قليل للتفكير وعنصر مفاجأة صغير فرحت أتأملهما.
بدت (تالا) قليلة الالتفات والضحك بعكس (سمر) تماماً، تركز نظرها على نقطة واحدة كأنها تحاول تخزين مشهد ثلاثي الأبعاد في مخيلتها، عندما انتصفت الأمسية توقف مرتبوها بداعي الراحة لمدة عشر دقائق، التفتت فيها (تالا) إلى سمر التي قامت لتسلم عليها فلمحتني..
هرعت إلى الباب وأنا أغالط نفسي بين رؤية (سمر) لي من عدمها، بقي على بداية معرض (تالا) نصف ساعة فقط، لابد أنها ذاهبة إلى هناك، والأكيد أن (سمر) لن ترافقها طالما أنها قامت لتوديعها.
خبأت هاتفي تحت مقعد الراكب في سيارتي ثم فتحت الأبواب على مصراعيها، وأدخلت رأسي بين المقعدين، كأنني أبحث عن شيء فقدته. رأيت انعكاس ظل (تالا) على مرآة سيارتي فأخرجت رأسي ونظرت إليها مباشرة فنظرت إلى عيني وقالت دون أن تتوقف عن السير:
- مهندس خالد.. يبدو أن لك اهتمامات أدبيّة أيضاً..
ثم تابعت حين رأت ملامح الارتباك على وجهي:
- هل أنت بخير؟!
أربكني عدم توقفها وتجاوزها لسيارتي دون الوقوف فقلت بارتباك:
- لقد سقط هاتفي هنا ولا أستطيع الوصول إليه.. هل بإمكانك الاتصال به؟
لم تتغير ملامح وجهها أبداً، أخرجت هاتفها من حقيبتها بتلقائية، قالت:
- على الرحب والسعة.. كم رقم هاتفك؟
ولعنت نفسي، لقد أعددت هذه الخطة مسبقاً لتكون طريقة طريفة أحصل بها على رقم (سمر)، لكن السحر انقلب على الساحر، ومع كل رقم كنت أقوله لها أشعر باحتقار شديد لذاتي، شعرت أنني خسرت كل الجولات حتى التي نجحت فيها مؤخراً.. وما أن سمعت صوت هاتفي حتى منحتني ظهرها متجهة إلى سيارة يقف بجانبها سائق آسيوي.. فتح لها الباب وأنا ألاحقها بنظري حتى اختفت إضاءات السيارة عند المنعطف.
خللت أصابعي داخل شعري ثم شددته بقوة، شعرت بعار شديد لا يمكن وصفه، هل فهمت تالا ما أقصده؟؟ أم أنها كانت على عجلة من أمرها؟؟ ربما كانت هذه هي طبيعتها التلقائية في التفاعل مع الأشياء؟؟ أعتقد أنها أرادت ذلك هي أيضاً.. مستحيل!! فهي لم تبدي حتى اهتماماً لوجودك يا غبي.
اكتشفت في تلك اللحظة أن اهتمام النساء بتفاصيلنا يجعلنا أقوى وأجمل في نظر أنفسنا، وأن إهمالهن وعدم مراقبتهن لنا يجعلنا محبطين ويشعرنا بالفشل كما حدث معي الآن، ربما بسبب ذلك جُعلت زينة الحياة الدنيا بالنسبة للرجال (امرأه)!!
لم يكن لي بد من العودة إلى الداخل مرة أخرى، أردت نسيان ما حدث قبل قليل حتى وإن كان بالجلوس مرة أخرى على ذات الكرسي الذي كنت أراقبها منه وأنا أرى مكانها فارغاً وكأني بمقعدها يسخر مني ضاحكاً فأهملته حتى لا أضع عقلي بعقل الجمادات وادعيّت الانشغال بما يقوله ذلك الشاعر الذي لا يكف عن المفاخرة بنفسه وقبيلته!!
بعد وقت لا أدركه كانت (سمر) تقف أمامي، قالت:
- أستاذ (قصي).. هل أتيت وحدك؟
- ماذا؟؟ نعم.. نعم.. قال (باسل) أنه لا يستطيع الحضور وقد طلب مني الاعتذار لك نيابة عنه.
- لا بأس.. بالمناسبة، حين كنت أودع صديقتي رأيتك تجلس على هذا الكرسي، وحين التفت إليك مرة أخرى لم أجدك.. أين ذهبت؟
- كان لدي اتصال مهم..
- ما رأيك في هذه الأمسية..
توقفت لأمشي بجانبها متجهين إلى الخارج، قلت:
- أحب الشعر لاعتقادي بأن أساسه مبني على تواصل لا حسي بين فرد من البشر وجماعة من الجن يخبرونه بمشاهداتهم في أنحاء الأرض أو بعض أخبار استراقهم للسمع أ..
ضحكت وهي تحرك يدها حول رأسها:
- أشعر بذلك فعلاً عندما أجلس معك، كأنك تستقي أفكارك حول الأشياء من الجن.
غطت وجهها بيدها وتابعت الضحك، كنا قد أصبحنا خارج المبنى، فقلت بابتسامة:
- ربما كان ذلك صحيحاً.. ثم استدركت.. أسرعي قبل أن تتأخري على السائق.. لا بد أنه ينتظرك منذ وقت طويل..
قالت بخجل:
- لا.. في الواقع لقد قرأت الإعلان بشكل خاطئ، أخبرته أن يأتي في العاشرة بدلاً من الثامنة.. ثم اتصلت بأختي لتطلب منه الحضور فأخبرتني أنه خرج مع والدتي ولن يعود قبل التاسعة والنصف..
- هل تودين أن..
زاد خجلها أكثر ليصبح واضحاً، قالت مقاطعة:
- لا لا.. صدقني شكراً.. سأنتظرهم لن يتأخروا كثيراً..
حاولت أن أقلل من حدة توترها:
- لا بأس.. سننتظرهم هنا في حديقة المبنى ريثما يأتون، لا تقلقي.. لا عمل لدي.
لم تجبني، اتجهت نحو أحد المقاعد فتبعتها وجلسنا، قالت:
- كنت قد أحضرت معي بعض الكتب لك.. أريد منك قراءتها.. لقد تركتها في السيارة.
- رائع.. يسعدني ذلك جداً.. بالرغم من أنني أرى أن الكتب بدأت في الزوال بعد ظهور طائفة كتّاب الإنترنت.
قالت بسعادة:
- وهل تقرأ لهم؟
- أحياناً.. عندما أصادف أشياء جميلة فإنني أقرأها ثم أقوم بتخزينها في جهازي.
- أنا أحب أن أقرأ لهم كثيراً.. لأنهم يلهمونني بأفكار لم أكن أتوقعها، كنت أتوقع في البداية أنهم مجرد مراهقين، لكنني وبعد أن أجريت بعض الدراسات النفسية التي شارك فيها عدد منهم تأكدت أنهم لو حصلوا على فرصة لنشر ما يكتبون فإنهم سوف يتفوقون على كثير من مشاهير اليوم.
قلت بعدم اهتمام:
- ربما..
تابعت بكل حماس:
- ما رأيك أن تدخل إلى هذا الموقع.. به كتاب رائعون يملكون فكراً متفرداً ورائعاً، أنا متأكدة من أنه سيلقى جزءاً كبيراً من اهتمامك.
أخرجت مفكرة صغيرة، واتكأت على حقيبتها ثم دونت عليها أرقاماً وحروفاً لتناولني الورقة بعدها، قالت:
- سأكون سعيدة جداً بانضمامك.. لقد كتبت لك معرفي المستعار الذي أدخل به عادة، قم بإرسال رسالة لي حالما تدخل.
- سأفعل.. هل تكتبين هناك أيضاً؟
اعتدلت في جلستها ونظرت أمامها مباشرة قالت:
- نعم.. أحياناً.. كنت أدخل في البداية لأقوم بعمل استفتاء لفئة معينة أعد من خلالها دراسة اجتماعية حول شيء ما بحكم عملي، ثم شيئاً فشيئاً وجدتني أنشد نحو كتاباتهم وأشعارهم التي أشعر أنها صادقة لا زيف فيها.
لم أجبها.. فتابعت
- أتمنى أن أبدع في مجالي لتكون مشرفة ككتاباتهم ، هل تتوقع أن ذلك ممكن؟
قلت بابتسامة:
- لا..
- لماذا؟
- لأن إبداع الإنسان مرهون بحاجته إلى هذا الإبداع..
- ماذا تقصد؟؟
- عندما اخترع الإنسان الورق مثلاً، فإنه اخترعه وفقاً لحاجته الوليدة لهذا الشيء، أراد أن يصنع شيئاً يدون عليه العلم الذي يكتسبه مع مرور الوقت.. فنحت على الصخور، وكتب على الأخشاب والألواح تدويناته ورسوماته.. ثم بعد مدة استطاع التوصل لصناعة الورق.. عندما أصبحت حاجته ملحة إليه.
نظرت إلى الأرض تفكر فيما أقوله، فتابعت:
- ثم صنع الأطباق، القداحات، الطائرات والأقلام وفقاً لحاجته الوقتية أو الزمنية، الدليل على ذلك أنه لم يصنع القصور في العصر الحجري رغم قدرته الجسمية على ذلك، ولم يقم باختراع الكهرباء بعد ذلك بالرغم من أنه في العصر الفرعوني مثلاً كان يمتلك مؤهلات أكبر وعلماً أفضل يمكنه من ذلك.. لكنه في كل مكان وزمان لم يصنع سوى حدود حاجته..
اكتفت بالابتسام فقط فتابعت:
- ذلك يعني أن حدود حاجتك هي حدود إبداعك، فإذا استطعتِ أن ترفعي سقف احتياجاتك فستصنعين كل شيء.. لأن الإنسان يستمد إبداعه من حاجته..
تفرع بنا الحديث لكنه لم يخرج أبداً عن نطاق علم الأدب والفلسفة والاجتماع، كانت أنثى مثقفة ومتواضعة، تستطيع أن تعرض أفكارها بطريقة مرتبة وتجيد التنقل بين الأحاديث بشكل يبعث الراحة في نفس المتلقي كحديث (باسل)، تركت لها دفة الحديث حتى لمحنا ضوء سيارة قادمة من بعيد.
قامت من مكانها وتبعتها في الوقوف، قالت:
- لقد وصل السائق..
تحركت باتجاه السيارة التي توقفت بقربنا ثم أدخلت حقيبتها الصغيرة وأخرجت بعض الكتب فاقتربت منها.. قالت:
- هذه مؤلفاتي المتواضعة.. وهذه مسودّة كتابي القادم أضعها بين يديك.. لم يقرأها أحد حتى الآن.. أتمنى أن يكون خطي واضحاً بالنسبة لك..
أخذت منها الكتب فعادت إلى الخلف وحشرت جسمها داخل السيارة فأمسكت باب السيارة قبل أن تغلقه فنظرت أليّ تنتظر مني أن أبرر تصرفي، قلت:
- أقدّر هذا.. رفعت الكتب إلى الأعلى لتفهم قصدي.
أحمر وجهها خجلاً وأعادت نظرها إلى موضع قدمي، فتابعت:
- شكراً.. مع السلامه.
لم أنتظر منها إجابة أعلم أنها لا تملكها أو لا تملك القدرة على قولها.. لم أكن أعلم أن الحياء يمنح الأنثى جمالاً فوق جمالها، يمنحها الطهر والبراءة وجمال الروح الاستثنائي.. وما أن استقر جسدي على السرير حتى أمسكت بجهازي المحمول وأخرجت الورقة التي وضعتها في جيبي لأدخل إلى الموقع الذي كتب عليها..
كتاباتها كانت تتمحور حول الشعور الإنساني في لحظات الخوف، الإنسانية، الفرح والجنون.. تجعل منها لحظات استثنائية لتكشف فيها عن مشاعر مختلفة.. تخبئ القوة تحت ركام الخوف، العجز وراء كثير من الابتسامات والحب خلف أطنان من الذكريات.. بعد لحظات وصلني تنبيه من البريد الالكتروني، كان طلب إضافة من (زهرة السماء) فقبلتها مباشرة..
قالت:
- مساء الخير..
- أهلاً.. مساء النور..
- لم أتوقع أن تدخل إلى هنا بهذه السرعة..
- كيف استطعتِ الحصول على عنوان بريدي الالكتروني؟
- لقد تركته ظاهراً لجميع الأعضاء..
- لم أكن أعلم ذلك.. عموما ليست هناك مشكلة لا أحد يعرفني هنا سواكِ..
- أنصحك بجعله مخفياً.. هذه المنتديات مليئة بنساء مجروحات متعطشات إلى رائحة رجل.. ههههههه..
انتقل بنا الحديث نحو كثير من مسارات الحياة المختلفة ولم أنتبه للوقت إلا حين رن هاتفي الجوال فرددت مباشرة دون أن أعرف المتصل:
- أهلاً..!!
سمعت صوت تنهيدة خفيفة تبعها صوت (تالا)، قالت:
- آسفة.. مهندس خالد أنا تالا..
يتبع..
|