كاتب الموضوع :
Ahmad Rufai
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رواية 13
-6-
- أحب هذه اللوحة جداً.. أشعر أنها حياتي.
التفت ناحية الصوت لكنني لم أجد أحداً فعرفت أن إحداهن تقف خلف الحائط تنظر إلى لوحة ما وتحادث أحداً لم أتبين إن كان ذكراً أم أنثى، يبدو أنهما لم يشعرا بوجودي فخرجت أحرك رجلي بهدوء حتى لا يسمعني أحد، وصعدت إلى الطابق السادس لأجد القاعة التي دخلتها سابقاً مع (باسل)، اتصلت به وخلال ثوانٍ رأيته أمام باب القاعة يسألني:
- أين كنت؟
ابتسمت في وجهه ببراءة:
- في عالمٍ جميل.
- أشعر أحياناً أنك تتصرف كالأطفال تماماً.
أخذني من يدي وأقعدني بجانبه في المقاعد الأمامية، لم أركز على حديث الأستاذة سمر لكنها كثيراً ما تنظر إلى الأرض بابتسامة وفي عينيها خجل شديد، بعد انتهاء العرض قام الناس للعشاء فسحبني (باسل) من يدي مرة أخرى وأخذني نحو صالة منزوية كانت فيها الأستاذة (سمر) مع بعض صديقاتها يجلسن حول مائدة دائرية يشاركهن رجلان أحدهما أربعيني بشارب كثيف والآخر يغطي الشيب مقدمة رأسه ولا شارب له.
قام باسل بسحب الكرسي إلى الخلف لأجلس عليه وبدأ بتعريفنا إلى بعضنا البعض:
- أعرفكم على صديقي قصي.. هذه الأستاذة (هند) صحفية في جريدة يومية وهذا الأستاذ (عادل) صاحب العدسة الذهبية، يعمل مصوراً في نفس الصحيفة، وهذه الأستاذة (منال) محررة، لن تستطيع مقاومة قلمها أبداً، أما هذا الأسد العجوز فإنه الدكتور (خالد).. دكتور في علم الاجتماع وله برنامج يقدمه على الإذاعة مساء كل سبت..
تبادلنا الابتسامات والترحيبات، وتابع (باسل):
- وهذه سيدة السهرة.. الأستاذة (سمر).. غنية عن التعريف طبعاً.
ذابت عينيها خجلاً فاكتفت بابتسامة تفيض طفولة وبراءة.
قالت الأستاذة (هند):
- وأين تعمل يا قصي، لا تقل لي أنك تعمل في تجهيز المعارض مع باسل، فهذه أول مرة أراك فيها.
- لا.. أنا..
قاطعني باسل، كان يعلم أنني قد أدخل حالة (الإسفنجة) في أي لحظة:
- لقد عاد لتوه من الهند، يعمل في مجال صيانة الحواسيب.
نظرت إليه بابتسامة ذات مغزى:
- يبدو أنكم أصدقاء جداً..
- نعم منذ الطفولة، لقد درست أنا و (قصي) في نفس المدرسة لسنين طويلة..
- يبدو على ملامحه أنه هادئ جداً..
ضحك (باسل):
- أبداً.. لقد كان صوته يشرق مع النور كل صباح في الإذاعة المدرسية، وكان له خط جميل جداً.. أعتقد أنه لا زال يملكه حتى الآن.. لكنه أصبح هادئاً.
وجهت حديثها إليّ:
- وهل تحب القراءة يا قصي؟
- قليلاً..
- لمن تحب أن تقرأ؟؟
- كنت أقرأ للعقاد.. مصطفى محمود والرافعي.. الـ
قاطعتني:
- ممم.. رائع.. وغادة السمان و نجيب محفوظ؟
- لا.. لم.. أ..
- وما رأيك فيما تكتبه (سمر)؟
- في الواقع.. لم أقرأ لها حتى الآن.
ضحكت الأستاذة (منال):
- دعك منها يا قصي.. إنها تحب أن تحقق مع أي شخص تقابله في حياتها، يبدو أن مهنتها تسيطر عليها بشكل كبير؟
ابتسمت الأستاذة سمر، وضحك الأستاذ (عادل)، فيما قام العجوز ليدخن سيجارة في ركن قصي بالغرفة أمام النافذة، لكن (هند) لم تأبه لهم وتابعت بإصرار:
- وما رأيك فيما يكتبه العقاد؟
بدأت أشعر بالنفور منها ومن أسئلتها، قلت:
- لا أعتقد أنني أمتلك الحق كقارئ في تقييم أحد.. فمن أنا لأقوم بذلك.. كل ما أملكه هو حق التعبير عن رأيي في جمال ما يكتبه فقط.
شعرت أن كل العيون باتت تتجه إليّ كأني متهم في قفص، عدت بجسدي إلى الخلف وأنا أقول:
- أعتذر منكم .. كانت فرصة سعيدة، سأقوم لأدخّن..
يبدو أن هذا لم يقنع (هند):
- هل تتهرب مني؟
قلت بصوت تمنيت أن أجعله فكاهياً إلى حد بعيد:
- تقريباً..
قالت الأستاذة (منال) ضاحكة:
- لن تتوقف هند عن طرح أسئلتها حتى تقوم بتحليل شخصيتك.. يبدو أنها لم تستطع فعل ذلك حتى الآن..
همت (هند) بالحديث لكن (باسل) قاطعها بابتسامة ماكرة:
- ولن تستطيع مهما حاولت..
بدا الجميع مهتماً كأنها لعبة تحدي مسلية حتى أن الأستاذ (خالد) عاد للجلوس معنا.. قالت (هند):
- ربما لم أتمكن من تحليل شخصيته بشكل كامل، لكنني استطيع إخباركم بأمر - عن قصي- تعلمته من خلال تجاربي في التحقيق مع الناس..
اكتفيت بابتسامة تدل على عدم الاهتمام لكنني شعرت أن أعين الجميع تستحثني لأسألها لكنني تجاهلتهم تماماً، ولأول مرة تتحدث سمر:
- ما هو؟
- لقد التقيت في حياتي بأشخاص كثر.. تمكنت مع الوقت من قراءة السطور الرئيسية لكل شخص، أستطيع أن أقول شيئاً واحداً فقط أنا على ثقة به.. أنت من الشخصيات النادرة التي لا يمكن نسيانها أبداً.. حتى وإن لم نلتقيها مرة أخرى.. فإننا لا نستطيع نسيانها..
فكأن عقرباً لدغني بوجع الذكريات والنسيان، إذا كان حديث (هند) صحيحاً فإنها لا زالت تذكرني على الأغلب، لا زالت تذكرني كلما نظرت إلى نافذة أو توقفت لتنظر في المرآة، لا زالت تذكر كل الذي كان بيننا من طيش وحماقة وجنون.. ذلك يعني أن ذكرى الحب الأول تؤرقها وتعذبها مثلما تعذبني.. ولأول مرة منذ فراقنا الأخير شعرت أنني انتصرت لنفسي منها، ولأول مرة منذ فراقنا أيضاً يطغى شعور الغرور على شعور الأسى حين أذكرها!!
وقمت لأدخن سيجارة الانتصار، شعرت أن الدّخان الذي أخرجه من فمي يشبه دخان طائرة شراعية، أو قطاراً يعمل على الفحم.. أو ربما كان دخان سفينة تولي المدينة ظهرها غير عابئة بمن خلفت وراءها من غائبين متأخرين أو بمن ستلتقي في طريقها من تائهين.. المهم أنه لن يستطيع أحد إيقافها طالما أنها لا تملك وجهة معينة..
أكملت سيجارتي وعدت إلى الطاولة، كانت النساء الثلاثة يتحدثن على انفراد فيما يقلب (باسل) ورقة مطبوعة كانت في يده، والمصور - الذي نسيت اسمه- يتحدث في هاتفه، فاقتربت من باسل:
- (باسل).. كنت أود أن أسألك عن أمر ما؟؟
ترك الورقة جانباً ونظر في وجهي بابتسامة:
- تفضل..
- عندما أتيت إلى هنا صعدت الدرج على قدمي فاكتشفت معرض لوحات فنية في الطابق الثالث.. هل لك علم به؟
حرك رأسه قائلاً:
- لا..
ثم استدرك بتعجب:
- مممم.. هذا ما كنت تقصده بقولك أنك كنت في عالم جميل؟!!
- نعم..
تحدث المصور الذي كان قد أنهى حديثه في هاتفه للتو:
- تقصد المعرض في الطابق الثالث؟
قالت الأستاذة (هند) التي انتبهت لحديثنا:
- لابد أنك دخلت معرض الأستاذة (تالا).. إن لها رسومات لا تقاوم.. تأخذك إلى عالم الخيال.
ثم استدركت:
- لكن كيف دخلت إلى هناك؟؟ لقد أخبرتني أنها ستفتتح معرضها يوم غد؟؟!
- كان الباب مفتوحاً ورأيت ضوءاً خافتاً يصدر منه فدخلت..
- غريب.. أعلم أنها لا تفعل ذلك أبداً.. دائماً لا تكشف الستار عن لوحاتها إلا في اللحظة الأخيرة.
قال المصور:
- أعتقد أن الأستاذة (سمر) تعرفها جيداً، أليس كذلك؟
ابتسمت الأستاذة (سمر):
- نعم.. درست مع (تالا) في المرحلة الثانوية وأعرفها جيداً.. لقد اخترنا إقامة معارضنا سوية في هذا المبنى.
قالت الأستاذة (هند):
- هل أنت مهتم بها.. أم بلوحاتها؟
اكتفيت بابتسامة فقط فتابعت:
- سأكون في المعرض مع (سمر) والأستاذ (عادل) غداً لأعد تقريراً عن معرضها.. هل تود الحضور معنا؟
قاطعتها الأستاذة (منال) ساخرة:
- تقصدين أنك ستقومين بتلميعها وبهرجتها .. منافقون!!
ضحك الجميع حتى (سمر)، كنت أعتقد أن خجلها قد يمنعها من ذلك، لكنني اكتشفت أن عقدة الإحراج تختفي عندما تكون في وضعها الطبيعي لكنها تزداد عندما يجاملها أحدهم، كأنها تصدق كل كلمة مديح تقال لها!!
قالت (هند):
- دعك منها يا قصي.. إنهم لا يعلمون أننا نقوم في عملنا بموازنة القوى بين مؤسسات المجتمع الفنية والسياسية بجميع أشكالها وخلق بيئة مناسبة للتنافس الشريف فيما بينهم.. دعك من هذا.. سأشرحه لك لاحقاً.. هل تود الحضور معنا؟
ابتسمت لها:
- إذا كان ذلك لا يزعجكم..
تبادلت أرقام الهواتف مع الأستاذ (عادل)، واتفقنا أن يتصل بي غداً عندما يأتون إلى هنا، ضحك برزانة تخفي الكثير من الجنون الواضح في عينيه وهو يقول لي أنه يشعر أنه التقى بي قديماً، وأنه اعتاد عليّ كأنه يعرفني منذ زمن ثم انصرف مع الأستاذة (هند). وتبعتهم الأستاذة (منال) متعذرة بانشغالها، وخرج (باسل) ليشرف على انتهاء العمل وإعادة كل شيء إلى وضعه فوجدت نفسي وجهاً لوجه مع الأستاذة (سمر).. ابتسمت في وجهي فرددت لها الابتسامة ووجدت نفسي مضطراً لقول أي شيء يخرجنا من الصمت وابتسامات المجاملة، فقلت بلهجة الأستاذة (هند):
- يبدو أنكن صديقات جداً.. أنت والأستاذة (تالا)؟
ابتسمت:
- نعم.. منذ الطفولة..
تابعت بنفس طريقة الأستاذة (هند) مقلداً صوتها:
- ولمن تحبين القراءة؟
ضحكت وغطت فمها بيدها:
- نسيت أن تسألني إن كنت أحب القراءة أصلاً..
- لا زلت أتدرب على ذلك فساعديني.. مَن مِن الكتّاب يستطيع إشباع شغفك؟
اعتدلت في جلستها أكثر وبدأت تتحدث بجدية:
- أحب أن أقرأ لـ (ديل كارنيجي)، (باولو كويلو) يتصف بكثير من الروحانية.. كما أ..
قاطعتها:
- ممم.. رائع.. والمنفلوطي والرافعي؟؟
حاولت أن تخفي ضحكتها وتتحدث بجدية:
- هل تعرف المنفلوطي يا قصي؟!!
- ومن لا يعرف المنفلوطي.. نظراته وعبراته..
- وما رأيك فيما يكتبه؟؟
ضحكت أنا هذه المرة:
- يبدو أن الأستاذة (هند) لم تؤثر عليّ وحدي فقط..
ثم تابعت بجدية:
- أعتقد أن بعض الأدباء كالمنفلوطي مثلاً.. فوق مستوى النقد.. ولا ينطبق عليهم قانون الأدب..
- لمَ؟
- لأنهم أكبر من ذلك.. هم في الحقيقة رجال صنعوا من أقلامهم مدارس متفردة.. أصبحت هذه المدارس فيما بعد فوق قانون الأدب وفوق الأدب عموماً لأن ما يكتبونه هو عالم متجدد في كل شيء.
- مثل ماذا؟
- مثل التطرق إلى مالم يتطرق إليه قبلهم من الأدباء، ووصف شيء لم يصفه أحد من قبلهم، دون تزوير الحقائق.. كحقيقة الموت مثلاً..
نظرت إلى عيني تستحثني على الحديث، قلت:
- لقد زوّر الأدب والأدباء التقليديون حقيقة الموت تماماً فجعلوه مجداً صعب المنال.. أين حقيقة الموت من أشعارهم وأخبارهم؟؟ إنه ليس سوى موت أسود مهيب لا جمال فيه.. عندما شرح المتنبي..
قاطعتني عودة (باسل) يحمل في يده نفس الحقيبة التي طلبت مني الأستاذة (سمر) أن أحملها سابقاً إلى غرفة التجهيز، قال:
- لقد انتهيت تقريباً.. سآتي غداً صباحاً لأنهي باقي الأعمال.. أريد فقط أن تقومي بالتوقيع على هذه الورقة..
تحدثوا قليلاً في أمور العمل ثم استئذنا للذهاب، فقالت سمر:
- قصي..
التفت إليها بعد أن كنت قد منحتها ظهري، قالت بارتباك:
- سيقيم النادي الأدبي ندوة بعد ثلاثة أيام.. أ..
حاولت أن أظهر على وجهي بعض الاهتمام:
- جميل جداً.. هل بإمكاني الحضور؟؟
- نعم.. الدعوة عامة.. يمكنك أن تصطحب (باسل) معك أيضاً..
ابتسمت ومنحتها ظهري:
- سأراكِ هناك إذن.. مع السلامه..
ما أن ابتعدنا قليلاً حتى همس لي (باسل):
- سأراك هناك إذاً.. كانت مجاملتك واضحه..
- لا أعتقد أنها تكترث..
في الطريق إلى البيت ماجت بي الأفكار في كل اتجاه، كان صدى حديث الأستاذة (هند) يتكرر في مساحات عقلي فتعقبه شلالات من الفرح وأنهار من الرضا، وعين صغيرة من الغرور.. شعرت أنني انتقمت من تلك التي غيرت حياتي للمرة الأولى فأحالتها إلى فراغ.
هناك أشخاص كـ (هند) يستطيعون - رغم سطحيتهم- أن يغيروا كثيراً من نظرتك للأشياء أو معتقداتك حولها، لم تستطع خصال في أصفى حالاتها الذهنية أن تسحبني لأبعد من اللا شيء، وربى كذلك، وهذا ما تفوقت فيه (هند) منذ اللحظة الأولى للقائي بها.. استطاعت أن تسحبني نحو أعمق نقطة داخل روحي.
عندما انتصف المساء تماماً جاءني اتصال خصال، يبدو أنها مصرة على ألا تنام قبل أن تقول شيئاً، يعجبني في خصال احترامها للوقت، فحين يرن هاتفي في أوقات معينة أعرف أنها المتصلة دون أن أنظر إلى شاشة هاتفي:
- أهلاً.. وصال كيف حالك؟
شعوري بالرضا كان واضحاً جداً فجاء صوتي مرحاً، تعلم أنني أستفزها دائما عندما أناديها بوصال بدلاً من خصال..
- قصي.. أنا.. أريد أن أتجاوز ما حدث اليوم.. أعلم أنك لم تقصد أن تفعل ذلك.. أنا آسفة.. لكنني كنت قلقة عليك..
- لا بأس.. لست غاضباً.. كيف كان مساؤك؟
- لا شيء جديد.. أشعر أنني أغضبتك فقط، فرحت تهمل اتصالاتي..
- لا.. كنت مشغولاً مع (باسل).. لم أنتبه لاتصالاتك.. ولم أستطع الرد عليها..
- قصي.. أرجو أن تسمعني.. أنا.. لست نادمة على كل لحظة منحتها لك.. ليس لأنك قصي فقط.. بل لأن الحب جاء متجسدا في صورتك..
قد أكون متعجلة قليلاً.. لكنني أردت أن أمنحك شيئاً مميزاً.. أقصد.. أنني أردت أن أفعل كل شيء برغبة شديدة لتكتمل عناصر الحب في حياتنا.. لا تعتقد أنني أحاول تملكك أو السيطرة عليك.. أردت أن أمتلك في حياتي لحظات حب مع رجل يستحق أن يكون فيها..
لم أجب فتابعت:
- هل كنت عجولة يا قصي؟؟ لا أريد أن أشعر بالندم.. لا تصدق أنك لا تستحق.. كنت أكذب عليك لأستفزك فقط.
****
لم أجب على اتصال الأستاذ (عادل) في اليوم التالي، شعرت أنني سأكون بحالٍ أفضل إن تجنبت زيارة المعرض برفقة (هند) و (سمر).. أريد أن أرى (تالا) ورسوماتها وحدي دون أي تأثير منهما وسيكون ذلك مستحيلاً إن ذهبت برفقتهم.
ثم طرأت لي فكرة صغيرة، لم لا أستعد للقاء (تالا) صاحبة الرسوم الخيالية؟
اتصلت بالأستاذ (عادل) بعد العاشرة، لابد أنه يتوجه إلى منزله الآن.. جاءني صوته ضاحكاً:
- أهلاً بصديقي الذي أعرفه ولا أعرفه، بالرغم من أنني التقيتك بالأمس إلا أنني أشعر أنني أراك كل يوم.
أعجبني حضوره وحديثه معي كأنه يعرفني منذ زمن، هذا يسهل المهمة التي أحتاجه من أجلها، قلت:
- أهلاً بك سيدي..
- يبدو أنك متقلب المزاج يا قصي.. من يرى اندفاعك بالأمس لا يصدق أنك لم تحضر اليوم.. عموما لا تقلق.. بقي على نهاية المعرض ثلاثة أيام، لكنني وهند لن نستطيع مرافقتك، فلدينا عمل مساء الغد.
- في الواقع لقد انشغلت رغماً عني.. لكن أخبرني كيف حالك؟
- بخير.. الحمد لله، لقد خرجت لتوي من المعرض.. سأذهب إلى المعمل الخاص بي، لم لا تأتي لتشاركني رؤية الصور التي قمت بتصوريها، سأعد لك كوباً من الشاي أو القهوة يكون عربون صداقة بيننا، ما رأيك؟
- يسعدني ذلك..
أعطاني عنوان معمله، وخلال عشر دقائق كنت أستمتع بشرب القهوة بصحبته..
كان رجلاً بسيطاً في تعامله ومشاعره، ودوداً يحب خدمة الجميع، يرى أن التصوير رسالة يصل من خلالها إلى قلوب الناس ليرسم الابتسامة على وجوههم أو يشد اهتمامهم بجمال صورة في لحظة ناطقة يسرقها من الزمن بعدسته الصغيرة.
عندما قمت للخروج طلبت منه أن أحتفظ بأحدى صوره التي صورها هذا المساء مختومة بتوقيعه ففرح بذلك، اخترت صورة تظهر فيها تالا بجانب أحدى لوحاتها الخيالية، وقعها لي بابتسامة ثم شكرته على دعوته، كوب قهوته وبساطته الرائعة ثم رحلت.
من خلال تجربتي (القصيرة) في هذه الحياة أستطيع القول أن البشر عبارة عن خطوط تنقسم إلى قسمين، مستقيمة وعامودية.. يسير بعضهم باتجاه مستقيم بينما يسير البعض الآخر باتجاه عامودي.. وتبقى صفحة القدر هي الشاهد والحكم في الوقت ذاته، فإذا تقاطع شخص مستقيم ما مع شخص عامودي فإن الزمن يتوقف معلناً بداية رحلة جديدة لهما.. فتتخذ بعداً آخر لتصبح خطاً واحدا.. لكن بعض الخطوط لا تستطيع تفهم هذا التقاطع فتنحرف عن طريقها مصطدمة بخطوط موازية لها لتؤثر عليها وتخرجها عن مسارها، غالباً ما تكون الخطوط المتأثرة ذات تجربة ضحلة لم يسبق لها التعامد أو التصادم مع غيرها من الخطوط.
هذا لا يعني أن هناك تقاطعات أخرى محتملة بدون تأثير كتقاطعنا مع المارة، الحلاق أو قائد السيارة الذي قد يبتسم لك أو يشتمك في الجهة المقابلة، لكن ما يحدث أحياناً أن تقاطعنا مع بعض الخطوط كـ (هند) يعيدنا إلى ذكرى الخط الأول الذي تقاطعنا معه منذ زمن بعيد، فإما أن نعود أدراجنا للبحث عن تلك الخطوط التي تقاطعنا معها سلفاً - واحتمال نجاح ذلك ضعيف جداً - وإما أن يكون هذا التقاطع بداية لحياة جديدة أجمل بكثير مما كنا نتوقعه..
بعض الخطوط يجيد قيادة نفسه وحمايتها من التقاطع مع خطوط ذات تأثير عكسي.. لكن ذلك النوع من الخطوط قليل جداً لأنه يمتلك بصيرة تؤهله من الحصول على لقب حكيم.. هذا إذا افترضنا أن غالبية الخطوط تسير بشكل أعمى.. أراني أسهبت في إعادة كلمة خطوط كثيراً.. هل قال (باسل) أن خطي لا زال جميلاً؟؟ سأختبر ذلك بنفسي!!
وقفت في طرف المعرض أراقبها دون أن تعلم، أن كنت أنا عاشقاً للجمال فإن الجمال نفسه يتجسد في إطلالتها، قوامها ومنظرها وكل شيء في ثناياها يصرخ وينادي بأعلى صوته، أحبوني.. فاستجبت!!
علمت أنه لن يجدي الكلام أو الثناء عليها نفعاً، فكلما اقتربت منها استمعت إلى من يحاول التقرب منها من خلال المديح والمعاكسات اللطيفة، من نوع (أتمنى أن أقبل الأصابع الذهبية التي رسمت - لابد أن ملاكاً هو الذي أوحى إليكِ برسم هذه الملحمة العظيمة - لابد أن أشكر الله أن منحني فرصه للقاء أشخاص ملهمين مثلك.. إلخ).
نظرت إلى عينيها لأرى تأثير الجمل التي تتلى على مسامعها، فمهما استطاع الجسد أن يخبئ مشاعره وانفعالاته فلن تستطيع العيون إخفاء ذلك، وكان ردها مفاجأً بالنسبة لي إذ لم تكن تزيد على أن تقول في كل مرة يثني عليها أحدهم:
- شكراً على الإطراء الجميل.
أعتقد أنها وبعد فترة من الزمن أصبحت مشبعة بكل ماهو جديد ولطيف من عبارات المدح والثناء، والأكيد أنني لن أكون الأول الذي سيحاول التقرب منها، وإن أردت الفوز فلا بد أن أكون مختلفاً عن الجميع، أن أبهرها بطريقة لم يسبقني إليها أحدهم.
يتبع...
|