كاتب الموضوع :
Ahmad Rufai
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رواية 13
-20-
****
كانت (جمانة) تعني الإثارة بلغة الجسد.. هذه المرة لم تكن وجبتي صعبه، لكنها كانت لذيذة في الوقت ذاته، فلعبتُ دوراً تقليدياً في حياة امرأة عادية!!
جرت الأمور على نحوٍ أسرع من المعتاد، عطست فأصبح شكلها مضحكاً فابتسمت، وردت لي الابتسامة التي لم أكن أتوقعها، في كل الأحوال كانت ستمضي دون أن آبه لها، لكنها كانت مختلفة، تمتلك من الإثارة ما لم أره في حياتي.
اقتربت مني بهدوء وقالت:
- اسمك؟
قلت بتلقائية:
- أيمن.. هل تحبين الآيس كريم؟
ابتسمت وحركت رأسها، فقلت:
- أنا لا أحبه.
زوت ما بين حاجبيها ونظرت لي فضحكت وابتسمت.
فقط!!
هكذا تقام العلاقات العابرة، فمن الخطأ أن تبذل لأمر أكثر مما يستحق!!
كانت موظفة في أحد البنوك، قوامها يتجاوز كلمة مذهل بمراحل ووضعها الاجتماعي مطمئن، لم أمارس أي طقوسٍ مربكة ولم أتحدث أبداً، كنت تقليدياً بشكل مثيرٍ للشفقة.
لقاءنا الأول كان في أحد الأسواق، حددت موعد لقائها عقب لقاء (ذكرى) حتى لا أضطر للحضور لأجلها، وجرى الأمر طبيعياً جداً كأي اثنين يلتقيان للمرة الأولى ويستطيعان تجاوز ذلك بنجاح، ربما نظراً لخبراتهما السابقة!!
تلا ذلك اللقاء الهادئ لقاءين في منزلها وآخر في أحد المطاعم المحترمة عندما وجدت أنها وطبقاً للمادة الثانية والعشرين من قانون المناسبات تستحق ذلك، كنت كلما فكرت في الابتعاد عن مشاكلي توجهت إليها، كانت هادئة وضحوكة، ترسل لي الكثير من النكات كل يوم.. والمريب في الأمر أنني كنت شبه واثق أنها لا تتحدث مع أحداً غيري، على الأقل في هذه الفترة..
كما أنها لم تسألني أبداً إن كنت على علاقة بإحداهن، كأنها كانت على ثقة بأنني أعرف غيرها، فكانت واقعية حتى في علاقاتها. قالت لي ذات مساء:
- هل أنت متزوج؟
أجبت:
- لا..
قالت بابتسامة:
- تبدو كمتزوج.
كانت هذه هي المرة الوحيدة التي سألتني فيها عن علاقاتي، لم تحاول التعمق أكثر في تفاصيل حياتي، كانت تفعل كلما أطلب بحب، وتجيب على اتصالاتي بابتسامة ولا تصطنع المشاكل نهائياً، لذلك كانت المفضلة عندي وإن لم أبح لها بذلك، لأنها لم تكن تجبرني على الكذب ولم تسألني عن أي شيء في حياتي سوى اسمي، وأحوالي.. أعتقد أن هذا ما كانت تحتاجه فقط
هذه العلاقة الهادئة ابتعدت بي عن النقطة الأساسية.. (بشرى)، التي كانت ترسل لي كل مساء لنتحدث قليلاً، اعتدت أن أرى رسائلها وأجيب عليها، لكنني فوجئت باتصالها وأنا أجلس مع باسل لتناول العشاء، ترددت قليلاً ثم أجبت:
- أهلاً..
جاءني صوت (صالح)، قال:
- أهلا.. قصي.. أنا (صالح) اتصلت بك من هاتفي لكنك لم تجب..
- نعم.. أهلاً (صالح).. لا أجيب على الأرقام الغريبة أحياناً.. اعذرني..
قال بصوت أراد أن يجعله شامخاً واثقاً من نفسه:
- لا بأس.. أحببت أن أخبرك أنه تم القبض على الشاب الذي ارتطم بسيارتك..
أجبته بصوت حاولت أن أسبغ عليه بعض الامتنان والشكر لكنني فشلت، قلت:
- رائع.. هذا جيد..
- هل تريد مطالبته بأي تعويضات؟؟
- في الواقع.. لا أعلم.. ما رأيك أنت؟
- لقد قبض عليه وسينال جزاء هروبه، كما أن صاحب السيارة الأخرى لم يتنازل عن حقه.
قاطعته:
- أعتقد أنه نال جزاءه، كما أنه خلق لي فرصة مناسبة للتعرف إليك..
ضحك بحرج، فتابعت:
- أنا متنازل عن حقي.. أشكر لك اهتمامك أخي (صالح).
- لا شكر على واجب..
صمت قليلاً ثم تابع كأنه تذكّر أمراً لتوه:
- سأذهب برفقة (بشرى) غداً إلى النادي.. أراك هناك..
- حسناً.. مع السلامة.
- في أمان الله.
لم يفتني أنه فعل ذلك عمداً، لابد أنهم قبضوا عليه منذ أيام، لكنه لم يخبرني إلا اليوم ليتخذ ذلك حجة وذريعة للحديث معي، ولابد أن أكون واضحاً معه هذه المرة، ولكن قبل كل شيء، يجب أن أتأكد من مشاعري.
كان قد أغلق الخط لكنني تركت الهاتف على أذني حتى أخرجني (باسل) من عزلتي، قال:
- أشعر أحياناً أنك شخص متزن جداً، تزور عائلتك بانتظام وتشارك الناس حياتهم الاجتماعية، وفي أحيان أخرى أشعر أنك غير موجود أبداً.. في السابق كنت تتجنب زيارة عائلتك، بينما تزورهم الآن كثيراً.. أنت شخص غريب الأطوار..
تنبهت إلى وجوده فسألته متجاوزاً كلما قاله، قلت:
- باسل.. ما رأيك في الزواج من فتاة خرساء؟
صمت قليلاً وهو ينظر إلى عيني كأنه يحاول أن يشرح لي أنني مجنون، قال بنفاد صبر:
- لا أعلم.. ذلك يرتبط بمدى حبك لها، وتقبلك لحالتها..
- أها.. صدقت..
- لكنّه اختيار يتعارض مع صفات رجل مثلك..
نظرت إليه باستغراب فتابع:
- ألا تعتقد أن شخصاً عنيداً مثلك لا يحب مثل هذه الاختيارات السهلة، إن فتاة خرساء ستهيم حباً بأي رجل يظهر لها نوعاً من الاهتمام.. وعليك أن تفرق بين حبك لها وشفقتك عليها.. لا أعتقد أنك شخص يرضى أن يطلق عليه (أي رجل)..
- حسنا؟!
قام من مكانه وهو يتحدث بأمر لم أنتبه له، لابد أنه يعتقد هو الآخر أنني قد جننت. ترى ماذا سيقول (صالح) غداً وماذا سأجيبه؟
في اليوم التالي كنت أتقاسم الطاولة مع (صالح) و(بشرى) و(فاتي) التي أصبحت لا تفارقنا للحظة، شعرت أن (صالح) يريد أن يقول شيئاً فاعتذرت منهم قائلاً:
- سأذهب إلى الخارج لأدخن..
قال (صالح):
- حسناً.. وأنا أيضاً سأذهب لدورات المياه.
وكما توقعت، بعد لحظات كان (صالح) يقف خلفي، قال لي حين لمحني أنظر نحو إشارات الصم المعلقة على باب المدخل:
- كل هذا سينتهي قريباً..
لم أعلم ماذا كان يقصد بقوله فقلت مستوضحاً:
- ماذا تقصد؟
مسح وجهه بيده، قال:
- لقد قمت بإرسال نتائج فحوصات (بشرى) إلى الخارج دون علمها.. أخبرني طبيبها أن علاجها ممكن، وهذا ما أكده لي الأطباء هناك.
اجتاحني شعور غريب لا يقترب من أي شيء، لم أتخيل أن (بشرى) ستتحدث معي بصوتها يوماً ما.. ولم أضع ذلك في حساباتي أبداً، لكنني وجدت نفسي مجبراً على اصطناع الفرحة، قلت:
- هذا جميل.. جميل جداً..
يبدو أنه كان ينتظر رداً مختلفاً، بات من الواضح أنني خيبت ظنه فحاولت أن أتدارك الحديث، قلت:
- لابد أنها ستكون سعيدة جداً.. هنيئاً لها.. ومتى ستسافران؟
قال بصوت منخفض:
- مساء الأحد المقبل..
- رائع.. هذا رائع.. سأكون معكم لإيصالكم إلى المطار..
لم أكن مستاءاً من أمر سفرها، كما لم أكن سعيداً بذلك.. كل مافي الأمر هو أنني أحببتها هكذا ورسمت الكثير من المواقف معها دون صوت، ذلك يعني أن الخلل ليس في (بشرى) وإنما في تفكيري الذي يريدها أن تبقى هكذا.. كل هذا يدفعني للتفكير مجدداً.. هل كنت أحبها حقاً؟!!
عدنا إلى الطاولة مملوئين بالتوتر والقلق بالرغم من أن محادثتنا لم تدم لأكثر من دقيقتين، لكنه ابتسم وهو ينظر إلى عيني (فاتي) للتعريض، قال:
- ليكن الأمر سراً بيننا..
ضحكت ونظرت إلى عينيها المتسائلتين، قلت:
- بكل تأكيد.. ستكون فاتي آخر من يعلم..
قالت بتردد وخجل:
- أعلم عن ماذا؟
أجابها (صالح):
- عن السر الذي بيني وبين (قصي).
رفعت رأسها ونظرت إلى عيني مباشرة، قالت:
- هل الأمر يخصني؟
حرك (صالح) رأسه بنعم، بينما حركت رأسي بلا، فأصابتها الحيرة واقتربت مني برأسها، قالت:
- هل أخبرته بالسر الذي بيننا.
تذكرت ما حدث بالأمس فحاولت أن أبدو طبيعيا جداً، قلت:
- لا.. ما حدث بالأمس هو سر بيني وبينك، أما ما حدث اليوم هو سر بيني وبين (صالح).
قاطعني صالح:
- أعتقد أن قصي يريد أن يضعك في مقلب..
وقفت (فاتي) عن مقعدها بحماس، قالت:
- أخبروني.. هيا أخبروني بما حدث.. سأعاقبكم.. أنت يا قصي سأعاقبك.. صدقني.. سأخبر والدتك..
لم أحتمل منظرها وتهديدها فغرقت في نوبة من الضحك، فأخذت هاتفي الذي كان على الطاولة، قالت:
- لن أعيد لك هاتفك حتى تخبرني بما حدث بينكم.
أمسكت (بشرى) بيدها وأجلستها، قلت:
- لا بأس.. سأتركه لك حتى ينتهي السر فتعيديه لي.
حركت يدها أمام وجهي وهي تقول:
- لا.. هل تعتقد أنني سأعيده.. لست غبية كما تعتقد..
غيرت مجرى الحديث تماما، قلت:
- ومن قال أنني أعتقد أنك غبيه؟؟ بل على العكس تماما أعتقد أنك نادرة الوجود طيبة القلب هادئة.. جميله.. وبريئة.
راحت تنظر لي وهي تحاول أن تخفي إحراجها، ثم قالت بصوت هادئ:
- أنا لا أصدقك.. أنت تحاول أن تحصل على هاتفك فقط.
رن هاتف (صالح) فصمتنا وكان محدثه يتكلم عن أحد القضايا، بدا الاتصال مهماً جداً، وبعد دقيقتين أنهى (صالح) المكالمة ونظر إلينا، قالت (فاتي):
- هل أنت شرطي؟!
ابتسم (صالح):
- نعم..
قالت باستغراب:
- حقا؟؟!! وماذا عنك يا قصي.
كنت أهم بالإجابة عليها حين قاطعني صالح وهو يغمز بعينه لي، قال:
- قصي يعمل لدى جهة أمنية خاصة، هل ترين هذه الندبة على يده؟
أمسك بيدي ورفعها قليلاً ثم وضع أصابعه بجانب الندبة التي كانت تستمتع (معالي) قديماً بلمسها، ترى كيف حالها الآن، أخرجني (صالح) من تفكيري وهو يقول:
- كانت هذه الندبة طلقة رصاص أصيب بها حين كان يحاول القبض على أربعة مجرمين.
تصنعت الصرامة ونظرت إلى عينيها مباشرة، وتابع (صالح):
- هل يعقل أنك لم تسمعي عن قصي من قبل أبداً؟؟
وجه حديثه إلى (بشرى) كأنه يعاتبها:
- هل يعقل أنك لم تخبريها عن (قصي)؟؟ ماهذا يا (بشرى)!!
أعادت (فاتي) هاتفي إلى الطاولة بمرح وهي تقول:
- ما هذا يا قصي.. لا تصدقني كنت أمزح معك فقط.. لا زلنا أصدقاء أليس كذلك..
ابتسمت:
- بكل تأكيد..
لم أستطع التفريق بين مزاح (فاتي) وجديتها، فهي تتصرف أحياناً بطريقة جادة لكنها تقول أنها تمزح، وتتصرف أحيانا بطريقة هزلية لكنها تصر على أنها جادة فيما تقول، رنّ هاتف (صالح) مرة أخرى فاعتذر بالذهاب وقامت (بشرى) فتبعتهم، قالت (فاتي):
- هل ستذهب معهم؟
نظرت إلى (صالح) الذي ابتعد عن الطاولة فيما تستعد أخته للحاق به، قلت:
- لا.. سأذهب إلى البيت.
ابتسمت ثم أشارت إلى المكان:
- ألا يعجبك المكان؟ لم لا تجلس قليلاً؟
لم أجد طريقة أعتذر بها عن الجلوس خاصة وأنه لا شيء لدي لأقوم به، قلت:
- حسناً.. لا بأس.
ابتسمت (بشرى) ثم لوحت لنا بيدها وغادرت، فيما جلست أتحدث مع (فاتي) التي كانت كثيرة الأسئلة، إلى جانب بساطتها الغريبة كانت تحمل (فاتي) شخصية مثقفة ومتعلمة لكنها لا تجيد استخدامها إلا في حياتها العلمية فقط، أما في الجانب الحياتي فإنها تستخدم بساطتها وطبيعتها البريئة، في نهاية اللقاء طلبت مني بخجل أن أرافقها للأسفل خوفاً من أن يكون القط بانتظارها.
حين عدت إلى البيت ألقيت جسدي المنهك على سريري ونزعت عن وجهي قناع الهدوء الذي حاولت أن أبدو به رزيناً أمام (صالح) و(بشرى).. لا بد أنه الآن يعي جيداً أنني لا أحبها، حتى أنا اكتشفت ذلك، لم أكن أحب بشرى، كنت أشفق لحالها فقط كما قال (باسل).. وحالما شعرت أنها يمكن أن تكون كأي فتاة أخرى، أصبحت مستعداً جداً للتخلي عنها..
لم ترسل لي بشرى رسالة في ذلك اليوم.. ولم أتجرأ بفعل ذلك أنا أيضاً.. كان عليّ أن أخبرها أن الحب أمر والعلاقة أمر آخر بالنسبة لي، أنا شخص لا يحب وإنما يرتاح من عناء السفر فقط، ولكي تكون هذه العلاقة مريحة لكلينا يجب علينا أن نبتعد عن الحب في معناه الأصلي ونكتفي بممارسته بأجسادنا وإيماءاتنا ولا يمنع كذلك في بعض تصرفاتنا!!
أما أن نؤمن به ونجعله القائد الأول لنا فهذا يعني أنه استطاع التحكم فينا ولن نستطيع التحكم به، الأمر ممتع قليلاً، جربي أن تحبي وتحبي وفي لحظة تمارسي النسيان، إنه أمر يشبه ذاكرة القلم والرصاص معاً، فالقلم يكتب الأفراح والأحزان معاً، بنفس الرتم وبنفس الطريقة دون تخاذل حسبما نوجهه، دون أن يبذل جهداً في التأقلم.. ربما لذلك أسموه قلم، لقدرته الفائقة على التأقلم مع الوضع!!
في ظهر اليوم التالي تفاجأت عندما عدت من استراحة الغداء لأجد (فاتي) تجلس على مكتبي وتعبث بأغراضي، قالت أنها جاءت للسلام على بشرى التي أخبرتها بدورها أنني أعمل هنا، أقسمت أنها لم تنطلي عليها خدعة (صالح) حين قال أنني شرطي لأنها تعتقد أن (أحلامي) تتجاوز ذلك بكثير لتسابق النجوم والمجرات.
تطورت علاقتنا على نحو سريع جداً دون رغبة مني في ذلك، كأنها كانت تختصر المسافات عمداً، فجاءت الأسئلة متوالية هكذا.. كم تبلغ من العمر؟ حياتك رائعة.. هل أنت في علاقة مع إحداهن؟ أحبك.. كان هذا هو ما حصل باختصار هذه المرة، حيث أن الأمر لم يأخذ برمته أياماً قليلة. ولأول مرة أتمرد على أحد أهم صفاتي الاعتيادية التي صارت جزءاً مني.. رفضت حبها، وحاولت تذكيرها بمأساوية النهاية إن هي أرادت أن تستمر في اللعب، حاولت أن أشرح لها أنها قد تسرعت وأنّ ما تشعر به ناحيتي لا يعدو على أن يكون أكثر من إعجاب بشخصيتي فقط.
أصرت على أن أسألها إن كانت تحبني ورجتني كثيراً أن أخبرها أنني أحبها، قالت لي أنها تعرفني أكثر من نفسي وأنها تعلم أنها تحمل الخير لي.. حاولت جهدها أن تقنعني أن البرج الذي أنتمي إليه كثيراً ما يتردد في علاقاته وأنه دائماً ينتظر من يبادئه الحب، وأن من يفعل ذلك معه لن يندم أبداً لأني أستحق، رجتني كثيراً وطلبت مني أن أترك لها مهمة تجديف قارب حياتي لكنني أخبرتها أن الوقت لم يعد مناسباً لذلك وأن كل ما أستطيع أن أقدمها له هو أن أبقى بجانبها ما استطعت.
كنت حينها قد وصلت إلى حافة الحياة.. والدليل أنها بدأت في تكرار نفسها بشكل ممل ورتيب في محاولة بائسة منها لإغرائي والاستمرار فيما أفعله كل يوم.. فما أشبه اليوم بالبارحة.. وما أشبه (فاتي) بـ (ربى).. ويبدو أنّه لا جديد!!
كانت (فاتي) ورغم قصر الوقت الذي جمعني بها، درساً يجب الوقوف عنده كثيراً.. شعرت تلك الليلة عندما أغلقت الهاتف أنني عدت مرة أخرى إلى مرحلة اللاشيء.. عدت إلى نقطة الصفر التي بدأت منها دون أن أجد حياتي التي كنت أبحث عنها.. أعتقد أنني كنت أدور في حلقة مفرغة أو أسلك طريقاً خاطئ.. وأياً كان.. فإنه يجب عليّ أن أتراجع عنه إذا كنت أريد أن أخرج من مرحلة اللاشيء..
سمعت صوت هاتفي فأجبت مباشرة دون أن أدرك من المتصل:
- أهلاً..
جاءني صوت أخي (أسامة) كأنه صوت جندي لا يملّ من حراستي، قال:
- أهلاً بك.. ما بال صوتك مهموماً، كأنك لا تريد أن تحدث أحدا..
جلست على الفراش بعد أن كنت مستلقياً، قوة صوته أجبرتني على ذلك، قلت:
- لا شيء..
ضحك قليلاً ثم قال:
- تستطيع أن تكذب على أي أحد.. باستثنائي يا قصي..
لم أجبه فتابع:
- ماذا هناك يا قصي؟؟
ترددت قليلاً ثم قلت:
- ألم تخبرني أنه همومنا مثل ملابسنا تكبر معنا كلما تقدمنا في العمر؟
صمت قليلاً ثم حاول أن يستحثني على الحديث، قال:
- نعم؟؟
- لقد توقفت عن النمو.. ألا يجدر بهمومي أن تتوقف عن النمو هي أيضاً.. لم تعد ملابسي تضيق بي يا أسامة كما في السابق..
صمت قليلاً ثم قال بصوت حنون:
- يبدو أنك وصلت إلى مرحلة المشاركة..
لم أجبه فتابع:
- وفي هذه المرحلة نقوم فيها بتشارك الهموم كما نتشارك مقاسات ملابسنا.. فكما صار بإمكاننا أن نستعير ملابس بعضنا وجب علينا الآن أن نتشارك همومنا.. فنحمل هموم بعضنا دون أن نشعر..
تشاركنا الصمت للحظات فقال:
- فلتعد يا قصي.. دعنا نشاركك همومك وأحلامك.. وطفلاً صغيراً نغرقه حباً وحنانا..
شعرت أنه لا مفر من العودة.. فمهما رحلت لابد أن أعود ذات يوم.. وقد جاءت فرصة العودة على طبق من ذهب.. ولا أعتقد أنني سأحصل عليها مرة أخرى إن رفضتها هذه المرة، قلت:
- حسناً.. سأعود..
ضحك بطريقة مجنونة ثم قال:
- وأطلب من زوجتي أن تبحث لك عن زوجة؟
ترددت قليلاً ثم قلت:
- نعم.. لا بأس..
عاد للضحك بمرح ثم قال:
- وداعاً.. سأغلق الخط قبل أن تغير رأيك..
أغلق الهاتف فعلاً ونظرت إلى وجهي في المرآة.. هل ستتزوج من سيختارونها لك يا قصي.. أجابني صوت بداخلي.. وماذا في ذلك.. لقد أخفقت إثنى عشر مرة.. ولا أظنك ستفلح في الثالثة عشرة.. دعهم يختارون هذه المرة على الأقل..
كنت أعتقد أنني تخلصت من (فاتي) بعد آخر حديث بيننا لكنني تفاجأت من وجودها في المطار عندما ذهبت لإيصال (صالح) وأخته (بشرى) التي أحببت أن يكون وداعي لها أنيقاً أواجهها فيه بنفسي دون التملص فيه من واجباتي نحوها..
خرجت من المطار متجهاً نحو مكتبي وفي الطريق جاءني اتصال (فاتي)، كنت أعلم أن غرورها لن يسمح لها بالتنازل عن حلمها، خاصة وأنها قدمت كلما يمكنها تقديمه وأكثر، بادرت وأطالت وقصرت وفعلت كل ما بوسعها للوصول. لم تكن تعلم أنها كانت النقطة الأضعف بين قائمة لا يستهان بها من الفتيات. وحين يئست من الحصول على مرادها، قالت في محاولة أخيرة لجذبي إليها:
- الآن أدركت كم كنت غبية جداً، كنت أسابق الأنفاس للوصول إليك، وها أنا أكتشف اليوم أنني كنت أسهل لقمة ابتلعتها أنت، وأعلم أنك لا تحب التعامل مع الأشياء السهلة.
رغم أنها قالتها بانكسار عائد من أرض المعركة إلا أنها كانت تنتظر أن يكذب جوابي حديثها، لكني لم أفعل. فقالت لي في نهاية المحادثة عندما يئست من الحصول على ما تريد:
- لا تعلم مقدار معزتي لك يا (قصي)، أتمنى أن لا ينقطع تواصلنا.
دلفت إلى مكتبي وطبعت طلب الاستقالة ثم وقعته واتجهت به نحو المدير العام الأستاذ (حسن)، لم يستطع إخفاء علامات الدهشة من وجهه، حاول أن يبادرني بالحديث لكنني لم أترك له مجالاً لذلك، قلت:
- لن يجدي الحديث نفعاً.. لقد فكرت كثيراً وقطعت رأيي مسبقاً..
أزال جميع الأوراق من أمامه ثم وضع الورقة على الطاولة ومسحها بكلتي يديه كأنه يقبرها، لم يطلب مني أن أساعده كما كان يفعل دائماً حين أطلب منه توقيعه.. أخرج قلمه ونظر لي نظرة أخيرة ثم أمال رأسه وقام بتوقيعها ثم مدها في وجهي دون أن ينظر إلي فأخذتها وخرجت دون أن أنبس بكلمة واحدة، تفقد المواقف قيمتها حين تذهب بكلمات الوداع المزيفة، كيف يعتذر الإنسان عن أمر اختاره بمحض إرادته؟!!
وضعت جسدي على مقعد السيارة، تنفست رائحة المدينة وأنا أشعر بإعياء شديد فسمعت هاتفي يرن، كانت (جمانة):
- أيمن.. كيف حالك.. لقد خرجت من العمل لتوي.. هل تريد المـ..
قاطعتها:
- أين أنت الآن؟
- أمام البنك..
- سأكون هناك بعد دقائق.
توجهت نحو البنك وتوقفت أمامه مباشرة فصعدت إلى السيارة وتوجهنا نحو منزلها، كنت لا أزال أمسك بالمقود عندما نزلت لكنها طلبت مني النزول، كنت بحاجة إلى الراحة والهدوء بعد يوم طويل فتبعتها وألقيت بجسدي على الأريكة دون أن أتحدث فابتسمت لي حنان ثم عادت بعد قليل وفي يدها طبق من السكاكر صنعتها بنفسها، قدمتها لي لكنني أشرت بيدي فوضعتها على الطاولة و صوبت نظرها نحوي.
كنت أعلم أنها تنظر إليّ لكني لم آبه فيما كانت تفكر به، أخذت السكاكر بهدوء وسكبتها على وجهي فاتسخت ملابسي.
نظرت إليها والشرر يتطاير من عيني، قلت:
- وقحة.
كفت عن الابتسام واقتربت لتمسح وجهي لكنني دفعتها، ثم خلعت قميصي وقذفته إلى الأرض بعد أن مسحت به وجهي ، ثم وضعت ساقي على الطاولة ونمت!!
عندما استيقظت كان المساء قد دخل، قميصي كان معلقاً على مدخل غرفة الجلوس وبداخله ورقة الاستقالة، بدا نظيفاً فعلمت أنها قامت بإصلاح الخطأ، ناديتها لكنها لم تأتِ، ذهبت إلى غرفتها فوجدتها تجلس أمام حوض السمك، اقتربت أكثر ورأيت دموعها، كانت موقنة إذن أنه اللقاء الأخير وأحبت أن تطيل بقائي معها فقامت بسكب السكاكر على قميصي..
يبدو أنني من كنت غبياً ومغفلاً هذه المرة..
بقي شخص واحد يجب أن أودعه.. لطالما اعتقدت أنني كنت أفضل بوجوده معي، لكن حجم الصداقة بيننا كان أكبر من أقوم بوداعه، فاخترت أن أودع شخصاً آخر كنت أعلم الطريق إليه يقيناً.. توجهت نحو أطراف البلدة ثم دلفت إلى المطعم الذي تركتني فيه آخر مرة، قاسمتني المقعد ثم بدأت أأكل وأنا أقلب نظري في عيون الناس، فسألني بعد أن نظر في جيبي:
- هل لك أن تشرح لي ما حدث؟
- لو كنت أستطيع أن أشرح لك شيئاً لشرحت لنفسي عوضاً عنك.. لا زلت لا أعلم ما الذي توقف بداخلي بعد أن كنت منصفا، ربما كان خوفاً من أن أكون قد كذبت!!
وأنا أعلم أنه لا يجب علي أن أكذب على نفسي في المقام الأول إن كنت أريد أن أبقى على قيد الحياة بالطريقة التي أحبها.
- لكنك كاذب..
- أعلم أنني كاذب، لكن أسوأ أنواع الكذب هو الكذب على الذات وإخبارها بما هو مخالف للحقيقة فتصدقه!! النفس مهما كانت قادرة على التحمل إلا أنها تضل روحاً تحاول السعي بأمل نحو الهدف.
- وما الهدف من حياة شخص يعيش منفردا؟؟
- الهدف هو أن تكون سعادته في جيبه، يخرجها وقتما شاء، يبتلع منها قرصاً صغيراً فيحيل عالمه إلى هناء، غير آبه ولا منتظرٍ لجرعة أخرى يعلم أنها في جيبه، وأنها لن تنفذ.
جلست أحاوره محاورة الخاسرين، أعلم أنني لا أستطيع تركه في هذه المدينة، كما لا أستطيع التفوق عليه.. كل ما أملكه هو أن أحاول إثارته كالعاجزين فقط..
وكعادتي حين أترك شيئاً خلفي، فإنني أشعل سيجارة وأنثر رمادها على روحه، زدت من سرعة السيارة لأستمتع بمنظر الغبار المتناثر يشارك سيجارتي حفل الوداع.. رن هاتفي فحاولت التقاطه لكنه سقط أسفل مقعد الراكب فأدخلت يدي تحت المقعد لأبحث عنه، ويبدو أنه توغل في الهروب فتوغلت خلفه وأمسكت يدي بورقة فأخرجتها ووضعتها على المقعد ثم أعدت يدي مرة أخرى أسفل المقعد وعندما أمسكت بالهاتف كان المتصل قد سئم الانتظار فأغلق الخط.. نظرت إلى شاشة الهاتف لأجد أن المتصل هو والدي، فقررت أن أفاجئه بدلاً من الإجابة على اتصاله فوضعت الهاتف على المقعد بجانبي ومنحت الورقة المطوية نظرة خاطفة ثم أمسكتها وبدأت أفتح طياتها باستعجال استعداداً لقراءتها ثم تمزيقها لكنني حين قرأتها لم أجرؤ على ذلك، شعرت أنها أطهر من أمسكها بيدي رغم أن اسم (ذكرى) هو ما كان مدوناً في أعلاها.
في منتصف أعلى الورقة طبع اسم جمعية خيرية لرعاية الأيتام، وفي الأسفل إلى اليسار رأيت توقيع (ذكرى) بجانب مبلغ تدفعه شهرياً لكفالة طفلة يتيمة، ليس هذا ما قرأته فقط، فقد كان اسم (ود) موجوداً أيضاً على نفس الورقة..
أوقفت سيارتي جانباً ثم ترجلت منها، كان بإمكاني أن ألمح أضواء المدينة التي لا تزال تسطع من بعيد..
كأنها تقول لي مهما فعلت يا قصي.. أنا من سيفوز في النهاية دائما..
شعرت أنني تافه جداً، وأن تلك الهالة التي أحاطوني بها كانت قناعاً مزيفاً صنعته لأخبئ حقارتي.. وقداسة صنعتها لنفسي من الوهم متجاهلاً قداسة تنازلوا عنها لأجلي..
نعم..
جميعهن كانوا يملكن جزءاً من القداسة بشكل أو بآخر.. لكنهن تنازلن عنها باسم الحب، كل واحدة منهن كانت تتمتع بها من حيث لا أعلم، ولكن كيف لحقير أن يلمس أرواحاً نزيهة، وكيف له أن يستشعر شيئاً طاهراً جبلوا عليها وهو في أوج نذالته.
جميعهن كانوا قديسات..
كرطب تعلق بنخيل شاهقة ليمطر الناس بالأمل..
كدلو صغير يجلس على حافة بئر ليجلب الماء والفرح..
كطيور تحمل في أجنحتها رائحة الوطن للمسافرين..
كأشياءٍ صغيرة تبعث الفرح في البائسين..
وكتوقيع صغير في أسفل ورقة!!
لا أحد يملك القداسة المطلقة.. حتى الأمهات.. لكن الجميع يملكها بشكل أو بآخر.. وهذا ما لم أستطع تعلمه أنا طوال هذا الوقت..
أعتقد أنني الآن أستطيع أن أحتفظ بتلك التي تحمل في حياتي الرقم (13) بقية العمر، ولكن قبل ذلك، لابد أن أتطهر من ذنوبي ليحق لي ذلك..
****
يقول والدي أن زكاة كل شيء تكون من جنسه، ذلك يعني أن زكاة النساء حين يبلغن النصاب لابد أن تكون من جنسهن.. ونصاب كل شيء هو كفايته، ويبدو أنني اكتفيت.. ولأن الزكاة توجب تطهير الذات وغسل النفس من كل شيء، فقد اخترت أن أدفعها مرغماً، ولأنني لا أعلم نصاب النساء ولا كميته، فقد اخترت أن أتصدق بكل شيء وأبدأ من جديد.. علّي أستطيع تطهير نفسي.
ولأن بعض الطهارة تأتي من الألم فقد جئت بعد كل هذا العمر -وطفلة تجلس بأحضاني- لأخبركن جميعاً أنني لا زلت أتألم بكل ذكريات تفاصيلكن.. لا زلت أحتفظ بصوركن في نفس المكان الذي أخبرتكن به جميعاً تحت مكتبة غرفتي، وربما لا يعلم بعضكن ذلك.. لكنني لا زلت أحتفظ بأصواتكن أيضاً، كونوا سعيدات فقد حلت عليّ لعنة الماضي فأصبحت لا أنسى أبداً، صدقوا أنني لا زلت أذكر تفاصيل حديث (ربى) عن أمها وابنة خالتها، لا زلت أذكر لون أحمر الشفاه الذي تفضله (ذكرى)، والقميص الذي تفضله (هند)، ورائحة العطر الذي ترشه (سمر) على الكتب قبل أن تقرأها..
لا زلت أذكر تفاصيل التفاصيل عن حياة (بشرى)، أستطيع أن أقول أنها الآن وفي هذه الساعة تجلس أمام التلفاز وبيدها فنجان قهوة بسيط لا يشبه أبداً ذاك الذي تتعمد (تالا) في حالة اختيارها له أن يكون ملهماً.
لابد أن (ود) الآن نائمة باتجاه النافذة كما وعدتني أن تفعل دائماً، أما (معالي) فإنها الآن تلعب مع طفلتها، بعكس (خصال) التي من المؤكد أنها في مكتبها، ترى هل لا زالت تضع خططها اليومية على الأوراق ليراها الجميع.. حتماً أنها لم تعد تفعل!!
النهآيه :)
|