كاتب الموضوع :
Ahmad Rufai
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رواية 13
-17-
دخل بعده أحد المنظمين بصحبة فتاة قصيرة بعض الشيء فسلم ثم رحب بالسادة الحضور، وأعطانا نبذة قصيرة عن الدكتورة القصيرة (روان) وقدمها تقديماً لا يخلو من بعض المبالغة المتكلفة التي اعتدنا سردها نحن العرب، بعدها قامت الدكتورة بالتقاط مكبر الصوت وبدأت في الحديث مرفقة بعض الصور على جهاز العرض.
بدت مثقفة، طموحة ومتواضعة أيضاً.. تحاول أن تصنع جواً من المرح داخل القاعة، نظرت إلى اليمين نظرة خاطفة فرأيت (معالي) تجلس في آخر الصف الثاني إلى اليمين وتنظر إليّ لكنني تصنعت عدم الانتباه لوجودها تماماً وأدرت وجهي إلى الأمام.
تذكرت أنني أخبرتها بأمر ترشيحي قبل بداية الدورة بيومين عندما التقيتها في آخر الأسبوع، كان يجب أن أعلم إنها تملك من النفوذ ما يكفي لتسبقني إلى هنا، لكن ذلك لم يخطر ببالي أبداً، أصبحت أخشى من وجودها لأنها لم تتصرف بحكمة حين قررت دخول هذه الدورة من أجلي، وقد تقوم بأكثر من ذلك مجازفة بسمعتها وسمعتي دون أن تشعر، ويبدو أنني مطالب بالحفاظ عليها من شر نفسها وتصرفاتها الطفولية.
في منتصف اليوم توقفت الدكتورة (روان) لاستراحة الغداء والصلاة، لكنها لم تخرج من القاعة وراحت ترتب أوراقها فسحبني (ماجد) من يدي، قال:
- هيا بنا.. أشعر بالجوع.
قلت بابتسامة حاولت أن أودعها كل هدوئي:
- لكنني لا أشعر بالجوع يا بني.. اذهب أنت لتأكل واتركني هنا لأحجز لك مقعدك..
حاول أن يقاطعني لكنني استخدمت أقوى سلاح يمكن أن يبعده عني عندما شعرت أنه يريد أن يعترض على قراري، فسحبته من ياقته وقلت له بصوت أقرب إلى الهمس:
- أشعر أن الفتاة صاحبة القلم معجبة بك.. يجدر بك الاهتمام بها أكثر مني.
ظهرت على وجهه علامات الزهو بنفسه، قال:
- هل أنت جاد؟؟ لقد كنت أفكر في ذلك.. لكن أخبرني؟؟ كيف شعرت بذلك؟؟
- ما بك يا (ماجد)؟؟ إنها أمور لا تحتاج إلى تفسير.. كما أنه لا وقت للحديث الآن.. اذهب بسرعة.
حاول أن يتمالك أعصابه وأن يبدو بمظهر الرجل الرزين، قال:
- حسناً.. سأتركك هنا، لكن رجاءً لا تغادر مقعدك..
- لا بأس..
انطلق (ماجد) دون أن يرى الدكتورة (روان) التي سمعت جملته الأخيرة فاقتربت قائلة:
- ترى أي نوع من الرجال يكون الذي يضحي بوقت راحته من أجل صديقه؟؟
نظرت إلى أقصى اليمين فرأيت (معالي) ترمقني بنظرات مختلفة، لابد أنها فهمت الأمر بشكل خاطئ، فقامت من مقعدها متوجهة إلى منتصف القاعة، لا أعلم هل كانت تود الخروج أم الاقتراب.. فقلت موجهاً حديثي للدكتورة (روان):
- كل مافي الأمر هو أنني لا أشعر بالجوع..
أرادت أن تتحدث لكن (معالي) اقتربت وأصبحت خلفي مباشرة، قالت:
- عفواً دكتورة.. كنت أود أن أسألك عن أمر ما..
قبل أن تجيب الدكتورة قاطعتهما قائلا:
- حسناً.. أستأذنكما الآن.. في الخروج.
ابتسمت لي الدكتورة (روان) وعلى وجهها علامات الاستفهام، ثم وجهت حديثها لـ (معالي) التي كادت أن تأكلني بعينيها، قالت:
- تفضلي سيدتي..
وقبل أن تبدأ (معالي) بالحديث توجهت نحو الخارج كأنني طفل يهرب من والده قبل أن يعاقبه على خطأ قام به، اخترت مكاناً يطل على النافذة ورحت أدخن أمامه وأنظر إلى الناس من انعكاس صورهم على الزجاج من الجهة الأخرى دون أن يشعروا بذلك.
كان منظر (ماجد) مضحكاً وهو يحاول أن يبدو خفيف الظل أمام (لمى) وصديقاتها، راح يشرح لهن بيديه ورجليه موقفاً مضحكاً مرّ به، كانت (فاطمة) ترمقه باستخفاف فيما تحاول (لمى) إظهار اهتمام مصطنع، بينما كانت (بشرى) تأكل طعامها دون النظر إليه، بدت معزولة عن الجميع تماماً كأنها تشاركهم بجسدها فقط، فنظرت إلى عينيها لأحاول قراءتها لكنني لم أستطع، نظرت إلى ظهري دون أن تعلم أنني أشاهدها، بقيت تتابعني قليلاً ثم نقلت بصرها إلى جهة أخرى.
جميلة لغة العيون الهادئة التي لا توحي بشيء أبداً، كأنها تخبرك إن أروع ما تبدو عليه هو عند ممارستها لشيء خلقت من أجله فقط.. النظر والتأمل..
لمحت (معالي) وهي تخترق الطاولات متوجهة إليّ، وقفت بجانبي مباشرة وقالت وهي تضغط على أسنانها لتكتم غضبها:
- ماذا كانت تقول لك تلك القصيرة؟
نظرت إليها بابتسامة أردت أن أجعلها مصطنعة لحاجة في نفسي، قلت:
- أهلاً أستاذة معالي.. كيف حالك؟
رمقتني بعين غاضبة، ثم حاولت أن تتمالك أعصابها، قالت:
- بخير..
- أتمنى ألا تزعجك رائحة السجائر..
قالت بنفاد صبر وعتب:
- أنت تعلم أنها من تدلني عليك..
صمتُّ قليلاً ثم قلت:
- هل بإمكانك أن تتصرفي كراشدة؟ تذكري من هي (معالي) قبل أن تقومي بحركات المراهقات..
لم تحرك شفتيها بحرف واحد، فقلت لها بابتسامة، وبصوت مسموع:
- لا تعلمين مدى سعادتي بلقائك..
قالت برزانة:
- وأنا كذلك.. أتمنى لك يوماً رائعاً.. بعد إذنك.
بعد إن انتهى العمل ذلك اليوم خرج الجميع فاتجهت نحو سيارتي ولحق بي (ماجد) و(بشرى)، اتكأ (ماجد) على مقدمة السيارة وجلست (بشرى) في المقعد الخلفي فسألتها دون أن أنظر إليها:
- أين بقية الزملاء؟!
لم تجبني ولم تحرك ساكناً، فالتفت بوجهي نحوها وقلت:
- أين بقية الزملاء؟
حركت يدها باتجاه فمها ثم صمتت، فدخل (ماجد) إلى السيارة عندما رآني أحدثها وهو يقول ضاحكاً:
- ما بك يا قصي تحدث هذه الخرساء؟؟ هل جننت؟!
لم أجبه بانتظار أن تجيبه هي بنفسها كما تمنيت، لكنها لم تفعل.. شعرت بكثير من الألم لحالها قلت:
- لا تقل خرساء.. احترم وجودها بيننا..
قال دون اهتمام:
- لكنها لا تسمعنا.. الحمد لله الذي عافانا، لابد أن حياتها مثيرة للشفقة.. أ
قاطعته قبل أن يكمل حديثه:
- إن تفكيرك هو المثير للشفقة، إنني لا أستطيع حتى الآن تخيل مدى القوة التي يتمتع بها شخص لا يتكلم حين يجلس مع أشخاص قادرين على الحديث ويشاركهم حياتهم ثم يتفوق عليهم فيها، في حين أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا مثله.. ولا يملكون سوى السخرية منه..
كنت سأتابع حديثي لكنني سمعت صوت باب السيارة فصمت، ثم انطلقت بعد أن ركبت (فاطمة) و(لمى) واختلست النظر إليها فرأيت عينيها تلمع.. ترى كيف يكون شعور الإنسان عندما لا يسمع ما يدور حوله ولا يستطيع مشاركة الناس في حديثهم؟ في غمرة تلك الأفكار سمعت صوتاً قوياً قادماً من الجهة اليسرى وشاباً يحاول السيطرة على سيارته فحاولت الابتعاد عنه لكن بعد فوات الأوان، أدى ارتطامه بسيارتي لخروجها عن مسارها والارتطام بسيارة كانت تقف أمام أحد المحال التجارية.
كان أول ما قمت به هو محاولة التأكد من أن الجميع بخير.. ثم خرجت لأتفقد صاحب السيارة التي ارتطمت بها فوجدته غارقاً في دمائه، وقبل أن أنظر إلى السيارة التي ارتطمت بي لاذ صاحبها بالفرار..
حملت ذلك الرجل ومددت جسده على الرصيف ثم اتصلت بالإسعاف الذي حضر برفقة رجال الشرطة، فحملوه إلى المستشفى وجاء الضابط لاستجوابي وحين علم بهرب صاحب السيارة الأخرى، قال أنني أتحمل كامل المسئولية أمام النظام كوني المذنب الوحيد، وأنني سأذهب بصحبتهم إلى السجن حتى يخرج الرجل من المشفى ويتنازل عن حقه في التعويض لأنني ربما قد أكون كذبت بخصوص الرجل الذي ارتطم بسيارتي.
حاولت أن أشرح له دون جدوى، خاصة وأنه اعترض على سماع شهادة (ماجد) والفتيات متعذراً بأنها لا تقبل، فحاولت الاتصال بـ(باسل) علّه يستطيع أن يفعل شيئاً ما، لمحت رجلاً يقترب من نافذة (بشرى) فتوجهت إليه وسحبته من يده بقوة قائلاً بعصبية:
- ماذا تريد؟!
حاول أن يفلت يده من يدي وهو يقول:
- إنها أختي..
تركت يده لا إرادياً.. ثم راقبتها وهي تخرج من السيارة ثم تشير بيدها إلى الشارع ثم إلى السيارة ثم إلى نفسها وأخوها يشاركها بتحريك يده كأنه يستفسر عن شيء ما فتجيبه مرة أخرى، كان مشهداً مثيراً جداً لم أر مثله قبل اليوم، بعد دقائق توجّه الرجل نحوي ومدّ يده مصافحاً باحترام، قال:
- أنا الضابط (صالح ناصر).. لقد شرحت لي أختي ما حدث.. بإمكانكم الذهاب، فقط اسمح لي أن آخذ أوراقك الثبوتية لأعد المحضر.. وسأرسلها لك غداً مع أختي..
لم أتحدث أبداً، أخرجت أوراقي الثبوتية ووضعتها في يده وأنا أضغط على أسناني بتوتر، ثم عدت إلى سيارتي وشاهدته وهو يتحدث مع الضابط الآخر الذي كان يحرك رأسه على كل شيء يقوله (صالح) علامة الموافقة، فاقتربت منهم بسيارتي وقلت موجهاً حديثي لصالح وأنا أنظر إلى يده وآثار أظافري مغروزة فيها:
- أعتذر عن تصرفي معك قبل قليل.. كنت.. أعتقد..
قاطعني بابتسامة:
- أقدر موقفك.. بل على العكس تماما.. لقد انتهى قلقي تماماً.. لأنني أمسيت أعلم من أنت..
أشرت له بيدي شاكراً وتوجهت إلى الشركة وأنا أسمع المحرك يصدر صوتاً غريباً، توقفت أمام المكتب ثم دخلت بصحبة المجموعة إلى الداخل وحالما سمعت صوت المصعد تذكرت أمراً مهماً، إذا كانت (بشرى) لا تسمع فكيف تم ترشيحها لحضور هذه الدورة؟؟!! لا بد أنها تسمع بكل تأكيد، وأعتقد أن صديقاتها يعلمن ذلك لكنني لا أملك القدرة على سؤالهن فقررت أن أعرف ذلك بنفسي.
تعمدت أن أتأخر قليلاً لأمشي خلفها ثم قلت لماجد الذي كان في المقدمة بصوت تعمدت أن يكون منخفضاً نسبياً:
- ماجد.. ما هذا الشيء الذي تعلق برجلك؟
ركزت نظري على عينيها التي اتجهت إلى الأسفل قبل أن يقفز ماجد وهو ينظر إلى رجله ويصرخ:
- ما هذا.. ماذا تقصد.. لقد أخفتني.
ضحكت (لمى) بصوت مسموع، بينما وضعت (فاطمة) يدها على فمها فقال (ماجد):
- سأردها لك يا (قصي).. لا تنسى ذلك.
أصبحت واثقاً من أنها تسمع، وحاولت أن أتذكر ماذا قلت لـ (ماجد) حين قال لي أنها خرساء، أذكر أن عينيها كانت تلمع بعد حديثنا ذاك، لكنني ولفرط توتري لم أستطع تذكر ما قلته جيداً.
عندما خرجت لأستقل سيارتي وجدت بقعة كبيرة من الزيت تحتها، فعلمت أن عطلاً قد أصاب المحرك، اتصلت بـ (باسل) فطلب مني أن أعطي المفتاح للحارس وأترك الأمر له.
عرض علي (ماجد) من باب الذوق أن يقوم بإيصالي لكنني اعتذرت منه وتوجهت نحو الشارع العام ثم استقليت سيارة أجرة إلى منزلي، وحالما وصلت إلى البيت توجهت إلى غرفتي وأخرجت أرقام هواتفهم لكنني لم أكن متيقناً من اسمها وإنما بنيت ذلك على تخميناتي فاتصلت بـ(ماجد)، قلت له:
- ماجد.. أردت أن أسألك عن اسم الضابط الذي أخذ أوراقي؟؟
- صالح..
- فعلا صالح.. وما اسم أخته؟
- بشرى..
- حسناً، حسناً.. شكراً سيدي أراك غداً، لا تتأخر لأننا سنذهب بسيارتك.
أغلقت الخط قبل أن يجيبني ثم أخرجت رقم هاتف (بشرى) وأرسلت لها رسالة "لا أعلم هل أعتذر عن سوء أخلاقنا، أم أشكركم على رقي أخلاقكم" تركت الهاتف من يدي ثم قمت لأستحم، وعندما عدت لم أجد رداً منها، فتوجهت إلى المطبخ لكنني سمعت صوت الهاتف يرن فعدت مسرعاً، كانت (معالي):
- كيف حالك قصي؟؟
- بخير..
- هل أنت متأكد؟؟
قلت باستغراب:
- نعم.. ما الأمر؟؟
- لقد رأيت إضاءات سيارتك محطمة من الجهة اليمنى.. هل حدث لك مكروه؟؟ أخبرني أرجوك..
حاولت أن أتحكم بأعصابي، قلت:
- عفواً.. هل تقومين بالتجسس علي ومراقبتي؟؟
- حبيبي.. لا تفكر بهذه الطريقة.. لماذا تعاملني هكذا؟؟ كل ما في الأمر أنني أحببت أن أطمئن عليك..
قاطعتها بقوة:
- رجاءً معالي.. هذا يكفي.. لا أريد أن أتحدث الآن..
- حبيـ..
- مع السلامة..
صمتت لثوان ثم قالت بانكسار:
- أنا آسفة.. مع السلامة.
لم أجد مبرراً لما تفعله (معالي) سوى انزعاجها من وجود (روان) بالرغم من أنني لا أعرفها شخصياً، فماذا لو علمت بأمر الثلاثي الذي سيرافقني لمدة أسبوع؟؟
انتشلني صوت هاتفي ينذر عن وجود رسالة واردة ففتحتها، وكانت من بشرى كما توقعت " لم يحدث منك ما يسيء لتعتذر عنه"، قمت بالرد عليها مباشرة " أعتذر أيضاً عما فعلته مع أخيك"، فردت "المسكين.. لقد آلمته بشدة".
بالرغم من أنني كنت أستطيع إنهاء الحوار لكنني كنت مستمتعاً به بشدة، فحاولت إطالته قدر الإمكان، أرسلت لها "صدقيني لم أقصد أن أؤذيه.. كنت أعتقد أنه متطفل جاء ليتحدث معكِ" فأجابت " لا بأس.. لقد شعر بالفرحة وتنازل عن حقه عندما علم أنك أفزعت ماجد".
يبدو أن علاقتها بأخيها قوية جداً، لدرجة أنها تخبره بتفاصيل يومها بدقة، أرسلت لها " في الواقع، كانت مزحة سخيفة فقط"، انتظرت لدقيقتين لكنها لم تجب على رسالتي فأرسلت لها مرة أخرى " وطالما أن ذلك أسعد (صالح) فسأعيد الكرة مرة أخرى وأجعل (ماجد) يدفع ثمن مضايقته لك غداً"، أرسلت بسرعه "أنت مجرم.. كفاك ظلماً.. كما أنني لا أعتقد أنه يحتمل أكثر من ذلك" لم تكن تعلم أن كلمة مجرم في قاموسي تعني..
ملاك فاتنة..
وجسور تهوِي..
ورجل لا يهوى..
ومواعيد لا تنتهي..
في صباح اليوم التالي جلست على طاولة (ماجد) والفتيات نكاية في (معالي) ومحاولة لجذب انتباه (بشرى) ولكن بطريقتي!!
لا أعلم سر اهتمامي المفاجئ بها لكنني شعرت أنها تروقني جداً، لابد أنها تحمل بين جنباتها روحاً عميقة بكل تأكيد، فرحت أتأمل تصرفاتها القليلة جداً وأحاول تحليلها، دخل أخوها (صالح) من باب المركز لكنها لم تلاحظه لأنها كانت تعطي الباب ظهرها فأشرت إليه بيدي حين رأيته يحاول البحث عنها فاقترب مني وصافحني بابتسامة عريضة فأخذت له كرسياً ودعوته للجلوس.
قال:
- أعتذر عن تأخري أستاذ (قصي).. لم أكمل إجراءات الحادث إلا في وقت متأخر، ولم أستيقظ صباح اليوم باكراً.. كما أنني أخبر أختي لتحضرها لك..
- لا تقل ذلك يا رجل، أنا المدين لك بالاعتذار وليس أنت..
كان يود مقاطعتي لولا تدخل (معالي) التي اقتربت من الطاولة وقالت بطريقة مصطنعة:
- أستاذ قصي هنا؟؟ إنها صدفة رائعة.. كيف حالك؟؟
كانت طريقتها مبتذلة وواضحة جداً، قلت:
- أهلاً أستاذة.. أعرفك على زملائي في العمل.
قاطعتني موجهة حديثها للجميع:
- أهلاً بكم.
ثم وجهت حديثها إلى صالح:
- لم أكن أعلم أن لديك أخ يعمل معك هنا..
قاطعتها مشيراً بيدي إلى (بشرى):
- إنه الضابط (صالح).. شقيق الآنسة (بشرى)..
تفحصت ملامحه للحظة ثم قالت:
- غريب.. إنه يشبهك جداً..
ثم وجهت حديثها للجميع:
- أليس كذلك؟؟
ابتسم (صالح) بحرج، والتقت عيني بعيني (بشرى) التي راحت تتفحص ملامحي، حتى ماجد والفتاتين أصبحوا ينظرون إلى وجهي ووجه (صالح) كأنهم يحاولون البحث عن نقاط الشبه أو الاختلاف، فقبضت على يد (صالح) وقلت:
- حتماً يسرني ذلك.. أعتذر منكم، كنت أريد التحدث مع (صالح) على انفراد.
سحبته من يده مباشرة وأنا أعلم أنه ليس لدي ما أقوله له، فرحت أسأله إن كان سيواجه مشاكل في المستقبل لعدم تمكنهم من القبض على ذلك الشاب حتى الآن، وهل يمكنني تقديم أي خدمة حيال ذلك، لكنه شكرني بأدب ثم انصرف فعدت إلى الطاولة مرة أخرى.
عندما عدنا إلى القاعة بعد فترة الاستراحة ذلك اليوم كنت أفكر في معالي وتصرفها الغبي جداً، لابد أن الجميع لاحظ طريقتها المبتذلة كأنها تخفي أمراً ما، لكنها أنقذتني عندما سألتني عن (صالح)، لأن ذلك دليل على أن علاقتنا سطحية جداً، وإمعانا مني في مضايقة (معالي) جلست في الصف الأول أتأمل (روان) لأنني أعلم كرهها الشديد لها فأردت أن أعاقبها!!
كانت الدكتورة (روان) حركية جداً، لابد أن بقائها بين طلاب الجامعة لفترة طويلة قتل فيها الخوف والخجل، فبالرغم من مظهرها الوديع إلا أنني واثق أنها تستطيع معاقبتهم وتعليمهم في الوقت ذاته.
وفي محاولة منها للتفاعل مع الجميع، تجاوزت طاولتها ووقفت أمام الحضور، حاولت أن تشرح نظريتها بطريقة أبسط فتفاعل معها الجميع مما حمسها على النزول إلى المسرح كأنها تتجول بين طلابها، كانت تقترب بين الفينة والأخرى من منتصف القاعة ثم تعود مرة أخرى إلى الخلف وهي تمنح وجهها للحضور وتختلس النظر إلى الخلف حتى لا تخطئ طريقها.
علق ثوبها في طرف مقعدي فتوقفت عن الحديث وانحنت بحرج شديد تحاول فك العقدة عن طرف بارز في المقعد الذي تحرك قليلاً وانحنيت أساعدها وأنا أرى كل العيون تتجه إلي، وتلاقت نظراتنا فوجدتها فرصة لأقول لها بعيني: رجاءً لا تفعلي ذلك مرة أخرى..!!
كان من الطبيعي أن أتصرف بهذه الطريقة لرد هجوم متوقع منها، تلاقت أصابعنا باضطراب عاشقين في نفس الحلقة، أبعدت يدها فأخرجت عقدة الثوب دون أن أنظر إليها فهمست لي بصوت خافت:
- آسفة..
من الجيد أنها لم تنتظر جوابي لأنني لم أتوقع أن تتأسف مني أبداً، لم أحاول النظر إليها طوال الوقت لكن من الواضح أن صوتها بدا مختلفاً جداً ولم أشأ أن أحرجها أكثر.. عندما خرجت من القاعة كانت نظرات الناس تحيط بي، توقعوا أنني من قمت بالإيقاع بها، ولأن شرح أمرٍ لم يحدث لأشخاص يحبون خيالهم أكثر من الحقيقة كان أمراً مستحيلاً فقد آثرت الصمت، أحببت أن أفتح المجال لخيالاتهم المريضة ليتخيلوا ما شاءوا!!
حتى (معالي).. رمقتني بنظرة غريبة ذلك اليوم كأنها اعتبرت أن ما حدث رسالة واضحة لتحديها، لكنني تجاهلتها تماماً ولم أترك لها فرصة للحاق بي، وجاءني اتصالها:
قالت بنبرة مختلفة:
- قصي.. كيف حالك؟!
قلت بغضب:
- حدث هذا مصادفة.. رجاءً (معالي)، لست مستعداً للحديث مع أحد.
- أعلم.. لست غاضبة منك.. حبيبي.. صدقني أنا أحبك.
- وماذا تريدين؟!
- أردت الاتصال بك لأخبرك بأنني أحبك..
بت أشعر أن معالي تريد امتلاكي بأي طريقة ولن تتوقف قبل أن تفعل ذلك، كما أنها كانت متحفزة لاتهامي بمعاكسة (روان) بعكس (بشرى) التي أرسلت لي مساء ذلك اليوم "لقد بدا منظرك مضحكاً جداً.. لم أكن أعلم أنك تخجل من النساء إلى هذا الحد". أمسكت بهاتفي واستلقيت على سريري وقمت بالرد على رسالتها "دعيك من هذا الآن، هل أشبه (صالح) حقاً؟" ردت بعد لحظات "لا أعلم حقيقة، أعتقد أنكما تتشابهان في بعض الصفات والتصرفات".
حاولت استغلال موضوع الشبه بيني وبين (صالح) لأكبر حد ممكن، راحت تحدثني عن صفاته وأحدثها عن صفاتي ونقارن بينها، وفي آخر الليل أحببت أن أعترف لها بالأمر الذي أخفيته عنها، فأرسلت لها "هل تذكرين عندما قمت بإخافة (ماجد)؟ لم أكن أهتم لأمره، كنت أحاول فقط أن أعرف إذا ما كنت تسمعين أم لا.. لم أفضل أن أسأل أحداً عن ذلك"، ردت "أعلم ذلك.. كانت لفتة جميلة استطعت أن تجذب انتباهي من خلالها".
ساعدني تقبلها لهذا الاعتراف الصغير بأن أعترف لها بأكثر من ذلك.. أخبرتها بما قلته لـ (ماجد) عن (لمى) حتى أستطيع الاستمتاع بقدر أكبر من الحرية بعيداً عن مراقبته لي، ولا أنتظر توجيهاته السخيفة حول ما يجب عليّ أن أفعل، فقالت لي أنها ستلقبني بالمجرم من الآن فصاعداً، لأنني أستحق ذلك!!
لم تكن تعلم أن كلمة (مجرم) هذه التي تلقبني بها تعني أنني أصبحت متقدماً على غيري بكلمة صارت تخصني وحدي، وأنا لا ما أمانع أن أكون مجرماً طالما أنني سأكون المجرم الوحيد في حياتها!!
في اليوم التالي اخترت أن أجلس في الخلف متعمداً لألفت انتباه (روان)، ثم أخذت قهوتي في فترة الاستراحة واخترت كرسياً يطل على الباحة المزينة بالأشجار قريباً من مصلى الرجال، لمحتها وهي تتحدث مع أحد المنظمين، نظرت إليّ بارتباك ثم توجهت نحو الباب فلحقت بها.
قالت:
- أنا آسفة.. صدقني لم أفكر في أن أسبب لك الحرج، كنت عائدة إلى الخلف عندما حصل ذلك، تعلم أنني أحبكم وأحترمكم جميعاً كإخوتي.. لا أحب أن يغضب مني أحدكم.. إنكم تمثلون مصدر النجاح بالنسبة لي..
ابتسمت:
- لست غاضباً.. كنت أجلس على تلك الطاولة وأمارس حقوقي كمواطن في شرب القهوة حين رأيتك تنظرين إلي، فأتيت لأرى ماذا تريدين، ليس أكثر؟
صمتت قليلاً ثم قالت:
- تقصد أن عيناي طلبت منك الحضور؟
- نعم.. قالت لي.. رجاءً هل بإمكاني أن أتحدث معك لدقيقة؟
بدت مرتبكة جداً وقالت بحرج:
- هل قالت لك شيئاً آخر؟
- في الواقع ليس كل كلام العيون يقال؟ كان حديثاً خاصاً بعض الشيء؟
صمتت ونظرت إلى عيني لوهلة ثم أعادت نظرها إلى الأرض، قلت:
- هل تريدين أن أقرأ لكِ ماذا قالت الآن؟
- لا.. رجاءً.
ابتسمت ابتسامة ذات مغزى وأطلت النظر إلى عينيها فغطت وجهها بكتاب كان في يدها، قالت:
- رجاءً أستاذ.. لا تنظر إلى عيني.. أنا أخجل.. احترمني.
- أمزح..
خفضت الكتاب عن وجهها، قالت بمرح:
- لا تصدق، أنا أيضاً أمزح.. ثم أنك لا تجيد قراءة العيون بشكلٍ صحيح.
- إذن دعيني أنظر لتعرفي إن كنت أجيد ذلك فعلاً أم لا.
نزعت نظارتها الطبية بتحدٍ وحاولت أن تتصنع الصرامة وهي تنظر إلي وأنظر إلى عينيها وأنا أتذكر جنون الأطفال وتحدياتهم التافهة، ابتسمتُ مرة أخرى فأعادت نظارتها وقالت محاولة إخفاء استحيائها:
- شكراً لتفهمك.. لا بد أن أذهب الآن، لدي أعمال يتوجب عليّ القيام بها.
- ألا تريدين أن تعرفي ماذا قرأت في عينيكِ؟
حاولت أن تتصنع الكثير من الهدوء والابتعاد عن الهزل، قالت بلهجة حازمة:
- ماذا قرأت..
- لا شيء.. لست قارئاً جيداً.
لم تمنحني فرصة أخرى للحديث ورحلت دون أن تجيب بشيء.. وعدت أنا بهدوء إلى ذلك الكرسي، ثم أكملت قهوتي ورحلت.
في طريق العودة كان لابد أن أصنع حدثاً ليكون فاتحة لمحادثة بيني وبين (بشرى) في المساء وقبل أن أجد طريقة أقوم بها اتصل بي أخي (أسامة) يبشرني بأن زوجته أنجبت مولوداً ذكراً، فوعدته بزيارة في أقرب فرصة، وأنا أعلم أن الجميع يستمعون إلى حديثي، بارك لي ماجد بعد أن أنهيت حديثي مع أخي فسألته:
- هل تعرف محلاً جيداً يبيع مستلزمات الأطفال؟
- ممم.. لا أعلم..
- لا بأس..
وكما توقعت، أرسلت لي (بشرى) قائمة صغيرة بأسماء المحلات التي تبيع مستلزمات الأطفال وكان هذا كل ما أريده لأجد طريقة أرسل لها بها أول رسالة تكون فاتحة لرسائل تستمر بيننا طوال الليل..
في المساء أعددت كوب قهوة ثم جلست أمام جهاز الكمبيوتر ورحت أبحث عن لغة الإشارة، وأنا أتبادل الرسائل مع (بشرى)، ثم خطرت لي فكرة قررت أن أقوم بها غداً.
في اليوم التالي لم أبتسم طوال تواجدي في القاعة، كنت أنظر إلى عيني (روان) طوال الوقت متصنعاً التركيز في حديثها، في البداية كانت تختلس النظر إليّ متصنعة عدم الاهتمام، لكنها أصبحت تتحاشى النظر في عيني تماماً حتى سألها أحد الأشخاص بجانبي، نظرت إلى وجهه ثم إلى وجهي، قالت:
- عفواً.. أعد سؤالك.. لم أفهم ماذا تقصد..
كرر سؤاله لكنها لم تجبه.. اقتربت منه أكثر حتى أصبحت أمامه مباشرة واستجمعت كل حواسها ثم قالت:
- أنا آسفة، لم أستطع سماعك لكثرة الضجيج، ماذا كنت تقول؟
أعاد سؤاله فأجابت بسرعة ثم اعتذرت على ذلك وادّعت أنها تمر بيوم سيء حيث أنها لم تنم بالأمس وهذا يفسر قلة تفاعلها معنا، اعتذرت من الجميع ووعدت بعدم تكرار ذلك، ثم رتبت أوراقها وخرجت..
خرج الجميع من القاعة بعد خروجها فاعتذرت من ماجد وأخبرته بأن لدي عمل في منطقة قريبة من هنا ثم توجهت نحو مكاني المفضل في زاوية المطعم بعد أن تأكدت أن (معالي) قد غادرت هي أيضاً، كنت أعلم أن (روان) ستمر بالإدارة لتضع أوراقها قبل أن تغادر المبنى فأحببت أن أراها قبل أن تغادر.
دخلت إلى المطعم وطلبت فنجان قهوة ثم خرجت مرة أخرى وأنا أنظر إليها دون أن أحرك ساكناً.. نظرت لي مرة أخيرة قبل أن تدفع حساب القهوة لكنني حركت رأسي بلا علامة على أنني لم أفهم فجاءت بنفسها. قالت:
- رجاءً.. هل تريد مني أن أترك عملي بسببك؟؟ هل يرضيك أن يتحدث عني الجميع ؟ ماذا فعلت لك لتفعل بي كل هذا؟
- لم أفعل شيئاً، كنت أتابع المحاضرة فقط.. مثل الجميع..
قاطعتني:
- نظراتك كانت مختلفة.
- كانت مختلفة لأنك أردتِ أن تكون كذلك.
- لا تراوغ.. لست أول شخصٍ أنظر إليه ولن تكون الأخير.
- جيد.. أنت تقرئين لغة العيون إذن.. أخبريني ماذا كانت تقول عيني.
- أنت مجنون!!
- ربما.. لا زلت أحاول أن لا أكون.. لا أعلم سبب تهجمك عليّ الآن، كيف قررت أن نظرتي كانت مختلفة عن مائة وخمسين شخصاً ينظرون إليكِ مثلي؟
صمتت دون أن تجيب فتابعت:
- لمَ أنت خائفة إن كنت تثقين بنفسك؟ ليقل جميع الأشخاص ما يريدون، المهم أنك تثقين فيما ترينه مناسباً..
- لو سمحت، كف عن المراوغة، أنت تعلم أن نظراتك كانت مختلفة.
ابتسمت:
- حسناً.. أعترف أنها مختلفة.. كنت أحاول قراءة عينيكِ.. تستطيعين القول بأنه فضول شخصي لأسبر أغوارها فقط.
رفعت فنجان قهوتي أرشفها لأمنحها مساحة للتعقيب لكنها صمتت، قلت:
- جميعنا نخاف أن يعرف الآخرون ما نشعر به أو نخبئه في ذواتنا، فنقوم بإخفائه ظناً منا أن ذلك سيجدي نفعاً، ثم نكتشف أن الكل أصبح يشعر بذلك عدانا!!
ليس عيباً أن نخاف، المهم أن نواجه الأمر بقوة، إذا كنت أحبك مثلاً فعلي أن أقول أنا أحبك..
أمسكت يدي بخوف ترجوني أن لا أرفع صوتي:
- ما هذا الكلام، هل تعي ما تقول؟
- نعم.. سأصرخ وأقول أنا أحبك، وعليك أن ترفعي صوتك وتقولي أنا أكرهك.. ألم تخبريني أنك تحبينني بالأمس.
- لم أقل أنني أحبك.. قلت أنني أحترم الجميع وأحبهم وأكن لهم المودة، هذا لا يعني..
قاطعتها بهدوء:
- ما رأيك أن تقومي بعمل شيء تخافين منه جداً؟
- إن جلوسي معك الآن هو أكثر شيء أخافه وأخشاه، وكل ما أريده منك هو أن تبتعد عني.. من فضلك!!
صمتُّ قليلاً ثم قلت:
- حسناً.. أعدك بأنني سأبتعد عنكِ، دعينا ننهي هذا اللقاء فقط..
صمتت قليلاً كأنها تفكر ثم قالت:
- سأنهي معك هذا اللقاء، شريطة أن تبتعد عني للأبد..
وضعت كوب القهوة على الطاولة وضحكت:
- حسناً..
أعادت ظهرها إلى المقعد كأنها شعرت بالهدوء، قالت:
- هل تملك القدرة على قراءة العيون حقاً؟
- لا أعتقد.. هذا صعب جداً.. لكنني أعتقد أنك تفعلين.
- لا أدري، ربما لأنني أرى كل يومٍ آلاف العيون في طريقي، لكنني لا أعلم إن كانت قراءتي لها صحيحة.
- حسناً.. لنختبر ذلك، سأنظر إليك كل مرة بطريقة مختلفة.. وعليك أن تخبريني كيف نظرت إليكِ في كل مره.
عادت لنفسها السكينة وابتسمت:
- حسناً.
عدت إلى الخلف قليلاً ونظرت إليها، وفي كل مرة تجيب، أغير من ملامح وجهي.
- متكبر.. مممم حزين.. متفاجئ.. سعيد..
اقتربت منها جداً ونظرت إلى عينيها بابتسامة، قلت:
- والآن؟
تضرج وجهها بالحمرة، قالت:
- لا أعلم..
- ولماذا أحمرّ وجهك؟
- ما هذا!!
- أنا سأخبرك.. هذه نظرة إعجاب.. هل فهمتِ الآن.. نحن نقرأ ما نريد قراءته فقط ونهمل ما لا نريده أو نخافه، وهذا ما يجب عليك التغلب عليه.
صمتت وتابعت:
- عندما كنت صغيراً قال لي أخي أن كل عذابات المرء ناشئة من عدم إيمانه بنفسه وتسليمه بالواقع واستماعه لنصائح الآخرين وتجاهله لما يمليه عليه قلبه، كنت صغيراً حينها ولم أدرك كل ما قاله.
يتبع..
**
3907 كلمة بالضبط.. واقتربنا من النهاية.. :)
شكراً للجميع بدون استثناء :)
|