كاتب الموضوع :
Ahmad Rufai
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: رواية 13
-15-
هذا الجزء مهدى إلى الصديق المتابع/ مختار كليب..بمناسبة زفافه..
وإلى روح والدته.. رحمها الله
- استيقظت على صوته في أحد الليالي وهو يفتح الباب، دخل إلى غرفتي ونعتني بأقبح الشتائم، أراد أن يأخذ ابنتي فأخرجت سكينا من المطبخ وهددته به لكنه حاول أكثر، فطعنته في يده وصرخت بأعلى صوتي فهرب..
حاولت المتابعة لكنها لم تستطع واختنق صوتها فصمتت، ولم أحاول النظر إليها لأنني لا أستطيع مواساتها بأكثر من تدخين هذه السيجارة التي بين أصابعي، تركتها حتى استعادت قدرتها على الكلام، قالت:
- سمعت فيما بعد أنه تزوج بامرأة أخرى أودعته السجن.. كان هذا ما يستحقه.. لم أعد أهتم بعدها بأمر أحد في هذه الحياة سوى أمي و (ليان).. أنا آسفة.. لم أكن أقصد إزعاجك.
يبدو أنها اختزلت كثيراً مما كانت تنوي قوله ظناً منها أنها أزعجتني بحديثها، قلت:
- بل على العكس تماماً.. أنا سعيد بالاستماع لكِ.
ابتسمت (معالي) بامتنان فتابعت لا شعورياً:
- أخبريني عن والدتك..
صمتت قليلاً ثم قالت لي بمرح:
- حسناً سأخبرك.. هل تعلم ماذا تعني أمي بالنسبة لي؟؟ إنها الأمن والأماني والأمنيات.. كلما شعرت بضيق أتصل بها وأشكو لها كل ما بداخلي، ولا أغلق سماعة الهاتف إلا وأنا أشعر أنني طفلة صغيرة مستعدة لممارسة لعبة الحياة من جديد.. كأنها لم تلدغ منها يوماً..
تستطيع أمي أن تحتوي كل ضعفي وتحوله إلى طاقة إيجابية، لا أخجل من إخبارها بكل أسراري.. وألجأ إليها كلما مرضت ليان، وبالرغم من آلاف الكيلومترات التي تفصل بيننا إلا أنها تقوم بإعطائي العلاج الصحيح في كل مرة كأنها تقف أمامي مباشرة..
بدت سعيدة جداً وهي تتحدث عن والدتها فكأن مجرد تذكرها جاء كتعويذة الفرح التي أنستها أنها كانت تبكي قبل قليل.
راحت تخبرني عن مواقف مضحكة استطاعت أن تفعلها بمساعدة أمها للتخلص من مضايقة أحدهم أو الوصول لأمر كانت تريد أن تحظى به، وفي قمة تلك المتعة المشتركة باغتتني بالسؤال ذاته، قالت:
- وأنت قصي.. أخبرني عن والدتك، لا تعلم كم أصبحت مشتاقة لرؤيتها بعد أن عرفتك..
- وأنا كذلك..
- أشعر أنها استطاعت أن تغرس قيم الرجولة بداخلك أنت وإخوتك.. أليس كذلك؟
اكتفيت بتحريك رأسي، فقالت بحماس:
- كم عدد إخوتك يا قصي؟
- سبعة..
قالت باستنكار:
- سبعة؟!
- وأنا ثامنهم..
نظرت لي باستغراب ثم قالت:
- كنت أعتقد أنه كلما زاد عدد الأبناء، قلّ نصيب كل فرد من الاهتمام الذي يحصل عليه من والدته.. لكنني لا أشعر أنك تفتقد هذا الاهتمام ولا تحاول تعويضه.. كأنّك الفتى الوحيد الذي أنجبته.
اكتفيت بابتسامة فقط فقالت وهي تنظر إلى السقف كأنها تحدث نفسها:
- لابد أن الحياة بين سبعة إخوة مثيرة جداً.. أليس كذلك يا قصي؟؟
حركت رأسي بالموافقة، فتابعت وهي تحاول أن تستعطفني لألبي طلبها، قالت:
- سأطلب منك أن تحكي لي عن كل واحد من إخوتك السبعة لاحقاً.. لكنني أريد أن أطلب منك طلباً تنفذه لي الآن.. رجاءاً يا قصي.. اتصل بأمك، أريد أن أسمع صوتها.. وأنظر إلى تعابير وجهك وأنت تتحدث معها..
حركت فمي لأقاطعها لكنها تابعت بإصرار:
- هيا.. الآن.. أرجوك.
قاطعتها بصوت عال.. حاولت أن أخرج الكلمة كثيراً لكنني لم أستطع فلفضتها بقوة:
- ميته.. إنها ميته.
ارتخت أطرافها وأعادت ظهرها إلى المقعد بعد أن كانت قد تقدمت بحماس لتحاول إجباري على الحديث، أطفأت سيجارتي كأنني أقتص منها وأحرمها متعة مشاهدتها ثم أخذت مفاتيح سيارتي من على الطاولة قربي، فهمست لي بصوت نادم:
- أنا آسفة..
لم أجبها.. كان من الواضح جداً أنني متحفز للخروج، لكنني أنتظر الإذن منها بذلك، قالت:
- رحمها الله..
بدأت أشعر بضيق شديد من كل شيء في المكان فحاولت أن أجمع كلماتي وأرتبها، قلت:
- أنا أعتذر.. أريد الذهاب.
حاولت أن تتجاهل كلماتي، قالت بتأثر شديد:
- أنا على ثقة بأنها ستكون فخورة بك..
أكره أن يتملقني أحدهم أو يشفق علي لأنه يملك ما لا أملكه، فهو لا يستطيع أن يشعر بما أشعر به لأنه لم يجرب ذلك فعلاً ، فرحت أضغط على كل حرف بقوة في محاولة فاشلة لأخفي عصبيتي:
- شكراً.. هل بإمكاني أن أذهب الآن؟
غطت فمها بيدها ونظرت لي بتعجب ثم حاولت أن ترسم ابتسامة على وجهها وهي تتوجه نحو باب الخروج فتبعتها، قالت لي وهي تمسك بطرف الباب بعد أن قامت بفتحه:
- أكره أن يعاملني أحدهم بمزاجية..
تجاوزتها متجهاً نحو الخارج، قلت:
- مع السلامة..
لم أسمع صوت إغلاق الباب حتى بعد أن ركبت سيارتي فشعرت أنني مجرد أناني حقير، لكنني لم أكن أقوى على البقاء ولا لدقيقة واحدة.. ولأنني كنت أضعف من أن أختار وجهتي تركت نفسي لتختار هذه المرة.
ودون تفكير قررت أن أعود..
كنت أهم بالتوجه إلى منزلي لآخذ ملابسي أولاً لكنني لست بحاجة لشيء سوى يد حانية مليئة بالتجاعيد تربت على رأسي، وسبع إخوة يغطونني من غدر الدنيا ويكونون أقرب إليّ مما أرتديه.. وقبر موحش تسكنه قدّيسة أقف أمامه لتؤنسني!!
بعد ساعتين كنت أقف أمام منزلنا من ناحية جناح أكبر إخوتي (أسامة) فاتصلت به وجاءني صوته ضاحكاً:
- مرحباً بأصغر إخوتي وأكبر أبنائي.. من أين أتيت بكل هذا العقوق؟؟ كيف حالك؟
- بخير..
عندما سمع صوتي مختلفاً قال بنبرة منخفضة:
- ماذا بك يا قصي؟؟ هل أنت متعب؟؟ سآتي في الصباح لأقلك إلى هنا.. كفاك غربة يا رجل..
قاطعته:
- أنا بالأسفل.
أغلق الخط في وجهي وبعد لحظات رأيته يخرج من بوابة المنزل متجهاً إليّ فخرجت من السيارة وقبلت رأسه فضمني بقوة وبدأت الدموع تفر من عيني كأنها فضلت أن تمطر على رأسه.
استلم عجلة القيادة وأنا مركون بجانبه كقطعة قماش بالية يحركها أتفه شيء حتى الهواء، توقف أمام المقبرة ثم نادى على الحارس ليفتح الباب وهو يسحبني من يدي ليتوقف بي أمام قبر والدتي فشعرت أن قدمي لم تعد قادرة على حملي فسقطت على ركبتي وأجهشت بالبكاء فتبعني (أسامة) بالجلوس دون أن يحاول تهدئتي.
أمسك بعود صغير وراح يرسم به خطوطاً مستقيمة على الأرض ثم قال بعد صمت طويل:
- في الليلة التي توفيت فيها أمي عدت إلى البيت وأنا أتمنى أن يقتلني كل شيء في طريقي حتى لا أشاهد شروق شمس الغد دون أن تكون أمي هي من تسمح لنورها بالانتشار في حياتي، لم أستطع النوم ليلتها فقمت من فراشي دون أن تشعر زوجتي بذلك وتوضأت ثم قمت أصلي وأدعو الله باكياً أن يسبغ الطمأنينة على قلبي، عندما سلمت وهممت أن أقوم لأصلي مرة أخرى أمسكت والدتي بيدي، كما كانت تمسك بها عندما كنت أزورها في المستشفى آخر أيامها، خللت أصابعها بين إبهامي وسبابتي ووضعت إبهامها من الجهة الأخرى لتصبح أصابعها ملتفة حول إبهامي، ثم قالت لي "هل صليت يا ولدي؟" فحركت رأسي وبدأت الدموع تنهمر من عيني فقالت:"لاتقلق.. أنا بخير".. "كن بجانب إخوتك دائماً" .. "انتبه لقصي".
كنت أجيبها على كل سؤال كما تعودت أن أجيبها كل يوم، الذي اختلف في تلك الليلة، أنها هي من قبّلت رأسي ثم اختفت وسط الظلام، عندما قمت صباح اليوم التالي وجدت نفسي على سريري فعلمت أنني كنت أحلم، لكنني في اليوم الثاني وبعد أن ودعت جموع الناس الذين جاءوا للعزاء واطمأننت بأن زوجتي قد نامت، قمت لأفعل كما فعلت في الليلة السابقة، فجاءتني أمي وحدث بيننا مثل الليلة الأولى، وعندما قمت من النوم وجدت نفسي على فراشي.
ثم أصبح هذا هو ديدن كل ليلة أقضيها لأصلي، لم يكن لدي مجال إلا بالتسليم بأنني كنت أحلم بالرغم من أنني على ثقة بأنني أكون في كامل وعيي بما حولي، زادت ثقتي عندما رأيتها تكبر مع مرور الأيام فبدأت ملامحها تذبل وبدأ شعرها يقل ويتحول إلى اللون الأبيض.. فلم تعد تأتيني بنفس الصورة التي كانت تأتيني بها عادة، وباتت تحادثني في أمور يومية وتساعدني على حلها.
سألتني قبل أيام.. "هل عاد قصي؟".. فأخبرتها أنك لم تعد، فقالت "لا تقلق، لابد أن هناك ما يشغله.. سيعود من تلقاء نفسه".. وها أنت تعود اليوم من تلقاء نفسك لتقف هنا.
لم أخبر أحداً بهذا من قبل، خفت أن يعتقد الجميع أنني قد جننت، لكنني أقسم لك أن هذا ما يحدث في كل ليلة أقوم لأصلي فيها..
بدأت أمسح دموعي وخفضت رأسي إلى الأرض أحاول بين الفينة والأخرى أن أشاهد عيون أخي التي أصبحت لامعة وسط الظلام مستغلاً انشغاله بتحريك العود على الأرض.
قال:
- أحياناً أشعر أنني أغبطك لعدم معرفتك لها، لأن إحساسك بها الآن هو شعور غريزي لطفل نحو أمه التي لم يراها مرة واحدة في حياته، وليس شعور المشاركة والجمال الذي كانت أمي متخمة به، كانت تختار لنا من كل شيء أجوده، ومن كل كلمة أجملها ومن كل شعور ألطفه إلى قلوبنا.
راح يخبرني عن ذكرياته معها، عن سر خبأه معها عن والدي، عن أقصوصة أدمن سماعها من فمها، عن أحلام كانت تسر له بها حين كانت على فراش الموت وعن أشياء صغيرة ويومية لا يغري روايتها كما يغري أن تكون جزءاً منها.. تساهم في صنعها واستخدامها كلما شعرت أنك تشتاق إليها، لتخلق تلك اللحظة بنفسك.
توقف (أسامة) فتبعته، لم ينفض يديه وملابسه، وإنما قام بمسح يده على شعره ورقبته كأنه يتطيب بما علق فيهما من رمل، ابتسمت حينها رغماً عني وقلدته كما كنت أفعل دائماً.. لأنه الشخص الوحيد الذي لا أخجل من تقليده في هذا العالم، قال لي:
- املأ نفسك.. فهذا كل ما تبقى من حضنها الدافئ، ورائحتها العطرة.
رافقته نحو البوابة فسلمني مفتاح سيارتي، قال:
- سأريك الآن وجه المدينة كما لم تراه من قبل.
لم أفهم ما يقصده فرحت أتنقل بين شارع وآخر كغريب يبحث عن بيت يعرفه ولا يعرفه حتى أنقذني بصوته:
- سأختار أن أبدأ من هنا.. هل ترى ذلك المبنى باللون البني، توقف أمامه.
روى لي في كل شارع حكاية، هنا درس.. وهنا قاد سيارته الأولى، وهناك في ذلك الشارع حصل على أول وظيفة له، هنا يسكن أهل زوجته، وهنا أمام هذه الحديقة لمحها لأول مرة..
بدت الشوارع ساكنة تصغي إلى حديثنا وضحكات أخي الذي بدأ الشيب يتسرب إلى صدغيه وذقنه دون أن يشعر، أو ربما كان يعرف ذلك ويتجاهله.. المهم أنه بدا شغوفاً بكل شارع نمر به ويطلب مني التوقف قليلاً كأن العلاقة التي تجمعهم وثيقة جداً..
لم أكن أعلم أن للشوارع قيمة حسية تشاركنا انفعالاتنا، فحسب ما يرى (أسامة) يعتقد أن كل شارع يتصف بصفة تميزه عن غيره، فهذا حزين كئيب، بينما يمتد بموازاته شارع سعيد صنع لنفسه أصدقاء وذكريات رائعة، يواجههما شارع قديم تلفظ أبنيته (رواشينها) بفخر لتجبرك على الوقوف لمشاهدتها وإحناء رأسك أمامها، أما ذلك الشارع في وسط البلدة فتعلو أرصفته ألوان مبهجة تركها له تجار قدماء كانوا يلتقون كل أسبوع ليرتبوا على زواياه بضائعهم التي أحضروها من مكان بعيد.
وبينما نحن على حالتنا تلك في التنقل وأسامة يروي لي حنين الشوارع إلى أهلها، قامت كل الشوارع مجتمعة بترتيل آذان الفجر في مشهد لا يخلو من الدعابة وإن خالطه الكثير من الوقار والجمال، فقد اكتشفنا أن هناك شوارع لا تنام باكراً ولا تستيقظ مع باقي إخوتها لتردد معهم أذان الفجر في الوقت ذاته، كما أن هناك أخرى تردده بكسل.
وصلنا إلى المكان الذي بدأنا منه رحلتنا، ولكن بقلب مختلف عن الذي بدأناها به، خفت أن يطلب مني البقاء لأنني لا أملك القدرة على رفض ذلك أبداً، قال لي:
- عندما كنت صغيراً يا قصي، كنت تعود لي كلما أتعبك أمر ما أو ضربك أحدهم.. وكان يحلو لي أن أساعدك دائماً حتى في ربط عقدة حذائك.. وحالما أحل مشكلتك فإنك تختفي مباشرة حتى يرهقك أمر آخر، فتعود من جديد..
ضغط على يدي بقوة وشخص بصره نحو يدي، قال:
- مر زمن طويل لم تعد فيه يا قصي.. حتى ظننت أنك لم تعد بحاجة لأحد، وأن يدك باتت قوية كفاية لتعينك على حل مشاكلك..
ابتسم في وجهي الذي احمرّ خجلاً، وتخليت عن الضغط على يده لكنه أمسكها بقوة وتابع:
- لكنني سعيد جداً بعودتك هذا المساء.. كن قوياً دائماً يا قصي.. وعد سريعاً..
فتح باب السيارة وخرج منها وحالما ابتعدت صرخ لأسمعه:
- لا تعد يا قصي.. كن أخي القوي دائماً..
أدخلت يدي في جيبي وأخرجت علبة السجائر ثم أشعلت سيجارة ورحت أدخنها وملايين المشاعر تختلج بداخلي، لا أعرف أي طريق سلكت، ولا كم من الوقت استغرقت.. كل ما أذكره هو أنني توقفت أمام باب منزلنا وحالما اقتربت منه كان أخي (حمزه) يتبعه (ليث) يخرجان متوجهين إلى عملهما، اتسعت عينا (حمزة) بدهشة وابتسم ابتسامة كبيرة بينما عانقني (ليث) بكل قوة، كانا يودان العودة معي إلى الداخل لكنني أخبرتهما أنني مرهق وبحاجة إلى النوم، فلا داعي لتأخير أعمالهما لأننا سنلتقي حتماً في الظهيرة ونتناول طعام الغداء سوية.
خطوت إلى البيت الذي لم يتغير أبداً.. فكأنني تركته بالأمس.. وقفت في الصالة متردداً.. لم أرغب أن أخرج أبي من عزلته المعتادة كل صباح، فصعدت الدرج بهدوء متسللاً إلى غرفتي وأغلقت بابها خلفي، كان كل شيء يجثم على أرض الغرفة كما تركته قبل أن أغادرها آخر مرة، ورحت في سبات عميق أترقب زيارتها لأخبرها بكل ما في نفسي هذه المرة.
أدرت وجهي باتجاه النافذة فرأيت وجهها ينعكس على زجاج النافذة، فأدرته باتجاهها لأجدها تجلس في مكانها المعتاد على الكرسي بالمقلوب، وقبل أن تهم بالحديث فتح الباب مرة أخرى ودخلت (معالي) تحمل ابنتها (ليان) اقتربت مني فبدأت أرتجف خوفاً من أن تلاحظ كل واحدة منهن وجود الأخرى، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.. اقتربت (معالي) من السرير وتركت ابنتها تلعب حول السرير ثم جلست في منتصفه بعد أن أزحت رجلي، وقبل أن أستوعب ما يحدث، قامت ود بالظهور أمام النافذة وهي ترتدي زي راقصة شرقية وتدورحول نفسها بابتسامة واسعة.. بعدها دخلت (تالا) مطرقة رأسها بخجل يعلو الحزن ملامحها فأردت أن أحدثها لكن (سمر)سحبت البساط من تحتها حين ظهرت من رف المكتبة تشيّر لي بكتاب كان في يدها..
حاولت أن أقوم من مكاني لكن أصابع (خصال) تخللت أصابعي فالتفت إليها لأجدها تجلس على زاوية السرير وترتدي ذلك القميص البرتقالي.. وعلى عكس (معالي) التي اتسمت نظرتها بالعناية والحب، فقد بدت نظرة (خصال) شديدة الرغبة..
من بين كل هذا الجنون لم أستطع أن أهمل (ربى) التي وقفت أمام سريري تحمل في يدها قاموس اللغة الإنجليزية الذي كانت تحمله دائماً.. في البداية توقعت أنني أحلم لكنني تأكدت من ذلك حين اكتشفت أن إحداهن لا تشعر بوجود الأخرى، فرحت أضحك وأنقل بصري بين خصر هذه وشعر تلك، كانوا جميعاً في أجمل حلة عرفتهن بها، حتى (ربى) بدت جميلة كما لم تبدو من قبل.
أعتقد أنني جننت لا محالة لكنني سمعت صوت دقات قوية على باب غرفتي ففزعت خائفاً وحينما استيقظت وجدت أبي يضرب الباب بعصاه وهو يقول:
- من هنا.. من هنا؟؟
رفعت وجهي والتقت نظراتنا فقال بصوت عال جداً:
- أعوذ بالله منك.. أخرج يا شيطان..
وقفت على سريري وأنا أسمعه يردد نفس كلماته ويتعوذ بالله مني ومن الشيطان الرجيم، ويبدو أن أخي (حيدر) - الذي كان يعمل بدوام مسائي- استيقظ على صوت أبي هو الآخر فتبعه إلى غرفتي مذعوراً وحالما رآنا على حالتنا تلك فهم ما كان يقصده والدي وراح يضحك بشدة وهو يقول له:
- أبي.. هوّن عليك.. إنه قصي..
صمت أبي ونظر إلى عيني مباشرة، ثم بدت على وجهه أمارات الخجل وقال بلهجة عتب يوجه حديثه لـ (حيدر):
- لمَ لم تخبرني يا بني أن أخوك قد عاد من سفره.
أمسك أخي بيد أبي وقبّل رأسه وهو يقول:
- لقد أخبرني (ليث) لكنه طلب مني أن لا أزعجه، ولم أكن أعلم أنك ستصعد إلى هنا..
اقتربت من أبي وقبّلت رأسه ويديه، فأصر علي بالعودة إلى النوم مرة أخرى لكنني فضلت أن أخرج للجلوس معها في صالة المنزل.
بالرغم من تفاجئ بقية إخوتي بتواجدي على سفرة الغداء إلا أن المفاجأة الكبرى كانت من نصيب (أسامة) الذي ودّعني صباحاً ظناً منه أنني سأسافر حالاً، فقال وهو يقرص على يدي:
- متى جئت؟!
غمزت له بعيني وقبلت يديه:
- صباح اليوم.. اشتقت إليكم.
كان يوماً جميلاً ضحك فيه الجميع بشدة عندما علموا بالموقف الذي حصل بيني وبين والدي حين ظن أن جنياً يتخذ من غرفتي مسكناً له، ثم انتقل بنا الحديث نحو مواقف مضحكة كان (الجن) متصدّراً فيها أكثر من غيره.
يتبع..
|