المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
حزر فزر - 2 - د/ أحمد خالد توفيق
حزر فزر - 2
انتقلت الكاميرا إلى السيدة الشرسة نجوى الشربيني، وقد ارتسمت على وجهها مسحة امتعاض واضحة تقول بكل جلاء: "الوجود في هذا المكان لا يليق بي"ـ
ملأ وجهها المتنمر المغطى بالأصباغ الشاشة، وقد توقفت الموسيقى بانتظار سؤالها
قالت في تؤدة:ـ
ـ هل عملك له علاقة بالطب؟
ساد الصمت قليلا ثم قال الرجل خلف الستار ضاغطا على كلماته:ـ
ـ لا
واجه المذيع غسان الكاميرا والتمعت عيناه أكثر؛ هذا الرجل يجيد فن جعل العينين تلمعان كأن عنده زرا يضغط عليه عند الحاجة.. قال غسان بينما الموسيقى تتعالى:ـ
ـ لقد أتممنا دورتين لكن ما زالت إجابة اللغز مبهمة.. يجب أن أذكّر المتسابقين أننا نسمح فقط بخمس دورات، وبعدها نعلن فشلهم.. بعبارة أخرى: يفوز ضيفنا خلف الستار بلقب "أكثر الرجال غموضا"ـ
وضحك ضحكة مفتعلة فدوت ضحكات عصبية بين الصفوف.. إما أن مساعد المخرج أمرهم بأن يضحكوا، وإما هم وقعوا في الشرك المعروف: أن تضحك لأن من أمامك يضحك
اقتربت الكاميرا من وجه مي ليملأ الشاشات.. وقال لها غسان:ـ
ـ سؤالك يا مي
فكّرت مي للحظة.. ثم سألت الرجل:ـ
ـ هل لعملك علاقة بالموت والحياة؟
ـ نعم.. جدا
قالها في بساطة.. غريب هذا.. عمله له علاقة بالموت والحياة لكنه ليس طبيبا.. فمن هو؟ حانوتي؟ قاتل مأجور؟
كانت تفكر.. ناردين هي من أخبرتها بهذا البرنامج
======================
في شركة المحركات التي تعمل بها، كانت ناردين شخصية غامضة فعلا. هي جميلة لطيفة لكنها لا تبالي بالرجال وترفض كل محاولات طلب يدها.. وكان المهندسون في الشركة يقولون: فتاة مغرورة.. من تريد؟ هل تنتظر أن يأتي "راسل كراو" أو "براد بيت" ليطلب يدها؟
لكنهم بعد قليل يتصعبون ويقولون:ـ
ـ لكنها.. لكنها رائعة.. وليس كل من أمسك باللجام خيالا.. إنها تنتظر رجلها المتميز مثلها
والمشكلة هي أن كل رجل يعتبر نفسه هذا الخيّال، ثم يتلقى صفعة على خد كبريائه
في هذه الظروف أحب صبري مي وطلب يدها
وفي حفل الخطبة جاءت ناردين متألقة كالعادة، ويبدو أن نصف رجال الحفل قرروا أن يجرّبوا حظهم معها. ما أدهش مي هو أن ناردين لم تكن تستمتع بالرفض ولعب دور الملكة التي تختار كما تفعل الفتيات، لكنها كانت فعلا لا تعبأ بالرجال ولا ترى لهم قيمة ما.. خطر لمي أن الموضوع يتعلق بعقدة من الصغر
قال خطيبها وهو يكتم نظراته المعجبة:ـ
ـ ربما يتعلق الأمر بخلل هرموني.. ربما هي رجل يبدو كأنثى
قالت في غيظ:ـ
ـ إذن ليت هذا المرض يصيبني
بعد شهر من الخطبة بدأ الخطيبان يدركان أن الحياة ليست وردية بهذا الشكل؛ ليست كلها هدايا ودباديب وأعياد فالنتاين ونزهات؛ هناك كابوس اسمه الشقة وكابوس اسمه الأثاث ولعنة اسمها الأجهزة الكهربية. ترى هل ينجحان؟ بدا لهما الأمر مستحيلا كما تحاول أنت قيادة مكوك فضائي إلى المريخ
بدأت المشادات العصبية من طراز: لماذا تكلمني بهذه اللهجة؟ لأنك تصرخين في كأنني أصم.. أنا لم أصرخ.. وأنا لست أصم.. إلخ
في تلك اللحظات جلست في المصنع على الدرج المعدني تشرب النسكافيه من كوب ورقي، شاردة الذهن. جاءتها ناردين وجلست جوارها.. ثم قالت لها:ـ
ـ هل سمعت عن برنامج "غسان يوسف ولقاء أصدقاء نوفا"؟
لم تفهم مي هذا العنوان الغريب.. إنها مدمنة تليفزيون وتشاهد كل التمثيليات من السابعة مساء حتى الواحدة صباحا، لكن هذا العنوان بدا لها عجيبا
قالت ناردين:ـ
ـ أنتِ لم تسمعي بالطبع.. هذا برنامج خاص يذاع على الكابل.. اشتراكه باهظ الثمن، لكنه يقدم لك فرصة ممتازة كي تربحي نصف مليون
هذا المبلغ بالتأكيد يحل كل مشكلاتها.. شقة بالإيجار وأثاث مع مبلغ معقول في المصرف.. هذا مغرٍ
ـ هل يمكنك أن تحكي لي كيف يبدو الأمر؟
وعدتها بأن تحضر لها بعض الحلقات لتراها على الكمبيوتر، وفي اليوم التالي جلبت لها قرصا مدمجا.. في البيت رأت مي تفاصيل البرنامج ورأت المذيع الوسيم غسان، وكيف يحاول الضيوف استنتاج مهنة الضيف الغامض.. وفي كل مرة يفوز أحد المحظوظين بنصف مليون، إلا لو كان الأمر معقدا جدا فلا يفوز أحد
ـ هل ترغبين في تجربة حظك؟
ـ نعم
ـ إن خالي يعمل في إعداد البرنامج.. اعتبري أنك ضمن متسابقي الحلقة القادمة
ـ هل لي أن أحضر معي أمي وصبري؟
عضت ناردين شفتها في أسف وقالت:ـ
ـ آسفة.. الدعوة لشخص واحد فقط.. أنتِ غير مشتركة أصلا.. الحضور في هذا البرنامج يكون عددهم محدودا وكلهم من المشتركين.. بالمناسبة أنا نفسي لن أحضر لأن عندي موعدا مع طبيب الأسنان
هكذا وافقت مي
وفي اليوم المختار وقفت -بقدمين من جيلاتين لا تقدران على حملها- عند "أبو الفدا" في الزمالك تنتظر سيارة قناة "نوفا" التي ستنقلها إلى الاستوديو. أمها تعرف أين هي لكن لا تعرف أين يقع هذا الاستوديو، وعندما اتصلت بأمها تخبرها أن التصوير سيبدأ حالا، لم يكن لديها ما تقوله سوى أنها في مكان بالصحراء.. ثم جاءها من يطلب منها غلق المحمول لأننا سنكون على الهواء حالا
آخر ما قالته قبل أن تغلق الهاتف هو:ـ
ـ ادعي لي يا أمي.. أنا بحاجة لأن أنجح
=====================
قال الرجل البدين الذي عرفنا أن اسمه إبراهيم رمزي، وهو يعقد أصابعه في عصبية:ـ
ـ هل أنت حانوتي؟
قال الرجل من وراء الستار:ـ
ـ لا
هنا تدخّل المذيع غسان وقال في لهجة لائمة كأنه يزجر طفلا:ـ
ـ عدم المؤاخذة.. أريد أن نكون منطقيين بعض الشيء.. هو قال لك إنه يعمل ليلا.. هل تعرف حانوتيا يعمل في الليل فقط؟
قال إبراهيم:ـ
ـ وهل هو لا يكذب؟
ـ بالطبع؛ لو كذب فلا معنى لهذا البرنامج أصلا
ثم أعلن المذيع عن فاصل إعلاني آخر
فقط مع سجائر "كونراد" يمكنك تذوّق النكهة الحقيقية للتبغ الجيد.. مع سجائر "كونراد" أنت رجل يروق للفتيات ويغبطه الرجال.. مع سجائر "كونراد" يمكن للجميع أن يعرف أنك رجل كونراد.. "كونراد" هو اسم السيجارة
هل ترغب في قضاء ليلة ممتعة؟ نحن ننصحك بشرب نبيذ "مارشال".. نبيذ "مارشال" الذي تم تقطيره في ريف باريس والذي تذوقه أفضل الذواقة في العالم. تأمل لون الكأس وتأمل كيف يتشرب النبيذ النور.. نبيذ "مارشال" هو النبيذ الذي يفضّله عاشقو الخمور في العالم كله
ما معنى هذا؟
كانت مي تسمع الإعلانات عبر السماعة الداخلية وتشعر بالحيرة.. هل ما زالت هناك قنوات تليفزيون تعرض إعلانات التبغ؟! على قدر علمها هذا ممنوع في العالم كله منذ السبعينيات. وماذا عن إعلان النبيذ؟! في بلد عربي إسلامي يعلنون عن النبيذ؟! ولماذا لم تسمع قط إعلانا مماثلا في حياتها؟
ثم خطر لها أن هذه قناة خاصة جدا واشتراكها باهظ الثمن؛ لا بد أن أصحاب القناة أحرار يعرضون ما يريدون؛ إنهم يؤثرون في عقول طبقة خاصة جدا من المجتمع
كان الفاصل مستمرا
هنا أشارت للمذيع في شيء من الحرج:ـ
ـ الحمام.. لا أستطيع
ـ لكن هذا مستحيل
ـ دقيقة واحدة
قال بحزم:ـ
ـ سيكون هناك فاصل أطول بعد قليل، أما الآن فلا أضمن أن تعودي بسرعة كافية ويتم تثبيت الميكروفون لك قبل بدء التصوير
دارت بعينيها وسط الجمهور في يأس.. تشعر بالبول يحتشد في مثانتها ويفسد سلامها النفسي. كان أبوها يقول لها إنها كالأطفال، لا تذهب إلى مكان دون أن تطلب الحمام
هنا وقعت عينها على صفوف الجماهير.. استطاعت أن ترى ناردين.. ناردين جالسة في آخر صف وقد عقدت ذراعيها على صدرها وراحت تحدق في ثبات
من الطبيعي أن تكون هنا.. عمها معد البرنامج والضيف صديقتها، ولكن لماذا قالت ناردين إنها لن تتمكن من الحضور؟ لماذا كذبت؟
.......
يُتبع
|