المنتدى :
القصص المهجورة والغير مكتملة
ما وراء الماضي
(1)
. . . و ابتسم القمر ابتسامته الاخيرة ، مودِّعًا سمائي ، تاركًا لي و عدًا بالعودة ، سارت بي اقدامي الى المجهول . تاركة خلفي قدري الذي صمّمت على كتابته بيدي ، و الذي رسمت فيه حريّةً دفعت ثمنها كرامة !
و لكنني اكتشفت أنَّ ما قدّر ربي هو الأفضل ، و يبقى سؤالي .. ماذا سيكون ثمن هروبي من قدري أبداية جديدة أم موت محتوم !
لامست يداي طرف مقبض الباب الخشبي القديم ، بلونه البنيّ الكئيب ، تسارعت نبضات قلبي ، فراح يرتجف خوفا ، ربما خوفا ، او ربما فرحا ، لا ادري ما كان ذلك الشعور ، عندما تعود الى ماضيك ، ماضيك الذي حاولت جاهدًا التخلص منه ، و اتهمته بالسرقة ، نعم اتهمته انه سرق احلامك ، و اصريت على ان يسجن في زنزانة الزمن ..
و مرّت الايام و اثبتت لي براءته ، فهذا الماضي الذي ارتسم امام أعيني لوحة سوداء كان رحمة امام قسوة الأيام التي واجهتني ، و الذين اعتبرتهم اشباحا في صغري ، رفضتهم و كرهتهم ، اكتشفت لاحقا انهم اشبه الى الملائكة ، .... و عدت مكسورة الجناح ، الي اصلي ، الى الحرمان ، و كم هو جميل الحرمان امام الذُّل ، و كم هي سعيدة دموع الجوع امام دموع الإنكسار ، و كم هي لذيذة قهوة مرة امام قهوة سكرها خليط من حقد و شرٍ مرير !!
أخيرا ، فتح الباب امامي و كأنما فتحت آفاق الحياة أمام عيناي ، لم تكتمل لحظة فرحتي ، فرائحة الرصاص الحادّة اعتنقت انفي ، تنفست الصعداء و دموعي قد وصلت الي موعدها مع خداي الحمراوان !! على و جهي الكئيب المرهق ، اعتلت علامات الحزن و مرارة الندم ،، و ضعت حقائبي جانبًا و رحت اتلمس المكان ، و قدماي تمشيان بتثاقل اثر التعب الذي ارهقني طوال المسير ..
سقف بيتنا هذا الذي جمع عائلة واحدة اعتادت على التآلف و ...... ، لم يعد قادرا على الصمود ، هرم ، كبر ، اصبح عاجزا عن مهمته السابقة و غير قادر على حمل اعباء هذا المنزل ... ابيض كان لونه ، لون العفة و الصفاء ، لم يتخلى عنه ابدا، فقد ارتداه اليوم كفنًا !!
شرعت برحلة الإستكشاف .. "هذه غرفة امي" ، هذا سريرها ذي الأغطية الأرجوانية الملطخة بغبار الأيام !! هذه جدرانها و قد باتت محطًّا للخدوش و اللّكمات ، هذه نافذتها المطلة على حديقة عرفتها غنَّاء و لكنني خذلت في شأنها ، فقد امست صحراء باهتة ، و تلك غرفة "نور" بألعابها المبعثرة في كل مكان ، و هذا مطبخنا ، هنا كانت تقف امي تغسل الأواني ، الأواني التي انتشرت شظاياها في كل ناحية من انحاء المكان و هنا كانوا يتساعدون في تحضير و جبات شهيّة ، و لكنها اضحت غذاءً للجرذان !! ، و هذه غرفة الجلوس، آه و كم كانت تتسع من اقرباء و اصدقاء و اهل الدار ، كم هي حزينة الآن و قد استوطنت بيوت العنكبوت جدرانها ، جدرانها الغاصّة بدموع الإشتياق ، و هذه .... "غرفتي" و ها هو الملصق الذي كان على الباب "ممنوع الدخول" وبعد ان خر صريعا رافعا رايته البيضاء للإرتجاجات التي سببتها بعض طلقات نارية اصدرها سلاح العدو !!
اقتحمتها ، لأرى صديقتي العزيزة ! التي انشأت في شراييني رغبة لم استطع تحقيقها ، رغبة بالصدق و الجراءة ، مرآتي ! انها التي كنت ارى فيها دموعي ، اشجاني و افراحي ، لم تدفعني جرائتي لأكذب امامها او أخطئ بل كنت ارى فبها شخصيتي الحقيقية التي اعتدت على اخفائها دومًا ، كانت تفعل ما اريد ، و تتصرف كما اريد ، كانت تفهمني و تتكلم كما افعل ، كانت تجذبني لكوني كنت ارى فيها الشخص الوحيد الذي يفهمني، أنا !
اضحت صديقتي جثة هامدة تكسرت اضلاعها ، و حتى الآن مازالتُ ارى فيها (الحقيقة) و لكن اراها في عدّة اوجه .......
(2)
ايام قليلة غيرّت المنزل من خرابٍ الى جنّة ! اتعبني العمل ، و نهشت النظافة من قوّتي الكثير ، توّصلت الى بعض العمّال ليعيدوا ترميم المنزل و طلاء جدرانه ! رميت المفروشات القديمة و اشتريت افخم ما في السوق ، لم يحتج ذلك أكثر من أسبوع و يوم ، أعدت الحديقة الى نضارتها السابقة ، في هذه الفترة رحت أتجوّل في الأزّقة علّني اتوصّل الى منزل (أمّ وسام) ، و لكن عبثًا فالمنازل تغيّرت و الضيعة القديمة أصبحت أقرب الى المدن ، مازال سكّان ضيعتي يحملون في راحتهم الوفاء و التضحية ..
منزلنا كان الوحيد الذي لم يتغيّر ، فالحرب القاسية أنشأت دمارًا دفع الناس الى اعادة بناء مساكن لهم ، في طريقي ، وقع نظري على سلال ورود يحملها شابُّ اسمر اللون ، جسيم ، مفتول العضلات ، لم أميّز ملامح وجهه جيّدا بحكم الأمتار التي تبعدنا ، اقتربت منه أكثر ، لفتت نظري قطعة قماشٍ يلفّها حول ساعده دفعتني بقوّة على أن أنظر الى وجهه مع أنّني حاولت ان أبقي وجهي موّجها الى الأرض !
إلتقت عيوننا لتعيدني خمس سنوات الى الوراء ، حيث كنت جالسة على الحشيش الأخضر مستندة الى شجرة و أمامي نساء ضيعتي يقطفن حبّات الزيتون ، في يدي قطعة من قماش اتلاعب بها و قد خيطتّ على طرفها حرفي (W & A) إقترب مني وسام متردّدا و جلس بجانبي ، و هو يحدّق بما في يدي ، ابتسمت مرحبّة و مددت يدي لأقدم له هديّتي !
تأّملها بهدوء ثم حرَّك شفتيه لينطق بها (أحبك) ، لم أكن قادرة على ان اعيد له ما قال فالتزمت الصمت و انا اربطها له ، نظر بحزن و الدموع تتغلل في عينيه السوداوان .
- وسام : سوف ترحلين ؟
هزّ صوته كياني ، و تركت كلماته في قلبي جرحًا بليغًا ، و لم استطع ان أرد فأكتفيت بأن أهز رأسي .
- وسام : قولي شيئًا
- قمر : ربَّما ، ... و لكن ..
لم أكمل ما كنت سأقول ، فقد همَّ بالرحيل ..
- قمر : الى أين ؟
- وسام : الى مكانٍ استطيع فيه ان أنساك
- قمر : بيتك ؟
- وسام : الموت !!
و عدت الى الواقع ، لأراه و قد تعدّاني و اكمل مسيره ، أغمضت عيناي لأرى سوادًا ،
سوادًا لا اكثر!
|