شعرت بالسعادة لأن السماء صافية و الطيران على أرتفاع منخفض و هكذا تمكنت من رؤية شئ من المنطقة. الجبال البيضاء عند الشمال و الغرب .لمحت بقع من الغابات و المنازل ذات القرميد الأحمر اللون . وبعض القلاع . و من بين كل المناظر لفت انتباهها نهر يتدفق كشريط من الفضة فى السهول . أما البحيرات فقد كانت اشد زرقة من اللون الأزرق و موظعة بيد الخالق العظيم . عمل غاى غلى وصفها لها و كأنها مشهد من الجنة .
ما أن اقتربت الطائرة منمدرج الهبوط حتى عاودها القلق الذى شعرت به فى ميلان. كادت أن تقفز عندما مد انزو يده ليمسك بيدها و يضغط عليها بلطف.
قال يؤكد اهتمامه براحتها :"لن نذهب إلى الريف على الفور . فأنت و باولو بحاجة للاستحمام فى شقتى .كما وأننى بحاجة لحل بعض المشاكل فى المصنع بينما نحن هناك , أعتقد أنكما ستحبان التجول فى المنطقة قليلاً."
انتظرا فى الموقف حتى أحضر انزو سيارته , ومع أن صندوق سيارته البيضاء صغير جداً لدرجة أنه يكاد أن لا يوجد لكن بطريقة ما تمكن انزو من وضع كل شئ فيه, خصوصاً بعد أن وضع الحقائب الصغيرة قرب باولو بدت تورين مدينة رائعة الجمال .بمتاجرها المزينة و مطاعم البيتزاالجميلة و قصورها الفخمة الأنيقة فى الطريق إلى شقته أشار انزو إلى كاتدرائية سان غيوفانى الشهيرة بقبتها .
سألت لورا:"هل حقاً تبدو وكأن وجوه محفورة على القماش؟"
رماها بنظرة من تحت نظارته , قال :"قبل أن تعودى إلى شيكاغو سأخذك لزيارتها و ستقررين بنفسك ما سترينه."
تبين أن شقة انزو فى الطابق الثالث من مبنى حجرى عرف كمركز لعائلة روسى فى المدينة .
قال ما أن حمل الخادم حقائبهم إلى الداخل :"أنا الشخص الوحيد الذى يمضى بعد الوقت هنا ,خصوصاً أن أبى مريض الآن و شقيقتى كريستينا و زوجها فيتورو و الذى يعمل كمسئول أول من بعدى فى المعمل يعيشان فى منزل خاص بهما على بعد عدة مبانى من هنا, أما ما تبقى فى عائلتى أمى و جدتى فيفضلان العيش فى الريف . و صوفيا...."
رفع كتفيه ما أن ذكر شقيقته الكبرى المطلقة و لا أطفال لديها تابع قائلاً:"عندما لا تكون فى فيلا فوغلى تمضى أوقاتها بين روما و سان ريمو هذا من دون ذكر باريس و أمكان أخرى."
بالنسبة إلى لورا وجدت المبنى عادى من خلال الرخام و المرايا و الصور المعلقة فى قاعة استقبال لمحتها من خلال باب مفتوح . و فيما كانت تصعد إلى الطابق الثالث فى مصعد من الزجاج لمحت قاعة الطابق الثانى المزينة ,تساءلت لماذا لم يذكر انزو أخوه الباقى أو بالأحرى النصف شقيق له.
لم تستطيع إلا أن تفكر بسبب هذه الكراهية لـ ستيفانو و التى عبر عنها غاى أيضاً. هل يعود السبب إلى أن والدته لم تكن من طبقة امبرتو روسى؟ من المؤكد لا يعاملونه بهذه القسوة لسبب كهذا !
وعلى الرغم من حبها لـ غاى لم توافقه يوماً الرأى نحو استيفانو و الذى لم يختار أصل مولده وعلى الفور شعرت بالأسى نحو عادات عائلة زوجها .
وعلى عكس الجو الجاف فى الطوابق السفلى بدت شقة انزو رائعة وحازت على اعجاب عين لورا الفنية . كل شئ حديث بلون أبيض و المفروشات حديثة , رأت فى غرفة الجلوس سجادة بلون فاتح يناسب تماماً الوسائد الموزعة على المقاعد. أما الستائر التى تغطى النوافذ الصغيرة و التى تشرف على الشارع مغطأة بقماش من المخمل فى الجزء الأعلى منها .علمت أن خزانة الكتب ذات زجاج بترا دورا لا يمكن أن تقدر بثمن
لكن ما أثار اهتمامها فعلاً أختيار انزو لهذه القطع الفاخرة و هذا ما جعلها تدرك و لمرة الولى أى مقدار من الثراء تخلى عنه غاى ليكون الانسان الذى يريده . فالتماثيل البرونزية و المصابيح الخشبية الأثرية لا يمكن ايجادها إلا فى المتاحف .
قالت لورا :"أنزو ,مجموعتك الفنية أكثر من رائعة."
لاحظ على الفور مدى تأثيرها وكأنها تنتمى إلى هذا المكان فكر و كأن هذه الغرفة كانت بأنتظارها لتدخل إليها و تبدى أعجابها بها .
منتديات ليلاس
بعد لحظة حذر نفسه أن لا يعتمد كثيراً على هذا الوضع, فهى أرملة أخيه .ولن تبقى فى ايطاليا لفترة طويلة .وأن كانت هذه الأسباب غير كافية فعليه أن يذكر نفسه بأسباب أخرى .فهو لا يريد أن يلحق كل مزاجة السئ بامرأة مثلها. اجاب و هو يبتسم:"يسعدنى أنها أعجبتك , هيا سأوصلك إلى احدى غرف الضيوف ,حيث يمكنك أن تستحمى و تبدلى ملابسك أنت و باولو"
بعد أن استحما و ارتديا ملابس نظيفة ,ارتدى باولو بنطالاً قصيراً و قميصاً قصير الأكمام , أما لورا فارتدت قميصاً ناعماً وردى اللون و تنورة منالحرير من مجموعة روسى الأصلية أخذهما انزو لتناول طعام الغداء فى أحد أفضل المطاعم فى بيزا سان كارلو.
قال ما أن قادهما النادل إلى طاولة قرب النافذة "هذا المكان فى أقدم أحياء المدينة ." لاحظت لورا الغطاء الأنيق بالدانتيل على حافته . نظرت إلى الساحة أمامها المليئة بالمتاجر و المطاعم وكلها مطلية بلون قشدى أما الستائر الخشبية فهى من لون رمادى.
اشار انزو لـ لورا لتنظر إلى ثلاث أشخاص يتحدثون وهم يتناولون الغداء و إلى رجال يجلسون و يتناولون الشاى و الحلوى و هم يقرأون الجرائد , هؤلاء الزبائن من عجائز تورين ,محبين و راضين عن أنفسهم و أثرياء أيضاً.
قال من الصعب تصديق ذلك . أن لهذه المدينة شخصية مميزة ؟ أنها ثانى مدينة بالثراء فى ايطاليا و مركز اتحاد العمال , تماماً كوجود الجسور الحمراء فيها ستجدين التناقض بوضوح عندما نتجه جنوباً إلى المصنع. معظم عمال تورين يعيشون فى مساكن ضخمة , مليئة بمصانع السيارت السريعة و الرياضية . ونحن ندفع أكثر من معدل الأجر لكننا كما أخشى القول مجرد جزء صغير من الاقتصاد المحلى."
عندما انهيا الصلطة الخضراء و الجبن قام باولو بتناول طبق كامل من المكرونة وقطعة حلوى من الشوكولا و الكريمة . عندها أخذهما انزو إلى معمل روسى للسيارات . أخبر لورا بالمقارنة مع معمل سيارات الفيات الضخم يبدو عملنا مركز صغير للعمل.
وصلا إلى الساحى حيث تقف سيارات رؤساء الأقسام و الضيوف , وعلى قمة المصنع يرفرف علم يحمل أشارة روسى ,أسد يربض على أرض زرقاء.
أوقف أنزو سيارته فىالمدخل الزجاجى و الفولاذ المتصل بمبنى من خمس طوابق . قال و هو ينظر إلى باولو:"المتحف أولاً؟ أو المكان الذى تنتج فيه السيارات؟"
قال الصبى و كأنه يتوسل:"المكان حيث تضع السيارات من فضلك"
بدأوا من مكتب التصاميم, هناك عدد من المهندسين فى ثياب تحمل أسم الشركة على رابطة العنق و جميعهم منحنيين فوق طاولتهم , شرح انزو لأبن أخيه :"هنا تبدأ صناعة السيارات الجديدة بالرسم و يجب أن تتم بدقة متناهية مع كل القياسات الصحيحة , لذلك عندما تصنع السيارة تتوافق أجزاءها بشكل مطلق."
سأله باولو :"هل صممت مرة سيارة؟"
هز انزو رأسه و قال :"ساعدت فى تصميم واحدة . عمل والدى على التأكد أن أجرب كل عمل فى المصنع حتى الأعمال النهائية قبل أن استلم زمام الأمور هنا مكانه."
تقدموا نحو ساحة كبيرة سقفها من الفولاذ وراقبوا كيف يتم تركيب الأبواب و وضع المحركات و طلاء السيارة كلها . بدا لـ لورا أن كل مكانت تنظر إليه يثبت مدى دقة العمل و جودته .
أحب باولو كاثيراً الجلوس وراء مقود سيارة حمراء و قال لأمه و عيناه تلمعان بتصميم قوى :"يوماً ما سأصمم سيارة كهذه."
فى طريقهم للنظر إلى ممر التمارين حيث يقع خلف المصنع أخبرهما انزو عن أحجام المحركات , أصغى باولو و كأنه أمضى عمره الصغير ليسمع هذه الكلمات .
عشق العائلة للسيارات فى دمه , هذا ما فكرت فيه لورا , غاى أورثه أياه وانزو إن حظى بفرصة سيقحمه فى هذا العمل.
أوقف تجوالهم بعد دقائق قليلة عندما توقف انزو فى مكتبه بطريقهم إلى متحف أعمال السيارات . ما أن رأتهم سكرتيرته حتى قفزت من مكانها و قالت:"سينيور روسى عملت جدتك على الاتصال بك, إن والدك قد تعرض لأزمة جديدة."
آهـ , لا ! أتمنى أن حضورنا ليس السبب , فكرت لورا و هى تجذب باولو إليها و تطلب منه أن يحسن التصرف.
تجهم وجه انزو و أمسك بالهاتف على الفور . تحدث مع جدته التى تبلغ الثامنة و السبعين من عمرها لوقت قصير جداً . قال محدثاً لورا ليخفف من القلق الذى بدأ عليها :"لا أعتقد أن الأزمة خطيرة , وكما أخبرتك فى اليوم الذى رأيتك فيه للمرة الأولى أنه معتاد على هذه الأزمات , لكن لا داع للقول فى كل مرة يصاب بأزمة يزداد ضعفاً. من الأفضل أن نذهب إلى الريف حالاً."
عادوا إلى مبنى روسى لإحضار حقائبهم و أسرعوا فى المغادرة و مع أن مزاجهم بدا كئيباً لكن الطقس بدا مشرقاً و الهواء منعش و الشمس أدفئت وجوههم.
بعد وقت قيل مروا أمام منازل صغيرة , غابات و جداول صغيرة , كروم العنب تغطى التلال تماماً كما رأتها لورا من الطائرة . و ليزداد باولو فرحاً مروا أمام قلعة بنيت فى القرون الوسطى و قد تهدم قسم من جدرانها .
سأل باولو :"هل عاش الفرسان و التنين هناك أمى؟"
"لا أعتقد أن التنين كان هنا , حبيبنى , فأنه ليس بحيوان أليف"
قالت له و هى تبعد شعرها عن وجهها بسبب الهواء و هى تستدير لتنظر إلى انزو و قد خبأ عينيه تحت نظارة داكنة اللون . و بين الحين و الأخر كان يرفعها قليلاً وهو يمسد أنفه و كأنه مصاب بصداع . كلما اقتربوا من منزل روسى , يبدو أن مزاجه يزداد سوءاً.
منتديات ليلاســـــ