كاتب الموضوع :
خوآآطر إنسآآنة
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
رد: دبة النملة - د/ أحمد خالد توفيق
دبة النملة - 2
25 يونيو - 2013
كان جالسا في تلك الغرفة خافتة الإضاءة، وعلى عينيه ضمادات.. دخلت نورهان حاملة صحفة عليها مشروب بارد وجلست جوارنا ترمق زوجها في جلسته المتصلبة
بدا لي الأمر كأنه مر بجراحة معينة.. وانتظرت حتى يحكي لي ما حدث
كان ما زال قادرا على السمع لكن عليك أن تصيح بصوت جهير، وكان يتكلم بنبرة عالية كذلك لأنه لا يدرك مدى ارتفاع صوته
قال لي:ـ
ـ بالطبع لم أستطع رؤية ما يحدث جيدا.. كنت أرى بعض الأشباح، وعرفت أنها شقة في بناية شامخة في وسط البلد.. بناية ذات مصعد يتعطل أكثر الوقت. الشقة كانت نظيفة ورائحة المطهرات تملؤها لكنها قديمة. أما الرجل فكان له صوت عميق مريح كأنه أريكة تضع عليها توترك الخاص. لا توجد أي لكنة غربية في كلامه.. تشعر أنه مصري ابن مصري
قال لي إنه يمارس ضربا غير تقليدي من العلاج، وهذا العلاج يتلخص في حقني بمجموعة من الحقن التي تحوي خلاصة خلوية.. أما عن محتوى هذه الحقن فهنا يكمن سر العلاج.. لا أسئلة من فضلك. لا يمكن إفشاء السر، ولو كنت مصرا فبوسعي دائما أن أنسحب. لن يخبرني... باختصار "ما بين البائع والمشتري يفتح الله"ـ
وافقت طبعا.. وقلت لنفسي إنني لن أخسر شيئا.. و"ضربوا الأعور على عينه قال خربانة خربانة".. هذا المثل ينطبق على حالتي حرفيا
لا أعرف متى وضع ورقة تحت يدي وقلما في يدي فسألته عما هنالك، فقال:ـ
ـ هذا
Consent
موافقتك على استخدام العلاج
وقّعت.. ولا أدري متى ولا كيف كشفوا عن ساعدي ولا كيف اخترقت إبرة أوردتي، ثم شعرت بسائل بارد يسري هناك.. وهكذا انتهت الجلسة وعرفت أن هناك ثلاث جلسات أخرى
نظرت إلى نورهان التي راحت ترمق زوجها في قلق حنون، وسألتها:ـ
ـ ما انطباعك عن الأمر كله؟ نصب؟
رفعتُ الشعر عن عينها فرأيت دمعة متحجرة هناك. وقالت:ـ
ـ أعتقد أنه صادق.. الجو يوحي بالاحترام والثقة
ـ والنتائج؟
قال رامز وهو محتفظ بجلسته المتصلبة:ـ
ـ بالنسبة للعينين لا تحسن.. الأمر يزداد سوءا.. بالنسبة للسمع هناك تحسن طفيف
قلت بصوت خافت:ـ
ـ طفيف؟
ـ نعم طفيف
تبادلت نظرة جانبية باسمة مع نورهان.. لقد سمع هذا السؤال الخافت برغم كل شيء.. ما زلنا في مرحلة رمادية.. لا يمكن أن تُقسم أن سمعه يسوء أم يتحسّن لكن هناك علامات
عندما فارقته تمنيت أن يكون في الطريق الصحيح
***
القصة كما ترى يا محمود ليس فيها شيء مريب أو غير طبيعي.. مريض طلب الشفاء ولعله وفق أو لم يوفق. ليس الأمر خطرا. ليس ذلك بالشيء الذي يثير الهلع
على كل حال في ذلك الوقت لم أكن أعرف أن المهندس شاكر يصلح آلة التقطيع في المصنع
المهندس شاكر في الأربعين من عمره، وهو رجل ذكي مرموق.. جوار عمله في المصنع، لديه ورشة سيارات خاصة عانى كثيرا حتى أنشأها، وجاهد حتى يكسب ثقة العملاء. يعتمد على نفسه كثيرا ولا يترك الأمور للعمال، لهذا وثق به زبائنه.. شاكر صديق قديم لي وإن كنا نلتقي لماما
يفكر شاكر الآن في مها زوجته وفي هدية عيد ميلادها التي تنتظر في حقيبة السيارة.. يفكر في ابنته نورا الرقيقة ابنة السنوات العشر.. يفكر في الورشة وفي الشريك الجديد. سوف يذهب هناك بعد انتهاء ورديته في المصنع ليتناول غداء خفيفا ثم يعمل حتى ساعة متأخرة من الليل
كانت آلة التقطيع معطّلة وقد جاء رئيس الميكانيكية يخبره بذلك. قام بفصل السكينة وجلس محتبيا ليعالج النصل ومجموعة التروس. مها كانت مكتئبة أمس ولا يعرف السبب.. هل هناك شيء ضايقها؟ كانت هناك مكالمة مع أخته.. هل حدث شيء بينهما في ذلك الوقت
و...ـ
لا يعرف ما حدث.. هناك مجنون ما في كل مكان.. هناك حمار ما في كل مصنع.. حمار من الطراز الذي يجد سكّينة الكهرباء في وضع فصل التيار فيعيدها لمكانها وهو مندهش
تدور الآلة. يهوي النصل
لا يوجد ألم.. الصدمة العصبية رحيمة وتجعله ذاهلا في عالم آخر. لا يعرف سوى أنهم يصرخون وأنهم يحملونه، وأن سائلا دافئا يبلل الأرض.. سيارة إسعاف من الداخل.. كشافات.. أرجل تركض على بلاط المستشفى
ثم الظلام
الضوء يتسلل ببطء. شاكر يفيق وشعور بالغثيان يغمره.. ينهض والعرق يبلله بالكامل
إنه في فراش مستشفى.. لا شك في هذا. الأبيض اللعين الذي وصفه أمل دنقل، والذي هو لون الموت ذاته. ينهض.. هو في مستشفى. لا يذكر أي شيء سوى أنه كان يصلح الآلة.. ثم حدث شيء ما.. حدث شيء هو..؟
هناك من شغل الآلة
حمار ما قام بتشغيل الآلة
ماذا حدث وقتها؟ رفع ساعده الأيمن ببطء.. وعندها أدرك الحقيقة.. لم يعد لديه يد.. هناك ضمادة قبيحة لا يمكن أن تخفي يدا تحتها.. بل عندها يبدأ الأمر وينتهي
منذ ساعات كان رجلا مكتمل الجسد يفكر في هدية ميلاد زوجته.. الآن هو أكتع.. أكتع
لا بد أنه فقد الوعي في هذا الوقت
***
عندما قابلته -بناء على كلمات صديق أخبرني بالفاجعة- كان قد تغير جدا
كان جالسا هناك في مقعد في شرفة المستشفى وهو يتأمل الضمادة التي كانت يده
حاولت أن أمازحه لكن مزاجه كان متعكرا
قال لي إن مستقبله انتهى.. صحيح أن المهندس لا يجب أن يعمل بيده، لكنه اعتاد ذلك.. دعك من ورشة السيارات التي علق عليها كل آماله.. إنه رسام بلا يد
شعرت بأسى شديد.. ما أكثر النحس الذي يمر برفاقي.. إما أن دوري في هذه المصائب قادم وإما أنا الذي أسبب لهم النحس
سألته:ـ
ـ هل هناك وسيلة تعويضية ما؟
ابتسم في تعب وقال:ـ
ـ مستحيل.. اليد عضو شديد التعقيد.. يجب أن أتأقلم.. هذا هو الحل
غادرته وأنا أشعر بالتعاسة والأسى
***
اتصلت برامز لأطمئن على أموره فرد عليّ في مرح
شعرت بسرور بالغ.. كان صوتي خفيضا ولم أكن أصرخ في الهاتف لكن بدا أنه يسمعني جيدا. كنت أسمع في الخلفية صوت دوزنة أوتار كمان.. من الواضح أنه يكلمني وهو يداعب أوتار الكمان. علامة صحية أخرى
ـ هذا يعني أن علاج الأرمني ناجح فعلا
ـ هذا واضح.. لكن بصري يزداد سوءا.. هذه نقطة لا أنكرها
هنا حكيت له عن شاكر زميل دراستنا.. كانت قصة مؤسفة مؤسّية وبدا لي أنه من المستحيل أن يساعده أحد.. هنا قال لي في لهفة:ـ
ـ بالعكس.. لقد ذهبت للطبيب الأرمني مرة أخرى وقالت لي زوجتي إن هناك مرضى مبتوري الأقدام ينتظرون الفحص
هنا يبدأ التخريف إذن.. قلت في عصبية:ـ
ـ الأمر لا يتعلق بمرض عصبي.. هناك أطراف طارت.. لم تعد هناك
ـ أنا أعرف ما أقول
ثم أضاف بلهجة تقريرية:ـ
ـ دع شاكر يزور هذا الطبيب الأرمني.. هو لن يخسر شيئا.. وأنا أعدك أن هناك معجزة في الطريق
.......
|