المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
الطحالب المتمردة
قصة قصيرة
الطحالب المتمردة
توالت السنوات العجاف و أنهك القحط أهل قـرقور مدينة اللـقطاء ، في جزيرة ثارت فيها براكين المهجنة التي كانت خامدة في أنابيب الغرائز الوحشية منذ العصور الغابرة ، و أخرجت خرباشات عقيمة و غقغقة بدائية صهرتها الضغائن التي كانـت مطمورة في ثنايا الحليمات و رواسب سنوات العكاس ، و ضاق العيش على الهجن لما وٌئدت الحكمة و عاد عهد النخاسة في نفوس حركها تراث الجاهلية العمياء ، تحت طغريات قرصنة الطبع و المزاج .. و طلب شيخ العارفين من أبنائه و أتباعه أن يعرضوه بضاعة لعـل قصص التاريخ المقدس تعيد نفسها مرة أخرى ، فحملوه يتجولون به " يامن تشتري شارفاَ عارفاَ ، لسانه فصيح و كلامه صحيح !" و بار العرض أمام منفقة الحسنوات بمختلف اللهجات ، كاسيات عاريات ،
و مفتولي العضلات الذين باعوا و جودهم في خدمة الأهواء و الشبهات ، منشبة كلها أصبحت أرض البغثاء أمام ربان هناة .
وفي اليوم الموالي وصل المنقول إلى الملك المغلول بمختلف الروايات ، فدفعه الفضول لشراء القؤول قصد اكتشاف سر هذا الموقح الزخن الحمول ، أدخلوه عليه محمولاُ فأقعده عند قدميه مذلولاُ ، وراح يسأله عن أصله وفصله، عن أمه وأبيه وفصيلته التي تأويه ،فشارفه الشيخ الهجان من مسفلة غير منزلته وهزم عزاُ مزيفاُ أ شرف من اليافعات الكاذبات ،فثارت ثائرة الملك وأراد أن يبطش به ، فحاجه بعزته فيما تحت يده وذل السلطان في هوان حاشيته ، فتمالك وسأله عن معارفه ، فأطرق الشيخ قليلآ ثم قال : " تنازلت للملك عن جسد ينتهي للدود والعفن وأجبت عن المسنون من التراب دون عتاب فإن أردت الحكمة فارفع مصابيح الأمة ، أعقد الذمة وأرفع الهمة ، ترتفع وتسمو" ، فأجلسه في مقام ما ، فأجاب الشيخ عارف أنا قائف :
" أعرف الأصول من فروعها وبالبصيرة أخترق السرير ، أقدر الغلة في عروشها وبالنظر أعرف الخبر ،أعلل الأحداث وأحلل أسباب كل مصاب ولا تضيع في قوم أنا بينهم دماء ولا أ نساب ، كلامي للأصيل دواء وللدخيل وباء ، وللنساء حرم ، وللرجال كرم وللأطفال علم واقتداء .." .
قال الملك : " تفرس في ذاتي ، و تفحص صفاتي و اخبرني عن فصلي و أصلي ." فنظر إليه الشيخ المشيخ
و قال:- ضاغط أنت على سلالة طحلوبية جرفتها الأعاصير إلى بلاد الغرغر ، عبيط ، أنت مسيخ لقيط. فقتل الملك الحكيم و خرج على قومه بأمه ، أيهم من الوقص يخيرها بين الإفصاح و الموت قبل الصباح ..شاع الخبر و انتشرت الأراجيف و كبر الوهي و لم يبق أمام الملك من غير الهجرة خيار .. قتل الملك أمه ! ، لا ! انتحر الملك لا ! ، خطفه الجان ! لا ، فر الملك لا ! ، مُسخ الملك ..!!
متنكراَ يتجول في الجزيرة سارباَ بالليل مختفياَ في النهار حتى غيرت عوامل السبل مظاهر النبل ، فنزل الوجئ ضيفاَ على قبيلة من قبائل مملكته ، تعيش في الخفاء طقوس الغرباء .. كتابتهم طلاسم و لهجتهم عجائب ، لا هم أعراب ، و لا مستعربة ، ولا هم عجم و لا مستعجمة خليط عرفهم ، دينهم عادات و أهواهم عبادات ، حياتهم تقليد ،عبيد ،تشريعهم عناد و جكمهم استبداد ، من بين ما يقدسون ظاهرة جلد الأبكار ليلة العرس ، وحرق العجائز في الرمس ، فسأل الملك مستغرباً في هيلة عن سر الأنوال و ما وراء هذه الأعمال ، فأجاب سيد القبيلة : " إننا نحارب في طبع النساء الرذيلة و نطهر حرمنا من ذنوب الأم الخليلة ". قال الملك : "
و ماذا جنت هذه الأم في حق النسوة ؟ و هل الأسوة في الخلق تستحق قسوة الخُلُق ؟". فقال سيد القوم سأحكي لك الحكاية ، واحكم إذا كنت فطناً موقعاً ذا دراية ..
كانت في قديم الزمان الجزيرة هذه امرأة ملداء ، تعيش في الليان ، فاق جمالها اللؤلؤ و المرجان ، تعدى صيتها الآفاق . و غزت حكايتها الأسر في كل الأوطان و أصبحت قبلة المغامرين و محجة المشغوفين من أبناء الملوك و فرسان الأباطرة و السلاطين ، من الأمم الغابرة و المتقدمين ، و مما يحكى عنها أنه ذات يوم رست بالشاطئ سفينة نزل منها أمير النخاسين على جبلة عبيده دون و قار و لا سكينة ، تتبعه حاشيته ، محيطاً بلقطاء مملكته ، يتقدم بخطى المنتصر في عنفوان بطولة الشجعان ، وقف على الرمال الذهبية ، ركع في جلال الكبرياء ، لم يتمالك أمام سحر جمالها . فجثى كالعبد على ركبتيه في حضرتها ، مبهوراً كأنه تمثال هوى ، جثم يتقدم زحفاً على بطنه يلتمس بأيد مرتعشة مفاتن الحسناء الممدودة على العراق و قد كشفت في هديان سكرها عن واحات مفاتنها ، شامخة تصعر في غرور ، جمعت فيها ريشة البديع روائع الصنيع تحت أشعة شمس صغواء في ضفافها ، كأنها نصال رماح الحرس الشديد ، تغازل جسدها ... تناول من بين قدميها أقداح الإلهام وبات يكسر على صدرها أشواقاُ تتنازع في اقتنائها نوا زغ البغاء التي تلتهم بنهم اليفن شهباُ لتروي ضمأ كل متأجج .. يتقلب النخاس في حضنها على ما ينع وطاب من مشتهيات الآمال التي كانت حلماُ وراء البحر في أروقة القصور ومجالس الإيوان .. إنها كما كان يتصورها ، عسيلة واسنى، مستلقية ، تعطشت فيها المفارط . تتكسر أمواج الضمأ الهائجة على قدميها برفق المستسلم لعبودية اللهو، يروي عنها خرير الماء الخرافات والأساطير على وقع تبخر حبيبات الومد ، كأنها الحقائق وهي أحلام الزمان في ذلك العصر.. وفعل السحر مفعوله في الزوار فنصبوا لمعتقداتهم وهزائمهم نصباُ تذكارياُ كسابقيهم ، وأصاب منها كل دنيء ما أصاب. فحملت كعادتها ثم وضعت جاريتها وعبداً كعادتها ، ورحل النخاس كغيره يحمل معه مولود ته قرباناُ للبحر كما نذر ونذر غيره كسابقيه ومن سبق وعادت إلى وثارها تتزين وتتطيب في انتظار زائر آخر إلى بلاد اللهو والعبيد .. هكذا كانت أمنا . هل اكتفيت أم أزيد .؟فقال الملك واصل أيها الشيخ الفاضل ، وتوالت الحملات على قبلة الغراميات وأرض الغلمان ، أبناء وأحفاد دون نسب ولا أجداد . أشتد ساقهم وقويت شوكتهم واصبحوا في ذا لك الزمان رمزاُ للمكر والخداع والغدر ، جمعوا كيدهم وقيدوا أمهم وحرقوها ورموا برمادها في البحر فهاج و ماج و تلاطمت أمواجه واجتاح البلاد إعصار ، أخرج جزيرة إلى الوجود بجواريها ، تتراقص على أرجائها ، كلهن صورة للفاتنة ،و أقام اللقطاء حفلاَ تزوجوا فيه بالجواري اللاتي كن قرباناَ للبحر ، وقامت منذ ذالك اليوم مملكة الأحرار ، لا يحكمهم شرع ولا يقيدهم ضرع ، يعيشون على السهام والغنائم دون اقتسام ، تعلموا فنون القتال من وحوش الجبال واصبحوا قراصنة يسيطرون بوحشيتهم على البر والبحر وأمسى سطح الماء كباطنه ، وعمق الغاب كظاهره، تبنوا النقل بارتجال ، إنهم أجدادنا كما قالوا طحالب المد والجزر .. طلعت عليهم قوافل الهجانة بنورها فتمردوا واطفؤوه فتوهج ثم أطفؤوه وهكذا حتى طلع العقبة على قرن حاد يطارد بأشعته ظلام نفوسهم فلجؤوا إلى أدغال الجبال ، مبتسماُ يحمل إلى اللقطاء مدنية حررتهم من العبودية والوحشية أنقدتهم من الهاوية بهوية حملتهم الأمانات وأطعمهم بأصول ثابتة كتبت على ألواح من ذهب التاريخ، صحح ، ونقح صفحاتهم ،وفتح لهم لأول مرة سجلات العز و الكرامة ، كتبت عليها الخالدات و الخوالد. فقهروا نوازع الطامعين و كسروا شوكات الظالمين و لما امتزج الخليط بلون الشروق بدأت بذور الفتن تنمو محايدة ، و وهن السلطان و عاد ليل السمر من جديد تتراقص فيه عرائس البحر عند أقدام غزاة آخرين من أبناء النخاسين ، انتهكت الأعراض و ديست المحارم و هانت كل مقدسة
و كلما سل سيف الكرامة كسرته أو أغمدته يد الخيانة من اللقطاء و الجبناء في ظهور الأوفياء ، حتى سبح الزناد و غسلت العزائم بالمداد و الدماء الخربشات و أسكتت الغقغقة الأبريلية و طمست ربيع المز ابل المتعفنة ،حينها و صل النداء إلى عمق الداء و جاء يوم الجلاء كالجلاء الذي رحل فيه الغازي و ترك سلالته مختفية كأنها مراد تحت ألوان مختلفة و أسماء على لسانه تنطق و بأوامره تنطلق ، تسعى للقطيعة محاربة سنن الطبيعة ، و هبت عاصفة الفرز فهلك من هلك و عند سكونها ، وجد الناس أنفسهم على ظهر سفينة ربانها قراصنة و اختفت الجزيرة و لولا الريح الطيبة التي دفعتهم إلى اليابسة لهلك الجميع ، و ظهرت الشمطاء تدق أبواب الميناء ، تتسول ، حينها عرف الناجون أن البغاء فيروس لا يقتله لقاح و لا دواء ، و من تعاطت أمهم شغفاَ في الماضي يتعاطى أبناؤها الويل بلا ثمن .. و يبقى واصل كل أمة ثابتاَ في فطرة الخلق و الخُلق ، فمتى توفرت شروط الاستظهار عادوا إلى الأصل و لو كانوا لقطاء ، تستحوذ عليهم الحمية فلا يسمعون و لا يطيعون ... احرقوا شمطاء البحر و رموا رمادها فيه فخرجت جزيرة جرداء جذ باء كما تراها الآن ،يقتص الدهر و البحر منهم و نقتص إلى اليوم من نسائنا ، و هكذا كل سكان الجزيرة يتطاحنون و يتقاتلون في أنانية على إرث لا نعرف أصل صاحبه ، و قومي في جاهلية يصنعون للباطل مقامات على أطلال الحق في كل مكان و سطا ملك النخاسين على ملك ينتقل بين ولاة العهود المنكوثة لا نعرف أصلهم و لا فصلهم ، لا يربطهم بهذه الأرض طبع ولا صُنع ، لا خلق و لا خُلق . ابتدعوا طقوساَ في السر و العلانية و نحن الآن ننتظر في الحلم الموعود في الحسناء التي نقربها للبحر حتى تستعيد الجزيرة سحرها و حسنها و جمالها.
و لقد سمعنا أن الملك اللقيط قد فر ، و فراره علامة لبزوغ الفجر الجديد ، عندها سمعوا قهقهة مولودة جديدة فهرع الجميع لرؤيتها.. إنها الحسناء المنتظرة !! نعم إنها الحسناء المنتظرة !!.فكانت فرصة للملك أن ينصرف و قد تأكد من فراسة الشيخ العارف ، و لما عاد متنكراً إلى عرشه و جده تمثل به مسرحيات المسخ التي مزق على و ضمه كل أصيل . جرف الإعصار كل دخيل يتراقص على سطح البحر و في عمقه ، يرده الجزر إلى الشاطئ الآخر.
مختار سعيدي
|