الفصل الثاني
كم تخدع المظاهر
حين رن جرس المنبه , أستيقظت لتجد نفسها في سريرها , تقلبت ألونا في فراشها وغطت رأسها بوسادتها ألا أنها أدركت وجوب نهوضها بسرعة ومواجهة الواقع , عليها النهوض , خلال لحظات , رغم صداعها , ورغم الورم في مكان أرتطامها بالمنضدة.
عليها مواجهة اليوم وعملها , جمدت في فراشها وتشنجت أصابعها مستنكرة رسائل السيد واريك , كيف تستطيع طباعة الرسائل كلها وبدون أخطاء وصداعها لم يتوقف لحظة واحدة؟ بدا لها وكأن أصابعها لا تطيع أوامر الدماغ بل عملت بشكل منفصل عنه.
ماذا لو حاولت التوضيح له؟ هل سيصدقها دريك واريك؟ وتمنت لو أن التورم في رأسها ظاهر أكثر لتستخدمه دليلا تثبت به صحة توضيحها .... ثم أن الصداع ألم خفي فلن يفيدها الحديث عنه.
في منتصف الفترة الصباحية , رن جرس الهاتف في مكتب الكاتبات , فقالت ماري:
"أنه لك يا ألونا( ثم همست) أنه المدير بنفسه ,أنتبهي , أنه في مزاج سيء"
ألتقطت ألونا السماعة وقالت:
" نعم , سيد واريك؟".
" أرجو أن تجلبي الرسائل".
ثم وضع السماعة جانبا , كلا لن تستطيع أخباره بشيء , أنها لم تتم غير نصف الرسائل , ولم تتح لها الفرصة للأعتذار بأنها بذلت أقصى جهدها لأنهائها.... ولكن لا فائدة , وأذ عادت الى مكتبها , نظرت اليها بقية الفتيات بعطف , ثم قالت سارة:
"أنك المدعوة الأولى اليوم, وغالبا ما يكون سلوكه سيئا مع المدعوة الأولى"
فقالت أحدى الفتيات مفاخرة:
" نعم , ولأسباب عديدة.......".
جمعت ألونا الرسائل المطبوعة , لم يكن لديها وقت يكفي لمراجعتها وتصحيح الأخطاء , كما لم يكن هناك ,في مظهرها , ما يثير شفقة السيد واريك ويلين قلبه ليسامحها على أخطائها , أظهرت لها مرآة المطبخ وبتفصيل مؤلم , كيف ظهر وجهها ذلك الصباح وكيف أنتفخت عيناها بسبب السهر ,وما أن دخلت المكتب , حتى وضع السيد واريك قلمه جانبا وأسترخى في مقعده , كان للعينين الزرقاوين قوة كافية لأضعافها , أضافة الى ما كانت تحس به من ضعف عام وأرتجاف في ساقيها وما بدا وكأنه ضباب يوم خريفي داخل رأسها.
نظر اليها رب العمل من قمة رأسها حتى أخمص قدميها , ولكن لم يبد عليه التأثر للظلال المرتسمة تحت عينيها ولا لضعفها , كان , كما حذرتها ماري , في مزاج سيء.
مد يده طلبا للرسائل ثم ألقى عليها نظرة سريعة وتساءل:
" أين البقية؟".
" لم أطبعها بعد يا سيد واريك ".
" قلت لك بوضوح أنني أريدها قبل فترة الظهيرة".
" أنني لست بصحة جيدة هذا الصباح يا سيد واريك , أنني......".
فقاطعها بحدة:
" لا يدهشني ذلك بعد قضائك نصف الليلة السابقة في حفلة صاخبة ".
"!! حفلة صاخبة ؟".
" "لم لا تكونين صريحة معي يا آنسة بيل ؟ ثم لم لا تعترفين أنك تعانين من الصداع والتعب لأنك قضيت الليلة السابقة تلاحقين نزواتك؟.
" ما الذي تتحدث عنه؟ أي نزوات؟".
"الى حد أنك غير قادرة الآن على أتمام عملك لأنه يتطلب التركيز والدقة والكمال وفقا للشروط المطلوبة من العاملين معي".
لم يقتض الأمر وقتا طويلا ليكتشف الأخطاء , تحرك أصبعه على الرسالتين الأوليين , مشيرا الى الأخطاء في السطور الأربعة الأولى , وبان عليه الغضب واضحا رغم محاولته التظاهر بالهدوء حتى تلك اللحظة .
" "أذا كان لحياتك الخاصة تأثير ضار على عملك ومورد عيشك , وفي أمكاني القول أنك تحصلين على أجر عادل لأدائه , فقد حان الوقت لتغيري أسلوب حياتك الخاصة".
قطبت ألونا جبينها مرة أخرى , حياة خاصة؟ أي حياة خاصة؟ أنها لا تقوم بشيء بأستثناء القراءة , الأستماع الى الموسيقى ونشاطها في لجنة أحسان القرية .... وفي أمكانها تعدادها بسهولة كما لو كانت تملأ بند الهوايات في أستمارة التقديم لطلب عمل.
رفعت يدها لتلمس جانب رأسها ثم قالت:
" أنك لا تفهم ما حدث يا سيد واريك".
لم يقل شيئا , لم يبد عليه أنه فهم.
" الفتاة , الفتاة التي أسكن معها أقامت حفلة في الليلة الماضية".
" آه , ها نحن أخيرا , على وشك أستخلاص الحقيقة".
"أنها ليست الحقيقة ,وليست الحقيقة كما تشير اليها , أن ما تفكر فيه خاطىء ,حدثت الأشياء ولكن"......
" ألم تحضري أذن الحفلة التي أقيمت؟".
"ليست تلك هي المشكلة".
" لم تجيبي على سؤالي".
"نعم , نعم كنت في الحفلة , ولكن رغما عن أرادتي , يجب أن تصدقني.
أفترت شفتاه عن أبتسامة صغيرة وأزداد بروده نحوها :
" أنني مسرور لأنك قررت أن تكوني صريحة.... خاصة أن لدي شاهدا.
ثم مد يده الى الهاتف وأدار رقما معينا.
عرفت ألونا أنه رقم رون برادويل:
" أنتظر يا سيد واريك أستطيع التوضيح....".
" لا تزعجي نفسك أذا سيقوم مدير الذاتية بذلك بدلا عنك".
وخاطب رون هاتفيا قائلا:
" رون؟ تعال مرة أخرى رجاء.....".
" مرة ثانية؟".
أنه رون برادويل , أذن من صب تلك السموم في أذن مديرها , مبلغا أياه ما رغب فيه من أكاذيب ... ودخل المكتب واثقا بنفسه , خاطب ألونا قائلا:
" أهلا عزيزتي , نعم ديريك؟".
كلا ليس من المعقول أنه أستطاع خداع المدير بتحايله هذا.
" أعترفت الآنسة بيل بأنها حضرت الحفلة".
مسد رون برادويل شعره ثم نظر الى ألونا قائلا:
" "نعم , لم أظن بأنها ستكتم الأمر عنك طويلا , ثم كان هناك عدد كاف من الشهود لأثبات الحقيقة , وكيف صداعك يا عزيزتي؟".
" "توقف عن تسميتي عزيزتي! أنه تعبير جميل فلا تشوهه بأستخدامك السيء".
أبتسم بأحتقار:
" أنها عنيدة يا ديريك , يجب أن تحاول بنفسك".
تفحصها ديريك جيدا:
"أنك تدهشني يا رون أذ تذكر شيئا مخالفا لفكرتي عن الآنسة بيل في أنها مثال للفضيلة والشرف".
"مما يثبت خداع المظهر أحيانا , أنها رائعة يا ديريك , متى ما أستحوذت عليها , أنك تعرف ما يشاع عن الفتيات الهادئات"....
واجهت ألونا مدير الذاتية بغضب وأحتداد:
كيف أستقبلتك زوجتك يا سيد برادويل ؟ ليلة أمس , حين وصلت البيت أخيرا؟ هل فتحت ذراعيها ترحيبا بك؟".
أكتشفت ألونا أنها , في محاولتها لتحطيمه , لم تفعل شيئا غير أضاعة وقتها .
" لم أذهب الى بيتي يا عزيزتي , وأنت تعرفين السبب".
أنتقلت بنظراتها بين الرجلين , كانت محاصرة بينهما في حبكة ذكية من الخدع والأكاذيب أعدت مسبقا قبل أن تجد الوقت اللازم للدفاع عن نفسها , وتبادل الرجلان النظرات , أنها لغة الرجال , تبادل النظرات بصمت يكفي لردع المرأة وأسكات الحقيقة وفقا لما يتطلبه الرجل , فكرت ألونا في داخلها قبل أن تساءل:
"ما هذا يا سيد واريك ؟ هل تحاول محاكمتي ؟ هل أن السيد برادويل المدعي العام وأنت المحلف والقاضي في آن واحد؟ ألن تتاح لي فرصة الدفاع عن نفسي؟".
قطب ديريك واريك جبينه وتحرك من مكانه محاولا بدء الكلام , فخمن رون برادويل ميل كفة الميزان لصالح ألونا فبدأ الحديث قائلا بلطف كاذب:
" ماذا حدث يا عزيزتي؟ لا لزوم لخجلك مما حدث الليلة الماضية".
حدقت ألونا في وجهه مدهوشة ,ما الذي يتحدث عنه؟
" أنت كاذب يا سيد برادويل ولو أن هناك شاهدا موثوقا به أكثر من رب العمل الجالس هنا..".
نظر اليها ديريك بغضب وتوقعت منه النهوض عن كرسيه والتقدم نحوها ألا أنه أكتفى بالقول:
"أنك مطرودة يا آنسة بيل".
" ولكن يا سيد واريك .... ما الذي فعلته؟ نطقت بالحقيقة, هذا هو كل شيء".
" الحقيقة؟ هل تصفين ما قلتيه بالحقيقة؟ تحملت حتى الآن الكثير من سوء سلوكك , أحزمي أشياءك وأذهبي الى المحاسب لأستلام راتب شهر مسبقا تعويضا عن توجيه الأنذار ثم غادري المكان فورا".
أدار قرص الهاتف وقال:
" المحاسب؟ أنتظر لحظة.".
ثم راقب بنفاذ صبر سير ألونا نحو الباب , توقفت عند الباب وأستدارت ناظرة اليه , دون أن تستطيع السيطرة على دموعها :
" أذا كان هذا ما تسميه عدلا يا سيد واريك فأنني آمل ألا أقوم بأي عمل لصالحك مرة أخرى".
حدق في وجهها بثبات بأنتظار مغادرتها المكتب.
عندما فتحت ألونا باب المنزل وجدت لوسيا جالسة في المقعد الهزاز فقطبت ألونا جبينها :
" ما الذي تفعلينه في البيت؟".
سحبت لوسيا نفسا من سيكارتها وأطلقت الدخان.
" لدي صداع مؤلم فسمح لي كولن بالأستراحة اليوم".
ثم أنتبهت الى حضور ألونا المبكر :
" لم أنت مبكرة في العودة؟ هل فقدت عملك؟".
"نعم , نتيجة أخطائي في العمل لأنني كنت متعبة ولحاجتي للنوم , كل ذلك بسبب حفلاتك التعيسة".
" أيتها الفأرة العزيزة , كيف تستطيعين لومي لما جرى الليلة السابقة؟ أذ بقيت هنا بمحض أرادتك".
" أنني......".
وتوقفت ألونا لأقتناعها بلا جدوى النقاش مع لوسيا أو أي شخص آخر بصدد المسألة , ألم تجادل صبيحة ذلك اليوم رب عملها ومدير الذاتية؟ أين توصلت معهما؟ صعدت درجات السلم المؤدية الى غرفتها.
قالت لوسيا بصوت عال:
" وكيف ستدفعين الأيجار ؟ أرجو ألا يكون في نيتك البقاء هنا بدون أيجار ".
" أستطيع الدفع حتى نهاية الشهر المقبل أذ أعطاني السيد واريك راتب الشهر المقبل".
" أنه سخي , خاصة أنك طردت لعدم كفاءتك".
فتحت ألونا فمها لتنفي التهمة غير أنها فضلت الصمت , كانت التهمة صحيحة , أليس كذلك؟ فلو لم ترتكب تلك الأخطاء , لا في رسائله فحسب بل في كافة الأعمال الأخرى المرسلة اليها من قبل مستخدميه , لكانت الآن موجودة في المكتب مع بقية الفتيات , ألا أنها لم تفقد مهارتها في الأختزال , ورغم شكوى البقية من سرعة المدير ألا أنها أستطاعت مجاراته الى حد بدا عليه الأستغراب لذلك , جلست ألونا على سريرها وأحتضنت الوسادة , لم يكن ما حدث عدلا .... كلا لم يكن عدلا , فيما بعد توجهت الى المطبخ لأعداد بعض الطعام , كانت لوسيا موجودة في غرفتها تمشط شعرها الأسود الطويل بعناية.
وقفت ألونا عند مدخل الغرفة:
" هل تريدين بعض الطعام؟".
" كلا شكرا, سأتصل بكولن وسنذهب لتناول الغداء سوية".
تناولت ألونا غداءها ثم غسلت الصحون وجلست تحدق الى الخارج من خلال نافذة المطبخ , كانت مكتئبة وقلقة أذ أحست بأفتقاد شيء مهم في حياتها , ولم تحتج ذكاء خارقا لتعرف ماهية هذا الشيء.
جلست على كرسيها الهزاز وحملقت في الموقد , يجب ألا تنسى جمع بعض الزهور ووضعها في المزهرية الكبيرة.
كان من المستحيل تجنب التفكير ثانية بطردها , رجلان أشتركا في تلك العملية , أطلق أحدهما سلسلة من الأكاذيب لم يكتف الثاني بتصديقها فحسب بل أضاف اليها أتهامه بعدم كفاءتها وقدرتها , رغم حيازتها على شهادات العمل الشاهدة على قدرتها ,كلا , يجب أن تكون أمينة , لم تكن كفوءة في المدة الأخيرة , ولكن لم يكن السبب , وهذا هو الجانب الأكثر أيلاما , هو عجزها عن آداء عملها ,ولكن الظروف الصعبة المحيطة بها .
قررت ألونا التوجه الى غرفتها قبل عودة لوسيا مساء اليوم , أذ وجدت من الصعب مقاومة رغبتها في النوم أكثر من ذلك , فنهضت من كرسيها وتوجهت الى الطابق العلوي , ولأنها كانت متعبة نتيجة أحداث اليوم التعسة لم تجد صعوبة في النوم حالما وضعت رأسها على الوسادة .
جلب ضوء النهار لألونا ذكريات اليوم السابق ,شجارها مع رب عملها , طردها من عملها وأحساسها اليائس بعد ذلك , دفعت عنها الغطاء ثم نهضت لأرتداء ملابسها الى أن تساءلت : لم أنا في عجلة من أمري؟ ليس لدي عمل أذهب اليه وأمامي النهار كله لأقوم بما أريده , ونفرت من فكرة قضاء ساعات النهار الطويلة بلا عمل.
تنهدت ثم أغتسلت وساعدها الماء البارد على الصحو تماما والأحساس بالراحة رغم بقاء ذهنها مشغولا.
لا بد أن لوسيا لا تزال في الفراش, رغم أن الساعة كانت العاشرة صباحا , لا بد أن كولن كاستل , رب عملها , سيغفر لها وصولها متأخرة , أرتدت ألونا حذاء مع بنطلونها الجينز وقميصا قديما ثم نزلت السلم.... وماذا يهم أذا أستيقظت لوسيا؟
وجدت قطعتي خبز في المطبخ فوضعت عليهما بعض الزبدة والعسل ثم تناولت أفطارها في غرفة الجلوس.
كان باب غرفة نوم لوسيا مفتوحا , لا بد أنها أفطرت أذ كانت مرتدية ملابسها أستعدادا للخروج , وتبعها كولن هارد كاستل , رب عملها .
وكانت ألونا على وشك قضم قطعة الخبز حين لاحظتهما سوية فتوقفت فاغرة الفم , كانت تعلم أن للوسيا علاقة بكولن ألا أنها كانت المرة الأولى التي تجلبه فيها الى بيتها.
" أهلا فأرة! ".
هتفت لوسيا بمرح ثم عرفت كولن بآلونا .
" كولن , هذه ألونا الفتاة التي أعيش معها".
" أهلا , أخبري ألونا النبأ بهدوء".
مضغت ألونا خبزها ببطء متسائلة عن ماهية الخبر , وكان للخبر وقع سطل من الماء البارد على وجهها.
" سأترك البيت ...سأذهب للسكن مع كولن".
وضعت ألونا بقية قطعة الخبز على الصحن ثم قالت:
" ولكنه.... متزوج!".
ضحك الأثنان بصوت صاخب ثم قال كولن:
" متى ولدت ألونا يا لوسيا؟ البارحة؟ أم قبل ذلك؟".
" أذا كان الأمر سيريحك فأن كولن على وشك الحصول على الطلاق , وقبل أن نرتبط سوية .... أذا ما قررنا الأرتباط , وجدنا من الأفضل التأكد من عدم أرتكابنا الخطأ مرة ثانية ".
ثم أستدارت مخاطبة كولن:
" تعال يا كولن أذ يجب علينا الذهاب الى المكتب ... سأترك بعض الملابس لك يا ألونا أذ أن كولن سيشتري لي ملابس أفضل , فأذا أردت أن تتأنقي بعض الشيء لتبدي جميلة , تستطيعين أختيار ما ترغبين به من ملابسي".
ثم رفعت يدها ملوحة بلامبالاة:
" وداعا أيتها الصغيرة .... سأراك ذات يوم".
أرتبكت ألونا ودمدمت:
" ولكن , ماذا عن الأيجار؟ والطعام؟".
" عليك تدبير ذلك لوحدك الآن.... أليس كذلك؟".
" كيف؟ أنني عاطلة عن العمل".
ولم تضف ما فكرت فيه: شكرا لك".
" كيف سأحصل على النقود أذن؟".
" بصراحة.... لا تهمني مشكلتك أطلاقا".
ثم غادرت المنزل.
قضت ألونا وقت العصر كله تغسل وتنظف البيت ,وبدا وكأنها الوسيلة الوحيدة لتصريف طاقتها , وأذ واصلت العمل , فكرت في مشاكلها العاكلة والآجلة في آن واحد, ولأن مشكلتها الأولى هي الحصول على بعض النقود فأنها قررت التوجه صبيحة اليوم التالي الى مكتب التشغيل في المدينة , وأدركت وجود شيء لن تستطيع تعويضه هو العثور على رب عمل يشبه السيد واريك , وأرتسمت أمامها صورته... لم يكن من السهل تقبل فكرة عدم رؤيته مرة أخرى , بل أنها وجدت صعوبة كبيرة في منع نفسها من التفكير به في كل لحظة.
وأذ حدقت , خلال النافذة نحو الطريق المؤدية الى المنزل تخيلت أن أطار النافذة أطار لصورة وجه تحبه , وجه ألفت رؤيته الى حد أعتبرته جزءا منها.
رأت ذلك الوجه باردا ومنعزلا خلف المكتب , ساخرا ومريرا من تفحص الرسائل والأخطاء , ثم رأت ملامح الغضب مرتسمة عليه عندما أمرها بمغادرة العمل , وبذلت جهدها للتفكير بالحاضر وبدأت البحث عن شيء تعده لوجبة العشاء , ما جدوى التفكير بذلك الرجل؟ أنه سيكون طوال حياتها نائيا مثل النجوم في السماء.
كانت تحمص قطعة الخبز على حطب الموقد حين سمعت قرعا على الباب , وظنت أنها قد تكون لوسيا من جديد ,والى أن تحركت لتفتح الباب , أكتشف الزائر سهولة فتح الباب فدخل المنزل.
أسرعت ألونا خائفة الى غرفة الجلوس , أنه دخيل حقا , ألا أنه لم يكن غريبا , بقيت حاملة شوكة التحميص الطويلة وفي نهايتها قطعة الخبز المحمصة , وهي تحدق في ديريك واريك , بدا عليه وكأنه قادم من مكتبه مباشرة.
" ما الذي تفعله هنا؟ وكيف عرفت عنواني؟".
" سجلات المؤسسة , ثم سألت عنك في القرية.... يبدو أنك معروفة هنا".
ثم نظر الى شوكة التحميص القديمة الطراز قائلا:
" هل تودين مهاجمتي بهذا؟".
" لا أعلم , لم يجب علي أستقبالك في بيتي , بعد أن عاملتني بتلك الطريقة".
أوشك على الأنصراف قائلا:
" سأغادر المكان أذا أصررت".
كيف تستطيع التظاهر بالأعتراض على وجوده بينما كان هو الشخص الوحيد الذي ترغب في رؤيته أكثر من أي أنسام آخر في العالم؟
" بما أنك هنا الآن تستطيع البقاء".
كانت جملتها محايدة فتأثر بذلك ورفع حاجبيه أستغرابا .... ربما سيقرر الأنصراف , سحبت نفسا ببطء ثم أطلقته حين قرر البقاء.
نظر الى الخبز المحمص ثم قال:
" خبز محمص , أنني أحب الرائحة , أنه شيء أفتقده في حياتي".
لم تتأثر لكلامه فواصل:
" لا شيء يشبه رائحة الخبز المحمص على نار حقيقية ".
لم يكن أمامها غير الأستجابة:
" هل دعوت نفسك لتناول العشاء معي؟".
وتمنت لو توقف قلبها عن الخفقان فرحا لمرآه.
نظر الى الخبز المحمص ثم الى الفتاة التي تحمله وقال:
" هل ستشفقين على رجل جائع؟".
نظرت بشكل لا أرادي اليه , كان نحيفا ذا عضلات مشدودة يحسده عليها أي رياضي , يرتدي سترته السوداء مفتوحة الأزرار , بينما يضع يديه في جيبي بنطلونه.
ثم أستقرت بنظراتها عل خصره وطول قامته وطريقته الخاصة في الوقوف مما زاد من وسامته.
نظرت اليه ببطء , فألتقت بعينيه المبتسمتين:
" حسنا ؟ ما هو القرار الأخير؟".
" تعني بصدد أطعامك؟".
وأستدارت جانبا.
" حسنا , تستطيع البقاء لتناول الطعام , أذ أنني أمتلك من العاطفة ما يمنعني من أخراجك من منزلي كما طردتني من عملي".
تظاهر بالدهشة قائلا:
" أصبت الهدف تماما".
ثم خلع سترته ووضعها جانبا وأرخى ربطة عنقه مواصلا:
" شكرا لسماحك لي بالتصرف كما لو كنت في بيتي".
فواجهته قائلة:
" آسفة غير أنك جئت بلا دعوة ثم دعوت نفسك لتناول الطعام , أنك تتوقع المستحيل يا سيد واريك".
" أوافقك الرأي , أنني لا أرضى بغير الكمال , الشيء الآخر الذي أود أن أقوله لأجنبك مشقة ذكره , هو أنني رجل قاس , دقيق وصعب العشرة , وأخيرا لا أستطيع الأستقرار حتى أحصل على ما أريد".
نظر اليها واضعا يديه حول خصره , لم تستطه كبح أبتسامتها أذ كان من الصعب مقاومة جاذبيته , وحتى بعد أن أستدارت شعرت بنظراته تتابعها .
وقف عند مدخل المطبخ رافعا يديه ليعيد ترتيب شعره.
" هل هناك شيء أقوم به لمساعدتك؟".
" أنه مطبخ صغير ولا يتسع لأثنين , ثم أنك ضخم الى حد ستسد طريقي".
خاطبته بينما كانت راكعة أمام نار الموقد.
خطا عدة خطوات في المطبخ وفتح باب الموقد القديم سائلا:
" ما هذا؟".
" نستخدمه لطبخ الطعام".
" لا بد أنك تمزحين........ (ثم أشار الى غطاء مدور موضوع على النار) وذلك؟".
" غلي الأشياء في القدور؟".
" ما هو عشاؤنا هذه الليلة؟".
" لم أكن أتوقع زوارا وألا.... ".
ثم هزت كتفيها أستهانة , أنها لم تدعه فعليه أما أن يأكل ما هو موجود أو يرفضه.
" سأذيب بعض الجبن وأضعه على الخبز المحمص".
ثم نظر حوله وقال:
" أين حنفية الماء .... ألا توجد حنفية؟".
" في الخارج".
" أذا قلت بأن المكان بدائي لا أعتقد أن الصيغة ملائمة بما فيه الكفاية.... يمكنني القول أنه مكان يعود الى ما قبل التاريخ".
" أحب العيش هنا,( أجابت مدافعة) أنه يساعد على أستعادة الأحساس بقيمة الأشياء , وكلما عدت الى البيت أجد نفسي مرة أخرى فيحتل العالم مكانه الحقيقي في حياتي".
وقفت بعد أن أنهت تحميص الخبز ونظرت اليه بتحد:
" في مكان كهذا تستطيع نسيان كل الأشياء المخيفة الجارية في العالم... حيث لن تجلس لمراقبة برامج التلفزيون الليلة بعد الأخرى وهي لا تعرض غير قسوة الأنسان على أخيه الأنسان".
قطب جبينه بسخرية وقال:
" هل تريد الآنسة الخطيبة صندوقا خشبيا تقف عليه؟ لسوء الحظ لا أستطيع أعداد المنصة الآن ولكن.....".
وسحب لها كرسيا:
" قد ينفع هذا؟".
" هل تظن ما قلته أمرا مضحكا؟".
" بدا على وجهه الجد:
" كلا , ما أجده مثيرا للدهشة هو مشاركتك ذوقي ذاته , فبعد أن رأيت هذا المكان لن أجرؤ أطلاقا على دعوتك بذوقك البسيط الى شقتي وألا لدعوت أسلوب حياتي أسلوبا متفسخا".
أبتسمت لما قاله:
" أذا كنت تعيش تبعا لكمية المال الذي تحصل عليه وأمكانياتك في الحصول على ما ترغب فيه , فأنني بالتأكيد سأصف أسلوب حياتك بذلك الوصف".
" أن حياتي جميلة يا سيدتي".
وتزايدت دقات قلبها لمرأى أبتسامته , كان سحره مشابها لغضبه : لا شيء يقف بمواجهته ,وتمنت لو أنه لم يأت لئلا يفسد عليها هدوء بالها .
أذابت الجبن في أناء صغير وخلطته مع الزبدة والحليب ثم وضعت الخليط المغلي على الخبز المحمص , كما أخرجت بعض قطع الكعك الصغيرة من علبة موضوعة جانبا ورتبتها في صحن مع بعض الفطائر , تابعها ديريك بنظراته ثم علق:
" رأيت النساء يفعلن أشياء كثيرة من قبل ,ألا أنني لم أر أمرأة تطبخ من قبل".
أبتسمت ألونا ورفعت خصلة من شعرها المنسدل على وجهها:
" حتى صديقتك المقربة؟".
رمقها بنظرة تساؤل وكأنه على وشك التوضيح غير أنه بدل رأيه وقال:
" أي واحدة منهن؟".
" سكرتيرتك مثلا".
رمقها بعينين زرقاوين باردتين :
" دعينا نتجنب الحديث عن ديانا".
أنكمشت عضلات ألونا , ولأول مرة في حياتها أحست بالغيرة .
" لماذا؟ هل لأنها مقربة الى هذا الحد؟".
أجابها بهدوء:
" سمعت ما قلته".
كل ما بدا جميلا وأليفا أختفى فجأة , أستدارت نحو المطبخ وتبعها فلاحظت أنه وخلال لحظات أستعاد طبيعته المرحة , أرتاحت لذلك فمنحته أبتسامة مثيرة فأقترب منها ورفع ذقنها بيده ناظرا في عينيها السوداوين.
حين سمح لها بالأبتعاد عنه لم تجد شيئا تشغل فيه نفسها غير مناولته صحن طعامه , فجلس في الكرسي الهزاز بينما أختارت هي الجلوس على الأرض الى جانب الموقد , ووجدت صعوبة في أستعادة هدوئها وأحساسها بأنجذابها الكلي نحوه بينما لم تعن له المسألة شيئا كثيرا , وأحتاجت الصمت لتدرس حقيقة ما يجري حولها.
راقبت ديريك سرا , بدا مسترخيا في كرسيه ومرتاحا , كان جالسا معها يأكل بهدوء وطمأنينة , رفض عرضها بأستخدام الشوكة والسكين وتناول طعامه بيده فأدهشها رفضه لأستخدام طريقة حضارية أكثر , هل أساءت الحكم عليه بتصورها أياه محاطا برفاهية الحياة المعاصرة؟ هل رفض لا وعيها فكرة قدرته على أتخاذ أسلوب أبسط في الحياة ونبذ الرفاهية والرخاء.
حين أنتهى من تناول وجبته وضع صحنه على الطاولة ثم دفع رأسه الى الوراء مغمضا عينيه كما لو أنه تمتع بوجبته , فسألته ألونا:
" أترغب بشرب القهوة الآن يا سيد واريك؟".
" كلا , شكرا ".
وتأرجح في كرسيه عدة مرات قبل أن يضيف:
" أن أسمي الأول هو دريك , فأرجو أن تتركي طريقتك الرسمية في مخاطبتي ".
أجابته ببطء:
" لا أظن أنني أريد ذلك".
"لا تريدين ذلك؟ ألا تريدين لعلاقتنا أن تتطور أكثر؟".
كان من المستحيل أجابته:
" أنك مخطىء". لأن ما قاله كان صحيحا , لذلك هاجمته من زاوية مختلفة:
" أننا ننتمي الى عالمين مختلفين ,ولو كنت صريحا لوافقتني الرأي , أن أهدافنا في الحياة مختلفة".
ورفعت رأسها باحثة عن عينيه ألا أنها لم تستطه رؤية ملامح وجهه بوضوح لجلوسه في مكان بعيد عن الضوء:
"أستمري أيتها الخطيبة .... أنني منتبه, ما هو برأيك هدفي في الحياة؟".
أجابته بهدوء:
" أن تجمع أكبر مقدار ممكن من المال ولمصلحتك الخاصة قبل كل شيء".
" شكرا "( علق بجفاف ) وما هو هدفك؟".
" أن أعيش حياة بسيطة وخالية من المظاهر البراقة قدر أمكاني و....".
توقفت لأنها أدركت أنه سيسيء فهم ما ستقوله , ألا أنها قررت النطق بكل ما تفكر فيه:
" ومساعدة الآخرين بكل طريقة ممكنة دون توقع شيء بالمقابل".قالت في نفسها
" يا لها من أهداف نبيلة( ووقف معيدا ترتيب ربطة عنقه) فلتعيشي طويلا لتحقيق أهدافك".
ونظر اليها جالسة عند قدميه , ضاقت عيناه فظنت أن كان يتفحص ملابسها الرثة , قميصها القديم وبنطالها الممزق عند الركبتين والموحل عند القدمين , هل كان يقارنها بسكرتيرته الأنيقة الشقراء؟ المرأة العزيزة لديه التي يرسل اليها الزهور والعطور حتى أذا تركته وحده بدون سكرتيرة؟ هل تذكر وجه ديانا الجميل ذا الماكياج الموضوع بحرص , وجمال قامتها؟ هل كان يقارنها بتلك الفتاة النحيفة , طويلة الشعر , ذات العينين السوداوين والجالسة على الحصيرة بدون ماكياج والملقبة (بالفأرة) ؟ كانت محاولتها لمعرفة ما يدور في ذهنه غير مجدية لذلك فضلت سؤاله:
" لماذا جئت هنا؟".
" أتصلت بي صديقتك لوسيا , صبيحة اليوم , في مكتبي, قالت أنك في حاجة ماسة للعمل وكانت قلقة لأنك لن تكوني قادرة على دفع أيجارك , وأتهمتني بأنني رجل بلا رحمة لطردي أياك فورا دون منحك فترة شهر كأنذار ستحاولين خلاله البحث عن عمل آخر".
حاولت لوسيا , أذن, مساعدتها رغم كل شيء.
" مما يعني أنك جئت هذا المساء لشعورك بالذنب؟".
" هذا يعني أنك متعجرفة مثل صديقتك , أخبرتها بأنني , أولا , لكوني المدير أستطيع طرد وتعيين من أرغب فيه ,وثانيا أنني لم أحظ بشرف لقائها من قبل فلم أفهم كيف جرؤت على مخاطبتي بتلك الطريقة".
وأنتظرت منه مواصلة الحديث ألا أنه بقي صامتا.
" هل قالت شيئا آخر؟".
" كلا , هل هناك شيء أكثر لتقوله؟".
أذن لم تذكر لوسيا شيئا عن مغادرتها المنزل , هزت رأسها:
" هل أتصلت بك هاتفيا؟".
" نعم".
" حسنا , كانت لوسيا محقة , أذ طردتني لسبب غير عادل".
" أكرر ما قلته, أن من حقي طرد أو تعيين من أرغب فيه".
وأستعادت عيناه برودتهما فأقشعرت لذلك , بدا وكأنها في صحبة رجلين في آن واحد , أحدهما رئيس مؤسسة كبيرة ناجحة ,والآخر ودود وعاطفي يدعى دريك واريك.
" هذا سواء أذ أنتزعت مني مصدر رزقي الوحيد".
ومضى وقت طريل قضاه متأملا رأسها المنحني:
" أتريدين عملا؟".
أدهشها السؤال.
" أتعني عملي القديم ككاتبة على الآلة الطابعة؟".
" كلا , بل كعاملة أستقبال في مكتب الأستعلامات في الطابق الأرضي ".
نهضت واقفة بسرعة :
" أنك لا تثق بقدرتي ككاتبة على الآلة الطابعة والأختزال لذلك تعرض علي عملا لا علاقة لي به ,ألم أخبرك أن الأخطاء كانت بسبب حفلات لوسيا؟".
أجابها ببرود:
" أستنادا الى ما قاله رون برادويل عن سلوكك تلك الليلة , بدا أنك شاركت في الحفلة بملء أرادتك , أليس نفاقا أذن...".
فصرخت مقاطعة أياه:
" نفاق؟ كذب رون برادويل في كل ما قاله , كنت هناك صدفة لأنني كنت متعبة".
قطب جبينه وهز رأسه:
" متعبة , ومع ذلك حضرت الحفلة؟ أذا كنت ستخترعين الأعذار فحاولي على الأقل جعلها معقولة".
" كيف تستطيع تصديق كلمة واحدة من رجل عاملني بقسوة؟".
ومدت يدها متحسسة الورم في رأسها فلمسه هو الآخر :
" هل فعل رون برادويل هذا؟".
" نعم والورم أقل الآن , كان مؤلما أكثر".
بدت عليه الحيرة:
" لا بد أن لذلك سببا , هل أستفززته بأي طريقة كانت؟".
" كلا , كل ما فعلته هو أخباره بأنه قذر ومثير للأشمئزاز , لم أستفزه لأن هذه الحقيقة".
ضحك دريك لما قالته فأستمرت ألونا :
" على أي حال , مهما كان ما قلته لم أكن في وضع أميز فيه معنى ما أقول".
" أبتسم بنعومة سائلا:
" أذن أنت لا تشعرين بأي عطفة نحوي رغم ندائك لي لحظة سقوطك كما قال رون , لا شيء أطلاقا؟".
لم تستطع التصريح بحقيقة حبها له ورغبتها في أن يضمها تلك اللحظة , لأنها تعلم بوجود صديقته وسكرتيرته ديانا , فكذبت:
" لا شيء أطلاقا ,ولا أظن أنني سأود أي رجل بعدما رأيت ما حدث للوسيا , أنها صديقة أختي منذ سنوات , ورأيت بأم عيني كيف أحبت رجلا ثم تزوجته فحطم حياتها , لأنها تزوجت شخصا غير ملائم".
" هل تعنين أنني الشخص غير الملائم لك؟".
لم تستطع أطلاق كذبة أخرى فأكتفت بهز كتفيها :
" أنك الرجل الملائم لأمرة أخرى جميلة وأنيقة , ولكن ليس لواحدة مثلي ... تدعى ....".
أكمل جملتها:
" فأرة؟".
وخطا نحوها فجمع شعرها ووضعه كتاج على قمة رأسها :
" فأرة حسب تعبير برادويل ولكن ذات مزاج حاد كنمرة , ولسان قرص مثل متمردة ".( ورق صوته مرة ثانية) فأرة ذات عينين سوداوين واسعتين , أخبريني يا آنسة بيل...".
وعادت لصوته لهجة المدير :
"كيف حدث ولم ألحظ وجودك في مكتب الطابعات من قبل؟".
" كنت في الزاوية البعيدة ولم تصل هناك أطلاقا بأستثناء آخر مرة...".
ثم تمتمت بصوت منخفض:
" غير أنني لم أتجاهلك...".
وعضت على شفتها بد أن تلفظت الجملة الأخيرة.
" أذن, كان برادويل محقا حين قال أنك تحبين رئيسك؟".
" كلا ,كلا .....( قالت بصوت هال محاولة أقناعه) وعلى أي حال , أنك لم تعد رب عملي ثم أنني لن أحس بأي عاطفة نحو أي رجل ,ليس بعدما حدث....".
" لوسيا, بالمناسبة أين هي الآن؟".
" في الخارج مع صديق لها".
ولحسن حظها لم يسألها عن هوية الصديق بل أكتفى بالتجول في المطبخ ناظرا حوله:
" غير معقول ! مطبخ خال تماما من كل تجهيزات المطبخ الحديث , بلا آلة لغسل الصحون".
" أغسل الصحون بيدي".
" بلا آلة لغسل الملابس".
" أغسل ملابسي بيدي".
أستدار نحوها مدهوشا:
"بالماء البارد؟".
" أسخن الماء على الموقد".
فنظر الى الموقد القديم :
" وأين تخزنين الفحم الحجري لأيقاد الموقد؟".
" في مخزن صغير خلف المنزل ".
خطا خارج المطبخ ونظر الى السلم:
" وأين دورة المياه.... هناك؟".
ضحكت قائلة :
" كلا , بل خلف المنزل , ليس هناك باب خلفي فأضطر لأستخدام الباب الأمامي".
" أنك تمزحين أليس كذلك؟".
ثم غادر المكان ليعود بعد دقائق.
" رأيت أماكن أسوأ من هذه".
قالت مدافعة :
" حقا؟ لا بد أن العودة الى الطبيعة ممتعة".
" أحب طريقة العيش هذه".
" كما ذكرت من قبل".
كان هناك صوت عجلات شاحنة وقفت أمام المنزل خلف سيارة دريك , وترجل منها سائق شاب قميصه مغبرة وبنطلونه مبقع بالوحل , مما دل بوضوح على عمله ساعات طويلة في مزرعة والده , تبع دريك نظرات ألونا ونظر الى الشاب:
" هل هذا هو حبيب التي تحب العودة الى حياة الطبيعة؟".
ثم رمق ديكور المنزل الداخلي وقال:
" نعم , سيتلاءم بسرعة مع الجو البدائي لهذا المكان".
أستدارت نحوه:
" أرجو أن تتوقف عن الأستخفاف بمكاني".
كانت أبتسامة دريك هادئة:
" لم يكن أستخفافا , بل الحقيقة "
وعلمت ألونا بأنه يشير الى ما قالته عن ملاحظاتها بصدد رون برادويل , وغيرت من أسلوبها :
" حسنا ,أرجو ألا تسخر من أصدقائي , أنه ليس عاطلا بل عاملا مجدا تخرج منذ فترة من كلية الزراعة وقدم المساعدة الى والده المزارع , أما الوحل فأنه نتيجة عمله الشريف يا سيد واريك".
نظر مباشرة في عينيها المتهمتين:
" أعتذاري لك يا آنسة بيل , أن الشاب محظوظ لأنك تدافعين عنه بهذه الحماسة".
قال راي عند دخوله المطبخ:
" أهلا ألونا , كيف الحال؟".
ثم وضع ذراعه حول خصرها بمودة ونظر الى دريك مستفسرا ,فعرفتهما ببعضهما.
أصبح دريك عند رؤيته لراي متحفظا فذكرها بأنه , حتى الأمس , كان رب عملها , أما راي فكان أسلوبه وديا وصريحا فرحب بدريك بحرارته المعتادة.
دعته ألونا للجلوس في محاولة منها للتخلص من التوتر المحيط بها منذ مجيء واريك.
نظر راي الى واريك الواقف قرب النافذة منشغلا بالنظر الى الخارج , بدا منعزلا تماما عن الآخرين وخاصة لمظهره الأنيق ولثقته الواضحة في نفسه مما جعل راي وألونا اللذين كانا في منتصف العريشنات يبدوان وكأنهما من المراهقين.
قال راي:
" لن أبقى فترة طويلة يا حبي".
ولفط كلمته الأخيرة , كعادته , بأعتبارها مكملة للجملة دون أن يعنيها حقا , ألا أن دريك لم يكن على معرفة جيدة براي فظن ألونا حبيبته.
" سيعقد أجتماع للجنة مساء يوم بعد الغد , الساعة السابعة بالضبط , وقال الكولونيل دينتون يجب ألا تنسي وعدك".
" أذا كان بصدد اليانصيب يا راي....".
أبتسم راي:
" ذلك ما عناه (فتاة ليوم واحد) ووافقنا كلنا , أليس كذلك؟".
كيف تستطيع الكلام بصراحة وبحضور دريك المنصت الى حديثهما بأهتمام رغم تظاهره بالنظر الى أظافره ؟ كيف تستطيع القول ,كلا, لا أستطيع القيام به , أختاروا فتاة أخرى بدلا عني...".
رفع دريك رأسه وقال :
" أن للعنوان وقعا مثيرا , من هي الفتاة؟".
أمسك راي بيدها ورفعها عاليا:
"هذه, ستنجح في جمع مبلغ محترم من المال من الرجال , أليس كذلك؟
ثم أبتسم مضيفا:
"سأشتري حفنة من التذاكر لنفسي , لا أدري ما الذي سأفعله بها أذا ما فزت"
"رجاء راي , أخبر الكولونيل دينتون أنني...".
قاطعها راي قائلا:
" أنك ستحافظين على وعدك".
ثم غادر المنزل قبل أن تضيف شيئا آخر ,وساد الصمت بينهما بعد أنصرافه عدا سماعهما صوت تشغيله المحرك ثم أبتعاده عن المنزل.
قال ديريك:
"هكذا أذن , الفتاة المعروفة بين أصدقائها بأسم ( الفأرة) ستعرض نفسها للبيع من أجل ثمن تذكرة يانصيب ( فتاة ليوم واحد) ... والآن ( ثم فرك جبينه متظاهرا بالتفكير ) ما الذي سأفعله بفتاة تكون ملكا لي ليوم واحد؟".
أجابته محتدة لسوء تفسيره:
"لا شيء , المسألة كلها مزحة , وما سأقوم به هو للأحسان وليس لبيع نفسي".
رفع حاجبيه أستفسارا:
" ما الذي ستسمين العملية أذن؟ عرض بسعر رخيص؟ صفقة العام؟".
ثم تفحص قوامها قبل أن يقول:
بالنسبة لي شخصيا , لا أظن أنني سأضيع نقودي "
فأجابته بضراوة:
" بصراحة , لا أريد منك ذلك , سأقف هناك مذعورة لئلا تفوز أنت".
نظر نحوها ببرود ثم قال بأحتقار:
"هل هذا ما نسميه هدفا نبيلا في الحياة ؟ لمساعدة الآخرين بأي طريقة ممكنة؟ خاصة الرجال , أذ من ذا الذي سيشتري بطاقات يانصيب جائزته غير الرجال؟".
" أنت من أطلق على أهدافي الخاصة صفة النبل , ثم أن الفكرة كلها لجمع بعض المال للأعمال الخيرية , ليس هناك ما يثير الأشمئزاز أو ما هو مضاد للأخلاق , أنها ليست فكرة حديدة حتى , أذ أقيم من قبل....".
أريني أمرأة لا تحتج كثيرا".
" أحتفظ برأيك لنفسك يا سيد واريك , أنك لست أفضل بكثير من رون برادويل".
تقدك نحوها محذرا:
" لا تستفزيني أكثر من اللازم".
• Like
ثم أمسك بأعلى ذراعيها بشدة , أستدارت بسرعة محاولة التخلص من قبضته ألا أنه عاود الأمساك بها فبقيت ساكنة للحظات تمكنت خلالها من جذب صحن الطعام من على المنضدة ألا أنه أنتبه لحركتها فرماه جانبا.
لم تهدأ وأرتعشت غضبا من قمة رأسها حتى أخمص قدميها .
" أن أسلوبك أسلوب رجل خسر معركة الذكاء فلجأ الى العنف ".
" هل تسمين حديثنا معركة ذكاء ؟ أما من الناحية فأسميه لغو أطفال , لا غير".
وشد من قبضتيه على رسغها:
" وهل تدعين هذا عنفا ؟ أظن أنك في حاجة لمعرفة المزيد عن الرجال , أن ما أفعله الآن يشبه تمسيد قطة صغيرة".
وأذ ألتقت نظراتها بنظراته أحست بالخوف للتغير الطارىء فيهما ولما أثارته في داخلهامن أحاسيس , ثم قربها منه بهدوء جاذبا أياها فأحتمت به خوفا من مشاعرها , أنسحب الى الوراء ونظر الى وجهها الملتهب أحمرار:
" أعرف الآن كل شيء".
قطبت جبينها لأنها لم تفهم معنى ملاحظته الساخرة بعد أن أظهرت له بوضوح حبها , ألم توضح له بما فيه الكفاية؟
" تعرف ماذا؟".
" كيف تستطيعين عرض نفسك للبيع لأعلى عرض تتلقينه بحجة الحصول على بعض المال من أجل الخير؟".
أحست بأنه ما كان سيؤذيها بذلك الشكل لو أنه دحرجها من أعلى السلم .... هل فهم حبها له بهذه الطريقة؟
وأبتعد عنها كما لو أنه لم يتحمل البقاء قريبا منها :
" لا بد أن صديقك غبي الى حد لا يمانع فيه مشاركتك مع بقية الرجال".
أحتارت ألونا الى حد لم تعرف فيه كيف تدافع عن نفسها ضد أهانته:
" صديقي؟".
أجابها بسخرية مريرة:
"هل نسيته؟".
" هل تتحدث عن راي هيل؟".
" من سواه ؟ ألم ينادك بكلمة (حبي ) ووضع ذراعه حول خصرك؟".
" ولكن ذلك أسلوب راي في الكلام , أنه يدعو كل فتاة (حبي) ولا يعني ذلك شيئا .... ألا تصدقني؟".
" كلا.... أذ رأيت كيف كان ينظر اليك".
" أنك تتخيل ذلك".
كيف تستطيع أقناعه بخطأ رأيه ؟ وأحست بالشوق لكي يلمسها .
" لو كان راي صديقي , فكيف يتحمل قضائي اليوم مع رجل آخر؟".
" بالتدريب".
هزت رأسها لأنها لم تفهم ما عناه.
" أستنادا الى رد فعلك العاطفي منذ لحظات , لا بد أنه تدرب على الصبر ليتحمل نوبات خياناتك له".
" كيف تجرؤ على أتهامي بخيانة صديقي بينما تقوم أنت بالشيء ذاته مع أمرأة أخرى؟".
وهزها الغضب من جديد.
" لم لا تخرج الآن يا سيد واريك؟ لم لا تعود الى سكرتيرتك الجميلة الشقراء لتنشد بين ذراعيها ما تصبو اليه , الأمر الذي أنكرته عليك ؟".
لسبب ما لم تستطع ألونا معرفته , غضب دريك أيضا:
" سأفعل ذلك ,( أجابها متوجها نحو الباب) هذا بالبضبط ما سأفعله , شكرا من أجل الطعام وشكرا للمواقف العاطفية , سأدفع ثمنها عن طريق شرائي تذاكر يانصيب لجمع بعض المال للأعمال الخيرية , وهو أمر تبدين مستعدة من أجله للتضحية بكبريائك ,وأحترامك لنفسك".
ثم أنصرف مغلقا الباب وراءه.
انتهى الفصل