4)
لم أصدق مايجري ! وما الذي يحدث !
فهو قد جاء بعد بضعة أيام
جاء طالبا إياي بأي ثمن يريدونه
وهذا ما أخبرتني به تلك المرأة الشمطاء
فهي فرحة أنها قد باعتني لهُ بسعرا باهظ
وانها قد تخلصت مني بسهولة , قبل أن تدفنني بيديها تحت التراب
لم أعرف لمَ يريدني هو الآن , لمَ إشتراني !
أهي شفقة لحال ماضيّ وحاضريّ
أم أنا سلعة تباع وتشترى , أأنا مجرد متاع يبتاعهُ من يريده !
تباً
لسقم حياتي التي باتت رخيصة الثمن
وكأنني مِخْدَعُ يضطجعُ فيه من يريد
حل على قلبي الجزع والهلع فلقد بت مرتعبة مما قد يحصل لي مستقبلا
فلم أأمل إلا بجحيما أخر
وحل أتوغل فيه حتى الغرق
لم أفكر إلا بالهروب منه , والفرار من كل شيء
هو الآن خلاصي !
هو الآن منفذي للخلاص من جحيم حياتي السابقة
وقد جاءت الفرصة لأستغلاله هو... قبل أن يستغلني أنا !
جمعتُ أموالي التي كنزتُها في سنواتِ الماضيةِ
والتي تغطت بندوب النهب , وتغلفت بغبار السرقة
حملتها معي محتضنة إياها بكل قوةٍ
كارهة كل شيء , محتقرة الحياة
حتى شعرت أن هناك نبع من السعادة يفيض من صدري بلا توقف
وكأن القيود قد تخلصت من أسرها لي
وكأنني لأول مرة أستنشق معنى الهواء والحرية
ودعتُ سجني الحقير إلى الأبد , وأنا مؤقنة أن لا عودة إليه
لا عودة إلى ماضي سحيق كماضيّ المظلم
كان يقف هناك بين حوائط البياض
كان غير الذي اعرفه في تلك المرة
لم يكن يحدق بي بنظرات الرجال الجائعة
كان يغض البصر عني .. ويتقدمني
بصعوبة بالغة مشيت خلفه أجر معي أذيال سخطي وحقدي
فانا أريد التخلص منه
قتله على حين غرة منه , والهرب بعيدا عنه
يجب عليّ أن أجد خطة محكمة الاغلاق تشكل خيوطا متينةٍ توقعه في شباكها
وقف بطوله الفارع ووجهه المختبئ عني, لـ يأمرني بالصعود إلى سيارته من الخلف
صعدت إلى سيارته وأنا أشتم نفسي , واشتمه لبغضي له ولجنسه
يجب علي أن استغله
يجب عليّ أن أجعله يطمئن لي
ويظن أنني سأرضخُ له و لن أهرب منه
وبعد ذلك أرمي كل شيء ورائي , و اهرب مع أموالي
ضغطت أناملي في باطن يديّ من التوتر
ذعرتُ من القادم
ونمت بي حسرات حياتي حتى انغرزت جذورها في روحي
خفت من جدران المستقبل
خَفَتُ من عدم قدرتي على الفرار بعد كل هذا
خَفَتُ من زنزانة الدنيا , من حبس أخر يُذيقني إياهُ
تغطى طريقنا بالعتمة
وهو لم ينطق بكلمة واحدة , إنما سار متقدما الشارع المظلم أمامنا
وقفنا أخيرا في شارع سكنتهُ الأضواء , والأسواق الكثيره
ترجل بظله الطويل من السيارة , وفتح الباب لي
أنطلقت نظرات عيناي وحدقت بعيناه المحدقتين بي
عينان سوداوين لامعتان غرقتا بالدموع والألم
هزتني عيناه , وأرسلت القشعريرة إلى جسدي
حبست مشاعري المتوجعة , ودموعي المرتعشة في عينيّ
وأنا احدق بعينيه المحدقتان بي
فأنا لم أرى في حياتي رجلا يحدق بي بهذه الطريقة
لم أرى شفافية كهذه الشفافيه
لم أرى دموع الرجال ولا ألآلامهم
لم أرى منهم إلا الكبر والجبروت
شر الشيطان , وحقارته
لمَ هو الآن يطلق هذه المشاعر نحوي ويحرك قلبي بها
أنظرات الأعين تقلب الأحوال
أترسل المشاعر , وتأرجح القلب بين كفاي الصدر
تعدم أحساس الجفاء , تشعرك بالحرارة الواشمة
لمَ أشعر بفوران مشاعري
لمَ أشعر أنني أنساق إلى أمواج جارفةً
أبعد نظراته عني , فيما كانت أصابعه تحمل معطفا صوفيا
مدهُ إلى عيناي الغائصتان في عمق عينيه, و إلى جسدي المرتعش حرا
يعطني إياه لكي أغطي بهِ جسدي العاري والذي كشفت منه يداي وقدماي
أخذتهُ منهُ ... وأنا أسقط بصري الشاهق إلى حِجْري
وأغطي جسدي من الأعلى بصوفا ألتهمني بدفئه
ترجلتُ من السيارة , أمشي وراءه مترنحة المشية
أزجر نفسي , أعنفها لمشاعري المرهفة , لقلبي الغبي الذي يتأثر بسرعة
أهو الحرمان , أهي القسوة التي قاسيتها في حياتي الماضية !
لتجعلني هشة هكذا
لتجعلني سهلة الاسقاط في المصيادات
صعدت معه إلى شقة مفروشة , فخمة الشكل
وكأني أبتلعت علقم سموم كرهي للبشرية
وها أنا الآن مع رجل أخر يريدني لنفسه , ولشهواته الحيوانية
أنه يريد خداعي والكذب عليّ , لكي يستغلني من أجل مآربه الخسيسة
ليجعلني أقاسي نكد حياة الضنك والشقاء
تبا له !
تبا لمن مرغ جسدي في الوحل , تبا لنفسي الضعيفة وقلة حيلتي!
وقفتُ في شقته المليئة بالحفر في نظري
وقفت أتجرع عفن حياتي , وتواجدي الآن لدى هذا الغريب !
لم أشعر أني في خطر
لم أشعر أنني خائفة من هذا الرجل الواقف أمامي
أهو ماضيّ مع الرجال
أم أنه ما اعتادتهُ روحي , ولم تأبى للخوف من من زعزعوا حياتي
أختفت ملامح وجهي وراء رداء التوتر والقهر والغضب
وكعادتي الأزليتِ في إخفاءِ لخجلي بداخل صدري المشتعل بنيران الخوف والتوتر
مشيتُ بصدى صوت كعبي الرنان
ووقفت بجانب الأريكة أنتظر نفسا منه
أنتظر حرفا ينتشلني من حيرتي وتوتري العنيف من تلك العينان الاسرتان
وكأنني أريد أملا منه
وكأنني أريد قوس حلم حقيقي يقودني إلى منبر عالي القمة
ولا يسقطني في وحل الرذيلة لمرة أخرى
أمرني الرجل ذو الشعر الأسود , بصوته الغليظ , والذي خالطته البحةُ : " أجلسي "
جلست أدعس معطفي على جسدي مغطية أجزائهُ
احدق به بين تارة وأخرى
جلس أمامي متوترا وبيننا المنضدة
وقال بعد فترة من الزمن استمرت لثواني : " هل تقبلين الزواج بي ! "
أعدمت رؤوس أفكاري على حبل المشنقة
علقت الحرارة في جوفي , وجففت حلقي
ذهلت حواسي , وارتعش جسدي من هول ما قاله
ارتجفت شفتاي , وأنا احدق بنظراته المصوبة إليّ
ولجديةِ وجهه , وحنيته المذهلة لعقلي
غرزتُ أصابعي المرتجفة في فخداي
أهتزت نظراتي , واستفرغتُ عبراتي الغصة في صدري
ما الذي يقوله هذا الغريب , وما الذي يهذي به هذا الرجل !
أأنا في حلم !
أيعرض الزواج عليّ !
أأيتزوجني أنا!
كيف يحصل هذا !
حتى في أحلامي لا يحصل مثل هذا !
فأحلامي بخيلة كحياتي
لم أنبس ببنت شفة , فقط هي نظراتِ المصوبة إليه تحكي عن صدمتها
وجسدي المتجمد في مكانه يصرخ مذهولا
وعقلي قد فقد حاسة تفكيره
لانت نظراته المحدقة بي , وهو يقول بصوت خافت رن بالألم : " أنني اريدك وأرغب بالزواج منك بأي وسيلة كانت , والتعويض عن كل شيء "
صمت ..
وعم السكون حولنا , إلا من فحيح أنفاسنا الصاخبة والمتنازعة
أرتعشت نظراتِ المحدقة به
وأنا غير قادرة على الرمش
غير قادرة على إستيعاب كلمة واحدة منه
أريد نبش جنون كلماته , ونظراته المغرقةِ لعقلي وقلبي
وقف وهو يعقد ذراعيه حول صدره محدقا في صراعي القائم في عيناي
تنفس بعمق , وهو يقول بصوت يملؤه القهر والحزن : " لم أكن قادرا في ذلك الوقت على انقاذك , كنتُ مذهولا, كنتُ تحت تأثير خدر السكر ,وكنتُ في وعيّ ولم أصل لحد التشبع منه , كنتُ غير قادرا على الحراك عندما حصل ذلك , كنتُ عاصيا كريها , ولكن منذو رؤيتي لكِ , تهجمهم عليكِ وضربهم لكِ , وذلك الشيء اللعين الذي فعلوه بك , تلك الدماء , تلك الفاجعة , غيرتني الحادثة تماما, وأصابني من الندم كما يتفشى الخبيث في الجسد , وجهكِ نحت في ذاكرتي , واحلامي باتت عنكِ , لا ليست أحلام إنما كوابيس , مرت السنوات وأنا أتخبط في عزلتي وندمي إلى أن عدت لمرة أخرى مع أصحاب السوء وإلى سابق عهدي لعلي أفرغ فراغ حياتي وبؤسي , وكانت تلك المرة معكِ أنتِ , وندمت عليها أشد ندم , وعند اكتشافي لاموالي المسروقة شككت بكِ واحترت لمّا فعلتِ هذا , انتابني الفضول لتلك الشابة الغامضة , وعندما أخبرتني بما حدث لك , تذكرت كل شيء حتى وجهك الذي نضجت تقاسيمه أكثر "
اخذ انفاسه مقاوما موجات الألم والوجع في صوته , وهو يجلس أمامي ويكمل هامسا إلى وجهي الذي امتصته المفأجاة والذهول والأوجاع : " تزوجيني فأنا قد اخترتك زوجة لي , أريدك بكل شي فيك , ولا الماضي يهمني , ولستُ طهارا أبدا وقد أكون أنجس المخلوقات , فالله الواحد الأحد الغافر للذنوب والتواب وحده يعلم بذلك "
*****
فتحتُ النافذة على مهل
وحثثتُ خطواتي نحو المدفأة الصغيرة المليئة بالأخشاب المحترقة بفعل النار
حملتُ صندوقا صغيرا غرق بقصاصات صغيرة من الورق , دونتُ فيها كل شيء حدث معي في حياتي السابقة
كلُ شيء كان في الماضي
كلُ ما رمتني به الحياة
أحتلت شفتاي ابتسامة طوتها الأوجاع , وأنا أزيح غبار ذكرياتي
و أرميها واحدة تلو الأخرى في النار
وكأني أمحي بها صفحات حياتي الماضية
وأمزقها كما تبتلعها النار بنهم
أحرقها ليختفي أثرها إلى الأبد
أنها ماضي.. وعليّ النسيان وعيش حياتي الجميلة كما هي الآن
عيش أفراحي وأحزاني بين زوجي وأطفالي القادمين
مابين ستري و بيتي الذي يحتضنني بدفء
فلقد تزوجت من الرجل الذي يحبني ويكرمني ويحترمني
رجل قد من الله عليه وعليّ بالهداية والرحمة
فكل شيء قد تغير وقارب كل شيء على النسيان
وها قد أطلت في حياتنا نبضات جنين في شهوره الأولى
انخفضت أصابعي إلى بطني الذي لم يبرز بعد
وضمته برقة
ثواني فقط .. ليأتي صوت فتح الباب من ورائي وصوت زوجي وحبيبي : " جميلة ياحبيبتي ماهذه الرائحة , أنكِ سوف تختنقين بفعلها "
التفت إليه وقد زاد بريق وجهي سعادة , واستعاد حيوتيه ونسي هموم ماضيه وشحوبه : " اهلا ماجد , أنه مجرد دخان وسيزول بسرعة "
النهاية