كاتب الموضوع :
زهرة منسية
المنتدى :
سلاسل روايات احلام المكتوبة
رد: 218 - دموع و دماء سلسلة روبين دونالد (الجزء الأول)
كانت الأصابع السمراء الطويلة على مرفقها تعطيها الثقة و الدعم. كما ترسل شرارات بطيئة فى كيانها لكنها بالطبع لم تسمح لنفسها بأن تتكئ عليه و هو يرافقها عبر الباب إلى غرفة تخطف الأنفاس حيث الضوء المنبعث من البحيرة ينعكس بشكل رائع و مذهل.
توقفت لانث فجأة و شهقت :"أوه !"
اشتد ضغط أصابعه للحظة على مرفقها ثم ارتخى :"ما الأمر؟"
أحست بالغباء و شرحت بضعف :"لا شئ....البحيرة تبدو رائعة من هنا"
حثها على التوجه نحو مقعد مريح و قال :"إنها تبدو رائعة من أى نقطة. لقد سافرت كثيراً لكننى لم أر شيئاً فى مثل لون هذه المياه"
جلست لانث و أبقت وجهها موارباً.كانت الأبواب الزجاجية المفتوحة تطل على شرفة واسعة و على شاطئ لامع . قالت :"إنها بحيرة رملية. و الرمال البيضاء تعكس لون السماء بكثافة أكبر"
جلس على كرسى قربها و قال :"مهما كان السبب فهى جميلة.نيوزيلندا بلد رائع و تظهر الجبال فى كل مشهد فيها"
ــ الجبال رائعة كخلفية للمناظر . لكن مكانها هناك و أنا أفضل شاطئاً جميلاً دافئاً فى أى يوم.
منذ سنة مضت كانت تعنى ما تقول.
تسببت نظرته المفكرة بابتهاج أثار اضطرابها و أخافها . هاتان العينان الباردتان مختلفتان تماماً عن لون بشرته المتوسطية الدافئة. كانت البشرة البرونزية و الشعر الأسود المائل إلى الزرقة تزيدان من حدة تأثير عينيه فأحست بهما كزلزال مخيف لا مفر منه. وقال بصوت مرح:
ــ تبدين و كأن لا شئ يخيفك.
ردت و هى تفكر:" لو أنك تعلم!"
ــ أحب الدفء. لقد ولدت فى نيوزيلندا لذا لست معتادة على الثلج .
ــ مع ذلك قد تكون المياه باردة.
حتى الآن, لم تهتم لأمر ساقها لكنها تمنت بشدة لو أنها اختارت بنطلوناً طويلاً بدلاً من القصير . كانت تدرك بشاعة البشرة المتجعدة المشوهة التى تمتد على طول ساقها تقريباً. وعلى الرغم من أن الجراحة التجميلية سوف تغير مظهرها فى المستقبل إلا أنها ستبقى موجودة لتذكرها بألم الماضى البشع.
قالت بجفاء :"هذا فقط إذا كنت ساذجاً بما يكفى لتستمر فى السباحة بعد أن تبدأ بالارتجاف"
ــ ربما من طبيعة الإنسان أن يرغب فى تطويع ما يهدده.
تحركت عيناه ببطء على وجهها و استراحتا للحظة وجيزة على فمها الناعم, ثم ارتفعتا نحو شعرها المبعثر بأمواجه العسلية الموشحة بخصل نحاسية لامعة.
انفتح الباب و راقبت لانث بقلق مارك الحارس الأشقر ببنيته الصلبة الضخمة يدخل حاملاً صينية الشاى لابد أن مضيفها كائناً من يكون قد أصدر أوامره قبل أن يراها . وتساءلت لانث عن سبب توترها من جراء هذا النفوذ.
وضع مارك الصينية على طاولة قريبة من مقعدها ثم أدناها منها بحيث لم تعد بحاجة لأن تميل نحوها. ولاحظت وجود أبريق شاى و قهوة معاً مما يعنى أنه لم يترك شيئاً للصدف.
قال المضيف:"أرجو أن تتصرفى على حريتك"
ــ أجل...بالطبع
تراجع مارك إلى الوراء و قال بحدة :
ــ أنا أسف إذا كنت قد أخفتك. لكنك كنت متسللة.
و بلهجة رسمية مماثلة قالت لانث :
ــ حق الملكية لا يمنح حق المعاملة بخشونة. لكننى أقبل اعتذارك
و أستجمعت أرق ابتسامة لها و وجهتها إليه إلى أن تصاعد الاحمرار إلى وجنتيه . فنظر بسرعة إلى رئيسه الذى قال له :"شكراً لك مارك"
فأحنى رأسه بسرعة و استدار بسرعة و غادر الغرفة.
ضحك المضيف بهدوء و تمتم :"أنتم النيوزلنديون !"
و بابتسامة مغتصبة صبت لانث الشاى الذى تصاعدت منه رائحة قوية...
و أخذ فنجانه و هو يسألها:"هل أنت من هنا أم فى عطلة مثلى؟"
ــ أنا فى عطلة
ــ فى منطقة المخيم؟
ــ لا....بل أسكن فى باتش
رفع حاجبيه متسائلاً, فشرحت له :
ــ فى نيوزيلندا الباتش هو منزل شاطئ صغير , وضيع قليلاً
نظرته المتفرسة قضت على حاجز ثقتها بنفسها الهش . جاهدت لانث كى لا ترف عينيها كرد فعل . فكلما نظر إليها تتحرك أحاسيسها بشكل غريب. نوع من إحساس جاذب يتحول بقسوة إلى شوق موجع.
و حدثت نفسها بأن له على الأرجح التأثير القوى ذاته على أى امرأة دون المئة من عمرها, فهاتان العينان تخدران الحواس . ولعله يستجوبها الآن بمكر. فإذا كان الأمر مذلك فقد أخطأ بالخصم . لم يقل لها بعد من هو . لذا لن تقول له شيئاً عن نفسها.
أحست أنها مهددة فحاولت أن تدافع عن نفسها و لو بطريقة طفولية.
قاطع أفكارها بقوله:"آهـ...تلك المنازل الصغيرة قرب المخيم"
ــ أجــــل
ــ و هل كوخك ملك للعائلة؟
ــ لا. بل لأصدقاء
غير الموضوع بهدوء واثق و قال :
ــ أرجو أن يبقى الطقس مثالياً رائعاً كما هو منذ أسبوعين.
ــ يجب أن يبقى هكذا لكن نيوزيلندا كابوس لكل متنبئ بالطقس.فالبلاد طويلة إنما ضيقة و هى تقع عند نقطة التقاء خط الاستواء لهذا فالهواء البارد يهب علينا من القطب الجنوبى و من كل الاتجاهات . مع ذلك فالوقت الآن منتصف الصيف و مع شئ من الحظ سيبقى الطقس رائعاً حتى نهاية شهر شباط
و كانت اللهجة التثقيفية فى صوتها وسيلتها الوحيدة لتدافع عن نفسها ضد نظراته المتفرسة المقيمة.
أضافت :"بالطبع , هذا إذا لم يأتينا إعصار زائر. لقد زارنا إعصاران فى موسم العطلات هذا, لكنهما اقتصرا على مطر غزير"
قال :"لنأمل إذن ان يحتفظ خط الاستواء بأعاصيره لنفسه"
و بهذا لم يشر أية إشارة إلى مدى بقاءه هنا.
بعد هذا تحدثا بالعموميات . حديث لا يعنى شيئاً و لا يكشف عن شئ....مع ذلك سرى تحت سطح الكلام العفوى السلس تيار أعمق و أكثر إثارة للتساؤلات و كلما نظرت إليه كانت تجده يتأملها
أخيراً وضعت لانث فنجانها الفارغ من يدها و قالت :
ــ كان شاياً رائعاً ...شكراً لك , من الأفضل أن أعود الآن.
وقف على قدميه برشاقة رجولية و أجاب:"سأوصلك إلى سيارتك"
ردت ألياً:"استطيع السير"
و دون أن يبعد عينيه عن وجهها سألها :"و تؤلمين ساقك أكثر؟"
أجفلت و أحست بساقها تصرخ ألماً فقالت على مضض :"حسناً جداً. و شكراً جزيلاً لك"
ــ هذا تعويض صغير جداً عن خشونة مارك.
تقدم منها و أمسكها من مرفقها مرة أخرى...أحست و كأن أصابعه تحرق بشرتها وهو يساعدها لتقف وإن كانت تدرك أن ذلك مستحيل.
قالت بحدة :"مارك مسئول عن هذا"
و زمت شفتيها لتواجه الإحساس الغريب الذى سرى فى جسمها .
أجابها :"إنه موظف عندى لهذا فأنا المسؤول"
خطت لانث بضع خطوات متصلبة و عرجها يزداد وضوحاً مع ارتفاع حدة الألم فى ساقها.
تمتم بكلام غير مفهوم و بحركة بطيئة رفعها بين ذراعيه.
صاحت بذهول :"هاى !"
و لم تستطيع أن تزيد مع تصاعد اضطراب محموم سرى فى داخلها .
شدها إلى صدره القوى العضلات بحركة عفوية وهو يسير بخفة مدهشة نحو الردهة العريضة التى تؤدى إلى الباب الأمامى و هو يقول :"ربما تفضلين أن يحملك مارك"
لم تكن دلائل القوة الرجولية فيه وهماً. أما القدرة على السيطرة على نفسه التى كانت تضفى سلطة على مظهره الرائع الشامخ فكانت بارزة فى طاقة و تصميم منتديات ليلاس مميز.
مزيج مخيف من اللهيب و الثلج سرى فى كيان لايث فقالت و هى تحاول أن تبدو عادية :"ليست بحاجة إلى أن يحملنى أحد"
ــ أنت شاحبة كورقة بيضاء و العرق يتصبب من جبينك . أرجوك لا تجعلينى أشعر بالسوء أكثر مما أنا عليه الآن.
و لأنها تكره الشفقة ردت ببرودة:
ــ ليست كذلك..صحيح أن ساقى تؤلمنى لكننى أستطيع أن أصل إلى سيارتى.
فقال باستنكار ساخر :"حتى ولو اضطررت إلى الزحف. قد تقطيع أنفك نكاية بوجهك..."
أسكتتها كلماته هذه . فمن الواضح أنه يشعر بالمسؤولية عن تصرف حارسه, لكن معاملة مارك الخشنة لها لم تعد تهمها .
أختلج قلبها و هى تسترق نظرة إلى جانب وجهه الرائع الذى أحاطت به فجأة هالة ذهبية غير متوقعة و هما يخطوان إلى الخارج تحت أشعة الشمس....قالت لنفسها بازدراء متبجح إنها مجرد جاذبية...مجرد جاذبية...إنه شعور عادى بين ذكر و أنثى و لا يعنى شيئاً .
كافحت ذلك الإحساس و أجبرت نفسها على الاهتمام بما يحيط بها و على صرف انتباهها عنه.
إن مصمم هذا المنزل كائناً من كان يفهم طقس نيوزيلندا جيداً .
كان هناك مدخل مسقوف يمتد من الباب على طول الطريق الداخلية المرصوفة بالحصى مما يوفر الملاذ من حرارة الصيف و يحمى من المطر الذى يغزو شبه الجزيرة فى كل المواسم. ورأت هناك سيارة رانج روفر ضخمة فخمة و مغبرة.
قال مضيفها :"أنا مضطر لإنزالك"
و أنزلها بعناية رقيقة .
تمسكت بمقبض باب السيارة فاشتدت ذراعاه حولها مجدداً للحظة...
أحست بحرارة فى عظامها ثم باسترخاء مثير وذابت فى دفء أحضانه, وفى رائحة عطره الخفيف الرجولى لكنها تجنبت أن تعترف بذلك و انتظر حتى تركت مقبض الباب و استقامت ثم تراجع.
سألها وهو يفتح الباب :"هل بإمكانك تدبر أمرك؟"
ــ نـــعـــــم
رفضت الاعتراف بالألم فى ساقها وصعدت إلى السيارة ثم انتحت لتشد حزام الأمان و لم تلتفت إلى الرجل الذى استدار وصعد قربها.
قال و هو يدير المحرك :"افترض أنك تركت سيارتك قرب البوابة"
ــ أجل عند آخر الطريق.
قاد السيارة الكبيرة بمهارة فى الطريق الضيقة وجلست لانث صامتة إلى أن رأت سيارتها المتوقفة قرب أشجار الصنوبر و قد حمتها من الطريق المغبرة أوراق شجيرات صغيرة.
قالت :"هناك"
ــ رأيتها.
ركن سيارته خلف سيارتها و كتمت لانث ابتسامة ساخرة و هى تنزل بسرعة و تعرج نحو سيارتها العتيقة اليابانية الصنع.
كانت الشمس قد ارتفعت عالياً فى السماء فتخطت ظل الأشجار وجعلت داخل السيارة ساخناً. أنزلت زجاج النافذة و تركت الباب مفتوحاً و هى تفكر بحنق فى تصرف مارك و ترجو أن يصعد مضيفها القسرى إلى سيارته و يتركها وشأنها. أحست و كأنها تقف على نصل سكين ماضيها مخبأ فى الظل و مستقبلها يكاد يردد صدى الفراغ.
قالت بابتسامة مشرقة :"شكراً لك"
لمع المرح فى عينيه لوهلة و قال:
ــ يجب أن أشكرك لأنك لم تقاضينى و التعويض الوحيد الذى أقدر عليه هو أن أعرض الشاطئ عليك فى أى وقت ترغبين فى السباحة.
ــ هذا لطف كبير منك, شكراً لك.
جاءت كلماتها خرقاء و لم تستطيع إخفاء الدهشة من صوتها ثم حيته بانحناءة من رأسها و تراجعت إلى سيارتها و هى تفكر : هذا مستحيل.
الشفقة وحدها سبب العرض وهى تكره الشفقة منذ الحادثة تحملت منها ما يكفيها و دافعت عن نفسها بالكبرياء العنيدة.
وبحركة حادة أدارت المحرك و غضبت حين تأوه ثم توقف صامتاً...و حاولت مجدداً بشفتين مشدودتين هذه المرة أنتعش المحرك و دار فابتسمت بأدب و لوحت له بيدها .
و قبل أن تنزل الكابح اليدوى مال إلى الأمام قائلاً :"سألحق بك إلى منزلك لأتأكد أنك على ما يرام"
ــ لا داعى لهذا.
لكنه كان قد تراجع عائداً إلى سيارته.
تسلل القلق إلى قلبها و كأنه مخلب قطة و للحظة فكرت فى أن تذهب إلى باتش آخر لكن العقل و المنطق أعلماها بأن بضعة أسئلة ستوصله حتماً إلى حيث تسكن.
لم تكن خائفة فلا سبب يدعوها للخوف منه.
و هكذا قادت سيارتها بهدوء إلى أن وصلت إلى الباتش الثالث قرب البحيرة الثانية و استدارت لتتوجه تحت ظلال أشجار السرو الضخمة إلى الباحة المعشوبة الأمامية و من ثم إلى المرآب و توقف الرانج روفر على الطريق فى الخارج و محركه لا زال يهدر بينما خرجت من سيارتها و أقفلتها ثم تقدمت نحو باب منزلها و بتوتر فتحته و دخلت .
انتظر إلى أن فتحت الباب ثم استدارت بعد أن أطلق الزمور مرة واحدة .
آخر ما رأته منه كان جانب وجهه المتعجرف البارز فى دوامة غبار بيضاء على الطريق و تلويح يد طويلة بإهمال فتنفست الصعداء. وقفت للحظة تنظر إلى دهان الباب الباهت ثم فتحته بحدة و دخلت.
صدمتها الحرارة و كأنها تلقت صفعة ففتحت النوافذ على مصرعيها و فكرت بالواجهة الزجاجية المطلة على البحيرة و بالهواء العليل ثم هزت كتفيها.
من هو ؟ و لِمَ هو بحاجة إلى شخص مثل مارك فى مكان مثل نيوزيلندا؟ وفكرت و هى تزم شفتيها ربما غروره القاتل يتطلب طمأنة حارس شخصى.
لا يبدو هذا محتملاً لكن, ماذا تعرف عن الأثرياء؟ أو الرجال الوسيمين؟ فلو أن آلة التصوير أعجبت بوجهه كما أعجبت به عيناها لكن نجماً سينمائياً. لقد بدأ لها وجهه مألوفاً كصورة تتذكرها جزئياً من مجلد صور لشخص غريب.
من الآن فصاعداً يجب أن تلتزم بشاطئ هذه البحيرة مما يعنى نظرات فضولية و تعليقات حول ساقها ونظرات إلى أثر الجرح...أحمر قرمزى, مجعد, غير سوى يمتد الجرح على طول فخذها ليصل إلى كاحلها . لقد كادت تموت من الصدمة و أحياناً تتمنى لو أنها ماتت.
كانت قدرتها على الاشفاق على نفسها تسقمها و هذا أمر جديد بالنسبة لها. هذا الإفراط فى اليأس الضائع سدى و الذى طالما انتظرها و كأنه رمال متحركة.
و بصوت أرادته مرحاً صاحت عالياً فى الهواء الخانق:
ــ حسناً جداً لانث براون لقد مررت بتجربة و كائناً من كان فهو ليس سائحاً عادياً من طرازك.
ثم رفعت موجات شعرها الكث عن بشرتها الحارة و اتجهت إلى الحمام
منتديات ليلاس
|