رفعت ذقنها و هى تدرك تماماً أن هالات سوداء تحيط بعينيها و أن بشرتها شاحبة من شدة التعب و اتجهت إلى غرفة الجلوس.
كان أليكس يقف على الشرفة ينظر إلى الماء . لكن حين دخلت الغرفة استدار و ضاقت عيناه و هو ينظر إلى وجهها
قال :"أصبحت الطرقات مفتوحة"
احست بتصلب فى شفتيها و قالت بصوت أجش :"إذن....أستطيع ان أعود على الباتش"
ــ أجل.
شقا طريقهما فى السيارة عبر أراضٍ ريفية مشبعة بالماء و على بعد أمتار من بوابة أرض أليكس انهارت صخور رملية على الطريق فغطتها بالحجارة و الطين.
فتح اليكس الباب قائلاً:"ابقى هنا"
و سار إلى مؤخرة السيارة ليعود ومعه رفش.
أخذ يزيل الركام الذى قطع طريقهما و كأن جزءاً منه يجد لذة فى العمل الجسدى. راقبت لانث عضلاته تتحرك تحت قماش قميصه القطنى الرقيق و رشاقته و هو يرمى حمل كل رفش إلى جانب الطريق . تأملت وجهه النحيل الذى بدا أسمر قاتماً و أحست بشوق جارف إليه بألم اعتصر فؤادها
قال وهو يعود إلى السيارة :"آسف....أنا مبتل قليلاً"
ــ لا تقلق.
كان البانش فى حالة ممتازة بالرغم من تحطم شجرة السرو الكبيرة . و نظر أليكس إلى الأغصان الملتوية القائمة و قال :"أحضرى أحداً ليلقى عليها نظرة قبل الليل"
ــ حاضر.
بقى معها حتى اطمأن إلى سلامتها ثم وقف فى الباب و نظر إليها كانت عيناه باردتين و فمه مشدوداً و قسامته المنحوتة أكثر بروزاً . قال :" وداعاً...لكن عدينى بشئ...."
ودت أن تعده بالدنيا كلها لكنها سألت :"بماذا؟"
ــ أن تستمرى فى محاولة العودة إلى الماء.
ــ أجل....حسناً.
و أصغت إلى صوت تحطم قلبها
ــ لقد شاهدت فيلم فيديو لبرنامجك الوثائقى ... و أنت مولودة لتكونى فى الماء... ولسوف تنجحين .... أسبحى من أجلى, وغوصى عبر ذلك الجدار الأزرق.
ابتلعت ريقها لتخفف ألم الدموع التى سدت حنجرتها ثم هزت رأسها و استدارت مبتعدة و هو يخرج من الباب....اشتدت قبضتاها على حافة الشرفة حيث وقفت تنظر إلى البحيرة دون ان تراها بينما داتر محرك الرانج روفر وابتعد.
فى سكون الأمسية الهادئة شاهدت الأخبار , لا شئ عن اليريا , ولا شئ مرة أخرى فى الصباح. أحست بخوف شديد و أجبرت نفسها على ملء يومها بعمل لا معنى له, وان لم تتذكر ما كانت تفعل . ذلك المساء فتحت جهاز التلفزيون و جلست متوترة تتابع الأخبار المحلية و العالمية.
ومع ذلك....لا شئ. كانت تحاول إقناع نفسها بتحضير العشاء حين قال المذيع:"بعد انقلاب أبيض, و دون سفك دماء عاد أمير اليريا بعد طول غياب وتوج فى احتفال مؤثر"
جمدت لانث و هى تتأمل الحشود الغفيرة على الشاشة و وسط الهرج و المرج المجنون....رأته.....أليكس.... نقطة ارتكاز الزوبعة...أليكس....ذو الوجه الصارم الوسيم....
كان يلامس الأيدى المتشوقة الممدودة إليه و يتكلم و يسير عبر الجموع الهائجة الصائحة وحده....و بقوة إرادته منعهم من ان يفقدوا السيطرة و من ان ينجرفوا إلى الفوضى.
مسحت لانث دموعها عن خدها و أجبرت نفسها على التركيز على ما يقوله المراسل....كان يقول:".....نحو الكاتدارئية, حيث ينتظره رئيس الأساقفة ليتوجه"
و تبدلت صورة الشعب الأليرى الهاتف الهائج لتظهر صورة ساحة تحيط به الأشجار فى مقدمتها كاتدرائية قديمة واجهتها من الرخام الأبيض . كانت الساحة مليئة بأشخاص صامتين راكعين...عكست وجوههم الرهبة و التبجيل و الفرح...و كان الكثير منهم يبكى.
ثم تعالت أصوات الأجراس.
و سمعت المراسل يقول:"لقد وصل إلى أليريا منذ ثلاث ساعات فقط...و بمجرد وصوله أوقف القتال و ما أن عرفه الناس حتى سارعوا به إلى الكاتدرائية ليتوج....بعض رجال الحكم قُتل , لكن يُعتقد أن معظمهم قد هرب.... و خرج الجيش و قوى الشرطة لمساندة الأمير"
تلاشت الصورة عن الشاشة و انتقل المذيع إلى خبر آخر.
وقفت لانث و أطفأت الجهاز .
لقد قالت له أنها تشعر بالأسف حيال الآسر المالكة و أنها تؤمن بأن حياتهم لا تطاق .... فهل كان هذا سبب قراره بألا يقيم علاقة معها؟
و تمنت لو أنها أبقت فمها مطبقاً...إلا أن هذا ما كان ليشكل أى فرق فهى لن تغير رأيها.
و صرخت بصوت عالٍ :"الأمير و الفقيرة" فبدا لها صوتها غريباً .... لا.... الملك و المتسولة لكن اراهن أن علاقتهما لم تنجح بالرغم من الأسطورة .
فأى علاقة ناجحة تحتاج إلى أكثر من الأنجذاب و بالرغم من أن أليكس كان يريدها إلا أنه لم يأتِ على ذكر الحب.
* * *
منتديات ليلاس
خلال الأيام التى تلت انهكت نفسها بالعمل
كانت تعمل بشكل آلى و جنونى و كانت تتقدم فى مياه البحيرة خطوة بعد خطوة.... و خلال الليل , كانت تنام نوماً ثقيلاً لشدة ارهاقها .
اعتقدت لانث أنها عرفت الحزن . ولقد بكت طويلاً كريغ....و تحملت الألم الجارح و الوحدة التى لم تتبدد إلا على مضض.
لكن الأمر مختلف هذه المرة. و كانت تتساءل أحياناً عما إذا كانت ستجن.
لكنها رفضت الأستسلام .... فهى ليست مريضة ! و خطر لها فى صباح أحد الأيام أنها مشتاقة للحب و حسب.
لقد آن لها أن تجمع شتات حياتها مجدداً و تتابع مسيرها.... لكن عليها أولاً أن تفى بوعدها لــ اليكس... لم تعد أحلام الأنياب و الدماء و الموت المزعجة توقظها من نومها صارخة , لكن الذعر لا زال يتملكها و هى تسير فوق الرمال
شدت على فكها و خاضت الماء إلى أن أصبحت على بعد خطوة واحدة من الحدود ما بين المياه البيضاء و تلك العميقة.
لقد قال لها :"أسبحى من أجلى...غوصى عبر ذلك الجدار الأزرق...."
أخذت نفساً عميقاً و غطست إلى الأسفل, وتوغلت و عيناها مفتوحتان فى قلب الماء الأزرق... و ما أن اخترقت الجدار حتى لبثت دون حراك امام توهج الألوان و أملت أن يغمرها مد المياه مجدداً.
شئ ما تحطم فى داخلها فصعدت إلى سطح الماء و هى تبكى...بهرتها الشمس و المياه و أدركت أنها على الأقل خطت خطوة نحو الحياة و إن كانت هذه الأخيرة قد تبدلت.