كاتب الموضوع :
زهرة منسية
المنتدى :
سلاسل روايات احلام المكتوبة
رد: 218 - دموع و دماء سلسلة روبين دونالد (الجزء الأول)
فغرت فمها لكنها لم تنطق بأى كلمة . وضاقت عيناه اللامعتان و هو يسألها :"الم تخمنى ذلك بعد؟"
قالت بغباء :"لا...ظننتك إيطالياً"
ــ لقد تربيت فى اليريا فى قرية جبلية صغيرة حتى بلغت العاشرة من عمرى. و حين أسر الشيوعين أبى ,اضطررت أنا و أمى للهرب و أنتهى بنا المطاف فى أوستراليا
أرادت معرفة المزيد لكن رعباً مفاجئاً صدمها . و سألت بهدوء :"أنت من عليه أن يعود إلى هناك...أليس كذلك؟"
و ساد الصمت من جديد....و تحولت نبضات قلبها إلى خفقات بطيئة تضج فى أذنيها. حدقت فيه لترى رجلاً مختلفاً....طاقة مشتعلة متحدية و أدركت أنه سيغادر ليحقق مصيراً لا دور لها فيه.
مدت يدها إليه و قد عجزت عن السيطرة على مشاعرها :"أليكس....أليكس....ستنشب الحرب هناك"
ــ قد أتمكن من وقفها.
أمسكت بمعصمه تهزه :"لن تستطيع...أنت رجل واحد ! حسناً...لديك السلطة و المال...لكنها حرب أهلية و قد تُقتل!"
أطبقت يده على يدها و قال:"لا أظن لك"
و أضاف و هى تفتح فمها لتتكلم :"يجب أن أذهب"
اعترضت بشراسة :"أنت ليست مسؤولاً عنهم"
اخترقت عيناه عينيها بضراوة و قال ببساطة :"بلى...أنا مسؤول"
أطلقت زفرة حادة لكنها بقيت صامتة و لم يقل هو شيئاً كما لم يحاول مساعدتها و هى تنظر إليه مشدوهة مرتاعة.
و بعد لحظات تمتمت :"أنت....الأمير....الضائع....أليس كذلك؟"
التفت إلى وجها المصدوم الشاحب و قال بخشونة :
ــ أنا أبنه....و أتمنى و أتمنى أن يكون ميتاً...و إن لم يكن ميتاً فهو فى سجن الشيوعين منذ أربع و عشرين سنة.
أبعدت يدها عن معصمه و كأن بشرته مشحونة و عظامه حارة كالجمر .
أخذت نفساً عميقاً ثم همست :"سيقتلونك إذا عدت"
ــ و لِمَ سيقتلوننى؟ هم مثلك..فالشيوعيون السابقون و الطبقة الحاكمة لا يصدقون أنى قد أهتم بشؤون اليريا....على أى حال إنى أتمتع بسلطة أكبر و ثراء أعظم...فما الذى سيغرينى للعودة إلى بلاد صغيرة, غير مستقرة و فقيرة؟
كانت ابتسامته خشنة غير مرحة و قد ترافقت مع الكلمات التى تردد صداها بسخرية باردة جارحة و أكمل :"...إن كنت سأتعرض لأى خطر لتلقيت تهديداً ...أنا لم أطلع أى شخص على هويتى من قبل لكن الشعب سمع إشاعة تفيد أن أحد أفراد أسرة كونسيدين لازال حياً. لهذا يتظاهرون...و أنا أشعر بأنى مسئول عنهم...على أى حال لن أعود لأطالب بالعرش . و الله أعلم بأنى لا أريد هذا النوع من السلطة...لكن إذا لم تُتخذ إجراءات سريعة قد يُقتل الآلاف فى حرب أهلية لا طائل منها . و قد أتمكن من وقف المزيد من سفك الدماء"
ــ كيف ؟
هو كتفيه و استدار مبتعداً
ــ لقد أتصل بى أشخاص عديدون من أصحاب النفوذ اللذين لم يقطعوا الأمل من أن أحد أفراد أسرة كونسيدين سيعود يوماً ليستعيد العرش... وهم يؤمنون أننى أملك نوعاً من السلطة على الناس نظراً لنسبى. و الجيش هو مفتاح الحل و إذا عدت قد يقتنع قادة الجيش بضرورة الإطاحة بالطبقة الحاكمة و مساعدة الشعب على تشكيل حكومة ديموقراطية .
قالت غاضبة:"أو أن الطبقة الحاكمة ستقتلك"
ــ هذا غير محتمل
ــ بحق السماء....هؤلاء الناس يحاولون التمسك بالسلطة إن ثروتك و شهرتك و قوتك لن تحميك...و أنت تعرف ذلك. فالرصاص يقتل المشاهير مثلما يقتل العا...
وضع يده على فمها ليوقف دفق الكلمات الفزعة فابتعدت لانث عنه و جاهدت لتسيطر على نفسها و على نفسها و على عينيها اللتين اغرورقتا بالدموع. و بهدوء شديد قال أليكس :"يجب أن أذهب يا لانث"
عضت على شفتها وقالت بحدة :"لا يحق لى أن أمنعك"
و آلمت الكلمات حنجرتها و قد أثقلتها دموع لم تذرفها و قال:
ــ أنا مدين لهم بهذا . على أن أحاول وقف المجازر التى تشاهدينها على شاشة التلفزيون كل ليلة..أى نوع من الرجال سأكون لو بقيت بعيداً و تركت كل هذا يحدث؟
ــ ستكون رجلاً متعقلاً
خرجت هذه الكلمات من أعماقها بعنف .
فرد بقسوة:"لكن دون شرف"
و رأت ان لا سلطة لها عليه ليغير رأيه فتنهدت :
ــ لا....و عديم المسؤولية كذلك و هذا هو الأمر الأهم بالنسبة لك...المسؤولية.
هز كتفيه و قد أصبح فجأة غريباً عنها...ثم قال بهدوء :"هذا ما ربيت عليه...هل أنت جائعة؟"
فردت بدهشة :"لا....كم الساعة الآن؟"
ــ تقارب الواحدة . سنتناول الغداء ثم سأرى إذا كانت الطريق مفتوحة بما يكفى ليمر الروفر.
سيعيدها إلى البانش و يودعها و لن تراه من جديد إلا على شاشة التلفزيون.
و فى المطبخ الحديث حضرت لانث المكرونة فيما حضر أليكس السلطة و أخرج الفاكهة.
لم تكن شهيتها . لكن لترضيه أخذت تأكل على مهل.
منتديات ليلاس
جلسا على الشرفة فراحت تراقب المياه و هى تستعيد لونها الطبيعى مع اختفاء الغيوم تدريجياً و اخترق أشعة الشمس لها . علقت فى حنجرتها غصة صلبة ثقيلة و بينما هما يشربان القهوة رن جرس الهاتف.
التقطه أليكس مقطباً و قال:"مارك؟ كيف الأحوال عندكم؟"
أصغى قليلاً ثم قال :"تأكد من أن شقيقتك لاتحتاجك"
بدا أنها لم تكن تحتاجه لأنه قال إنه سيعود ما أن تفتح الطريق . أراحت لانث عضلات و جهها المشدودة و كان التوتر قد بدأ يظهر عليها و أحست بقلق أليكس فهو يود التخلص منها سريعاً. و لتبتعد عنه قالت:"ساقى تؤلمنى... سأستلقى إلى أن يتوقف الألم"
ــ طبعاً...هل ترغبين فى مسكن للألم؟
ــ لا....سرعان ما يخف.
ذكرت لانث نفسها و هى تتجه نحوغرفة النوم :"لن يتحطم قلبك فقد حزنت من قبل و شفيت. ولعل ما تشعرين به الآن هو الإحباط ليس إلا لأنك تحبينه و تعلمين أنه سيرحل"
لم تتطور علاقتهما و لن تتطور لكنها لن تنسى اليكس أبداً .
كما أنه لن يُقتل فى تلك الإمارة الصغيرة فى النصف الآخر من العالم و لن يكون القدر ظالماً إلى هذا الحد.
ارتجفت رغم الحرارة العالية و الرطوبة فأبعدت الأغطية عن الفراش و خلعت حذاءها و ثيابها و اندست فى الفراش الكبير المريح....
و راحت تتذكر كل لحظة منذ التقت أليكس , كل كلمة قالها , كل تعبير استطاعت حل لغزه. وحين غالبها النعاس عقدت صفقة مع المستقبل . لن تتعلق به , لن تقول له إنها وقعت فى حبه , لن تبكى أو تحزن,على أن يبقى حياً , فهذا كل ما تطلبه.
استيقظت على قرع بابها و صوت أليكس كافحت لتجلس مستوية على الوسادة فقالت بصوت أجش متكسر دون وعى و بارتباك:"أدخل"
و دخل أليكس من الباب ثم توقف و هو يرأها مستلقية على السرير فاشتعلت عيناه اشتعالاً بعث الدم إلى و جنتيها كان الغطاء الذى تدثرت به أثناء نومها وقع عنها . يجب أن تشد الغطاء إلى فوق صدرها , أن تخفى صدرها عن النار فى عينيه....و يجب أن تخرج من منزله فى أسرع وقت ممكن....
فما من مستقبل لهما معاً و مع ذلك أبقاها خوفها عليه و قلقها من ألا تراه مجدداً فى مكانها
قالت بصوت أجش ملئ بالشوق :"أليكس؟"
أغمض عينيه ثم فتحهما على الفور نظراته الممعنة و اشتعال عينيه بهذا البرق أرسل أحاسيسها فى إنطلاقة سريعة و بصوت خشن مكتوم قال :"أنت جميلة جداً"
و كاد قوله يكون اتهاماً... هزت رأسها و قالت ببساطة :"و أنت و سيم..أنت أوسم رجل رأيته فى حياتى"
شد على يديه فى قبضتين و قال بحدة و شراسة :"هذا تهور .... يا لانث"
ابتلعت غصة فى حلقها وهى تقول:"أعلم"
ــ يا إلهى.... باستطاعتى احتمال أى شئ ما عدا الحزن!
تقدم نحو السرير بخطوات سريعة صامتة و جلس على حافته و ارتجفت يداه و هو يلامس وجهها .
أشعلت هذه الحركة البسيطة مشاعرها فرفعت يدها لتبقى يده على خدها و التقت عيناها بعينيه بشئ من الخجل و الالحاح
ظهرت لهفة حارة فى عينيه جعلت النار تسرى فى شرايينها و تحطم كافة حواجز المنطق السليم و الحذر و الحزن.
ثم وجدت نفسها بين ذراعيه يعانقها بشوق محموم و ما كان منها إلا أن بادلته عناقه بآخر مشبع بمزيد من الشوق.
و قال بصوت أجش:"شعرك كأشعة الشمس و هو أول ما لفتنى فيك...كان كثيفاً مليئاً بالنور و فيه خصل خفية نارية بلون النحاس اللماع و انجذبت إليك يومها...."
دفن وجهه فى شعرها ففكرت لانث مبهورة فى أنها لن تقصه ثانية .
و أخذت يد متملكة تمر بكتفيها فعنقها على اليشرة الحريرية الملمس .
علقت أنفاس لانث فى حنجرتها و تاقت لضمة أخرى من ذراعيه . لكنه هب واقفاً فجأة و قال بخشونة :"لا !"
صرخته المتوحشة صدمتها وقضت على أحاسيسها المتفتحة و امتدت أصابعها تلقائياً مرتجفة خرقاء إلى ساقها تتلمس أثر الجرح . لوم تستطيع أن ترفع عينيها إليه و تمنت أن يخرج و يتركها مع ذلها وحيدة فأدارت رأسها و ركزت نظرها على الأشجار خارج النافذة.
قال بحدة و قد لاحظ ردة فعلها اللارادية :"الأمر لا يتعلق بساقك"
فردت بصوت رفيع متوتر :"لا تشغل بالك . أعرف أنه بشع... و سأجرى له جراحة تجميلية فى السنة المقبلة.... لكنه سيترك أثراً دائماً...لا بأس بهذا"
و أغمضت لانث عينيها و هو يلامس أثر الجرح بأصابع ثابتة . و ارتجفت و هى تشعر بلمسته تسرى فى عروقها.
قال بعناد:"أنت مخطئة...أنظرى إلىّ"
ماذا يريد بحق السماء...أن يدمى قلبها أن يستخف بها؟
كرر كلامه :"انظرى إلىّ"
جاء صوته هذه المرة خفيضاً قاسياً و أمراً حاملاً فى طياته إصراراً خطيراً يطلب الإذعان.
أدارت رأسها و رفعت رموشها....كان وجهه قناعاً عنيداً منحوتاً بخطوط عدوانية تثير الاضطراب.
قال بصوت هادئ بارد :"أى رجل ينفر من هذه الندبة لا يستحقك. أنت كالنار السائلة تحت أشعة الشمس , فالعسل يتدفق من صوتك, وضحكتك الدافئة تذيب الجليد و تحوله إلى بخار"
أوه.....كم تريد أن تصدقه و أخفضت نظرها لتتأمل يده السمراء التى وضعها على جرحها و همست :"لماذا إذن....ابتعدت...عنى؟"
ضاقت عيناه الزرقاوان و قست خطوط فمه و هو يقول :
ــ لن أقيم معك علاقة كجندى متوجه إلى الحرب , فأنا لا أستطيع أن أقدم لك شيئاً.
كانت كلماته باردة و لاذعة كضربات السوط على قلبها و أكمل:
ــ ولا مستقبل لنا....حتى أننى لا أستطيع ان أقدم هدية لك لأننى سأغادر نيوزيلاندا فى وقت متأخر من هذه الليلة.
هذا هو إذن الإحساس بتمزق القلب إلى قطع صغيرة...أوه... لطالما حذرها عقلها من أنها لن تحصد سوى الدمار من ذلك التجاذب الجامح بينهما . لكنها كانت تأمل....و الآن حل الأسى المرير مكان تلك الآمال .
قالت مجدداً:طلا بأس .... لا تقلق أليكس.....أفهمك"
حاول أن يتكلم , لكنه عاد و صمت ... و سمعت ضربات قلبها المتسارعة و أنفاسها المتقطعة. و فكرت يائسة بأنها لا تستطيع الاحتمال .
كتمت مشاعرها لأنه الحل الوحيد و قالت :"اليكس....أجدك جذاباً جداً...لكننا لا نعرف بعضنا جيداً...لا نعرف بعضنا أبداً فى الواقع"
قال ساخراً :"إذن سيكون النسيان سهلاً؟ هذا ما أرجوه . لن أقيم معك علاقة لانث , لأنك تستحقين أكثر مما أستطيع أن أعطيك"
و قطع الغرفة ليقف كالشبح فى الباب ثم قال دون تركيز :
ــ لكن لا تظنى أبداً أننى لا أريدك.... بل أريدك أكثر مما أردت أى شئ فى حياتى.....بل على الأصح , أكثر مما سأريد أى شخص آخر فى المستقبل
... كما أخشى.
فتح الباب و خرج ليقفله خلفه دون صوت. ورمت لانث بنفسها على الوسائد و قلبها يخفق بعشوائية ....أوه.....لقد عنى ما قاله.....لهجته التى عبرت عن مدى توقه إليها أشعلت كل كلمة قالها بالنار .
جلست تحتضن نفسها و تتأرجح إلى الوراء و إلى الأمام هذا الإعتراف هو كل ما ستناله من اليكس . ودت لو تذرف الدموع المحتبسة فى داخلها
خرجت من السرير بسرعة و استحمت و ارتدت ملابسها و فكرت بحرقة أنها تفضل مواجهة ذلك القرش مرة أخرى على أن تدخل غرفة الجلوس لتودع اليكس....لكنها مضطرة لأن تفعل و عزاؤها الوحيد أنها ستعود إلى منزلها قريباً.
منتديات ليلاســـ
|