و فى المنزل فتحت النوافذ كلها قبل أن تخرج إلى الشرفة المطلة على البحيرة و تنهار على أحد المقاعد القديمة لتقرأ الصحيفة .
بعد ما يقارب العشر دقائق رمت الصحيفة أرضاً و قد تملكها شعور بأنها معزولة عن العالم.
و لكى تكسر السحر الكئيب الذى أحاط بها سارت فوق العشب الكثيف على طرف الشاطئ المزدحم. كان بعض الأولاد الصغار يمرحون , يصرخون و يضحكون فيما البعض الآخر يسبح فى الماء الأبيض الصافى الذى يغطى الأماكن الضحلة
أغمضت لانث عينيها لكنها عادت و فتحتهما على الفور و تمتمت لنفسها :"لن أقف هنا عاجزة".ثم سارت فوق الرمال البيضاء المبهرة.
تملكها الغثيان قبل أن تصل إلى منتصف الطريق. وأخذت أنفاساً عدة متتالية لتقاوم الذعر الذى جعل العرق يتصبب منها و الرعشة تعتريها و أجبرت نفسها الوقوف هناك لدقائق طويلة باردة قبل أن تستدير و تعود متعثرة من حيث أتت
مر بها شابان سمعت أحدهما يصيح:"هاى...أيتها الشقراء...هل تحتاجين إلى مساعدة؟"
مرت بهما لا تلوى على شئ سوى الوصول إلى مكان آمن. فقال رفيقه شيئاً ثم أتبعه بمسك ذراعها.
عند ذاك أرتفع صوت صارم عبر الشاطئ قائلاً :"أتركها !"
استدار معاً و جمدت لانث و قلبها يخفق بألم بين ضلوعها .
كان أليكس كونسيدين أطول قامة منهما . لكنهما كانا ممتلئ الجسم, مشدودى العضلات و مشيتهما المتعجرفة تتناقض مع رشاقته الرياضية . مع ذلك لعبت قوة شخصية أليكس دورها فنظرة واحدة إلى الرجل الذى أمسك بذراع لانث جعلته يتركها و كأن بشرتها أحرقت أصابعه و قال الآخر متوتراً :"إنها بخير يا رجل....ظننا أنها ستقع"
ثم تراجعا و أكملا سيرهما بسرعة.
لم ينظر أليكس إليهما و هما يبتعدان بل سألها بعد أن أقترب منها خطوتين :"هل أنت بخير؟"
امتدت يداه نحوها و أمسك بكتفيها فوقفت للحظات كالمشلولة تحت نظراته الثاقبة
عرفت لانث أن لونها شاحب و أن هالات سوداء داكنة تحيط بعينيها فابتلعت ريقها بصعوبة لتبلل فمها الجاف و لم تستطع سوى أن تقول بصوت متكسر:"أجــــــل"
ــ ماذا دهاك بحق السماء؟
و انكمشت معدتها فأخذت نفساً عميقاً متقطعاً و قالت بغباء :"أنا آسفة"
حاولت التغلب على الغثيان الذى اعتراها من جراء الخوف فما كان منه إلا أن ساندها بذراعه الفولاذية لتصعد السلم المنخفض و قال:
ــ تعالى.... سندخل إلى المنزل
أطاعته و هى مخدرة الأحاسيس و قطعت الشرفة الخلفية العريضة و التقط كيساً بلاستيكياً فيما كانا يمران بالطاولة الصغيرة
سألته لانث بعد أن دفع الباب و تركها تدخل :"ماذا تفعل هنا؟"
ــ لقد نسيت طعامك المجلد.
و دون انتظار إذنها وضع الكيس فى الثلاجة.
ــ أنت بحاجة إلى منشط سأحضر القهوة .
شدت على فكها كى لا تصطك أسنانها و قالت :"لا أريد شيئاً....أنا بخير الآن....شكراً لك"
تجاهلها و فتح باب البراد ليخرج أبريق عصير برتقال قائلاً :"هذا يكفى"
صب لها كأساً و أتى به إليها ثم قال آمراً:"أجلسى"
أحست أن الاحتجاج سيسبب لها المتاعب فانهارت على المقعد .
و انتظرت حتى ازاحت شعرها الكثيف عن وجهها ثم قدم لها الكأس . قبلته و أخذت تراقبه و هو يرتجف فى يدها و قد تملكها الغضب
قال :"سأساعدك"
استعاد الكأس من يدها و وضعه على فمها لتتمكن من ارتشاف العصير الحلو المذاق.
و سرعان ما أحست بما يكفى من الارتياح لتأخذ منه الكأس و تبتلع المزيد.
انتظر إلى أن كادت تنهى شرابها و سألها :"ماذا حدث ؟ ماذا قالا لك؟"
ــ لم يكونا السبب.
ــ ماذا إذن؟
لم يخدعها صوته الهادئ و أدركت أنها لن تتمكن من صرف النظر عن الموضوع, فاحنت رأسها و ساد الصمت فملأ رأسها و قلبها الارتباك
و أخيراً قالت :"لقد أصبت بدوار و أحسست بغثيان"
و بالرغم من أنه لم يقل شيئاً إلا أنه بدا جلياً أنه لم يصدقها . و أنهت العصير ببطء ثم قالت بصوت عميق :"شكراً لك"
قال آمراً:"أنظرى إلىّ"
أخطأت حين رفعت رأسها و نظرت إلى عينيه مباشرة تتحداه أن يمضى فى الموضوع قدماً و عندها بدت غلطتها أكبر....فقد خرقت نظرته الثاقبة دفاعاتها كلها.
سأل :"هل أصبت بضربة شمس؟"
منتديات ليلاس
كان الرد سهلاً لكنها هزت رأسها نفياً إذ لم تعتد الكذب.
ــ لا.....بل شعرت بقليل .....من الإرباك
وعجزت عن التنفس فى تلك الغرفة الحارة. أحست ببشرتها مشدودة فحاولت أن تجعل نبرة صوتها طبيعية و هى تقول
ــ أعتقد أنه من الأفضل أن أخرج من الغرفة....فالهواء أكثر برودة على الشرفة.
ــ حسن جداً....هل تحتاجين إلى مساعدة؟
حاولت التخفيف من حدة الرد:"لا ! أشعر أننى أفضل حالاً الآن"
لكن ما أن أصبحت فى الخارج , حتى أدركت أنها بحاجة إلى الحركة لتحرق الطاقة التى لازالت تتدفق فى جسدها...فسألت بعدوانية
ــ هل ترغب فى المشى لترى كيف يقضى الآخرون عطلاتهم؟
فرد بنظرة متحمسة :"ولِمَ لا؟"
أشاحت لانث بعينيها و ركزت بقوة على خطواتها بين المتنزهين كى لا تكشف مدى تأثرها برفقة الرجل الذى يسير إلى جانبها و الرمال تنسحق تحت أقدامهما . نظر أليكس حوله و قد برزت التجاعيد الخفيفة عند زاويتى عينيه , كم عمره؟ ثلاثة و ثلاثين عاماً أم أربعة و ثلاثين؟
قال :"يذكرنى هذا المكان هنا بالقرية التى عشت فيها إلى أن بلغت العاشرة من عمرى."
أثار اهتمام لانث لكنها امتنعت عن طرح الأسئلة بسبب لهجته المتحفظة و تقاسيم وجهه الأرستقراطية .
تجاوزا بعض العائلات و مرا بمجموعات من المراهقين المسترسلين فى طقوسهم الصاخبة و أحست لانث بالعيون تراقبهما بعضها مسلط عليها و البعض الأخر على أليكس. كانت قد اعتادت نظرات الناس لكن كيفية تعامل أليكس مع مسترقى النظر أثارت اهتمامها . كان يسير بثبات دون أن يلتفت إلى أحد ليس بسرعة و لا ببطء.
من هو؟ إنها تعرف أسمه...إذن لعلها رأته صدفة. على أى حال ذاكرتها قوية و لو أنها رأت صورته لتذكرت جمال طلعته البهية و عينيه الشاحبتين بدلاً من هذه الألفة الغامضة.
لكن, هل يمكن لأى صورة أن تلتقط جاذبية شخصيته , أو هالة السلطة التى تحيط به؟
على الأرجح لا...و لن تفكر بهذا أكثر , فالخطر يكمن فى نهاية هذا الطريق.
و بالرغم من أنها أعتمرت قبعة قش و هما يغادران الباتش إلا أن حرارة الشمس كانت تلسع كتفيها و تعكس لمعاناً أزرق نادراً على رأس أليكس المكشوف كان يجب أن تنتبه إلى ضرورة حماية رأسه لكن بدا لها أن هذا الأمر شخصى حميم فتجنبت التحدث عنه .
قال أليكس معلقاً :"من الواضح أنك تعرفين هذا المكان جيداً"
هزت رأسها أيجاباً و أبقت عينيها على الشجيرات الشائكة المنخفضة التى تصل ما بين المزروعات و الماء فتشكل حدوداً للشاطئ ....و قالت :
ــ أعتدت أن أقضى العطل المدرسية هنا مع أفضل صديقة لى....والداها يملكان المنزل الذى أقيم فيه حالياً
كانت تعرف كل جزء من هذا الشاطئ فقد اعتادت فى تلك الصيفيات الطويلة البعيدة أن تمضى يومها مع تريسيا قرب البحيرة او داخلها ....الآن أصبحت تريسيا زوجة و أماً بينما تحاول لانث إعادة جمع شمل حياتها.
قالت :"الأفضل أن نعود....فالأرض هنا مستنقعية"
ثم نظرت إلى قدميها و أضافت بشئ من الخبث:"لن ترغب فى أن يبتل هذا الحذاء"
ضحك بنعومة و قال :"لاحظت أننى أرتدى ملابس غير مناسبة"
و هكذا رد لها الصاع صاعين.
عضت على شفتيها و استدارت . و بالطبع اختارت ساقها اللعينة تلك اللحظة بالذات لتخذلها مجدداً فشهقت و تراجعت إلى الخلف لكن بعد فوات الأوان و وقعت بين الشجيرات الشائكة بعد أن ترنحت قليلاً فغاصت قدمها فى البحيرة.
وعلى الفور تملكها الذعر و لشدة رعبها بقيت عاجزة عن الحراك للحظة لكنها عادت و جاهدت لتتحرر من المياه.
وقفت متشنجة ثم اندفعت بسرعة لتتجاوز أليكس . ركضت بائسة و دون وعى على الرمال الساخنة آملة أن تصل إلى بر الأمان
منتديات ليلاس