_______,, ،، دخلت غُرفتي المُظلمة و أشعلتها! زفرت.. و نظرت لحزمة الأوراق التي بيدي.. النوم كان أقوى من أي شيء فقررت العودة للمنزل و النوم و لهذه الفحوصات القدرة على الانتظار للغد لمراجعتها.. أما أنا فلا أستطيع انتظار دقيقة ..
استبدلت ملابسي و غصت تحت الغطاء فوق ذلك السرير .. أغمضت عيناي بارهاق ..ما كدت أفعل ذلك إلا قد فاجئني صوت الهاتف النقال ..
و رفعت رأسي و لألقي نظرة على المتصل ! كانت الممرضة! .. أجبت بنبرة جافة:
قالت :" دكتور محمد آسفة على الازعاج و لكن دكتور فؤاد يبحث عن أوراق الفحوصات التي أجريتها الخاصة ...."
قاطعتها بضيق :" أي أوراق؟ ربما رميتها في القُمامة "
و أقفلت الهاتف بضجر و عدت أسند رأسي على الوسادة ، قبل أن أنتبه لبرهة! لقد قلت أني رميتها في القمامة و هي لدي ها هنا على مكتبي! فؤاد يبحث عن الأوراق؟ لمَ؟ ألم يقول أنه لا داعي للفحوصات!
فكرت قليلاً لكني أغمضت عيناي مستسلماً للنوم!
أقف أمام المرآة أغسل أسناني ببطء قبل أن أسمع نداء أمي :" مُحمد! الغداء! هيا "
حككت شعري و أنا أتنهد بتقاعس.. ثم خرجت من الغرفة ..
انتبهت على تواجد علياء ابنة خالتي المدللة.. كانت تجلس مع أختي ( شروق ) على عتبات الدرج تتنازعان عُلبة مساحيق تجميلية !
علياء هي ابنة خالتي الوحيدة و التي تبلغ الثامنة عشر من عمرها .. سمراء البشرة ذات ضحكة مميزة .. ملامحها عادية و لكن يمكنني القول أنها تحظى ببالغ اهتمام من الجميع لأن خالتي تفرض هذا الشيء ! فمن الذي يتجرأ أن يرفض لعلياء طلباً ؟
و لهذا أنا أتحاشى نصحها أو مخاطبتها بجدية لأنها تنهار بسرعة .. فقررت أن تكون علاقتي معها سطحية ..
هبطت على الدرج و أنا أخاطبهما :" ماذا تفعلان؟ "
رفعت علياء رأسها لي و سرعان دفنت أنظارها و هي تحكم من خمارها على رأسها .. و أجابت شروق :" أنها بغيضة تريد سرقة مكياجي "
نظرت لعلياء الخجولة ثم قلت و كأنني أحادث طفلاً :" عيب يا علياء السرقة حرام "
و غادرت ضاحكاً .. جميل أن أكتشف أني الوحيد في العائلة الذي تحترمه علياء و لا تطلق لسانها السليط ناحيته ! لم أكن أعلم مُسبقاً أني ذا هيبة و حضور..
و حَول طاولة الطعام اجتمعنا .. كُنا أربعة.. أنا و أمي و أختي شروق و علياء .. أبي انفصل عن أمي منذ زمن و هو متزوج و لديه أربعة أبناء.. من زوجته ( نهلة ) .. كلهم أولاد و أكبرهم في عمر علياء ..
أما أختي شروق فهي مقبلة على التخرج من الجامعة ..
فجأة تصادمت أنظاري بأنظار علياء التي ارتبكت و تشتت ثم تركت الملاعق هامسة :" الحَمد لله"
و غادرت .. سألت أمي شروق اذا كانت تشكو من شيء ما فأجابتها بكَلا ..
سَرحت لبرهة ! هل أنا مُخيف لهذه الدَرجة؟ في كل مرة تتصادم أنظارنا أراها تفزع بخوف!
نظرت لأمي و قلتُ :" ألم تعد خالتي من السفر؟"
أجابت :" لا أبداً و كل يوم تتصل للاطمئنان على علياء.. "
و قالت باصرار:" اهتما بها أرجوكما ..و نفذا كل طلباتها لألا تشعر بالنقص.. "
اعتبرت الحديث ليس موجه لي .. فعلياء مُدللة و مثلي لا يعرف أساليب التدليل الحديثة و لا القديمة حتى.. فحتى أختي شروق لم أدللها يوماً ..
شروق اختتمت الحديث بتذمرها :" حسناً أمي سندللها بل و سنضع اللقمة في فمها و سنقص لها قصة ما قبل النوم "
اعتكفت على مراجعة بعض التقارير و الاتصال بالمرضى و اقناع هذا بالعملية و تذكير ذاك بجرعة الدواء ..و فحص نتائج الأشعة.. في ذلك الوقت اتصل بي مسئولي و هو يحثني على الذهاب للمشفى لضرورة تواجدي بسبب حالة طارئة و ليس هناك أطباء متواجدون ..
لملمت حاجياتي و خرجت من غرفتي لخارج المنزل .. فوجئت بعلياء و هي تقف بوجهي !
لم أفهم تصرفها و لما رأيتها مرتبكة مشتتة سألتها اذ كانت تريد أمراً لكنها قالت:" إلى أين تذهب ألم توصيك خالتي بالاهتمام بي؟"
عقدت حاجباي لأمر هذه الفتاة ثم قلت بهدوء:" الاهتمام بك"
و كدت أقول ( و هل أنا حارس و هل أنت طفلة)
و يبدو أنها رأت نظراتها الاستهجان في عيناي فهمت للهروب .. تأملتها و هي تركض على الدرج .. حقاً لا أحب دلال الفتيات!
شققت طريقي عابراً باب الطوارئ و أنا أرتدي معطفي الأبيض الخاص بالمشفى ..صادفتني الممرضات و كل واحدة تتحدث في شيء مغاير عن الموضوع الذي تتحدث فيه الأخرى..
قلت لهن و بقلة صبر :" أنا جئت لحالة صرع لا أريد أن أنشغل بحالات أخرى .. أين المريض؟؟"
في ذلك الحين سمعت نداء ممرضة أخرى :" دكتور محمد .. المريض هنا "
مشيت مسرعاً لغرفة ما و فتحت الستارة لتكشف عن مريض في حالة يُرثى لها و هو ينتفض و تكاد روحه تخرج من جسده.. حثثت الممرضة أن تأتي بصندوق السوائل و الحقن .. و انتقلت ببصري لفتاة طويلة القامة تقف متوترة و يبدو على ملامحها القوة و رباطة الجأش و الصبر ..
أجابت و هي تنظر له باشفاق :" نعم.. رضا أخي الوحيد "
و أضافت بحزن :" و هو من تبقى لي في هذه الدُنيا "
أتت الممرضة فباشرت أنا بحقنه بمادة مهدئة ... فبدأ يهدأ و تسكن حركته و ظلت عيناه تنتقل بيننا بحيرة .. خاطبت الفتاة :" ينبغي أن نجري تخطيطاً لمعرفة نسبة الشحنة الكهربائية .. "
و أشرت للممرضات قائلاً :" انقلوه لقسم التخطيط و الأشعة"
تأملته تلك الفتاة بضيق .. كانت تحمل ملامح مميزة .. بشرة بيضاء و عينين خنجريتين سوداويتين .. خاطبتني بيأس:" لقد فعلت كل ما بيدي فعله له.. و لكن حالته تسوء أكثر فأكثر ..و ليس بيدي أخذه لعيادة خاصة .. مادياً لا أستطيع لأني التي أنفق عليه و راتبي لا يكاد يشبع حاجاتنا الأساسية "
حملقت بها بتفهم ثم قلت لأطمئنها :" لا تقلقي سوف أحاول فعل ما بيدي أن أفعله "
وقفت مذهولاً أمام نتيجة التخطيط! و نظرت للممرضة هامساً :" نسبة التشنج كبيرة جداً لا يمكننا اخفاضها بالأدوية .. نحتاج للعملية "
نظرت لي الممرضة بغير اكتراث :" العملية العميلة .. و هل سينقص منك شيء "
خاطبتها :" المشكلة أن أخته شديدة القلق عليه و بيني و بينك لا أثق بأجهزتنا و بالجراحين الذين لدينا .."
خرجت بالأوراق لتلك الفتاة الملهوفة الذي أسرعت إلي :" ماذا حصل "
لمست قلقها الواضح فقلت بجدية :" نسبة الشحنات الكهربائية كبيرة جداً و على هذا فأنه يحتاج عملية "
توقعت أن تولول و تصيح و تزمجر و تخنقي كما يفعل عامة الناس منذ أن يسمعون مصطلح ( عملية ) لكنها رمقتي بهدوء و هزت رأسها قانعة :
" توقعت ذلك فحالته متأزمة "
خاطبتها :" قبل اجراء العملية يمكننا أن نعرضه على أطباء متخصصون ليحددوا حالته بالضبط"
تنهدت بقلة حيلة و هي تلملم عباءتها :" لو كان بيدي لفعلت ذلك و لكن كما قلت لك دكتور مدخولي المادي ضعيف و لا أستطيع دفع أجرة الطبيب المختص"
تأملتها كثيراً .. كانت تقول ذلك بصبر ..و فكرت أنى لهذه الفتاة الشابة أن تحمل كل هذه الهموم .. فخاطبتها :
" سوف يتم نقل أخاك تحت مسؤولية الدكتور فؤاد و هو طبيب جيد و ماهر "
و غادرت إلى ناحية الممرضات أوصيهن بمراقبة المريض ثم اتجهت لمكتبي ..
كنت أمشي ببطء مُرهقاً و أفكر بالعودة للمنزل لكن استوقفني حديث الممرضات ..
احداهن تقول :" ياه دكتور فؤاد جذاب جداً .. "
لن أنكر أني شعرت بالغيرة ! أعتقد أني أوسم منه بكثير..
سمعت الأخرى تستنكر :" مـــن؟؟ أتعلمين أنه في الثلاثين من عمره؟؟ "
" نعم و لكن يهتم بنفسه و بأناقته "
قالت الثالثة بهدوء :" أتعلمون أنه مسئول عن أختين .. ؟ و أبويه متوفيان؟؟ و يقولون أن أخته الكبرى وداد لم تتزوج إلى الآن و كذلك الصُغرى ياسمين"
" أشعر أنه غامض و يخفي شيئاً لأني عندما طلبت التعرف على أخواته رفض بشدة "
اتجهت نحو مكتبي و أنا أفكر في أمر هذا الفؤاد ، لست أنا الوحيد الذي يشعر بغرابته! و لكن اذ كان مسئولاً عن أختين فلماذا نراه يعمل في المشفى إضافة إلى عمله في العيادة فمتى يستطيع الاهتمام بأختيه و رعاية شؤونهما؟؟
تذكرت وجه أخته الكُبرى .. كيف كان يدل على حزن عميق لا يبدده فرح ..! تذكرت كيف شدها من خمارها بعنف .. يا ترى أهناك شخص يعامل أخته الكبرى بهذا الشكل؟
فؤاد مثال للشخص الناجح و العبقري و اللبق !
و أيضاً شخص يحظى باهتمام الممرضات و المريضات و الطبيبات اللواتي يتعاملن معه ..
لكــ،ن ؟ ماذا يخفي هذا الشخص المثالي من نواقص؟ !