جُلت بالسيارة حول المنطقة التي تحيط بمنزل فؤاد .. و أنا أعاود النظر للعداد .. فأرى أن مؤشره لازال ساكناً ..فكرت لبرهة أنه لن يتخذ مختبراً في هذه المنطقة! مؤكد أنه مكان بعيد قليلاً ..
كنت أحتاج مزيد من الصبر و التحمل لأجول المدينة بأسرها ..
هُنا رن هاتفي الخلوي .. و كانت حسناء!!
ألم ينتهي كل شيء؟؟؟ ألم يتعافى رضا ؟؟ تذكرت أيامي الجنونية التي أحببتها فيها و لكن ذلك الحُب خمد فجأة كرادع ضميري كوني متزوج..
جاءني صوتها الرقراق بنبرة لينة :" مرحباً دكتور كيف حالك ؟؟"
قلت بمرح :" أنا بخير يا حسناء ؟ لمَ كل هذه القطيعة؟؟ "
" لا أبداً .. يفترض أنك من تسأل عن رضا أليس كذلك؟"
" بخير .. آآ .. رأيت سيارتك تمر بجانب مركز التسوق .. و... أحببت التسليم عليك "
تلفتت حولي قائلاً :" أنت بجانب مركز التسوق؟؟"
حركت المقود و انعطفت عائداً لتلك المنطقة ..
لمحت تلك الفتاة الطويلة القامة بالعباءة و الحجاب الأسودين و الوجه البيضاوي بالبشرة البيضاء النقية ..العينين الخنجريتين ذاتهما تحملان ثقل الرموش الكثيفة ..
بديهي أن أعود للمقارنة الصعبة...بين حسناء الحسناء و علياء المعلولة ..
أوقفت السيارة بجوارها فهمت بالصعود و بادرتني ابتسامة سرعان ما تحولت لشهقة :
رمقتها و أشرت لجبيني :" هذا؟؟ "
و ضحكت بمرح :" لا شيء على الاطلاق .. مجرد جُرح بسيط "
اقتربت :" أرني.. ياه .. "
و وضعت يدها على صدرها هامسة :" أخفتني عليك "
علامات تعجب كثيرة تتراقص فوق رأسي الذي لم يستوعب المعاملة الحسنة هذه .. هل من الممكن أن يتغير المرء إلى النقيض تماماً ؟؟
التفتتُ لها .. فقالت بنبرة هادئة نسبياً :" هل يمكنني قول اسمك هكذا خالياً من أي لقب؟؟"
مضيت بالسيارة و أنا أخاطبها :" بالطبع .. "
أخرجت من الكيس الذي تحمله قطعتي شوكولاتة و أعطتني واحدة و هي تقول :" تفضل "
تناولتها و قلت :" لك أن تعرفين كم أحب الحلويات رغم أنها مضرة "
ضحكت و هي تلعب بقطعة الشوكلاتة :" من المفترض أن تنسى قوانين الطب المملة "
و نظرت إلي قائلة :" مُحمد ! لا أخفي عليك.. تفاجئت بخبر زواجك و تصورت أن مثلك لا يمكن أن يتزوج .. قل لي هل ستشغلك زوجتك عن مساعدة الناس ؟؟"
رمقتها لبرهة ثم عدت أنظر للطريق :" علياء؟ "
ثم رفعت كتفاي بمعنى لا أدري ..
فقالت بارتباك :" هل هناك سر وراء زواجك منها؟؟"
عدت أنظر لها و شعرت بالحرارة .. فقالت موضحة :" أعني .. أعني ! ما الذي يجعل طبيب مثلك يتزوج بـ..."
قاطعتها :" رُبما لأني طبيب يسعى وراء مصالحي و أريد استغلال مرضاي "
رمقتني بصدمة ثم تشتت و هي تشيح بوجهها .. و كنت أقود السيارة بهدوء ناحية أحد المطاعم و لكن الازدحام كان عارضاً أمامي..
نظرت لها حيث تنكس رأسها و تعبث بعباءتها و أكملت :" رُبما كُنت فظة و أظن فيك ظن السوء "
و رمقتني طويلاً ثم همست :" رُبما من الجراءة أن أقول ذلك .. و لكني اكتشفت أني خسرتك "
أدرت رأسي ناحيتها و أنا متسمر لفترة .. ثم همست :" أنا أيضاً خسرتكِ .."
و نظرت للطريق هامساً :" لقد طلبت الزواج منك فلمَ رفضتِ ؟ ما كان السبب؟؟ لقد أعلنت صدق مشاعري و حسن نياتي فلمَ رفضتِ؟"
وضعت هي كفها على صدرها ثم همست بصوت متحشرج :" .. أ.. آ .. لا أعلم .."
ساد الصمت فترة من الزمن .. حتى قالت هي :" رُبما لأني أكره من يقترب مني لأي غرض كان .."
نظرت لها و قلت :" لكنك كنت تعلمين أن غرضي سليم "
ثم اندفعت بكلمات كالحمم " يجب أن تقدر أنني أعيش وَحدي مع أخ مريض ضعيف الشخصية عجز عن الدفاع عني مرات و مرات و أنا من كنت أدافع عن شرفي و سمعتي و عرضي وحدي ! وحدي واجهت الأعين الطامعة "
نظرت لها فغضت بصرها هامسة :" حياتي مجرد دوامة من الصراعات مع وحوش آتية لالتهامي و علي الدفاع عن نفسي بنفسي "
و نظرت لي :" و تعودت أن أرفض كل شخص يتقدم لخطبتي ! لألا أقع في الخديعة "
رمقتها ثم قلت بجدية :" أنتِ تصنعين هذا الجو المرعب بالنسبة لكِ و أنت من صنع هذه العُقدة !"
صاحت بانفعال :" لو كنت فتاةً مثلي وحيدة لعرفت معنى حديثي "
تأملتها طويلاً فهمست :" كل تصرفاتي كانت نتاج معاملة المصلحة الدنيئة التي يعاملني إياها الرجال ! فكيف بي أن أتصور أنك مختلف عن جميع الرجال؟؟"
رمقتها مُطولاً ثم نظرت للطريق هامساً :" و ماذا تغير؟؟"
تنفست هي ثم همست :" الذي تغير أنني اقتنعت أنك شخص شريف و لكن بعد فوات الأوان "
و نظرت لي بتهكم و هي تهز رأسها :" هه! بعد أن تزوجت أنت تلك الفتاة ! "
همست :" نعم لأنها قبلت بي دون حركات الغرور تلك"
انتفضت هي ثم قالت بابتسامة :" يمكنني القول أني أعرف أنك تزوجت بها كردة فعل لرفضي لك أليس كذلك؟"
كانت واثقة و محقة في ثقتها بنفسها فقلت :" رُبما "
و نظرت لها :" لكني مرتاح نسبياً معها .."
تبادلنا أنظاراً عميقة ثم فوجئنا بطنين جهاز العداد و مؤشره يستيقظ من سباته ثم يرتفع بقوة .. فتحت عيناي بصدمة و تلفتت حولي لأرى أرض بها مجموعة مباني متفرقة ..
همست حسناء :" ما هذا الجهاز؟"
كنت أتصبب عرقاً و أنا أنظر للجهاز لاهثاً .. و أعود أنظر للمباني المتفرقة !
من الصعب جداً التصديق أني هُنا بالقرب من غابة فؤاد .. من الصعب التصديق أني هُنا أستطيع تحديد مكان جحيم فؤاد .. الحقيقة تتجلى أمامي .. كأني أشعر أني سأكشف عن سر رهيب يخفيه ذلك البحاثة ..