______________،، خرجت صاعداً سيارتي منطلقاً للبنك .. لأستلم راتبي أخيراً ! صُعقت!! و أنا أفرد أوراق النقود في يدي ... رُبعه مخصوم؟؟
تذكرت حديث فؤاد و تهديده بأن يخصم من راتبي ..! و لم أتوقع أن المسئول سيطيعه في شيء كهذا؟؟ فأنا جاد في عملي و متفاني و كلما يراني المسئول يثني علي و يمدحني و يعدني بمكافأة !!!
و لكن! كيف خُصم راتبي! يا لهذا الشعور السيئ! تباً!!! سكتت على موضوع نقلي لمكتب مشترك فهل سأسكت على خصم راتبي؟؟
كززت على أسناني و رحت أبعثر شعري بيداي بقهر ...فأنا فِعلاً بحاجة لهذه النقود المخصومة خصوصاً بعد صرفي لمبلغ كبير في الشهر الفائت على الأدوية ...
وضعت النقود في محفظتي و أنا أهمس :
" فؤاد هذا يريد أن يثير جنوني ! "
عُدت للمنزل لتصادفني شروق و هي ترتدي عباءتها :" جئت في وقتك "
و هَمست :" سنخرج مع علياء للتخفيف عنها "
عقدت حاجباي :" أنها مَريضة كيف ستخرج "
انتفضت بحنق :" و هل ستصبح مثل خالتي؟؟ بالكاد أقنعنا خالتي بالموضوع! "
و قالت و هي تضع كفيها على خصريها :" أتعلم أنها لا تريد الذهاب لمنزل خالتي! هه! تفضل البقاء معنا و بدورنا نحن الترويح عنها "
و اقتربت بوجهها نحوي بنظرات حادة :" أليس ذلك صحيحاً دكتور محمد؟"
هززت رأسي ثم قلت ملوحاً بكفي :" سآخذ قيلولتي من ثم ....."
زجرت بي شروق :" أي قيلولة؟؟ "
و وضعت يديها على عنقها كأنها تريد خنق نفسها .. ضحكت على حركاتها ثم ضربت جبينها باصبعي :
" شروق كفى تهريجاً .. أمري لله ! طلباتكم كلها مطاعة يا جيل التدلل "
و اتجهت للسيارة قائلاً :" هيا اجلبي ابنة خالتكِ .. لنذهب لمطعم قريب.. "
الفِكرة راقت لي حقاً .. سأشبع عصافير بطني ! و سأغير جو الكآبة الذي يسيطر على علياء و بالمرة نسكت شروق الثرثارة!
يمكنني القول أنها لم تكن نزهة طبيعية .. كانت علياء تنكس رأسها إثر نظرات الجميع .. فتاة مشوهة و مقعدة بساق مبتورة!! أمر نادر أليس كذلك؟؟
ما إن طلبنا ما نريده حتى انفجرت علياء بالبكاء :" أعيدوني للمنزل "
هتفت بها شروق :" ما بكِ ؟ لم يجلبوا الطعام "
خاطبتها بلطف :" علياء ؟ أنغير الطاولة؟؟ يمكننا استخدام غرفة كي لا يرانا أحد ، و كي لا يروني و أنا آكل كثيراً "
قلت العبارة الأخيرة بفكاهة لاضاحكها لكنها ضربت الطاولة بحنق :" قلت أعيدوني للمنزل"
قالت شروق بنبرة عنيفة :" أنا جائعة ! و للتو دفعنا النقود و الآن سيأتون بالطعام .. و بعدها سندعك في السيارة و نحن سنأكل هنا "
خاطبتها :" شروق ما بك؟؟ اسكتي "
و نظرت لعلياء التي ازدادت في بكائها :" أتريدين العودة للمنزل؟؟"
هزّت رأسها و هي تجهش بالبكاء ..
نهضت و اتجهت لمقعد علياء و جررته .. فخاطبتني شروق :" و الطعام؟"
" لا بأس ، أخبريهم بأن يغلفوه لنا لنخرج به... و ابقي أنتِ هنا ريثما يجهز "
زفرت شروق .. فدفعت أنا بعلياء إلى خارج المطعم .. كانت تغطي وجهها بخمارها.. أوجعني حالها حقاً !
فتحت باب المقعد الأمامي للسيارة .. فرمت بجسدها من مقعدها إلى الداخل .. أقفلت الباب و طويت المقعد المتحرك لأضعه بداخل صندوق السيارة.. ثم صعدت المقعد الخاص بي .. و بادرتها بابتسامة :
نظرت لي و أزاحت عن وجهها الخمار :" كثيراً "
قلت لتغيير الموضوع :" أظنك تمرين حالياً بفترة امتحانات أليس كذلك"
نظرت لي بنظرة باهتة :" و هل سأقدم امتحاناً واحدة بحالتي هذه؟؟ سأنسى شيئاً أسمه دراسة "
نظرت لها و ملامح الصدمة صارخة على وجهي !!!
ثم ارتخت ملامحي برقة و أنا أرى وجهها يتقلص و تبدأ تنتحب هامسة :" انتهى كُل شيء"
و انتهت هذه النزهة المشئومة!!
لا أريد شرح المأساة التي حدثت في المنزل .. من تأنيب و تلويم و بكاء ......... إلى آخره من الهموم و لكي لا أشرككم في هذا دعونا ننتقل لأحداث اليوم التالي ..
دخلت المشفى و أنا مشتعل ! أريد أن أسحق أي شخص ألاقيه كي أفرغ هذا الغضب الذي يتأجج بداخلي .. خصم الراتب بالنسبة لي أمر ليس مقبول ..أبداً أبداً ..
أولاً .. لدي مسؤوليات شتى أحتاج لكل فلس في راتبي .. و ربع الراتب مبلغ ليس مستهان به .. إذ أنني أحتاجه لدفع رسوم الجامعة لشروق .. و لو طلبت من أبي لن يرفض ، بالعكس .. لكن الحقيقة المُشكلة في أمي التي لا تقبل صرف أبي على المنزل .. و لذلك أنا الموكل بهذه المُهمة ..
ثانياً .. يمكنكم القول أني مهووس بفكرة الطبيب المتميز فكيف أقبل بعد ترقية فؤاد أن تتم معاقبتي .. معادلة صعبة!! جداً جداً بالنسبة لي ..
أول شيء فعلته اتجهت للمسئول ..
شرحت له كل شيء و سألته عن السبب الجوهري لخصم راتبي .. فقال بلا اكتراث :
" الدكتور فؤاد لاحظ عليك بعض التقصير و لا يمكنني معارضته إذ كان ذلك رأيه "
كززت على أسناني بغيظ و كَردة فعل رحت أحوم كالمجنون في المشفى أعمل و أعمل هنا و هناك لأغطي المسؤولية التي أنا موكل بها .. و لكي أثبت أني لا أستحق هذه العقوبة... حتى عاودني الشد العضلي بشدة ..
أمسك بي عادل ليقودني لمكتبي .. جلست على المقعد ألهث ..
فقال عادل و هو يشمر عن ذراعيه :" أنت لست طبيعي! أنت مجنون لتستخدم الدرج بدل المصعد .. تصعد من الطابق السُفلي للطابق الخامس؟؟؟ ماذا جرى لعقلك "
زفرت و هو أرفع بنطالي عن ساقي :" هيا أسرع و مسدها .. "
صاحت نوارة و هي تشير لي :" أنظر لوجهه المحمر .. لا أصدق هل هناك شخص يملك كل هذا النشاط"
انحنى عادل و هو يضع المرهم في كفه ثم قال :" الغريب أن محمد لا يستقر لخمس دقائق .. و مع هذا فأنه لا يزال بدينا "
قلت :" إذ كنت أنا بديناً ماذا تكون أنت "
قال بتهديد :" هاه ! الآن مصيرك الطبي في يدي أنا .. فإذ لم أمسد ساقك سينتشر خبرك في المشفى كله و ستشيع عنك اشاعات و اشاعات .. و ربما يتم فصلك بسببك حالتك المَرضية"
ضحكت نوارة .. و بدأ عادل عمله ..
حينها فُتح الباب بقوة ... فاتحاً معه أبواب لرياح عاتية سببت شد عضلي لكامل جسدي ..
أتعلمون أي وجهٍ رأيت في تِلك اللحظة؟؟
كانت تقف تلهث بخمار مهمل و وجهها يحمل ملامح استغاثة ..
كانت تنظر إلي .. ركضت مسرعة ناحيتي و سحبت يدي بلا تردد!
كيف؟ لم يعد بمقدوري الربط بين الأحداث و لكنكم أقدر على ذلك أليس كذلك ؟؟
ألا تذكرون؟؟ من التي طردتني من منزلها؟؟ من؟؟ مَن؟؟
سَحبت يدي إلى حيث شاءت فخاطبتها و أنا أعرج :" إلى أين؟ "
صرخت و الدموع تتقافز من مقلتيها :" أخي .. أخي "
و صرخت بصوت أعلى :" أسرع .. أسرع "
مضيت معها بكل ما لدي من قوة لغرف الطوارئ .. و رحت ألاحظ رضا الذي يتوجع ببطنه .. صحت بها :
صَرخت :" لا أدري ! أنها أدوية اشتراها هو .. لكن "
نظرت له حيث كان يتقيأ و هو على السرير .. يتقيأ دماً .. صرخت هي بفزع .. بينما كنت أحث الممرضة أن تنقله لغرفة المنظار في قسم الباطنية .. كان بإمكاني تسليم هذا العمل لطبيب يعمل في هذا المجال لكني ,,
مضيت خلف سرير رضا و الممرضة و أنا أعرج فيأتيني صراخ حسناء و هي متشبثة بي :" ماذا سيحدث له ؟؟ أشعر أنه سيموت ! "
نظرت لها و خاطبتها لهدف طمأنتها :" سوف نأخذ كشف المنظار الآن .. لا تقلقي ... "
و كدت أمشي إلا أنها عادت تقبض على ردائي الطبي و تنظر لي بعينين ملؤهما الدموع :" دكتور ! أرجوك.. أنه أخي الوحيد .."
و رصت على شفتيها هامسة :" بل لم أناديك أنت إلا لمعرفتي أنك أخلص شخص يمكنني الاعتماد عليه! "
نظرت لها مُطولاً .. أخلص شخص؟؟ إذاً لماذا رفضت خطبتي لها؟؟
رؤيتي لها و هي متمسكة بي يجعلني أشك أنها حسناء السابقة ..
همست لها و أنا أتأمل عينيها الحمرواتين :" لا تقلقي .. أبداً .. سأفعل كل شيء أستطيع فعله .."
و ابتسمت لها بلطف .. فهدأت و هي تتأملني .. ثم انطلقت لغرفة المنظار ..
أُجريت الفحوصات المطلوبة و تبين أن هناك تمزق شديد في جدار المعدة ... .. و هناك تقطع واضح في بعض الشرايين و الأوردة ..
استدرت لأرى عيني حسناء الملهوفتين .. سرعان ما صرخت :" لا تلمني على شيء ! نعم أنه ذنبي لأني رفضت الأدوية.. لأني حمقاء !!! "
تأملتها مُطولاً ثم وَصيت الممرضات بعمل اللازم لرِضا .. ثم اتجهت لمكتبي .. لَحقت هي بي و أمسكت يدي هامسة :" دكتور "
وقفت لبرهة قبل أن أدير رأسي لها فهمست هي :" أنا أعلم أني وقحة! و أنك نبيل ! و أنك جئتنا لا تريد شيئاً منا و نحن جئناك نريد أشياء ..و أعلم أنك قدمت لنا النعمة على طبق من ذهب و نحن من رفس النعمة و فضلنا طبق التراب .."
و ضجت عيناها بالدموع و هي تنظر لي تنتظر شيئاً! ما هو ! ما هو!؟ لا أعلم ؟؟ العِلاج؟؟ و سوف أقدمه ؟؟ ماذا يُنتظر من الطبيب غير العِلاج؟؟
اقتربت قليلاً و همست :" و قدمت لي الجنة .. و فضّلت النار "
أنى لشخص أن لا يفهم؟ و لكني لا أريد أن أفهم !
نظرت لها لبرهة ثم خفضت نظراتي هامساً :" رِضا مريض من مرضاي و سوف أقدم له العلاج حتى لو كلف ذلك مني الكثير ... أني أعدك بهذا "
نظرت لي بلهفة .. و ابتسمت بامتنان .. فبادلتها الابتسامة و رحت أمشي و أنا أعرج .. فركضت هي نحوي و همست بقلق :" أنت بخير دكتور "
ابتسمت لها :" الطبيب لا يفكر بنفسه إلا عندما يفكر بكل مرضاه "
رمقتني مُطولاً ثم همست :" أشكرك كثيراً "
مَرت الأيام .... و عَلياء ابنة خالتي العزيزة تزداد حالتها النفسية سوءاً .. و في كل مرة تناديني أمي للتناقش في موضوع ربما يسعدها !
لم تقدم هي الامتحانات و انقضت السنة الدراسية و هي تقول أنها لن تعود للدراسة مُجدداً ..
ذات يوم اجتمعت خالتي و أمي تتحدثان بصوت خافت ثم نادتني أمي .. يبدو أنهما اتفقتا على أمرٍ تريدان رأيي ..
رمقتني خالتي بابتسامة و قالت أمي :
" بُني .... ألا تريد الزواج"
تهلل وجهي .. و أخيراً انتبهت أمي لي ..
ضحكت خالتي.. و قالت أمي بهمس :" ما رأيك بأن ترضي ربك و أمك و خالتك و تتزوج علياء؟؟"
" ما رأيك بأن ترضي ربك و أمك و خالتك و تتزوج علياء؟؟"
هذه العبارة صارت ترن في رأسي حتى كادت تصدعه !
رميت بجسدي على السرير و صرت أضرب رأسي بالوسادة لكي أسكت ضجيج أفكاري ...
كيف تقترح أمي اقتراحاً غبياً كهذا؟؟ !
علياء أختي الصغيرة ! المدللة كيف أتزوجها؟؟
كل رجل .. و بلا استثناء ..
يتخيل عروساً براقة! مُشعة! ...تتحرك حوله كحورية من الجنة و تبادره وجهاً حسناً ..
تلك أقل الشروط التي يضعها أي رجل؟؟ أليس كذلك ؟؟
ورَجل مثلي ! فأني قنوع لأبعد دَرجة ! و لكني أطمح بالأفضل ..