أمام مكتبي ظللت أفتش في التقارير الموجودة لدي ..استوقفتني تقارير خاصة بوداد !! أخت فؤاد ؟؟ كَيف نسيت أمرها و أمر تقاريرها الموجودة لدي؟
ظللت أقرأ التقارير ثم استخرجت نتيجة الأشعة .. دققت نظري بها مُطولاً عاقداً حاجباي ؟! ما هذا؟؟؟؟
كان واضح وجود أجسام لا أدري ماهيتها في الجزء السفلي من المُخ .. استخرجت التقارير مسرعاً و قرأت ما كان مكتوباً .. يبدو أن الأشعة التقطتها كأجسام معدنية صناعية ؟؟
هذا لا يدل على مرض أو خلل طبيعي في المخ.. واضح جداً أن هناك شخص دس هذه الأجسام في رأسها و واضح أكثر أنه فؤاد..
ارتعدت لهذه الفكرة و رأيت نفسي كالمجنون أقرأ التقارير بعمق لأتأكد من هذا الاستنتاج .. لماذا يدس أشياء كهذه بمخها ؟؟ و كيف تجرأ على فتح رأسها و هو ليس جراحاً !!
تذكرت أخته بوجهها الكئيب و هي تبكي.. و كززت على أسناني حانقاً !
هُنا دخل زميلي ( عادل ) و هو يحمل كيس .. فيراني أضع رأسي أمام نتيجة الأشعة أتأمل تلك الأجسام ..أطلق ضحكة و قال :
" بربك... تعذب نفسك يا محمد! لو كنت مكانك لرميت كل هذه الأوراق في القمامة و فكرت في شيء أفضل "
بينما كان يثرثر كنت ألملم الأوراق بارتباك و أضعها في الملف كي لا يلمح شيئاً ...
قلت له :" يبدو أن لا شيء لديك لتفعله .. ما رأيك أن تتفقد مرضاي؟ "
صاح بي بذهول :" أجننت محمد .. الآن وقت الراحة ! فلتنسى أنك طبيب لساعة فقط "
ابتسمت له قائلاً :" ماذا لديك في الكيس ؟ "
اقترب و وضعه فوق المكتب قائلاً :" فطور خفيف "
قمت معه باخراج العلب و وضعها فوق المكتب إلى أن فتح الباب و وقف ( فؤاد ) بطوله المهيب و شعره الطويل .. شعرت بتشنج و أنا أنظر إليه فأتذكر أخته و نتائج الفحوصات ..
تقدم و هو يرمقنا لبرهة ثم يقول :" محمد ؟؟ "
رفعت رأسي و له فخاطبه عادل :" تفضل تناول الفطور معنا فؤاد "
تقدم فؤاد و هو ينظر للطعام ثم قال بجدية :" أظن أن هناك كيفتيريا لتناول الطعام .. و ليس المكتب مكاناً لهذا "
اشتعل عادل بغضبه ... فاتكئ فؤاد على الطاولة يخاطبني :" محمد .. جئت أكلمك بموضوع المريض رِضا "
نظرت له حيث قال بحدة :" كيف تفعل هذا؟؟؟ كيف تسحب ملفه ! ماذا تنوي؟ تحويله لمشفى آخر أو عيادة أخرى أليس كذلك ؟"
ثم هتف بحدة :" كان يجب أن تستشيرني "
خاطبته بهدوء :" كان ذلك مراعاة لحَالة المريض .. رأيت أن المشفى هنا لن يقدم له العلاج اللازم "
صرخ ضارباً على الطاولة :" من أنت لتحدد هذا؟؟ بما أنك حولت المريض تحت مسؤوليتي يفترض أن تستشيرني .. "
رمقته لبرهة فهمس بحنق :" أين الملف الخاص بالمريض؟"
رجعت بكرسيي الدوار لأفتح الدرج ثم أخرجت الملف قائلاً :" هُنا لدي.. لكني لن أعطيك إياه"
فتح عينيه بشكل مرعب و زمجر :" أعد ما قلته دكتور محمد .. قد نسيت من تكون أنت و من أكون أنا "
خاطبته بصرامة :" أنا من نقل المريض إلى مسؤوليتك و من حقي أن أغير رأيي بعدما فكرت أن المريض لن يحظى بالعلاج اللازم"
صرخ :" ماذا تقصد؟؟ هل تشك بقدرتي على احتواء هذه الحالة ؟ .."
و دفع بعلب الطعام مزمجراً :" هذه المرة سأتغاضى عن ما فعلته ! و لكن إياك و التصرف كما تشاء من دون العودة إلي يا دكتور محمد"
تنهد عادل مستاءاً :" أي شخص هو؟ يريد الالمام بكل كبيرة و صغيرة ..فقط ليحصل على الترقية"
زفرت ثم نظرت لملف التقارير الذي يحوي تقارير وداد! .. لا أنكر أنه عبقري و ذكي ! مؤكد أنه يجري تجارب غريبة للتأكد من أمر ما .. ما هو ؟ لا أعلم! ..
و لكن مسألة ادخال أجسام كهذه في مخ أخته سوف يعرضها لأخطار كثيرة ..
تناولت الفطيرة ببطء و أنا أفكر في وداد و أتذكر وجهها الشاحب .. يَجب أن ألاقيها!
______،, فتحت السِتارة لأرى رضا و أخته بجانبه تطعمه ببالغ حنان و لطف .. نظرت لي و كذلك فعل رضا ... اقتربت و أنا أربت على كتف رضا ..
هزّ رأسه بابتسامة .. فخاطبت حسناء :" أجريت اتصالاً لصديقي ، يفترض أن ننقله للعيادة في الحال كي
يقوم بعض الفحوصات اللازمة "
رمقتني و هزت رأسها :" كما تشاء دكتور "
وضعنا رضا على كُرسي متحرك و نقلته لسيارتي بينما كانت حسناء تتبعنا و هي حَرجة و قلقة ..
ظننتها خائفة على أخيها ..و لذا فور ركوبنا السيارة حاولت تخفيف وطئ هذا الخوف لذا استدرت لها حيث كانت تجلس في الخلف و قلت :
" لا داعي للقلق الطبيب الذي سنذهب إليه ماهر "
و منحتها ابتسامة مُطمئنة ....
لكن رغم ذلك تحولت ملامحها القلقة إلى ضيق و انزعاج ..
لم يكن صعباً علي أن أفهم أنني بالغت في التدخل في أمرها و أمر أخيها الذي كان غيوراً جداً عليها لكنه التزم الصمت ..
شعرت بانقباض و أنا أرى حسناء تعقد ذراعيها أمام صدرها ثم تنظر عبر النافذة بنفور ..ربما أخطأت في أمر أو أنني تغزلت بها من دون قصد .. !!!
لكن و يشهد الله أني كنت أصون لساني و أحافظ على عدم الليونة في الحديث كثيراً ..
مضيت بالسيارة و في كل مرة أحاول فتح موضوع مع رضا لكنه يصدني بنظرات باردة.. فما بالكم بحسناء؟!
فور وصولنا دخلنا لنرى عيادة صديقي الواسعة الفخمة بممرضيها الكُثر و كذلك الأطباء ..رحب بي صديقي بترحاب فيه من المعزة الكثير فقدمت له رضا و حسناء و شرحت له الأوضاع و أعطيته نتائج التخطيط ..
طبعاً باشر بالفحوصات الأولية .. و كنت أنا و حسناء نجلس على مقاعد الانتظار .. رمقتها مبتسماً :
جفلت من ردها .. وقد اختفت ابتسامتي..
علمت بعد ذلك أن الطبيب لن يتسرع باجراء العملية لأن شحنة الكهرباء يمكن السيطرة عليها بالأجهزة .. و هذا على ما أعتقد طمئن حسناء ..
اتجهت لها مبتسماً :" هذا يعني أن يحضر رضا بعض الجلسات ليقوم الطبيب بمعالجته بالأجهزة! سوف أحاول جاهداً أن أحضر معكما "
رمقتني باستنكار ثم قالت :" و لمَ تحضر أنت ؟؟ "
لا أدري سبب دهشتها و صدمتها و لكني شعرت مجدداً أني أدس أنفي فيما لا يعنيني.. و فكرت! ألم ينتهي دوري إلى هذا الحد؟؟
حاولت أن أبتسم مرتبكاً :" ان كانت رغبتكِ عكس ذلك فليكن ما تريدينه آنسة حسناء .. "
رمقتني بنظرة استهجان ثم قالت :" أظنك يا دكتور فعلت ما لم يفعله أقرب الناس فهل تريد مقابلاً؟؟ "
ارتعدت من هذا السؤال و تصبب عرقي .. فنظرت لي بحدة ..
صرخت بشكل مفاجئ لفت أنظار الجميع :" و كل هذا و لا تريد شيئاً؟؟ اسمع يا دكتور محمد .. ان كنت تريد شيئاً قل ..من دون أن تحاصرنا بكرمك و سخائك و نبل أخلاقك .. لتجبرنا على الخضوع لك "
تشتتُ و أنا أرمق صديقي الطبيب يرمقني مستغرباً .. و رضا يتأمل أخته ثم ينكس رأسه .. عدت أنظر لوجهها الملتهب .. سُرعان ما احمر لتنفجر ببكاء مفاجئ..
اقتربت قليلاً محاولاً التبرير :" آنسة لا أعرف ما الذي تظنينه و لكنني لم أفعل هذا إلا لمساعدة رضا دون الطمع بشيء آخر صدقيني "
و قلت مؤكداً :" و ليس من طبعي استغلال الناس لصالحي "
ثم صمتت لبرهة و أنا أتأملها .... همست :" و لكني عرفت أنكما من أطيب من الناس و لو فكرت بـ ...."
و تسمرت مستصعباً استخراج الحروف و أنا أتأملها ترفع رأسها ثم تهمس :" فكرت بماذا؟"
كنت أريد أن أقول أني أريد خطبتكِ ! لا تنفجروا ! نعم كنت أريد خطبتها و هذه الفكرة تفاقمت أكثر فأكثر و كبرت لتنفجر فجأة بوجهي حينما رأيت نظراتها تحاصرني ..
واضح أنها سترفض ! و لكي أوفر بعض كرامتي يجب أن ألا أصرح بهذا ..
رمقتني بنظرة فيها من الاستغراب الكثير و كأنها استشفت مكنوناتي .. و أنا ألهث و أمسح عرق جبيني مرتبكاً ..
صرخت :" إذ كانت أفكارك قادتك لاستغلال فتاة وحيدة ضعيفة لها أخ مريض .. فاذهب إلى الجحيم أنت و أمثالك و لا نريد شفقتك المزيفة"
خرجت من العيادة و رأسي يدور .. التفتتُ للخلف لأرى صديقي يركض ليخاطبني :" مُحمد إلى أين و ماذا تقول هذه المخبولة! ماذا جرى؟"
خاطبته :" اعتنِ بالمريض رضا و سوف أرسل لك تكلفة العلاج فيما بعد "
هتف مستنكراً :" لا نقود بيننا محمد و لكن ما أود معرفته.. ما معنى حديث أخته؟؟ "
و قال بشك :" محمد هل فعلت شيئاً ؟؟"
فتحت عيناي بصدمة ثم قلت :" أهذا ما فهمته أنت أيضاً ؟؟ كنت أريد مساعدتها و لكنها فهمتني بشكل خاطئ .. "
و تنهدت :" لأني دائماً أتدخل فيما لا يعنيني "
سألت وطال بي السؤال حبيبتي
وبعثت كل أفنان الوعود تذللي
أن تشعر أن وجهك يحترق من فرط احراجك .. تشعر بحجمك يتضاءل و يتضاءل!
تشك في نواياك و تشعر أنك لا تفهم نفسك بينما الناس تفهمك !
لأنها كانت جذابة و قوية و صابرة ..
لأنها كانت تحمل نظرة مميزة و لا تتبع اسلوب استعطاف الأطباء!
و .. لأنها كانت جميلة.. و أنى لشخصٍ ألا يجذبه الجمال الطاهر ..المغلف بالعباءة و الحجاب ..
لكنها ظنت.. ظنت شيئاً آخر ..
نظرت لنفسي من خلال مرآة الباب الرئيسي للمنزل .. هل أبدو مجرماً منحرفاً ؟
نسقت نظارتي الطبية فوق عيناي .. لست كذلك و هذا مؤكد .. و لكن يبدو أنها حريصة و متأهبة لصد أي هجوم محتمل .. كونها وحيدة !
هممت بفتح الباب لكنه فُتح من الطرف الآخر و ظهرت علياء و هي تضحك .. ترتدي بنطال ضيق و قميص على نفس الشاكلة .. و خمار مُهمل !
و تظهر من خلفها شروق ..و هي ترتدي عباءتها..
نظرتا إلي لبرهة.. فسألتهما :" إلى أين "
خاطبتني علياء بمرح :" مُحمد أأطلب طلباً "
عقدت حاجباي .. :" ألا و هو ؟ "
ابتسمت بحرج :" أريدك أن تُدربني على السياقة! "
و قالت بارتباك بعد أن رأت الجمود على وجهي :" منذ أن أخذت شهادة السياقة لم تتح لي الفرصة للقيادة .."
تأملتها عاقداً حاجباي .. و
دخلت إلى المنزل بغير اكتراث خصوصاً عندما تذكرت حديثها عن الحُب.. التفتتُ لشروق و قلت :
" لا ينبغي أن تخرجي بغير داعي .."
و نقلت بصري لعلياء التي ترمقني بنظرة لاهبة ..
علمت فيما بعد أنها بكت عند أمي و شكتني إليها .. و أمي خير مُدلل لها .. فقد أتت لي و أنبتني كَثيراً بقولها:" كُنت أطمئن عليها بوجودك لم أكن أعرف أنك تجرحها و تهينها "
قلت بانفعال و أنا على سريري :" أمي ما بكِ لم أهينها! من قال هذا ؟؟؟ "
و أضفت :" فقط أنا جئت من العمل متعب و لست قادر على فعل شيء "
اقتربت مني بحزم :" انهض و اخبرها بهذا و اعتذر لها عما بدر منك "
قبضت بأصابعي على شعري بقلة صبر :" رباه!!! أمي .. لا تكوني هكذا "
انحنت ناحيتي قائلة :" و اللهِ إن لم تنهض الآن و تجبر بخاطرها لسوف ......"
قاطعتها بضجر :" حسناً أمي .. حسناً "
و نهضت قائلاً :" سأجبر بخاطرها و أعلمها القيادة و سأقتل نفسي لأرضيها "