أشرقت ابتسامتها كشمس الصباح , وكــادت تقهقه ضــاحكة لأنها
لم تنس قد ما قاله مرة عن أن تعفير الوجه بالتراب هو للفلاحين
فقط .
وبعد ساعة , وبعد أن عـــادا إلى البيت , أخــذت تتمشى على
الشرفة فيما راح هو يـشرب كأساً من العصير . وكان النبات الغزير
يغطي الشرفات و الدرجــات التي تنحدر نحو التلة ومن ثم إلى
الشاطئ الخاص في الأسفل .
رفعت معصمها فالتمعت الساعة البلاتين في ضــوء الشمس
المتسرب من بين أوراق العريشة فوقها . وقالت تداعبه : (( الخروج
معك مربح كمــا يبدو )) .
كانت تراقبه طوال الوقت مستمتعة بـقـربه , وبرجولته العنيدة
الجريئة , وحتى بإرادته العنيفة التي لا تلين و التي جرؤت على أن
تعارضها في متجر المجوهرات ذاك .
وربما أنه اعتاد أن يواجه تفحصها له , رفع حاجبه الأسود , وعيناه
اللامعتان مليئتان باللوم لعنادها في متجر المجوهرات ذاك وعدم
قبولها أكثر من تلك الساعة هدية منه . ثم قال : (( أردت أن أغطيك
بالمــاس )) .
فقالت ساخرة : (( ســأبــدو حمقــاء تـمامـاً )) .
ـ تبدين أشبه بإلهة وثنية , يا حلوتي .
خفق قلبها . وحده راوول يتصورها كمــا لا يستطيع أن يفعل
رجل آخر , تملكها الخجل من نظراته المقيمة , وتمتمت باضطراب :
(( لم تفسر لي بعد لماذا غيرت رأيك ولم تعد تعتبرني أسعة خلف
المال )) .
توتر وجهه القوي وأجاب : (( عندما ادعيت في لندن أنـك أعدت
معظم المبلغ الذي وهبتك إياه عند توقيع عقد المحاسبة وتبين أن
المال مــا زال موجوداً حيث لم يطلبه أحد وذلك منـذ حوالي أربـع
سنوات )) .
ـ لكن مــا الذي حــدث للــرســالة التي كتــبــتــهـا لبول كرويرو
المحامي ؟
ـ لم تـصله قط . حينذاك , كـان بول قد انـتـقـل إلى مكاتب محاماة
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
جديدة , ولابد أن رسالتك أرسلت إلى عنوانه القــديم فضـــاعت . إن
بول متـــكدر جــــداً لكل مـــــا جرى . وهو يعلم الآن أنه كان الحلقة
المفقودة في السلسلة , وهذا هو سبب سوء التفاهم الذي جرى بيننا .
كانت هيلاري مسرورة لمناقشتها موضوع المال الذي تـلـقتــها منه
أخيراً . قالت : (( لم أكن أنوي قط أخذ نقود منك , لكنني فعلت , لذا
لا يمكنك أن تلومه على الفكرة السيئة التي كونها عني )) .
ـ لم يكن لـديه الحق في أن يحكم عليك بذلك الشكل . . .
بدا الألم جـلـيــاً في عيني هيلاري , وتملكهـا إغراء في أن تقول له
إن بول كوريرو اكتسب على الأرجح هذا الموقف المتغطرس
الرافض لها منه هو نفسه .
قالت : (( أريــد أن أفســر بعض الأمور . عندما تــقابــلنــا لأول مـرة
كنا , أنا و أختي , نعيش في منطقة خطيرة . وكان رفاقها يظنـون أن
سرقة المتاجر أمــر مسل . كانت تهرب من المدرسة و كنت تعبة مـن
السيطرة عليها )) .
كن راوول يصغي إليها باهتمام بالغ : (( لم يكن لدي فكرة عن
مدى قساوة حياتك البيتية . فقد تصرفت ببشاشة على الدوام )) .
ـ العبوس لا يجعل الأمور أفضـل . منحتنا نقودك بداية جديدة
فاستأجرت شقة , وأنشـأت صالون حلاقة , ونقلت إيما إلى مدرسة
أخرى . المشاكل التي كنا نعاني منها توارت كلها . ولم أعد مضطرة
للعمل ليلاً , فاضطرت هي إلى البقاء في البيت ومراجعة دروسها .
وفي السنة التالية نالت منحة دراسية ومنذ ذلك الحين لم تعد تنظـر
سوى إلى الأمـام .
ـ يجب أن تفخري بنفسك . أتمنى لو كنت أكثر صراحة معي
حينذاك . . .
عندما اشتبكت نظراتها بنظراته , جف فمها وحولت نظراتها :
(( حينذاك , لم تشأ أنت أن تعرف عني شيئاً )) .
ـ لم أسمح لنفسي بأن أعرفك جيداً فدفعت أنت الثمن . لكـن
هذا كان في الماضي , أمـا هذا فهو الآن . . .
وأمسك بيدها يطبع عليها قبلة محمومة .
ارتعشت وارتجفت ساقاها . وبتمهل بالغ نزع عن كتفيها الوشاح
الحريري , فتمتمت : (( إننا في وضح النهار . . . )) .
ـ إنك تجفلين بسهولة .
كانت واهنة القوى مستعدة له من دون أن يقاوم بأي جهد مبالغ
فيـه .
راح رأسهـا يدور , ولــم تعد تستطيع أن تتنفس . ثورة مشــاعرها
جعلتها تنسى كل شيء ما عدا مشاعره العنيفة الساحقة .
بعدئذ , حمل جسدهـــا المتعب المسترخي بين ذراعيــه وأخـــذها إلى
غرفة النوم المنعشة . ابتسم لها راضياً فأرادت أن تبكي حباً وعشقاً .
أرادت أن تــــدوم هذه اللحظة من المــودة الصامتة إلى الأبــد . أزاح
شعرها عن عينيها وقبلها وضمها إليه فشعرت بالانـفعـال وودت لــو
تمضي بقية حياتها كهذه الدقائق وهي في أسعد حالاتها .
ـ أنــا أعبــد جسدك , وأقسـم أنه ازداد امتــلاءً منــذ رأيـتـك لأول
مرة .
خفضت هيلاري بصرها لتخفي الذعر في عينيها , فيما عاد يقول
بصوت خافت : (( هذا لا يعني أنني أتذمر . أنت تفهمين ما أعني .
لاحظت رغبتك المتزايدة في أكل الشوكولا السويسرية . . . )) .
إنه ظنها تسكن لأنها تكثر من تـنـــاول الشوكولا . ابتعدت عنه
بسرعة .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
تأوه بصوت مرتفع , ثم شدهــا بيده يعيدها إليه : (( لا تكوني
حساسة للغاية . عن النساء يتلهفن إلى أن يكون لهن جسد كجسدك .
سيسرني للغاية أن أزودك دوماً بالشوكولا . من المنعش جداً أن
يكون المرء مع امرأة تأكل ما تريد )) .
لا يكفي أنه يراها سمينة , بل مهمة أيضاً . ليت هذا صحيحاً !
ليت ازدياد وزنها وامتلاء جسدها بسبب الشوكولا فقط .
ـ ســأستحـم .
وخلصت نفسها منه وأسرعت إلى الحمــام , فسـألها : ((أي جهنم
تجعلك لا تقديرين جمالك ؟ )) .
ـ لقد رأيت سيلاين . . . بجانبها أبدو قصية وسمينة .
التمعت عيناه غضباً وهب من السرير : (( سيلاين تطفئ رغبتي ,
أمـا أنت فتثيرينها . لا أستطع أن أبقي يدي بعيدتين عنك أكثر من
ساعة , حتى أنني تركت عملي في المصرف لأكون معك )) .
اغرورقت عيناها بالدموع : (( هذه مجرد رغبة جسدية )) .
سـاد صمت مطبق , وانتظــرت منـه أن يـخرق هذا الصمت ولو
بكلمة اعتراض واحدة .
بادلها النظـــر بعنـاد عنيف . كانت عيناه تلتمعان بغموض , وجسمه
الجبار يقف متأهباً وكأنه يستعد للدفاع عن نفسه ذد المهاجمين .
خاب أملها , وشعرت بغصة آلمتها , إذ لم ينكر قولها هذا . عليها
أن تكون أذكى من أن تظنه سيفعل . وبابتسامة سريعة أرادت لها أن
تقنعه بأن هذا النوع من العلاقات لا يناسبها , دخلت الحمام وأقفلته
خلفها , ووقفت تحت المياه المتدفقة فيما دموعها تنهمر على خديها .
كبحت شهقاتها . كل ما يمكنها ن تقدمه له علاقة مادية بحتة , و لا
يمكنه أن يقول إن لديها أي سبب لتتذمر .
مضى أسبوع منذ أحضرها إلى جزيرة سردينيا ليقيما في هذه
الفيلا الخلابة حيث يستمتعان بعزلة كاملة ورفاهية غير متكلفة .
بقيا متلازمين من دون انفصال مدة سبعة أيام . فكانا يتناولان
طعامهما على الشاطئ , ويسبحان في ضوء القمر . فضلاً عن
وجبات العشاء الشاعرية المتأخرة , والقيلولات الطويلة في الأيام
الحارة . تبادلا أحاديث طويلة في مواضيع نادراً ما كانا يتفقان
عليها . كان رفيقاً ممتعاً إلى حد لا يصدق . وعندما يحتاج أن يعمل
لساعة أو اثنتين , كانت تتكور في مقعد قريب وفي يدها مجلة , لتبقى
في رفقته . بالنسبة إليه , كانت هذه هي السعادة المثالية , لكنها أيضاً
تمثل تحدياً إذ راحت تكافح ببطء لتتعود على فكرة أنها حامل منه .
كان شعورها الجسدي رائعاً , ولكن كان عليها أن تتوخى الحذر
من ناحية الأكل و التعب . واعتاد أن يغيظها مداعباً لبطء حركتها ,
لكن جسدها كافأها على هذا الاحتراس الذي تعلمته فلم يعد الغثيان
بسبب لها مشكلة كبيرة , ولم تشعر بالدوار سوى مرة واحدة عندما
وقفت بسرعة فائقة . كما أن جسدها تغير إلى درجة أن راوول نفسه
لاحظ أنه امتلأ . لن تستطيع أن تخفي حملها أكثر إلا أن خوفاً بالغاً
تملكها من أن تخبر راوول بحملها هذا .
هذه المرة قررت ألا تبني قصوراً من رمال . كل صباح , وقبل أن
تقترب منه لتوقظه بقبلة , وهذا ما أدركت أنه يحبه , كانت تذكر
نفسها بفتور ببعض الحقائق . . .
إنه لا يحبها , وشعوره نحوها هو رغبة وحسب , وهذه الرغبة
تجعله عشيقاً لا يشبع . أمـا تمضية ساعات في الحديث معها , وأما
الحنان والاهتمام البالغ بها اللذان يظهرهما أحياناً , فهذا موضوع
آخر . على أي حال , إنه رجل محنك إلى حد كبير ولا يمكنها أن
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
تتصوره يتصرف بفظاظة أو بجهل . إنها ليست زوجته بكل معنى ا
الكلمة لأنه أعطاها ذات مرة أجراً للعب دور العروس .
إنها الزوجة التي اشتراها وليست الزوجة التي اختارها . كما أنها
لا تتمتع بالصفات التي في الرفيقة التي سيختارها في النهاية ! وتلك
الصفات كانت قد استخلصتها منه واحدة تلو الأخرى , من دون أن
يدرك كم المعلومات التي يكشفها , فهو يحب السمراوات الطويلات
وآخر عشيقاته كانت رائعة الجمال . إنه يعتبر الخلفية و النشأة هامتين
للغاية فضلاً عن التعليم الجامعي . وهي فاشلة من كافة النواحي
هذه . فهي ليست ولن تكون أبداً الزوجة التي سيرغب في استمرار
زواجه بها .
لهذا , سيشكل خبر حملها صدمة بالغة له وكارثة أيضاً . ولهذا
السبب راوغت طيلة سبعة أيام حيث عاشت كل لحظة ثمينة منها
وكأنها آخر لحظات ستمضيها معه . الوقت حان الآن للتحدث إليه .
ارتدت سروالاً حريرياً أزرق بلون عينيها مع بلوزة مطرزة تناسبه .
منذ شهر فقط كانت تكثر من الزينة على وجهها , لكنها خففت من
ذلك الآن . لقد قدمها راوول إلى عالم مختلف , ومن الطبيعي أن
تتفحص النساء في ذلك المجتمع الخاص . لطالما كانت شديدة
الملاحظة وسريعة التعلم , وسرعان ما أدركت كيف يمكن أن ترفع
شأن مظهرها مقارنة مع الآخرين . أطالت شعرها بحسب ذوق
راوول . . . إذ قال لها ذات مرة بإعجاب بالغ : ((إنه ذو لون خلاب
أريد أن أراه مسترسلاً على ظهرك أشبه بسلاسل من فضة يا
جميلتي )) .
حينذاك , أجابته متذمرة : (( سيتطلب وقتاً طويلاً حتى يصل طوله
إلى كتفي فقط )) .
ـ سـأنتظر . يمكنني , إذا أردت شيئاً , أن أكون صبوراً جداً .
وكلي تسره , وعدته بألا تقص شعرها مرة أخرى . لــم تسمح
لنفسها بأن تتساءل كم من الوقت سيتطلب ترك شعرهـا الحاد
الأطراف حتى تصبح تسريحته هذه , أكثر الأمور التي سيشعر نحوها
بعدم الاكتراث .
كانت المائدة قد أعدت على الشرفة للعشاء . وكانت جميلة للغاية
بفضل فانوس الزجاج الملون المعلق على شجرة التين العتيقة
و الشموع التي تتألق في كؤوس بلورية والصحون الخزفية المذهبة .
ومن بعيد من بين النباتات الوافرة , كانت ترى بركة السباحة تتألق في
ضوء القمر .
كانت هذه فيلا راوول . أحياناً كان يزورها مرة في السنة ,
وأحياناً لا يفعل . كان لديه أملاك كثيرة في أنحاء العالم , فهو لا
يحب الفنادق . حتى هنا , في أحد ابعد المساكن في الجزيرة , كان
راوول يتلقى أفضل الخدمات , فضلاً عن تواجد طاه عند الطلب
يحضر له أشهى الأطباق . ومع هذا الثراء الذي لا يمكن تصوره ,
كان راوول يعتبر تمتعه بمعدل من الحرية و الراحة لا يحلم بمثله
الآخرون أمراً مسلماً به . كان صاحب سيطرة وسلطة , فكيف سيكون
رد فعله على ما ستخبره به ؟ على وضع لم تسمح له بأن يسيطر
عليه ؟ وارتجف فمها النــاعـم للمشــاعر العنيفة التي جاهدت لكي
تكبحها .
خرج على الشرفة وتقدم منها وهو يقول بصوت أجش : (( استديري
نحوي )) .
فأطاعته بشيء من التصلب فيما أضاف : (( تبدين جميلة . . إعتبري
نفسك محظوظة إذا استطعت التحكم في نفسي إلى ما بعد العشاء )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
أثناء الصمت المتوتر , بللت فمها الجاف بجرعة من المياه
المعدنية .
استقرت عيناه الذهبيتان الداكنتان عليها , والتوى فــمه الجميـــل
هازلاً : (( تقولين إنك قصيرة و سمينة . . لا أظن ذلك . . )) .
احمر وجهها تعاسة . أرادت أن تبقي شفتيها مطبقتين , و تندفع
إلى ما بين ذراعيه تحتضنه بعنف , لتتمسك بالسعادة التي منحـها
إياها .
وأردف : (( كنت كئيبة متقلبة المزاج في الأيام القليلة الماضية )) .
فنظرت إليه بارتباك : (( أ . . أنــا . . )) .
ـ في لــحـظة تــضحكيـن كالمجنونة , و في اللحظة التالية تـتـملكك
الكآبـة و تـسيـل دموعك . هذه ليـست عادتـك .
أجــفلت هيلاري , ثــم شـجـعت نــفسهــا على الـــوقوف بصــلابـة
الصخر , لتقــول : (( لدي مــا أريـد أن أخبـرك به )) .
* * *
نهاية الفصل (( الثامن )) . . .