ـ أظنه كذلك . فقد بُني منذ ثمانمائة عام , وما أن أُنهي إصلاح جزء
منه حتى يظهر الخراب في مكان آخر . لكنه جميل في الصيف , إذ يبقى
بارداً . وعندما تخرجين في الصباح الباكر وتنظرين إلى الوادي , ترين
نوراً ناعماً لا ترينه في أي وقتٍ آخر . لكن عليك أن تتواجدي هنالك
في الوقت المناسب لأنه لا يدوم سوى دقائق معدودة . بعدئذ , يتغير
الضوء , فيصبح أقوى . و إذا أردت رؤية السحر مجدداً فعليك أن
تعودي في صباح اليم التالي .
توقف عن الكلام , وقد فوجئ لاستخدامه هذا العدد من
الكلمات , ولموجة الأحاسيس الشاعرية التي اجتاحتهما . وأدرك أنها
تنظر إليه باهتمام لطيف .
ـ هل لديك أخوة وأخوات ؟
ـ لدي أخ أصغر مني . . .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
وعبس ليو ثم أضاف : (( علماً أن غويدو هو الأكبر بالنسبة
للمجتمع . في الواقع , أكاد أكون غير موجود من الناحية القانونية , إذ
تبين أن زواج والدي لم يكن قانونياً . لكن ما من أحد كان يعلم ذلك
حينها )) .
ـ وهل يهمك الأمر ؟
ـ أبداً .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
فقالت برضا : (( وأنا أيضاَ . فهذا الأمر يتركك حراً نوعا ما .
يمكنك أن تذهب حيث تشاء , وأن تفعل ما تشاء , وأن تكون من
تشاء . هل هذا رأيك أيضاً ؟ )) .
وعندما لم تسمع منه أي رد , التفتت سيلينا فوجدته مستلقياً إلى
الخلف , وقد أغمض عينيه وبدا جسمه في حالة من الاسترخاء . يبدو
أنه لم يستطع أن يقاوم سلطان النوم أكثر .
مدت يدها لتوقظه , لكنها توقفت على بعد إنش منه وراحت
تتأمله . فأحداث هذا اليوم المربكة لم تترك لها فرصة لتتأمله . إنه المنقذ
الذي أجاد التعامل مع أليوت , والذي هدأت يداه وصوته الحيوان
الهائج . وإذا ما تقبله محبوبها أليوت , فعليها أن تتقبله هي أيضاً . لقد
أنقذها في الحمام من جروح خطرة . حينذاك لم تسمح لنفسها بأن تفكر
في الأمر أبعد من ذلك . لكن يمكنها أن تفكر فيه الآن . . في شعورها
حين ضمها إلى صدره . . تذكرت كيف أمسك بها بيديه الكبيرتين ,
حاملاً إياها إلى بر الأمان , وكيف أبعدهما عنها ما إن أصبحت سالمة .
لقد تصرف كسيد مهذب , حتى في تلك اللحظات .
كل ما فيه يعجبها , بدءا من جبينه العريض الذي تخفي نصفه الآن
خصلة شعر شاردة , مروراً بحاجبيه الكثيفين وصولاً إلى عينيه البنيتين
الداكنتين . أعجبها أنفه المستقيم وفمه . وتساءلت عن مدى جرأتها في
التعامل معه . في الحياة يمكنها أن تخاطر , وتجرؤ على تحمل أي سقطة ,
وامتطاء أي جواد لم تتآلف معه . لكن الرجال مختلفون , وفهمهم
أصعب من فهم الجياد . إنهم غريبو الأطوار وقد يسببون الأذى أكثر
مما تفعل أي سقطة .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
ومع ذلك أرادت أن ترى ليو يبتسم مجدداً . . أرادت أن تتبع
حدسها حتى النهاية .
صهل أليوت بنعومة , لكن الصوت كان كافياً ليوقظ ليو . فتح
عينيه فيما وجهها لا يزال قريباً منه , ابتسم قائلاً : (( لقد مت ودخلت
الجنة , وأنت ملاك )) .
ـ لا أظن أنهم سيرسلوني إلى الجنة . إلا إذا تم تغيير القواعد
و القوانين .
ضحكا معاً , وتوجهت سيلينا نحو أليوت الذي صهل مجدداً .
قال ليو : (( إنه يشعر بالغيرة وحسب لأنك تعيرينني انتباهك )) .
ـ ما من داع للغيرة وهو يعلم ذلك , فهو عائلتي .
ـ أين تعيشين ؟
ـ إقامتي مسجلة في مكان ما حيث أدفع الضرائب , لكني لا أقيم
فيه . أنا أعيش مع أليوت , فهو بيتي وأهلي , وسيبقى كذلك إلى الأبد .
فأشار : (( لا يمكن أن يبقى كذلك (( إلى الأبد )) . لا أعلم كم يبلغ من
العمر , لكن . . . )) .
قالت سيلينا بسرعة : (( إنه ليس عجوزاً . وهو يبدو أكبر من سنه
لأنه تعرض للضرب , وهذا كل ما في الأمر )) .
فرد ليو بلطف : (( نعم , أنا واثق من ذلك . لكن , كم يبلغ من
العمر ؟ )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
تنهدت : (( لا أعرف بالتحديد , لكن عهده لم ينته بعد )) .
وأشاحت بوجهها سريعاً لئلا يرى الألم الذي غمرها . لكنه رآه
وانفطر قلبه من أجلها , فهذا الحيوان الهزيل , كان كل ما لديها في
العالم . وفجأة , بدا وكأنها فقدت قوتها , فأمسك بها ليو بسرعة وقال :
(( هيا , ستخلدين إلى النوم . ولا تجادلي لأني لن أرضى بالرفض
كجواب )) .
وأبقى ذراعه حول خصرها تحسباً لقيامها بخطوة مشاكسة , لكنها
كانت أكثر إنهاكاً من أن تجادل , وتركته يقودها إلى المنزل ومن ثم إلى
غرفتها . وعندما وصلا إلى الباب , قال : (( عمت مساءً . أتمنى لك نوماً
هنيئاً )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
كان الفجر على وشك أن يبزغ عندما غادر آخر المدعوين , ملوحاً
بيده وصارخاً : (( أراكم لاحقاً )) , عندئذ , توجهت الأسرة إلى النوم
بعيون غائمة وقلوب سعيدة .
جلس ليو في سريره وقد تملكه شعور غامض سار . هذه الليلة
شهدت الكثير من المسرات , وتخللها الكثير من المرح والضحك
والرقص , لا سيما بعد أن أوصل سيلينا إلى غرفتها وودعها ليعود إلى
الحفل . شعر أنه الآن في سلام مع العالم . لكن وقع الخطى التي توقفت
أمام باب سيلينا لم يفته . وساد الصمت , ثم تعالى صرير الباب وهو
يُفتح . وكان هذا كافياً ليجعل ليو يهب واقفاً , ويخرج إلى الممر في
الوقت المناسب , ليمسك ببولي وهو يهم بالدخول إلى غرفة سيلينا . قال
بصوت جعل بولي يجفل : (( أليس هذا لطيفاً ؟ كلانا منشغل البال على
سيلينا بحيث لم نتمكن من النوم قبل أن نطمئن عليها )) .
منحه بولي ابتسامة باردة ورد : (( لا يمكنني إهمال ضيف )) .
ـ بولي , أنت مثال يحتذى به .
ودخل ليو إلى الغرفة فيما هو يتكلم ثم أضاء النور . عندئذ , توقف
الرجلان وقد باغتتهما رؤية السرير فارغاً . وتمتم ليو : (( تلك المرأة
الحمقاء عادت إلى الإسطبلات )) .
ـ لا , لم أفعل .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
تناهى إليه هذا الصوت من كومة على الأرض . فأضاء ليو المصباح
الموضوع بجانب السرير , ورأى كومة تتضمن غطاء ووسادة وامرأة
حمقاء تشعث شعرها الأحمر بفعل الصدمة , سألت وهي تجلس : (( ما
الأمر ؟ هل حصل شيء ما . )) .
ـ لا , أنا وبولي قلقان عليك , لذا جئنا لنطمئن إلى حالك .
فقالت وقد أدركت الحقيقة على الفور : (( هذا لطف بالغ منكما .
أنا بخير )) .
ـ إنها بخير يا بولي . يمكنك أن تخلد إلى النوم الآن وأن تنام
هانئاً .
وجلس ليو على الأرض قرب سيلينا كرجل يعود إلى جذوره .
ـ آ . . . حسناً , أنـا . . .
تكلما بصوت واحد : (( عمت مسا يا بولي )) .
اضطر بولي للاعتراف بالهزيمة , فتراجع نحو الباب ثم خرج . وآخـر
ما رأياه هو تقطيبته . قالت سيلينا : (( أنت تعلم أنه كان بإمكاني أن
أواجه الوضع )) .
ـ بعد ما مر بك اليوم , ألا يحق لك أن تكوني ضعيفة ولو قليلاً ؟
ـ لا يحق لأحد أن يكون ضعيفاً .
ـ آسف !
فقالت بندم جلي : (( لا , أنـا آسفة . لم أقصد أن أكون فظة . أعلم
أنك تحاول أن تكون لطيفاً معي , لكن عمليات الإنقاذ هذه بدأت
تتحول إلى عادة سيئة )) .
ـ أعدك بألا أعيد الكرة . في المرة القادمة , سأتركك لمصيرك ,
أقسم لك .
ثم قالت شاكية : (( حاولت أن أنام على السرير قد المستطاع , لكن
هذا جنون . فكما تقلبت طرت في الهواء ستة أقدام . النوم هنا
أفضل )) .
ـ من الأفضل أن أتركك فبل أن أغفو . اقفلي بابك بالمفتاح بعد
خروجي . أعتقد أن ابن داليا لن يتوانى عن المحاولة ثانية .
لكنه تذكر أن الباب من دون مفتاح , ولم تستطع إقفاله حين
حاولت القيام بذلك من قبل , فتنهد . لم يعد أمامه سوى حل
واحد .
ـ ماذا تفعل ؟
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
طرحت عليه هذا السؤال حين عاد إلى السرير والتقط غطاءً
ووسادة . فقال وهو يرتمي أرضاً , ساداً الباب : (( ماذا يبدو لك أني
أفعل ؟ إذا استطاع أن يفتح الباب الآن فهو رجل أقوى مما ظننت )) .
وتغلب عليه النعاس , أما آخر فكرة خطرت له فهي أنه سيعاني
الأمرين في الصباح من جراء تصرفه هذا . لكنها ستبقى آمنة على
الأقل .
استيقظ وهو يشعر أنه بحال أفضل بع سهرة البارحة الطويلة .
شعر بالنشاط يدب في المنزل حوله , ورأى أنه يستطيع أن يتركها
بأمان .من الأفضل أن يرحل قبل أن تستيقظ , فهو لا يعرف ما يمكن
أن يقوله لها . وراح يسخر في سره من تصرفاته التي شبهها هازئاً
(( بتصرفات عصر الفرسان )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
دنا منها ببطء وهدوء متناسياً الفروسية , وراح يتأمل وجهها .
لقد استعاد وجهها بعض اللون منذ الليلة الماضية , واستطاع أن يرى
أنها نامت , كما يفعل هو دوماً , من دون حراك , كحيوان راضٍ .
كانت قد نزعت الضمادة , فظهر الجرح و الكدمة في جبينها . وبدا
لونها متناقضاً مع شحوبها . خطر له أن وجهها صغير وأنها تبدو
الآن غير حصينة كطفل صغير , بعد أن تخلت عن حذرها وحكمتها
لتستسلم للنوم .
ساورته رغبة جامحة في أن ينحني ويعانقها , لكنه سُر لأنه لم يفعل ,
إذ ما لبث أن فتحت عينيها . بدت عينيها رائعتين , واسعتين وعميقتين
عمق البحار , واختفى الطفل الذي كانته منذ قليل .
ـ سألها : (( كيف حالك اليوم ؟ )) .
ـ بألف خير . لم أمضٍ في حياتي ليلة مريحة كهذه .
ـ على الأرض ؟
ـ هذه السجادة سميكة , إنها ممتازة !
ـ تمنى لي الحظ لئلا يراني أحد وأنا أخرج من هنا .
ـ سأتحقق من الممر .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
ونظرت إلى الممر ثم أعطته إشارة الانطلاق . وما هي إلا لحظات
حتى وصل إلى غرفته وإلى الأمان . صحيح أنه سمع الفتاتين تضحكان
مجدداً , لكنه كثير الارتياب على الأرجح .
استـحم وارتــدى ملابسه و هــو غـــارق في التــفكـيــر لأنـه أدرك أن
ضميره يؤنبه بعض الشيء . فبالرغم من أنه لم يخبر سيلينا أي كذبة , إلا
أنه ترك لديها انطباعاً بأنه فقير بقدرها تقريباً . لقد رأته في ثياب قديمة
وسمعته يتحدث عن العيش القاسي , واقتنعت بأنه ابن مهمل . لكنه
تغاضى عن إعلامها بأن عمه هو الكونت كالـﭭـاني الذي يملك قصراً في
البندقية , أن عائلته ثرية جداً . و مــا أشــار إليه على أنه مزرعته , هو في
الواقع ملكية رجل ثري . و إذا ما شارك في العمل المضني فهذا نابع م
رغبة لديه . لكنه م يوضح لها هذه الأمور لأنه كان مقتنعاً في أعماقه بأن
فكرتها عنه ستصبح سيئة . فهو يذكر كلامها بعد وقوع الحادث . لقد
قالت : (( أنتم كلكم متشابهون . تسرعون في سياراتكم اللماعة , وكأنكم
تملكون الطريق )) .