حملقت فيه , في الرجل الذي ظنت أنها تعرفه قلباً و قالباً . لقد فقد
ليو أعصابه أخيراً , ليس بالطريقة شبه الهزلية التي رأتها من قبل حين
راح يصيح غيظاً , بل أظهر غضباً عميقاً و حقيقياً . كانت عيناه لامعتين
وغاضبتين كما لم ترهما يوماً . بدا وكأن القطعة الأخيرة من أحجية
شخصية وجدت مكانها الطبيعي .
وهذا الشعور استمر حتى عندما مرر يده في شعره , وقال : (( أنا
آسف , لم أكن أقصد أن أصرخ بوجهك )) .
فردت بصدق : (( لا مانع لدي في أن تصرخ , فبإمكاني أن أصرخ
بدوري , لأني أجيد ذلك )) .
قال بصوت مرتعش : (( نعم , أعلم ذلك . وأنا لا أمانع أيضاً . ما
لا أتحمله هو الصمت و البعد )) .
وافقته الرأي : (( لقد كثرا في هذه الآونة )) .
وخطت خطوة نحوه , كما تحرك هو في الوقت نفسه , فارتميا في
أحضان بعضهما البعض . كان عناقاً طويلاً ومريحاً , فشعرت أن
مخاوفها ومشاعرها المتوترة خفت . فقالت : (( إياك أن تخيفني هكذا
مجدداً , ظننت أنك تعني ما قلته فعلاً )) .
أطلق سراحها : (( لقد عنيت ذلك )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
تراجعت خطوة إلى الخلف : (( لا , ليو , أرجوك . . . اسمع . . . )) .
قال بحزم : (( استمعت بقدر ما استطعت , لا يمكنني أن أعيش حياتين )) .
ـ وستدعني أرحل فعلاً ؟
ـ عزيزتي , إذا حاولنا أن نستمر على طريقتك فسننفصل عاجلاً
وليس أجلاً , وسنفترق بائسين . لن يبقى لنا سوى الذكريات المرة .
من الأفضل أن نفترق الآن , فيما لا يزال لدينا الحب لنتذكره .
أجهشت سيلينا بالبكاء و قالت : (( ماذا سنفعل ؟ )) .
ـ أولاً , سنتناول بعض الطعام ثم سنتناقش كشخصين متحضرين .
إلا أنهما لم يتمكنا من التحدث . فقد حدد كل منهما موقفه واعتبر
أن الآخر عديم التأثر . ماذا بقي ليُقال بعد ها ؟
شعرا بالراحة حين لجأ كل منهما إلى غرفته . لكن , وبعد أن
استلقت مستيقظة لساعات , ارتدت سيلينا ملابسها , ونزلت إلى الطابق
السفلي . لم تضئ الأنوار , بل راحت تسير من غرفة إلى أخرى بصمت
وهي تتساءل إن كانت سترحل عن هذا المكان قريباً . من السهل أن
تعود إلى ليو وترتمي في أحضانه وتعده بالزواج , فأي شيء أرحم من
تركه و الرحيل عنه . لكن اقتناعها بأنهما سيدفعان غالياً ثمن سعادتهما
المؤقتة , أثقل كاهلها . يمكنها أن تخاطر بنفسها ولكن ليس به . وأخيراً ,
جلست على الأريكة قرب النافذة , ووضعت يديها خلف رأسها ثم
استغرقت في النوم بعد جهد جهيد .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
أيقظتها يد هزت كتفها . قال ليو : (( عزيزتي , استيقظي )) .
سألته بتصلب : (( كم الساعة الآن ؟ )) .
ـ إنها السابعة صباحاً , لدينا زوار , أنظري .
خرجا إلى الفناء للقاء السيارتين اللتين تصعدان المنحدر
و المعروفتين جيداً من قبلهما . قالت : (( إنهم أفراد الأسرة . لكننا
ودعناهم بالأمس فقط . لِمَ تبعونا إلى هنا ؟ )) .
توقفت السيارتان , وخرج غويدو ودولسي أولاً . ومن السيارة
الثانية , ترجل الكونت و الكونتيسة , ما فاجأهما .
أعلن الكونت كالـﭭـاني : (( نحن هنا لحل مسألة هامة جداً . أصرت
زوجتي على أن تتحدث إلى سيلينا . ونحن نسافر كحاشية لها وحسب )) .
قال ليو : (( ادخلوا , فالطقس بارد في الخارج )) .
في ت اكتشاف ما يجري . لِمَ تريد هذه المرأة رؤيتها ؟ لِمَ تنظر إليها بهذا
الإلحاح ؟ .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
قالت : (( هلا أخبرني أحدك ما يجري ؟ )) .
فقالت ليزا ببطء : (( جئت إليك لأن ثمة أشياء . . . )) .
ترددت وعبست ثم أضافت : (( . . . أشياء لا يمكن أن يقولها أحد
سواي )) .
قالت دولسي : (( نحن هنا لنساعدها إذا ما تعثرت لغتها . لقد
عملت جاهدة لتعلم من أجلك , وتريد أن تقول ما لديها بنفسها )) .
عندئذ , تدخلت ليزا : (( حاولت من قبل , لكن حينذاك . . . لم
أجد الكلمات . . . و أنت لم تستمعي )) .
قالت دولسي : (( عندما زرت البندقية للمرة الأولى , حاولت ليزا
أن تتحدث إليك , لكنك هربت )) .
فردت سيلينا : (( لم تكن بحاجة لأن تقول لي أني الشخص غير
المناسب لليو , فـأنـا أعرف ذلك )) .
قاطعتها ليزا بحزم : (( لا , لا , لا ! عليك أن تتكلمي أقل وتصغي
أكثر . أفهمت ؟ )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
رد ليو على الفور : (( نعم )) .
ابتسمت سيلينا على نحو غير متوقع وردت : (( نعم )) .
تكلمت ليزا بعنف : (( حسناً , جئت لأقول . . . إن ما تفعلينه
رهيب . . . كما فعلت أنـا . يجب ألا تفعلي )) .
سألتها سيلينا بحذر : (( ما الأمر الرهيب الذي أفعله ؟ )) .
قال غويدو : (( بعدما أخبرنا به ليو , عقدنا اجتماعاً عائلياً الليلة
الماضية ورأينا أن علينا أن نأتي إلى هنا ونزرع في رأسك بعض التعقل .
لكن ليزا كانت أكثرنا اندفاعاً )) .
أعلنت ليزا بحزم : (( و الآن ستأتين معي )) .
ووضعت فنجان القهوة من يدها ثم توجهت نحو الباب .
سألها ليو : (( هل أستطيع أن أرافقكما ؟ )) .
نظرت إليه ليزا : (( وهل ستبقى هادئاً وساكتاً ؟ )) .
فرد بخنوع : (( نعم )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
تقدمتهما قائلة : (( يمكنك أن تأتي )) .
سألته سيلينا : (( ما الذي تفعله ؟ )) :
ـ أظن أني أعرف . يمكنك أن تثقي بها .
تبعهما إلى السيارة و ساعد ليزا على الصعود إليها , فيما صعدت
دولسي خلف المقود .
قالت ليزا : (( توجهي إلى مورنزا , ومن ثم . . . أكملي حوالي ميلين
حتى . . . المزرعة )) .
اتبعت دولسي التعليمات , وما لبثوا أن أصبحوا في الريف , تحيط
بهم الحقول التي تتخللها بين الحين والآخر بعض المنازل الصغيرة .
وتبعهم الآخرون في السيارة الثانية .
قالت ليزا وهي تشير إلى إحدى المزارع : (( هناك )) .
استدارت دولسي وقطعت المسافة القصيرة المؤدية إلى مجموعة
الأبنية . رفع رجل في متوسط العمر رأسه و رحب بليزا . لم تسمع سيلينا
الكلمات التي تبادلاها . قادت ليزا المجموعة التي تجاوزت المنزل
واتجهت إلى مجموعة من المباني الخارجية , ومن ثم إلى زريبة للأبقار .
كان البناء كبيراً , مليئاً بالحيوانات , إذ وصلوا في موعد الحلب .
استدارت ليزا وواجهت سيلينا : (( لقد ولدت هنا )) .
عبست سيلينا : (( تعنين . . . في المنزل ؟ )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
ـ لا , أعني هنا , في هذه الغرفة حيث نقف الآن . كانت والدتي
خادمة وقد عاشت هنا مع الحيوانات . في تلك الأيام . . . كان هذا
يحصل أحياناً . كان الفقراء يعيشون على هذا النحو . وقد كنا فقراء ,
فقراء جداً .
نظرت سيلينا من حولها بعجز : (( ولكن . . . )) .
ـ لم أولد سيدة مجتمع , ألم تكوني على علم بذلك ؟
ـ نعم , علمت أنك لم تولدي وأنت تحملين لقباً , لكن . . .
هذا . . .
أومأت ليزا برأسها : (( نعم , (( هذا )) . في تلك الأيام , كان ثمة . . .
هو سحيقة بين الغني و الفقير . لم تكن أمي متزوجة , لم تقل لي يوماً
اسم والدي , وقد لحق بها العار . حصل هذا منذ سبعين عامـاً ,
أتفهمين ؟ لم تكن الأحوال كما هي الآن . عندما كنت طفلة . . . توفيت
والدتي فوضعوني في المنزل لأعمل . كانوا يقولون لي دوماً . . . إني
محظوظة لأني أحصل على الطعام و العمل , فأنا طفلة غير شرعية , ولا
أتمتع بأي حقوق , ولم أتعلم يوماً .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
(( لكن ماريا رينوتشي أنقذتني . فهذه الأراضي . . . كانت مهرها
عندما تزوجت الكونت أنجيلو كالـﭭـاني . لقد رثت لحالي و أشفقت
علي . . . فأخذتني معها إلى البندقية . وهكذا , تعرفت إلى عزيزي
فراتشيسكو )) .
وتورد وجهها فيما التفتت إلى الكونت الذي كان يتأملها مبتسماً .
تابعت وهي تبتسم له بدورها : (( ليتك رأيته حينذاك ! كان شاباً
وسيماً . . . أحبني و أنـا أحببته أيضاً . . . لكن . . . لا فائدة . عليه أن
يتزوج . . . سيدة تليق به . طلب مني الزواج , لكني رفضت . كيف
يمكن له أن يتزوجني ؟ وبقيت أرفض أربعين سنة . ثم . . . فهمت . . أني
أقترف خطأ فظيعاً . والآن , جئت لأقول لك . . . لا ترتكبي الخطأ
نفسه )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
تمتمت سيلينا : (( لكن ليزا . . . أنت لا تعلمين . . . )) .
فقالت ليزا بصراحة تامة : (( لا تكوني غبية . بالطبع , أعلم . اسمعي
ما سأقوله . الناس يعتقدون أن . . . لعب دور سندريلا أمر رائع .
لكني أقول العكس , فهو أحياناً . . . عبء ثقيل )) .
ارتاحت سيلينا لأنها وجدت أخيراً شخصاً يفهم مشاعرها ,
وقالت : (( نعم , نعم )) .
لكن ليزا قالت بقوة : (( لكن , إن كان هذا قدرك , فعليك أن تتقبلي
العبء . . . وإلا فسوف تفطرين قلب الأمير الساحر )) .
وأمسكت بيد زوجها الذي كان ينظر إليها بعينين تعكسان عالماً من
الحب . ثم تابعت كلامها بحزن : (( الناس ينظرون إلينا فيخطر لهم أن
قصتنا رومانسية لأن نهايتها كانت سعيدة , إلا أنهم لا يرون ما نحمله
هنا . . . )) .
وأشارت إلى صدرها قبل أن تردف : (( . . . ما آسف له هو أن
حبنا لم يكتمل إلا في النهاية . كان بإمكاننا أن نسعد منذ وقت طويل ,
كما كان بإمكاني أن أرزق بأطفال ؟ لكني أضعت تلك السنوات كلها
لأني أعطيت الأهمية لأمور لا تستحق تلك الأهمية التي منحتها إياها )) .
تقدم ليو بهدوء حتى وقف إلى جانب سيلينا , وقد بدأت الآن تجد
كلماتها بسهولة كما لو أنها عثرت على المفتاح .
ـ لم يقدرك أحد في حياتك كلها , ولهذا لم تتعلمي أن تقدري
نفسك . و بالتالي , كيف يمكنك أن تفهمي ليو , الذي يقدرك أكثر من
أي شيء آخر في العالم ؟ كيف يمكنك أن تتقبلي حبه عندما تعتقدين أنك
لا تستحقين الحب ؟
سألت سيلينا مشدوهة : (( هل هذا ما أعتقده ؟ )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
ـ هل أحبك يوماً أي شخص آخر ؟
هزت سيلينا رأسها : (( لا , أنت محقة . كبرت و أنا أعتقد أنه لا يحق
لي هذا القدر . . . )) .
رأت ليزا تومئ برأسها بتفهم شمل المرأتين فقط : (( . . . وعندما
أحبني ليو , ظللت أفكر في أنه ارتكب غلط وأنه سيسقط سريعاً
ليدرك أن هذا أنا ليس إلا )) .
رددت ليزا : (( أنت ليس إلا . المرأة التي يحب , المرأة الأولى التي
يطلب يدها للزواج . وأظن أنك المرأة الأخيرة . لا تؤذيه كما أذيت
حبيبي فرانشيسكو , بل ثقي به , ثقي بحبه لك , وثقي بحبك له . لا
تقترفي خطئي وترمي سعادتك بعيداً حتى يكاد يفوت الأوان )) .
التفتت سيلينا إلى ليو وجدته ينظر إلى وجهها بقلق . صدمها هول
ما كادت تفعله به , فلم تستطع كبح الدموع التي انهمرت على وجنتيها .
قالت بصوت متقطع : (( أحبك , أحبك كثيراً . . . ولم أفهم يوماً
أي شيء )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
فقال بحنان : (( ما كنت تعرفين معنى العائلة وحسب . والآن ,
أصبحت تعرفين )) .
الكل يريدها . العائلة كله فتحت ذراعيها وقلبها لها , هي التي لم
تعرف يوماً أنسباء يمكن أن تتذكرهم . . . أو يرغبون فيها .
وأضاف ليو على الفور : (( تزوجيني , دعيني أسمعك توافقين )) .
لم تستطع أن تتلكم , فاكتفت بأن أومأت بقوة فيما أخذها بين
ذراعيه وضمها إليه . أحنى رأسه بحيث أراح ذقنه على رأسها . إنها كنزه
المفقود و الذي عثر عليه من جديد . فقال : (( لن أدعك ترحلين مجدداً )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق