إذا ما ظنت سيلينا أن اليوم انتهى , فقد أخطأت , إذ إن الصدمة
كانت بانتظارها لاحقاً . المسابقة التالية هي مسابقة إمساك العجل
بواسطة الحبال , وقد سجل شخص مؤذٍ و شرير اسمها للمشاركة في هذه
المسابقة . وقد أقسم غويدو إنه ليس الفاعل . إلا أنها تمكنت , على غرار
ليو , من أن تشارك بشكل مشرف , لم تفقد معه ماء الوجه , وانتهت
فترة بعد الظهر في جو صاخب ومرح . هللت لها أسرة كالـﭭاني طويلاً ,
باستثناء الكونتيسة التي صفقت لها , إنما بهدوء , وتركت سيلينا تتساءل
عما تفكر فيه حقاً . وخطر لها أن الكونتيسة تقول في سرها إنها متهورة ,
لا تتصرف كسيدة ولا يمكن تغييرها .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
انتشرت في المكان عشرات المنصات التي تبيع الأطباق والأطعمة
المحلية , فتناول الكل الطعام بحرية بما في ذلك الكونتيسة التي أكلت
بنهم واستمتاع . وشرح لها ليو : (( إنها من هذه الأنحاء , ولا تتاح لها
غالباً فرصة تناول الطعام التوسكاني )) .
وقالت لها دولسي لاحقاً فيما كانوا يشربون القهوة : (( أتعلمين ,
أنت كما توقعت تماماً )) .
نظرت إليها سيلينا بدهشة : (( أكنت تعلمين بشأني ؟ )) .
ـ عندما عاد ليو من تكساس , لم يكن بإمكانه أن يتكلم سوى
عنك . أخبرنا كيف التقاك , وأنك رائعة وأنه فقد رقم هاتفك . كاد
يجن . ولو لم تأتي إلى هنا , لسافر بحثاً عنك , وأنا واثقة من ذلك .
رفعت سيلينا نظرها لتجد أن عيني ليو عليهما , وكان يبتسم
ابتسامة عريضة محرجاً , لكن طبيعته الطبية متعته من الاعتراض على
سخريتهما منه . وقال لسيلينا : (( بت تعرفين الآن ! )) .
سخرت منه : (( هيا الآن , على أي حال , كنت أعلم . لطالما
علمت أنك لا تستطيع مقاومة سحري )) .
وضع يداً حنوناً حول كتفيها , وقال متأملاً : (( من جهة أخرى ,
أنت التي جئت إلي هنا بحثاً عني )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
ـ لم آتِ بحثاً عنك , بل جئت من أجل الروديو .
فقال : (( حسناً , لقد انتهى الروديو الآن ويمكنك أن تعودي إلى
ديارك )) .
لكن ذراعيه اشتدت حول كتفيها فيما كان يتكلم . وكان الآخرون
يراقبونهما مبتسمين . قالت له بتحد : (( سأرحل إذن )) .
اشتدت ذراعه : (( حسناً , إرحلي )) .
ـ ســأرحل .
ـ حسنـاً .
ـ حسنـاً .
فقال غويدو بسخط : (( هيا , كفا عن ذلك وتعانقا )) .
بعدئذ , سهروا حتى وقت متأخر , غير راغبين في ترك هذه المناسبة
السعيدة تنتهي .
وفي الصباح التالي , تفرقوا بعد أن تواعدوا على اللقاء قريباً ,
عندما يعقد ليو و سيلينا العزم على الزواج . حتى إن الكونتيسة ابتسمت
وقبلت وجنة سيلينا , ما جعلها تشعر بأنها كانت قلقة من دون داعٍ .
وقفت هي وليو , متشابكي الذراعين , حتى اختفت آخر سيارة عن
الأنظار . بعدئذ , عادا مسرعين إلى عملهما .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
كان موسم الحصاد قد حل الآن . وكان على ليو أن يهتم بقاف
العنب والزيتون ؛ لذا لن يتسنى لهما أن يتزوجا حتى ينهي عمله هذا .
أصبحت سيلينا مأخوذة بهذا الجانب من حياتهما , فراحت تمضي
ساعات طويلة على سرج جوادها تجول في الأراضي معه . كانا يعودان
إلى المنزل كل مساء , مرهقين إنما راضيين وقانعين بما تثمر به
الأراضي . وخف قلقها وتململها تدريجياً . ما من شيء تقلق بشأنه ,
ويمكن لهذه الحياة السعيدة أن تستمر إلى الأبد .
وفي الصباح أحد الأيام , أتى الاتصال الهاتفي من العدم . خرجت
سيلينا من غرفتها بعد أن استحمت لتجد ليو متضايقاً .
ـ اتصل العم فرانشيسكو للتو , وهو يريدنا أن نترك كل شيء وأن
نتوجه إلى البندقية على الفور , في هذه اللحظة .
ـ هل هو مجنون . نحن عل وشك أن نبدأ بجمع غلة العنب .
ـ هذا ما قلته له . قال إن الأمر طارئ .
ـ أتظن أنه يريد فتح موضوع الزفاف مجدداً ؟
ـ أرجو ألا يكون هذا سبب استدعائه لنا . قلت له مراراً وتكراراً
إننا سنتزوج في مورانزا , وهذا قرار نهائي , إذا ما جرنا إلى البندقية
ليناقش الموضوع مجدداً , فسوف . . .
وراح يبحث عن كلمات يمكن لطبعه المحب أن يتلفظها , ثم
أضاف : (( فسأقول له إنه ما كان عليه أن يفعل ذلك )) ,
ـ إذن , سنذهب ؟
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
ـ بل سنذهب , علي أن أتحدث إلى رينزو ومن ثم ســأخرج السيارة .
وتنهد قبل أن يردف : (( لمَ لم يقل لي ما حدث على الأقل ؟ حسناً ,
كلما أبكرنا في الوصول كلما عرفنا أسرع ما يحصل , وكلما تمكنا من
العودة باكراً )) .
سألته سيلينا مع اقرابهما من المدينة : (( إذا كانت شوارع البندقية
من ماء , فأين سنركن السيارة ؟ )) .
ـ ثمة ممر يمتد من البر الرئيسي إلى البندقية , ويمر فوق البحيرة
الضحلة . وعند الوصول إلى البندقية , ثمة محطة تدعى بيازا لا روما ,
حيث يمكننا أن نترك السيارة ونستقل المركب لنقطع المسافة المتبقية .
ـ سنستقل الغندول ؟
ـ لا , فهذه المراكب ليست كسيارات الأجرة . إنها تقوم بجولات
للسياح في المدينة. سيرسل لنا عمي مركبه .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
لكن , عند وصولهما كانت بانتظارهما مفاجأة , إذ وجدا غويدو
هناك يرحب بهما , وقد حضر لهما غندولاً وليس مركباً عادياً .
هناك ليو مكشراً : (( نسيت أنك تظن نفسك سائق غندول )) .
وأضاف موجهاً كلامه إلى سيلينا : (( الغويدو بعض الأصدقاء من
أصحاب الغندولات , فيستعير مراكبهم عندما يحلو له ذلك , وهو يرى
الكدح الشريف بهذه الطريقة )) .
قال لها غويدو وهو يساعدها على الركوب : (( تجاهليه )) .
حمل حقائبهما , ثم التفت إلى ليو وأشار إلى المركب بانحناءة
مسرحية : (( سيدي )) .
فقال ليو مكشراً : (( أنت تخطط لشيء ما يا أخي الصغير )) .
ـ من , أنــا ؟
ـ لا ترمقني بهذه النظرة البريئة , فأنت تبدو دوماً بريئاً عندما تقوم
بعمل ما يجعل الكل يعبس . أتعرف شيئاً لا أعرفه ؟
مازحه غويدو : (( ما أعرفه أنا ولا تعرفه يمكن أن يملأ كتاباً . لكن
لا تلمني في ذلك , فهذه هي الحياة , وهذا هو القدر )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
وانطلق , فتحول انتباه سيلينا عنهما لبعض الوقت ليرتكز على أول
رحلة لها في الغندول وأول زيارة لها إلى البندقية . بدا لها أنهم وصلوا سريعاً
إلى القناة الكبرى , الطريق الرئيسي العريض الذي يمر وسط المدينة .
قال ليو . وهو يشير إلى مبنى إلى يمينهم : (( هنا يعيش عمي )) .
كان قصر كالـﭭاني مبنى ضخماً , زُينت واجهته بزخرفات حجرية
أشبه بالمخرمات , وتكاد تخفي حجمه . وأدركت سيلنا أنه قصــر
حقيقي , فالثقة و الجمال ينضحان منه على حد سواء . لا بد أنه كان
مسكناً للوردات عظام على امتداد قرون , وعظمته لا تذعن وتنحني
لأي رجل . ومع أنها استطاعت أن تقدر الجمال و الثقة , لكنها شعرت
في الوقت عينه بسرور عميق لأنها ليست مضطرة إلى العيش فيه .
وتعاظم إعجاباً عند وصولهم إلى مرحلة الرسو حيث سارع الخدم إلى
مساعدتهم , إذ بدا وكأن المنزل الضخم , الساحر , مد يديه ليحتضنهم
أيضاً . همس ليو في أذنها : (( أعلم ما تفكرين فيه , إذ يخطر لي أحياناً أني
لن أخرج حياً من هنا )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
جعلها كلامه تشعر بالتحسن فضحكت . إن كان شعوره مماثلاً
لشعورها , فلا بأس . واتسعت عيناها دهشة عندما رأت غرفتها , إذ
حتى الغرفة التي نزلت فيها في مزرعة فورتين لم تكن خيالية كهذه .
وهمست لليو : (( إنها كبيرة كملعب كرة مضرب , سأضيع فيها )) .
ـ لا تخافي , غرفتي في الطرف الآخر من الممر .
ورأت سيلينا ما جعلها تقفز من مكانها .
ـ ليو , من هذه وماذا تفعل بحقيبتي ؟
فقالت دولسي التي ظهرت فجأة خلفهما : (( إنها خادمـة ليزا ,
وقد أرسلتها لمساعدتك )) .
ـ تعنين أنها تظن أن لا فائدة مني ؟
فقالت دولسي : (( لا تكوني حساسة بهذا الشكل ! هذا مجرد إطراء ,
لأنك ضيف مبجل )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
وفكرت سيلينا في أن المرء يمكن أن ينظر إلى هذا الأمر بهذه
الطريقة كما يمكنه أن يعتبره إهانة مبطنة , طريقة لتقول لها الكونتيسة إنها
تعرف أنه لن يكون لها خادمة خاصة بها يوماً . هذه مشكلة هؤلاء
الناس , لا يعرف المرء كيف يفسـر كلامهم وتصرفاتهم .
اعتمدت على ليو ليدعمها , لكنها أدركت سريعاً أنه لا يفهمها
سوى جزئياً . ومهما قال عن عدم ارتياحه في هذا المكان , تبقى حقيقة
أن هذه الأسرة أسرته , وأنه يحبها . وهو يشارك أفرادها تاريخاً وأفكاراً
لا يحتاجون لحديث عنها . كانوا يدعونه (( الريفي الشديد الارتباك ))
بنبرة محبة , ساخرة نسبياً , لكنه واحد منهم كما لن تكون سيلينا . . كما
لن تكون سيلينا أبداً !
واعتباراً من تلك اللحظة , شعرت أن كل شيء يحمل معنى
مزدوجاً . عندما أتت الكونتيسة شخصياً إلى غرفتها ورافقتها إلى
الأسفل لتناول العشاء , هل كان هذا إطراء أم طريقتها في أن تقول لها
إنها أغبى من أن تجد طريقها ؟ وعندما وقف الكونت ليأخذ بيدها ,
وهمس مديحاً على أناقة ثوبها ثم قادها للطاولة , ألم يكن يشير إلى أنها
اشترت ثوبها من سوق مورنزا ؟
حسناً , لن يفلحوا في تخويفها .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
أخذت نفساً عميقاً وجلست في المقعد الذي اختاروه لها , إلى يمين
الكونت . بعدئذ , أبلت بلاء حسناً . كانت تخشى أن توقع إحدى
كؤوس الكريستال الباهظة الثمن وتحطمها , لكن اللمسة الخفيفة
و الماهرة التي اكتسبتها بفضل السباقات العديدة التي خاضتها ,
ساعدتها . عليها أن تتعامل مع هذه الأغراض كما تتعامل مع أي
جواد , ببراعة تتميز بالخفة لا بالقوة .
كان الطعام رائعاً , حتى إن حساسيتها المفرطة و المرضية لم تفلح في
أن تحوله إلى إهانة . وكانت قد بدأت تسترخي حين تعالت فوضى خفيفة
من خارج غرفة الطعام . وفي اللحظة التالية , هبت أسرة كالـﭭـاني كلها
واقفة لترحب برجل وامرأة دخلا إلى الغرفة .
صرخ الكونت فرحاً : (( ماركو ! هارييت ! )).
ورأت رجلاً وسيماً , أنيقاً وطويل القامة ترافقه امرأة شابة ذات
جمال كلاسيكي .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
قال الكونت : (( أملت أن تنضما إلينا )) .
وتقدم بشوق ليصافحهما . وقال ماركو : (( بالكاد تمكنا من العثور
على تذكرتي سفر . لم نكن لنفوت المناسبة العظيمة إذا ما استطعنا
المساعدة . هل . . . ؟ )) .
فقاطعه الكونت على عجل : (( لا , لا , ليس بعد . تعالا لتتعرفا إلى
الفرد الجديد في أسرتنا )) .
التفت عينا سيلينا بعيني ليو عبر الطاولة , وقد بدا الارتباك
و التشوش على كليهما . المناسبة العظيمة ؟
إذن ماركو ! القريب الذي ذكره ليو , الشخص الذي لم يظهر
يوماً مشاعره , لكنه مع ذلك سافر إلى إنكلترا , مهملاً عمله كمصرفي في
روما , بغية استرجاع المرأة التي يحب . بدت تصرفاته الآن باردة
ومتكلفة , وكأن تصرفه العاطفي الانفعالي ذاك انتهى إلى غير رجعة .
لكنها لاحظت كيف تعود عيناه دوماً تتأملا هارييت , وكأنه لا
يستطيع أن يصدق أنها معه .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
لقد أحبت دولسي على الفور , ووجدت نفسها الآن تحب هارييت
التي جلست إلى جانبها و تبادلت معها أطراف الحديث بين اللقمة
و الأخرى , فيما كانت تتناول الطعام بسرعة لتدرك المرحلة التي وصلت
إليها الوجبة .
قالت : (( أنـا سعيدة للغاية لأنكمـا , أنت وليو , تمكنتما من
الاجتماع . هذا ما أملناه , أنـا و دولسي )) .
تدخلت دولسي في الحديث : (( لقد أخبرتها كم تحدث عنها )) .
فأومـأت هارييت : (( أتذكر ذلك )) .
عندئذ , قال ليو : (( في الواقع , وجدتما الأمر مسلياً للغاية أنتما
الاثنتان )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
ثم وجه ابتسامة عريضة لهارييت وتابع : (( لكننا سنسخر من ماركو
الآن . قلا بد أنك تغلغلت في مسام جلده حتى جعلته يلحق بك إلى
لندن و يبقى هناك لأسابيع . متى ستجعلين منه رجلاً شريفاً ؟ )) .
قالت هارييت ضاحكة : (( حسناً ’ لا بد أن يحصل ذلك قريباً ,
سيعطيني المتجر كهدية زفاف )) .
ثم وجهت الكلام إلى سيلينا : (( لدي متجر لبيع القطع الأثرية ,
لكن المشكلة أني فاشلة في إدارته . لذا , يحاول ماركو أن يعلمني (( الحس
المالي السليم )) , أي أبسط القواعد المالية )) .
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
فسألتها سيلينا بصوت مكتوم : (( أثريات ؟ أتعنين . . . ؟ )) .
والتفتت من حولها تتام ثريات الكريستال و اللوحات الثمينة , ثم
أردفت : (( أتعنين . . . هذا النوع من الأشياء ؟ )) .
فقالت هارييت بلهفة : (( نعم . هذا المكان يثير إعجابي , فهو مليء
بالجمال و التاريخ . يمكنك قراءة تاريخ البندقية في هذا المنزل , الناس ,
المناسبات . . . )) .
لم تسمع سيلينا المزيد , فقد غمرت قلبها الكآبة وأثقلته . أملت
للحظة أن تجد في هارييت توأم روحها , أملت أن تشعر مثلها وكأنها
سمكة خارج المياه في هذا المحيط الثري , ولكن تبين لها أنها تنتمي إلى
هذا المكان , كـأي فرد من أفرد أسرة كالـﭭـاني . يمكنها أن تنسجم مع
الأسرة بسهولة وتشكل جزءاً منها , ما يظهر بوضوح أن سيلينا نفسها
تبرز بينهم كإبهام متقرح .
لكن , يبقى هناك دولسي , التحري الخاص , الفتاة العاملة التي
عرفت معنى الكفاح من أجـل كسب لقمة العيش .
عليها أن تتمسك بهذه الفكرة , لأنها أدركت أن ثمة أفكــار لا
يمكنها أن تطلع عليها ليو . فبكل بساطة , هو لن يفهمها .
وهذا أسوأ ما في الأمــر !
منتديات ليلاس . . جمرة لم تحترق
* * *
نهاية (( الفصل التاسع )) . . .