أدرك رامون ذاهلاً أنها المرة الأولى التى ينطق فيها باسمها. كما أدرك إنها المرة الأولى التى يعتبرها فيها ذات شخصية مستقلة فيناديها باسمها الخاص بدلاً من أن يفكر فيها بصفتها ابنة ألفريدو مدرانو أو (الأميرة مدرانو) كما يناديها .
أو المرأة التى توقعوا منه أن يخطبها للزواج .
و كانت هذه صدمة حقاً !
أتراه حقاً لم ير فى هذه المرأة إنساناً مستقلاً؟ لقد عانقها و حلم بها و تمناها . لكن هل رآها حقاً, وحقيقة ؟ و ها هى الآن قد جمدت مكانها , لكنها تدير ظهرها له , فلا يرى منها سوى ساقيها الطويلتين و شعرها الحريرى الفاحم المنسدل على كتفيها , لم يستطيع أن يرى وجهها.
لكن هل سبق له أن رأى وجهها؟ هل سبق له قط أن رآها ؟
من هى إستريللا مدرانو؟من هى هذه المرأة التى تلقى الأمر أن يتزوجها... باستبداد و غطرسة جعلاه يقف يعاديها منذ البداية ؟
و كرر بحزم أكبر :"لا تذهبى ! لا تخرجى بهذا الشكل ! أبقى !"
و ببطء , بطء بالغ دارت على عقبيها و وقفت تواجهه و قد لمعت عيناها بشكل مثير للشك, فى أشعة شمس الغروب المتدفقة من النوافذ الكبيرة . بدا وجهها مختلفاً بدا شاحباً و هزيلاً و بالغ الرقة .
أم لعل هذا شئ آخر لم يره من قبل ؟
سألته برقة :"أبقى ؟ و لماذا ؟"
بدت حذرة كحيوان سقط فى فخ و هى تنظر إليه بعينين واسعتين متوجستين و كأنها تخاف أن ينقض عليها فجأة.
ــ هل أكلتِ ؟
هزت رأسها نفياً غير واثقة من صوتها لتجيب
ــ و لا أنا . ونحن بحاجة إلى ما يسد رمقنا.
و جاء جوابها إيماءة من رأسها .
ــ هذا حسن
فى طريقه إلى المطبخ كان عليه أن يمر بقربها فأخذت تنظر إليه بصمت و قد بدا الحذر و الشك على وجهها .
لم يعجبه ما جعلته يشعر به . لم يعرف قط امرأة تصرفت معه بهذه الطريقة. و قد عرف نساء كثيرات مع مرور السنين , نساء كان الحديث معهن سهلاً و جذبهن إليه سهلاً . لكن هذه المرأة حذرة كالقطة الوحشية . منذ لحظة كانت متكورة على الكرسى ناعمة و شبه مرتاحة و فى اللحظة التالية راحت تفح و تخمش كنمر صغير , بعينين بنيتين تنفثان اللهب و رأس مزهو ينتصب عالياً.
ــ لن أؤذيك.
وجد نفسه مرغماً على أن يقول لها هذا عله يريحها . فقالت بصوت خافت :"لا....لا أظنك تنوى هذا"
ــ و ماذا يعنى هذا؟
كان يواجهها مباشرة و تمكن من أن يرى اكفهرار عينيها الجميلتين و توتر عضلات وجهها.
و عندما لم تجب قال :"إستريللا ...."
فقالت بعنف رغم أنه رأى ارتجافاً فى جسدها :"ذلك يعنى....يعنى انك كالآخرين أحياناً لا ترى أبعد من أنفك"
ــ الآخرين؟ أتعنين الرجال الآخرين الذين أراد أبوك أن يتزوجوك؟ الرجال الآخرين الذين أراد أن يشتريهم؟
و شعر بالغثيان و هو يتصورهم جميعاً و يتصور نفسه مجرد رقم فى القائمة.
ــ تباً لك إستريللا , أنا لست كذلك!
ــ لا؟ لا ؟ هل أنت واثق؟
و شبكت ذراعيها على صدرها و هى تخبط الأرض بقدمها .
ــ طبعاً. كلهم طلبوك للزواج لأنهم أرادوا شيئاً م أبيك .
ــ و ما الفرق بينك و بينهم إذن؟ وبماذا تختلف عنهم؟أخبرنى ماذا كنت تفعل فى تلك الغرفة....و لماذا أرسلنى أبى لأتحدث إليك؟ ما الذى كنت تفعله ؟
ــ ما كنت لأفعل أبداً ما طلبه منى أبوك!
ــ أحقاً .....أحقاً ما كنت لتفعل ذلك ؟
ــ ألم تسمعى ما قلته ؟ لا , لم أكن لأفعل ذلك . تريدين أن تعرفى الفرق بيننا...بينى و بين أولئك الرجال الذين اشتراهم أبوك؟ الفرق هو أنه أستطاع أن يشتريهم ! و قد طلبوا يدك للزواج بينما أنا لم أفعل .
ــ السبب......؟
ــ لا .
و رفع يده بحركة خشنة يوقف ذلك الحديث لكنه عاد فتابع :"ليس لأننى لم أجد فرصة لذلك, أو لأنك درت حولى كقطة غاضبة , أو لأننا تشاجرنا فغيرت رأى, بل لم أطلب يدك لأننى لم أشأ ذلك !"
ما كان ليفعل ما يريده ألفريدو مدرانو , بعد تلك الإهانات التى قذفه بها الرجل العجوز و التى مازالت تتردد فى ذهنه.
كان مدرانو قد قال له :"شركتى ليست لأمثالك فالأرض التى بُنيت عليها محطة التلفزيون ملك لـ آل مدرانو منذ سنوات طويلة و لن أبيعها لشخص مجهول برز فجأة . شخص ليس له الحق حتى فى حمل الاسم الذى يحمله , وإن تمكن من كسب مليونه الأول"
فى الواقع كان رامون قد استدار و خرج عندما عاد الثعبان العجوز و قد إليه إقترحاً آخر....وهو أن يتزوج إستريللا فيفوز بالتلفزيون بهذه الطريقة.
و قال لها :"لم أكن لأطلب منك الزواج حتى بعد أن عرض علىّ أبوك الشركة بنصف الثمن الذى طلبه , إذا ما أخذتك معها"
إذا كان الذهول قد بدا عليها من قبل فالدوار حتماً ما يظهر عليها الآن. إذ شحب وجهها كلياً و لم يبق و لم يبق فيه لون باستثناء عينيها و فمها الوردى أثناء كلامه كان قد اقترب منها إلى حد رأى معه الفتحة بين شفتيها و هى تعضهما . وللحظة تملكته رغبة أن يمرر بإصبعه على فمها, لكى يسوى ما ألحقه به العض من ضرر, لكنه يعلم أنها لن تستطيع احتمال ذلك . ربما , إذا فعل هذا , ستستدير و تهرب منه قبل تطرف عينه .
ــ لكننى أعلم مدى رغبتك فى الحصول على محطة تلفزيون .
ــ نعم . نعم. أنا أريدها . حينذاك كنت أفضلها على أى شئ آخر فى العالم.
وسكت لحظة يتذكر فيها كم كانت تلك الصفقة تعنى له .
ــ ما من شئ آخر يبعث فى نفسك الرضا ذاته ؟
ــ ما من شئ آخر يماثلها . إننى أكره فكرة خسارتها ....و مازالت أرغب فيها.
ــ لماذا ؟
فتنهد وهو يدس يديه فى شعره :"حسناً . إنها قصة طويلة"
ــ لدى الليل بطوله .
بدت حريصة على سماع أسبابه . و الغريب أنه شعر بأن بإمكانه أن يخبرها, أن يفسر لها مشاعره و شيئاً من تاريخ أسرته المقعد .
ــ أتريدين حقاً أن تسمعى القصة؟ فى هذه الحالة , فلنعد إلى الجلوس.
تبعته إلى المدفأة و جلسا حيث كانا من قبل , قبل أن يبدأ الكلام :"لكى تفهمى القصة , عليك أن تعلمى شيئاً عن أسرتى"
ــ أعلم أن أمك انكليزية و أباك .....
ــ إذا كنت تعنين روبين داريو فهو ليس أبى . ليس أبى الطبيعى .
بدت عليها الدهشة :"إذن من....؟"
ــ جوان ألكولار .
ــ من شركة (ألكولار كوربوريشن)؟
ــ نعم .
و أخذ يحدق إلى الأرض :"قامت بينه و بين أمى علاقة و كنت أنا النتيجة . لكن أمى كانت متزوجة حينذاك من....من روبين فجعلها تعده بألا تخبر أحد"
ــ و هكذا نشأت و انت تعتقد أن روبين داريو أبوك.
فأومأ ببطء:"و قد سجلنى ابناً له , لكن هذا لم يكن ممكناً لأن روبن لا ينجب"
ــ ألم تخبرك أمك قط؟
ــ لم يكن لديها فرصة فقد ماتت و أنا صغير لكنها تركت لى رسالة لأقرأها عندما أبلغ الخامسة و العشرين فعرفت الأمر بهذه الطريقة .
ــ بما شعرت حينذاك؟
ــ بما تظنين أنى شعرت ؟ بما كنت لتشعرى لو علمت فجأة بأن أباك لست فى الحقيقة أباك؟
أخذت إستريللا تفكر فى ذلك ثم هزت رأسها . بدت ذاهلة تماماً لكن شعورها لا يمكن أن يماثل شعوره عندما عرف الحقيقة .
منتديات ليلاس
قالت:"كنت لأشعر بالضياع"
ــ هذا بالضبط ما شعرت أنا به . لم أعرف إلى أين أنتمى و من أكون و من هى أسرتى. أنا و روبين لم ننسجم قط . لم نكن متشابهين أبداً بل كنا مختلفين تماماً أردت أن أعمل فى الصحافة بينما أرادنى هو أن أتخذ عملاً معقولاً كأن أصبح محاسباً مثله . تشاجرنا لهذا السبب إلى مالا نهاية . وقد فهمت ميولى بشكل أفضل عندما عرفت أصولى. عندما أدركت أن أبى فى الحقيقة هو الدون جوان ألكولار. ولعل أباك كان ليسلمنى شركته الغالية لو علم أنى أبن أسرة كبيرة من أسر (كاتالان) و أن أبى ذو اسم ولقب ربما أعرق من اسمه و لقبه هو , مدرانو و أنه شخص كون ثروة من الصحافة.
ــ هل هذا هو سبب رغبتك فى الحصول على الشركة ؟ لكى تكون جزءاً من إمبراطورية ألكولار؟
هز رامون رأسه رافضاً بشدة :"لا , أبداً . أردتها لأحظى بشئ خاص بى لا يكون جزءاً من ثروة ألكولار بل من عرق جبينى . عندما عثرت على أبى الحقيقى رحب بى فى أسرته و أظنه أبتهج عندما علم أن لديه ابناً يعمل فى المجال الذى اختاره هو.لم يكن ابنه خواكين يهتم بالصحافة فذهب للإقامة فى الريف حيث يمتلك كروم عنب يعتنى بها و يصدر إنتاجها . أما أليكس فكان له دور آخر فى الشركة"
سألته إستريللا بفضول:"أليكس؟"
فأجاب :"أليكس هو أخ آخر لى من أم أخرى. سبق و أنذرتك بأن هناك تعقيدات "
هزت رأسها و هى تتناول كأسها . كان الأمر معقداً حقاً و هذا ما أذهلها . لم يكن والد رامون مخلصاً لزوجته فخانها مع امرأتين أخريين و أنجب منهما و مع ذلك لا تزال سمعته جيدة. أما هى فتورطت ببراءة و غباء و بصيرة عمياء مع رجل متزوج و كانت النتيجة أنها دمغت بصفة (الفاسقة) منذ ذلك الحين.
كانت هذه إسبانيا....ولكن إسبانيا هى بلد الرجال . هذا كارلوس مثلاً لقد تفهم الناس هنا سلوكه....إنه رجل سلبت عقله فتاة صغيرة غير مسئولة و قد عفا الكل عنه قبل أن تعود من المدرسة الداخلية , المدرسة الخاصة التى اعتقد أبوها أنها ستجعل من ابنته سيدة محترمة . ثم إذا بـ كارلوس يموت بشكل مأساوى.
ــ إذن أردت شركة التلفزيون لنفسك و ليس لتصبح جزءاً من شركة (ألكولار كوربوريشن)
ـ بالضبط . كانت لتصبح الشئ الوحيد الذى أعرف أنه ملكى حقاً و ليس ملك ألكولار أو درايو . أبى كان سيعطينى جزء من (شركة الكولار) و لكن ليس هذا ليس ما أريده . ما أريده هو أن أصبح نظيره فى العمل , مثيل أبى الحقيقى فى عالم أعماله . وإذا ما حصلت على شركة مدرانو حصلت على شيئاً من إسبانيا القديمة تراث (كاتالان) الذى يهتم به جوان الكولار أكثر مما يهتم به أبوك . وهكذا لعل هذا سبب رغبتى فى الحصول على الشركة
حدثت نفسها بأنه إذا لم تجعلها هذه المكاشفة تخبره بسبب قدومها إلى هنا فلن يستطيع أى شئ آخر ذلك . أخذت نفساً و انتصبت فى جلستها و كأنها تواجه فجأة أمراً عليها أن تقوم به . إذا أردت أن تفعل ذلك. فهذا هو الوقت المناسب:"ماذا لو أخبرتك أنك لن تخسر الشركة؟"
ها قد قالتها , وشعرت بالخوف يتملكها فارتعشت رغم أشعة الشمس الغاربة . حالما رأت رد فعله و هو يعترف بمدى رغبته فى الاتفاق مع أبيها , أدركت أنها لن تحصل على فرصة أخرى أبداً. لن تجد مقدمة أخرى أفضل للكشف عن سبب قدومها إلى هنا.
لكنها لم تصدق أنه كان لديها الجرأة على النطق بتلك الكلمات بعد أن رأت حاجبى رامون ينعقدان قبل أن يقول ذاهلاً :"ماذا؟ ماذا تقولين؟"
ــ قلت ماذا ستفعل لو أخبرتك أن ثمة طريقة تجعلك لا تخسر ما تسعى إليه و بذلك تصبح شركة التلفزيون لك؟
ــ و ماذا علىّ أن أفعل بالضبط؟
ــ ماذا.....تفعل ؟
و تملكها الارتباك وجف فمها و غصت بريقها و لم تجد القوة لتجيبه
ــ إستريللا ؟ ماذا تقولين ؟ هذا غير ممكن . أنت تعلمين ماذا حدث . فقد رمى أبوك الاتفاقية كلها فى وجهى.
ــ أظن أن بإمكانك أن تقنعه بأن يغير رأيه.
ــ لابد انك مجنونة فقد قال إنه لن يبيع
ــ إلا بشرط واحد.
من المدهش أن صوتها عاد إليها و بشكل قوى و أوضح مما كان عليه. فبعد أن تجاوزت الصدمة لسماعها نفسها تقول هذه الكلمات بدا لها فجأة أن الأفكار التى راودتها و الخطط التى وضعتها و المناقشات التى دارت بينها و بين نفسها , قد انتعشت و منحتها القوة التى تحتاجها , فبدت هادئة واثقة من نفسها . لكن ما لم تستطع التنبؤ به هو ردة فعل رامون . الذى قال :"إلا بشرط واحد . ولكن يا إستريللا , أنت تعلمين ما هو ذلك الشرط , أنه يريدنى أن..........."
قال هذا بغضب مكبوت و سكت.....فأكملت عنه :"أن تتزوجنى . قال أبى إنه سيبيعك الشركة إذا ما وفقت على أن تتزوجنى "
ــ أتريدين أن تقولى إنك موافقة على ذلك و إنك تشاركينه طلبه؟
أتراها قالت ذلك؟ هل هى حقاً مستعدة لذلك ؟ ظنت ذلك حين جاءت إلى هنا, وهذا كل ما كان فى ذهنها.
استجمعت قوتها كلها :"هذا ما أقوله بالضبط"
ــ أتريديننى أن أتزوجك؟
ــ نعم , نعم , هذا ما أريده