كاتب الموضوع :
رباب فؤاد
المنتدى :
رومانسيات عربية - القصص المكتملة
رد: 31_ قلب أخضر بقلم رباب فؤاد .. القلب الحادي عشر
تمطت بنعومة كقطة إيرانية مدللة وهي تفرج عن صفاء عينيها البلوريتين وتدير رأسها إلى موضعه بجانبها، لكنه لم يكن هناك.
عقدت حاجبيها في حيرة وهي تطالع الساعة المجاورة للفراش لتنتفض واقفة وهي تشتم بحنق ـ"اللعنة... لقد غرقت في النوم ثانية وأضعت موعد (مودي)...ماذا حدث لمخي حتى يرفض الاستيقاظ مبكراً"؟
قالتها وهي ترتدي معطفها المنزلي في سرعة وتخرج من باب الغرفة لتجده جالساً على الأريكة المواجهة للتلفاز وظهره لها. لم تهتم بما يشاهد وهي تقترب من خلفه لتحيط عنقه بذراعيها وتطبع قبلة سريعة على وجنته هامسة بعتب ـ"لماذا لم توقظني لأساعد (مودي)؟"
طبع قبلة سريعة على وجنتها هو الآخر وهو يجيبها بهدوء ـ"لم أرد إزعاجك".
شعرت ببرودة قبلته على وجهها فعقدت حاجبيها وهي ترفع بصرها إلى التلفاز متسائلة ـ"ماذا بك؟ بل ماذا تشاهد في الصبا...".
بترت عبارتها بشهقة قوية وهي تتراجع في ذعر بعد أن لمحت على الشاشة مشهد أشلاء ودماء بشرية تغطي الأرض، وشريط الأخبار ينقل النبأ المؤسف: انفجار يستهدف كنيسة القديسين بالإسكندرية.
شهقتها أفزعته لينهض مسرعاً ويتجه إليها يحتويها بينما تهذي بشبه انهيار ـ"ه..هل هذه اللقطات في م..مصر؟ الإسكندرية خاصتنا؟ ك..كنيسة القديسين في مصر؟ متى حدث ذلك؟"
ربت على كتفها واستدار معها كيلا تعلق بصرها بالتلفاز وهو يهمس مهدئاً ـ"اهدئي حبيبتي. لقد انفجرت سيارة مفخخة أمس بعد منتصف الليل".
أبعدت وجهها عن صدره وهاله كم الدموع الذي أغرقه وهي تنشج بألم ـ"كيف عرفت؟ بل متى عرفت؟ كم عدد القتلى؟ هل عرفوا م..".
قاطع تساؤلاتها وهو يدفن وجهها في صدره ثانية ويهدهدها هامساً ـ"ششش على رسلك حبيبتي... لقد أيقظني (حمزة) في السادسة ليبلغني بهذه الكارثة.. أبلغوه بها بعد حدوثها بدقائق وأمضى ليلته بالصحيفة يتابع التقارير بنفسه. أخبرني أن (سلمى) هي التي قامت بالتحقيقات لأنها تقيم بالقرب من الكنيسة بالفعل".
مسحت دموعها لتقول بتعاطف ـ"يا إلهي.. كيف احتملت هذه المشاهد أمس؟ لا ريب أن أعصابها لن تحتمل طويلاً".
مسد ظهرها بحنان وهو يهمس بابتسامة ـ"(سلمى) قوية، ربما أكثر من توأمها... لا تخافي عليها وهيا استعدي لأنك ستلعبين دوراً هاماً في هذه التحقيقات".
اتسعت عيناها فزعاً وهي تبتعد عنه كقط مذعور هاتفة باستنكار ـ"ماذا؟ كلا لن أذهب إلى هناك ولو فقدت وظيفتي و..".
قاطعها موضحاً بهدوء ـ"لن تذهبي إلى الإسكندرية يا حبيبتي..حتى وإن طلب (حمزة) ذلك لم أكن لأوافق. مهمتك باختصار هي نقل ردود أفعال المسيحيين في القاهرة، وهذا لن يكون صعباً. لديك أسرة عمو (عزيز) وهم سيقدمونك لأقاربهم وأصدقائهم.. لن تواجهك أية صعوبات بإذن الله".
تنفست الصعداء وهي ترتب خصلات شعرها المتناثرة على كتفيها بفوضوية وتهز رأسها قائلة بحماس ـ"حسناً.. سأذهب للاستعداد الآن. يمكنني أن أحصل على أول جزء من تحقيقي الآن. فلا ريب أن ماما (تريز) مستيقظة بالفعل".
منحها ابتسامة صافية وهو يطبع قبلة دافئة على جبهتها هامساً بتشجيع ـ"بالتوفيق حبيبتي".
أغلقت باب المكتب خلفها وقلبها يتقافز من شدة السعادة. فما قاله لها نائب رئيس التحرير قبل قليل جعلها تشعر وكأنها تلمس السحاب بيديها.
نجاحها في تغطية حادث الكنيسة بحرفية عالية وسرعة تواجدها بالموقع والتقاطها للعديد من الصور الحصرية بهاتفها الذكي منح الصحيفة سبقاً صحافياً قوياً، تفوق حتى على أهم الصحف القومية.
وشهادة الأستاذ (حمزة) في حقها اليوم هي أفضل شهادة تقدير حصلت عليها حتى الآن، بل إنها تناست كل ألمها النفسي الذي تعانيه منذ الحادث بمجرد أن أثنى على جهودها.
لا تنكر أنها تواجه صعوبات في النوم منذ ليلة الحادث قبل أربعة أيام، ولولا عودة أمها السريعة من الإسماعيلية في الفجر ما استطاعت متابعة حياتها بشكل طبيعي.
الغريب أنها رفضت الذهاب مع أخيها الأكبر إلى منزله حينما انتهى من سهرته أخيراً وفوجئ بأمر الانفجار. ورغم كل الهلع الذي ارتسم على وجهه وهو يزرعها بين أحضانه وسط الشارع بين الحطام والدماء، لم تتأثر ولم تعانقه بنفس الحب الذي اعتادت معانقته به من قبل.
فاليوم تحديداً زادت الهوة بينهما.
وحده توأمها هو من غرست نفسها بين ذراعيه وانهارت تبكي في لوعة تفرغ على صدره عبء الصدمة النفسية التي تعانيها، ووحده هو استطاع احتوائها و...
قطع سيل أفكارها رؤيته جالساً أمام مكتبها برصانته المعهودة ينتظر عودتها، فرفعت حاجبيها في دهشة هاتفة ـ"(أكرم)؟ ما هذه المفاجأة؟"
نهض يصافحها وأجابها مبتسماًـ"الصحافية الهمام نسيت أصدقائها بعدما أصبحت لامعة".
جلست خلف مكتبها وعيناها تجريان سريعاً على مكتبي (منار) و(علا) اللذان خليا من صاحبتيهما وكأنما تعمدتا التخلي عنها في هذا التوقيت بالذات.
حينما عادت نظراتها خاوية الوفاض من مكتبي صديقتيها، سارعت لتنظر إليه قائلة بابتسامة مرتبكة ـ"كيف أنسى أصدقائي؟ إنها مشاغل العمل فحسب. كما أنك كنت معي قبل أربعة أيام و..".
اقترب بوجهه عبر المكتب بشكل مباغت هامساً ـ"يا لك من قاسية... أربعة أيام لم أرك ولم تجيبي اتصالاتي. هل تعاقبينني على شيء لا أعرفه؟"
تراجعت برأسها سريعاً وهي تنفي اتهامه بارتباك ـ"بالطبع لا. لكنني كنت مشغولة بالفعل طيلة الأيام السابقة، وكنت أعود إلى المنزل منهكة القوى. اليوم فقط أتيت إلى القاهرة بناء على طلب نائب رئيس التحرير".
تأمل ملامحها الخجولة للحظات قبل أن يسأل بهدوء ـ"إذاً فنحن ما زلنا أصدقاء؟"
هزت رأسها إيجاباً وتعبير براءة مغري يرتسم في عينيها، ليهتف في سرعة ـ"تناولي الغذاء معي اليوم. سنحتفل معاً بنجاح تحقيقاتك و..".
قاطعته بارتباك بدا وكأنه جزء منها اليوم تحديداً ـ"اعذرني يا (أكرم).. فلدي الكثير من العمل وأسرة (منار) دعتني لتناول الغذاء معهم بالفعل. ربما في مرة قادمة".
قال بإلحاح ـ"اجعليها وجبة الإفطار غداً.. لن أمانع".
ازدادت حيرتها من إلحاحه فسألته ـ"ماذا بك يا (أكرم)؟"
أجابها باندفاع ـ"أريد التحدث معك في أي مكان يا (سلمى) وأنت تتهربين مني منذ يوم الانفجار. لذا سأقول ما أريده الآن ولن يهمني أننا في مكان عملك".
ثم التقط نفساً عميقاً وهو يلقي قنبلته في وجهها قائلاً ـ"أريد الارتباط بك يا (سلمى)، ولا أرى أي مبرر للانتظار أكثر من هذا. لقد أبلغت (رأفت) برغبتي تلك أكثر من مرة ولم يُعطني أي إفادة. لذا قررت التعامل معك بنفسي ومنحك فرصة أفضل للتعرف إلي و..".
قاطعته في دهشة حقيقية ـ"(أكرم)..ماذا تقول؟ لقد ظننت أننا...".
هز رأسه نفياً في ثقة وهو يقاطعها بحزم ـ"كلا يا عزيزتي نحن لسنا أصدقاء..ليس بالمعنى المفهوم. أعني أنني لم أتقرب منك بهدف الصداقة، وإنما بهدف أن تعرفينني بشكل أوضح حتى يمكننا الارتباط على أسس واضحة فيما بعد".
تلعثمت وهي تحاول ضخ الثقة في صوتها ـ"أعتقد أن فيما بعد هذا لم يأت وقته بعد".
قال بإصرار ـ"بل أتى بالفعل يا عزيزتي. إننا نتحدث بشكل يومي منذ فترة. أعترف أنها ليست فترة طويلة ولكنها تكفيني لأزداد إصراراً على الارتباط بك. التفاهم والقبول المبدئي موجود بيننا، وما زاد على ذلك يمكننا تحقيقه بعد الخطبة. لكنني لا أستطيع البقاء هكذا دون أن أرسو على شاطئ معك".
عقدت حاجبيها وهي تنصت إليه في اهتمام وأمواج من المشاعر المتناقضة تتقاذفها يمنة ويسرة. هي تعلم جيداً أنه يريد الارتباط بها منذ فترة، بل واستعدت لذلك منذ ألمحت (منار) و(علا) لهذا الأمر. أغلب مكالماته الأخيرة قبل ليلة رأس السنة_ وحتى تلك الليلة_ كانت تحمل نبرة غزل خفية تدغدغ أنوثتها. ورغم ذلك فاجأها طلبه الآن وكأنها تسمعه للمرة الأولى.
صمتت تحاول العثور على الكلمات المناسبة للرد على سيل كلماته المندفعة، فلم تجد سوى تمتمة لا معنى لها بحروف غريبة لا تعدو كونها مقاطع صوتية، ليقاطعها هو بنفس الاندفاع ـ"أريد أن أخرج معك لتناول الإفطار والغذاء والعشاء، دون أن أخشى نظرة غضب يرمقني بها شقيقك".
أضحكتها العبارة رغماً عنها لتشاكسه قائلة ـ"أخشى أنك حينها ستتناوله عبر الانترنت لأنني أقيم في الإسكندرية ولست في القاهرة".
قال بنفاذ صبر ـ"أنت الآن في القاهرة ومع ذلك لا استطيع الجلوس معك في مكان عام دون الشعور بالذنب لأنك شقيقة صديقي. ثم إنني لن أمانع أن أتناول وجباتي عبر الانترنت طالما ستكون معك. أريد التخلص من الشعور وكأنني لص يا (سلمى)".
تأملت ملامحه الصادقة للحظات بعينين باسمتين قبل أن تئد ابتسامتها بجملة تحمل ألمها الدفين ـ"هل تعلم علاقتي بأمن الدولة؟ هل تعلم أنني أحل ضيفاً عليهم كل فترة إذا ما ألمحت في مقالي إلى كبار رجال السلطة؟ هل ..."
قاطعها بثبات وهو يحاصر عينيها بعينيه الذهبيتين ـ"أعرف كل هذا وأكثر، ومازلت أصر عليك وعلى وجودك في حياتي. (سلمى) أنت نموذج الفتاة التي أريدها في حياتي، وستكتمل سعادتي بوجودك معي".
خدرتها نظراته القوية قليلاً، لتقول في تخاذل ـ"(أكرم) لقد فاجأتني. أعلم أنك طلبت الارتباط بي أكثر من مرة، لكن أن تواجهني بطلبك بهذه السرعة أمر مفاجئ بالفعل".
منحها نظرة صامتة وكأنه يهتف بها "توقفي عن هذا الهراء الذي تجيده الفتيات"، فمطت شفتيها وهي تردف بتلعثم ـ" ح..حسناً امنحني بعض الوقت و..".
نهض من مقعده في حركة حادة أجفلتها قبل أن ينحني بجذعه ليواجهها بعينيه الذهبيتين قائلاً بجذل ـ"لا مزيد من الوقت.. سأفاتح (رأفت) اليوم بشأننا، وسأبلغه أن تنتظروني وأسرتي يوم الخميس القادم لأتقدم إليك رسمياً".
قالها وهو يعتدل ليمنحها أكثر ابتساماته جاذبية ويلوح بيده مودعاً ـ"إلى اللقاء غداً إن شاء الله يا عزيزتي".
حينها فقط تذكرت أن اليوم هو الأربعاء.
******************
|