أحنى رأسه في إنهاك وهو يشعر بثقله على كتفيه، ليأتيه صوت ساخر من خلفه ـ"ألم تتذكر بعد سبب وجودك أمام وزارة الداخلية؟"
تنهد في عمق قائلاً بألم ـ"أقسم لك يا سيدي أنني صادق معك. أنا لست من القاهرة، وأحببت استغلال الوقت ريثما تنتهي معاملاتي بمجمع التحرير. لكنني ضللت الطريق لأنني كنت أتحدث بالهاتف وانحرفت إلى الشارع الخطأ. هذا كل ما حدث".
اقترب صاحب الصوت وهو يقول بسخرية ـ"وهل تريدني أن أصدق هذه الحجة التي لا تقنع طفلاً صغيراً؟"
ثم ما لبث أن أردف بفحيح شرس وهو يقف أمامه ـ"أنت عضو بجماعة محظورة، وتاريخك معهم قديم منذ كنت بالجامعة. فكيف تريد أن أصدقك حينما تدعي أنك ضللت الطريق أمام وزارة الداخلية"؟
رفع رأسه إلى مصدر الصوت محاولاً تخمين مصدره في الظلام المحيط به قائلاً بنفاذ صبر ـ"لقد انفصلت عن الجماعة منذ أكثر من خمس سنوات. أنا لم أكن في مصر من الأساس حتى قبل عامين".
هز صاحب الصوت رأسه قائلاً بابتسامة واثقة ـ" بالفعل لم تكن في مصر لأنك كنت في معسكرات تنظيم القاعدة باليمن. أتنكر ذلك؟"
شعر باتساع عينيه_ أو ما ينبغي أن يكون كذلك_ تحت العصابة القاتمة التي تحيط بهما ليقول بانهيار ـ"يا سيدي أنا كنت أعمل مدرساً في جنوب المملكة العربية السعودية، وحينما أنهيت تعاقدي سافرت لزيارة بعض الأصدقاء في اليمن عبر الحدود، ولم يطل بقائي هناك. أمضيت اسبوعاً واحداً فقط. فكيف أنضم لتنظيم القاعدة؟"
أصر صاحب الصوت على رأيه وهو يقترب بفحيحه من أذن الشاب هامساً ـ"ألم تسمع بالتجنيد عبر الانترنت؟ والحصول على محاضرات (أنور العولقي) ليس مستحيلاً. ربما ذهبت للتعرف إليه بشكل شخصي بعد أن آمنت بفكره عبر الانترنت".
هز رأسه بعنف معترضاً بشدة ـ"أقسم بالله أنني لم أتصل بأي ممن تتحدث عنهم أو غيرهم. أنا مدرس لغة انجليزية سافرت بحثاً عن فرصة عمل ذات دخل مجزي حتى استطيع تحمل تكاليف الزواج، ولو أنني من أتباع الفكر الجهادي كما تتهمني فلماذا لم أسافر إلى العراق أو أفغانستان؟ ألم يكن من الأفضل أن أحارب الاحتلال الأمريكي هناك؟"
برقت عينا الضابط كمن حصل على مبتغاه وهو يبتسم ابتسامة نصر قائلاً ـ"ها قد اعترفت بنفسك. أن محاربة الاحتلال الأمريكي هدف سامي. ربما تلقيت تدريبات في اليمن بهدف الانتقال إلى العراق أو أفغانستان فيما بعد".
هتف رغماً عنه ـ"هدف سامي لكني لا أعتنقه ولا أؤمن به. أنا رجل مسالم، وحينما أحارب فلابد وأن تكون حربي خاصة بي، ليست في بلاد أخرى".
ربت على كتفه بانتصار وابتسامته تتسع لتشمل وجهه كله ـ"إذاً تعترف أن وجودك أمام مقر وزارة الداخلية في يوم اجتماع مجلسي الشعب والشورى لم يكن من قبيل الصدفة".
كاد يصرخ كمداً من محاولات الضابط إثبات التهمة عليه.. فمنذ اعتقلوه في اليوم السابق وهم يصرون على اتهامه بعمل إرهابي.
لم تكن المرة الأولى التي يُعتقل فيها على خلفية اتهام بالإرهاب، لكنها المرة الأولى التي يحظى فيها بهذا الاحتفال في لاظوغلي...قلب الجحيم.
أنواع جديدة من الضرب المبرح الذي لا يترك أثراً، فهم لم يلمسوا وجهه أو رأسه.
أما باقي جسده فتعرض لباقي أنواع التنكيل والتعذيب والصعق بالكهرباء كي يعترف بأنشطته الإرهابية.
يوم واحد في هذا الجحيم لا يُقارن بعام في أي معتقل أو مقر آخر لجهاز أمن الدولة.
يوم واحد أوشك خلاله أن ينسى اسمه وتلك المسكينة التي لا يعرف عنها شيئاً، بل ويخشى السؤال عنها كيلا يلفت الانتباه إليها. فهو لن يحتمل إيذائها، وبالتأكيد لن يتردد في الاعتراف بأي شيء يريدونه فقط كي يتركوها سالمة.
سالمة...تذكر الأخرى التي لم يدق قلبه لسواها، والتي تسببت ذكرياتها معه في كل ما مر به منذ الأمس. فلولا تلك الذكريات ما ضل طريقه، وما وطأت قدماه ذلك الجحيم، وما....
قاطع أفكاره صوت الضابط الذي ربت على كتفه بقوة قائلاً ـ"يبدو أن جلساتنا سوياً ستطول يا شيخ (وجيه)".
أطرق برأسه في استسلام وروح السخرية تطفو على روحه وصوته وهو يقول هازئاً ـ"ما دمت لم تقتنع بأنني مجرد تائه في شوارع القاهرة، فلا داعي لإقناعك بأنني لست شيخاً".
ومع ارتفاع ضحكات الضابط المستفزة، أصبح واثقاً أنه لن ير شمس الحرية ثانية.
*********************