أول ما لفت انتباهه كان الصمت الغريب الذي يلف المنزل حوله. طالع ساعة يده ليجدها لم تتجاوز منتصف النهار بعد، فابتسم بخبث وهو يحمد الله في سره لأن موعد عودة الصغير لم يحن بعد.
تقدم بخطوات متسللة يتفقد غرف المنزل واضعاً يده اليسرى خلف ظهره ليخفي ما بها وهو ينتقل بين غرفتهما إلى غرفة (مودي) والمطبخ والحمام دون جدوى.
عقد حاجبيه بقلق حقيقي وهو يشعر بخلو المنزل تماماً من أثرها، قبل أن ينتبه إلى باب غرفة والدها المفتوح رغم أن الغرفة بالداخل غارقة في الظلام.
اقترب بنفس الخطوات المتسللة من الغرفة ليدخلها ويقف متجمداً أمام المشهد أمامه.
فأميرته كانت كالملاك النائم، وقد غطت خصلات شعرها الناعمة ملامحها كستار ذهبي مصنوع من خيوط الشمس اللامعة، بينما تدثرت بمعطف صوفي يعود لأبيها بالتأكيد.
بهرته برقتها وراودته رغبة عارمة في احتواء صغيرته بين ذراعيه ليعوضها ما مضى، فازدرد لعابه وهو يقترب بحذر فهد منها ليزيح خصلاتها عن وجهها في نعومة وينحني ليتأمل ملامحها من قرب.
وللمرة الثانية هذا اليوم تؤلمه عقدة حاجبيها، ليقترب ويطبع قبلة رقيقة على جبهتها، أتبعها برفرفات أكثر رقة على وجنتها الأقرب إليه حتى شعر بها تتحرك مبتعدة عن مجال قبلاته.
كان حلماً رائعاً..فأبيها وأمها وتوأمتها كانوا معها، في شاليه الفيوم كالعادة وضحكاتهم تشق سكون المكان،
حينما بدؤوا فجأة في الابتعاد عنها واحداً تلو الآخر.
في البدء كانت (عنان)...ثم أمها...ثم أبيها.
رفعت عقيرتها بالنداء علهم يستجيبون لها ويعودون.
لكنهم غابوا بين طيات الغمام الكثيف،
وفجأة اختفت رائحة والدها الحبيبة، لتحل محلها رائحته هو.
لماذا يطاردني حتى في أحلامي؟
لا أريده... حقاً لا أريده.. فهو لا يحمل سوى الآلام.
ولكن الرائحة اقتربت أكثر لتتوغل في شرايينها، وتشعر برفرفات حالمة تداعب جبهتها ووجهها.
أجفلت في البداية ثم استسلمت للأنفاس التي تداعب وجنتها وتدغدغ حواسها، لكنها سرعان ما أفاقت لتفتح عينيها في ذعر وابتعدت عنه هاتفة ـ"ماذا تفعل؟"
منحها ابتسامة ناعمة وهو يجلس في الموضع الذي غادرته هي للتو هامساً ـ"أزيل تقطيبة حاجبيك".
عقدت حاجبيها نكاية به وهي تقول بسخرية ـ"حقاً؟ أهكذا تزيلها؟ أزل أسبابها أفضل".
مال بوجهه مقترباً ليطبع قبلة أخرى بين حاجبيها هامساً بتلاعب ـ"ربما تزول إلى الأبد إذا غنيت لها قليلاً".
وقبل أن تبتعد مستنكرة سمعته يغني بصوت دافئ لا يخلو من فخامته المعتادة
يا عاقد الحاجبين...على الجبين اللجين
إن كنت تقصد قتلي...قتلتني مرتين
قتلتني مرتين..يا عاقد الحاجبين
بلغ مؤشر دهشتها ذروته وارتخت ملامحها بالفعل وهي تضحك رغماً عنها، ليغمز هو بعينه قائلاً بمرح ـ"ها قد أزلتها من الجذور".
دفعته في صدره ليبتعد عنها وهي تنهض من الفراش قائلة بدلال طفولي ـ"ابتعد عني واتركني وشأني. فأنا لا أحدثك".
نهض يتبعها في سرعة ليحاصرها أمام الصوان هامساً يدللها ـ" لا أستطيع الابتعاد عن أميرتي".
أشاحت بوجهها بعيداً عن وجهه القريب وهي تواصل دفعه في صدره بقبضتها قائلة بصوت مختنق ـ"بل استطعت الابتعاد، ولابد أن أبتعد أنا الأخرى".
دس أنفه بين خصلات شعرها وهمس في أذنها بنعومة ـ"صدقيني لم أبتعد حباً في الابتعاد. كان رغماً عني".
تخاذلت قوة قبضتها على صدره وغصة الدموع تخنق صوتها المشروخ وهي تعاتبه ـ"أنت لا تحبني. وجودي في حياتك لا يعني أي شيء لك. وحده أبي كان يحبني بصدق وأشعر معه بالأمان. حتى حينما غاب جسده ظلت رائحته تشعرني بالأمان..أ...".
اختنق صوتها أكثر بالعبرات لتصمت مرغمة كيلا تذرفها أمامه، فاحتواها هو بحنان رغم اعتراضها الهزيل هامساً ـ"من قال إنني لا أحبك؟ ربما لم أدرك مقدار حبك من قبل، لكنني أدركه وأثق به الآن. أحبك يا أميرتي، ولم أحب سواكِ".
حاولت التملص من أحضانه وهي تغمغم باختناق ـ"قلت لك دعني. لو كنت تحبني حقاً لما سالت دموعي بسببك، لما آلمتني بابتعادك وكلماتك الجارحة، لما...".
قاطعها وهو يحكم ذراعيه حولها قائلاً بصدق ـ"ششش.. أعترف بخطئي وأعتذر عنه، ولا يوجد ما يغفر لي ذنبي سوى حبك. أقسم لك أنني أحبك وأنني لن أكون سبباً في دموعك ثانية. أحبك وأعدك بأن أكون الأب والأخ والصديق والزوج ومرفأ الأمان لك. أرجوك سامحيني".
في أي وقت آخر كانت لترحب باعترافه لها بحبه، بل وكانت لتطير من فرط السعادة. لكنها لم تكن مستعدة لهذه اللحظة بعد، لذا لم تشعر بحلاوتها. بل شعرت بها مبتورة... ناقصة... لا داعي لها.
أبعدت وجهها عن كتفه بحذر لتمعن النظر في عينيه اللتان وشيتا بمدى صدق كلماته. ارتجف قلبها مع تلك النظرات التي تريد تصديقها بقوة، لكن عقلها كان كمثير الشغب داخلها وهو يزجرها كيلا تمنحه ثقتها ثانية.
وكأنما شعر ببوادر التمرد داخلها وعزم على وأده في مهده، فوجئت به يميل على وجهها ليطبع قبلاته الناعمة على وجنتيها وكأن لا شيء في الكون أهم مما يفعله.
انتقلت إرتجافة قلبها لتشمل جسدها كله وهي تحاول عبثاً الابتعاد عن مجال معذبها والعثور على صوتها الهارب أمام طوفان مشاعره. وأخيراً غمغمت بنبرات مهتزة ـ"ماذا تفعل؟"
شعرت بابتسامته على وجنتها وهو يقول بتكاسل ـ"أتساءل ماذا تضعين على وجهك ليكون مذاقه كالعسل هكذا".
اشتعلت وجنتيها تحت شفاهه وزادت محاولاتها للتملص من ذراعيه لتسمعه يهمس بنعومة ـ"أريحي نفسك. لن أفلتك حتى أصالحك أميرتي".
قالها وهو يدس يده في جيبه ليُخرج منها قالباً من الشوكولاتة بالكراميل رفعه أمام عينيها هامساً ـ"وإذا لم تشفع لي الشوكولاتة.. سأضطر للغناء ثانية".
اختطفت مغلف الشوكولاتة بحركة طفولية وهي تقول في سرعة عله يفلتها ـ"حسناً..لقد شفعت لك الشوكولاتة..ارحم (فيروز) فهي لن تحتمل سماعك تشدو بأغانيها".
ضحك بقوة وهو يشدد احتضانه لها معترضاً ـ"لاااا..اعترفي أن صوتي ليس بهذا السوء. أين تجدين صوتاً بمثل هذا الدفء؟"
فتحت مغلف الشوكولاتة ببساطة وكأنما تسبب مرآه في محو كل مشاعرها السلبية ضد زوجها الذي أخرجت له لسانها بطفولية قائلة ـ"(فيروز) كانت تغنيها لحبيبها وليس العكس. وبالتأكيد صوتها أكثر دفئاً".
شاكسها باستنكار ـ"هكذا؟ إذاً لا داعي للشوكولاتة ما دمتِ لا تقتنعين بدفء صوتي".
منحته ظهرها في سرعة وهي تسارع بقضم الشوكولاتة قبل أن ينفذ تهديده، لكنه كان أسرع وهو يختطف المغلف من يدها ويفلتها من ذراعيه ليخرج مسرعاً من الغرفة ويلوح به بصبيانية محركاً حاجبيه ليستفزها. ويبدو أنه نجح في استفزاز الطفلة المشاغبة بداخلها، إذ خرجت بخطوات متنمرة هاتفة بزئير طفولي مضحك ـ"أعدها لي يا (مازن) وأعدك ألا أقتلك".
حرك حاجبيه ثانية لتهتف بغيظ وهي تهجم عليه لتتعلق بعنقه كطفلة مشاغبة ـ"حسناً..أنت أردت هذا".
ولدهشتها فقد أحكم ذراعيه حولها وهو يغمز بعينه قائلاً بخبث ـ"تذكري أنك أنت من أتيت إلى عرين الأسد يا حلوتي".
*********************