كاتب الموضوع :
رباب فؤاد
المنتدى :
رومانسيات عربية - القصص المكتملة
رد: 31_ قلب أخضر بقلم رباب فؤاد .. القلب الـ 13
أوقف سيارته خارج سور الحديقة وزفر في قوة عله يتخلص من بعض توتره الذي لازمه منذ الصباح استعداداً للقاءها
غريب أمره حقاً وهذا التوتر الذي لا يفارقه
ينجذب الى غموضها فيتوتر.. يحبها فيتوتر.. واليوم....
لا يستطيع تحديد كنه مشاعرها نحوها اليوم، لكنه بالتأكيد متوتر
فتح زجاج سيارته الكهربائي ليملأ رئتيه بهواء الحديقة النقي، وكأنه يتسلح به في مواجهته القادمة.
لا ينكر أنه كان بحاجة إلى الابتعاد،
عنها وعن الصغير وعن مصر كلها
لذا كان طلبه من مكتب المفوضية للسفر إلى تونس بحجة متابعة الأمور عن قرب، خشية أن تخرج الأمور عن السيطرة ويضطر البعض إلى الهرب واللجوء إلى أي من الدول المجاورة
لكنه كان محظوظاً وسرعان ما فر بن علي هارباً وانتقل الأمر بسلاسة ليفيق الثوار صبيحة 14 يناير على نبأ حريتهم التي ثاروا من أجلها.
شاركهم الفرحة وتمنى أن يرى مثلها في مصر قريباً
لكن كان هناك دائماً ما ينغصه
كان هناك دائماً شعور بالفقد والألم يعتصر قلبه كلما رأى طفلاً صغيراً
الفقد لطفله الذي لم يره، والألم لابنه الروحي الذي تخلى عنه مرغماً.
لذا لم يحتمل البقاء أكثر من أسبوع، وعاد إلى مصر مسرعاً، عله يُسكن بعضاً من وجيب قلبه
وما أن أعاد فتح هاتفه حتى تلقى اتصالاً منزعجاً من العم (عزيز) يلومه على اختفائه دون حتى أن يشكو إليه ما فعلته (علا)، ويطالبه بلقائه فوراً
وكان اللقاء الذي وضع فيه (عزيز) النقاط على الحروف.
عاد بذاكرته الى أحداث اليوم السابق، حينما تلكأت قدماه أمام بابها، ليزجرهما عقله الغاضب ويدفعهما الى الصعود الى الطابق التالي حيث شقة العم (عزيز).
استقبله الرجل في نفس الغرفة التي استقبله بها يوم جاء للتعرف عليه بعد عقد قرانه عليها، نفس الغرفة التي رآها بها حورية فاتنة أطارت صوابه ليلة الحناء وجعلته يرمي بحذره السابق عرض الحائط.
جلس على نفس المقعد منتظراً دخول الرجل، حينما تغير إيقاع قلبه فجأة وهو يشعر برائحتها تغزو المكان.
لم تكن رائحتها هي بالتحديد، وإنما الرائحة التي تميز شقتهما
هبت عليه فاستنشقها بحنين غريب في اللحظة التي انزاح فيها باب الغرفة قليلاً ليظهر خلفه (مودي) وكأنما يستأذنه في الدخول.
ما حدث في اللحظات التالية ما يزال غامضاً بالنسبة له. فهل هرع هو الى الصغير أم أن الصغير من ألقى بنفسه بين ذراعيه؟
لم يشغل نفسه بحقيقة التفاصيل لأن همه الشاغل وقتها كان احتضان (مودي) بكل ما أوتي من قوة، وكأنه يعوض بذلك افتقاد أسبوعين له.
كان عناقاً هستيرياً ما بين قبلاته المشتاقة لوجه صغيره واستنشاقه الحاد لنسمات افتقدها، وبين نشيج الصغير الذي يبكي هوانه على أبيه الذي لم ينجبه
بالفعل كان مشهد لقاء أب وابنه بعد طول غياب، حتى أن العم (عزيز) قال بصوت خنقته الدموع ـ"اجلس يا (مودي) ودع (مازن) يجلس. فهو لن يذهب بعيداً".
هز (مودي) رأسه في إصرار مطلقاً أصواتاً متذمرة وهو يتشبث برقبة (مازن) الذي جلس محتضناً إياه وتنحنح محاولاً التخلص من تلك الغصة التي تخنقه قائلاً ـ"بالتأكيد لن أذهب بعيداً عنه".
عقد الرجل حاجبيه الأشيبين مستفهماً بضيق ـ"ما الذي تطلقه على ابتعادك المفاجئ إذاً؟"
هم(مازن) بالرد، ليتابع (عزيز) بدبلوماسية ـ"استمع إلي يا بني.. حينما أتيت للتعرف على أسرتنا وطلب يد (علا)_ بعد أن أصبحت زوجتك_ لم أعترض على ما فعلته رغم عدم اقتناعي به. لكن السعادة التي رأيتها في عيني ابنة صديقي الراحل وابنتي، التي لا تقل مكانتها في قلبي عن مكانة أبنائي، جعلتني أغض الطرف عما حدث مكتفياً بجديتك التي رأيتها عليك وحبها الذي رأيته عليها. ويشهد الرب أنني لم أر منك منذ ذلك اليوم ما يسيء إليها أو الى الصغير. لذا أطالبك بتفسير اختفاءك غير المبرر قبل أن أقول تفسيري الخاص".
تنحنح (مازن) ثانية ليجد صوته الذي خرج محشرجاً رغماً عنه وهو يسأله في المقابل ـ"هل سألتها عما فعلت؟"
أومأ الرجل برأسه إيجاباً وأضاف بحزم ـ"نعم، والآن أسألك أنا.. ماذا فعلت ابنتي؟"
زفر (مازن) في قوة وهو يغمض عينيه كيلا تفضحه نظرة الألم التي استوطنتهما وهو يجيبه مغمغماً ـ"قتلت طفلي. فرطت في أمانة وهبها الله لنا لا لشيء سوى أوهام في رأسها".
سأله بنفس الحزم ـ"ولماذا لا تكون الأوهام في رأسك أنت؟"
اتسعت عيناه وهو يسأله باستنكار ـ"رأسي أنا؟ هل توهمت أنها كانت حامل؟"
أجابه الرجل بحكمة ـ"بل توهمت أنها قتلته، ناهيك عن تعمدها ذلك".
ثم ما لبث أن سأله بابتسامة هادئة رزينة ـ"أجبني بصراحة... لو أنك شعرت في لقاءك الأول بها أنها قاتلة، هل كنت ستتزوجها؟ قل لي بالله عليك كيف تقتل (علا) طفلها وهي التي ربطت مصيرها بطفل ليس لها وتحملت وحدها عبء تربيته؟ لو أنها قاتلة حقاً فيالها من قاتلة رفيعة الأخلاق".
شعر بنبرة السخرية التي غلفت صوت الرجل، لكنه تغاضى عنها وهو يجيبه متصنعاً البرود ـ"لم أقفز الى استنتاج من وحي خيالي الخصب... هي قالت بلسانها إنها لا تريد أطفالاً وإن أخيها يكفيها، وكأن شيطاناً خبيثاً تلبسها بعدما رأت تلك ال... ال(بهيرة)".
تمالك نفسه بصعوبة كيلا يسب (بهيرة) أمام طفلها، وهو الذي كان يتمنى لو يُطبق أصابعه على عنقها حتى يُزهق روحها منذ رآها وقلبت حياته رأساً على عقب.
هز (عزيز) رأسه متفهماً، ثم ما لبث أن أبرز ملفاً ورقياً من جانبه قدمه الى (مازن) قائلاً بهدوء ـ"هذه نسخة من ملف (علا) بالمستشفى يوم الحادث. مكتوب في أولى صفحاته إنها أُدخلت الى المستشفى فاقدة الوعي ومصابة بكدمة في جبهتها واشتباه في ارتجاج بالمخ. وحينما أجروا لها الفحوص الكاملة تبين أنها سليمة ولا تعاني الارتجاج ولهذا سمحوا لها بالانصراف. ولأن الضابط المكلف بالتحقيق في اختطاف (مودي) كان أول من رآها بعد إفاقتها مع (منار)، فلم يخبر الطبيب أي منهما بأمر حملها وضرورة التزام الراحة للحفاظ عليه، خاصة وأنها غادرت المستشفى سريعاً بعد أخذ أقوالها".
لاح عدم التصديق في عينيه، فتابع الرجل مؤكداً ـ"لقد التقيت الطبيب بنفسي بعدها، وأكد لي أنه لم يخبر (علا) بأمر حملها، ولم تفعل أي من الممرضات كذلك".
تنهد في عمق محاولاً السيطرة على ارتجافة غريبة غزت أوصاله وجعلته يتشبث بالصغير بين أحضانه بشكل غريزي، قبل أن يقول بألم ـ"لكنها طلبت الطلاق. راودتها نفسها لطلب الطلاق ونطقها لسانها بسهولة وكأنها تطلب البيتزا المفضلة لها".
تنهد (عزيز) بدوره وربت على ركبته في تعاطف هامساً ـ"لا تستهن بما فعلته بها عودة (بهيرة). لقد هزت أعمدة حياتها الراسخة وهي تطالبها بصفاقة باستعادة طفلها الذي سبق وتخلت عنه وعن أبيه. (علا) مهتزة بشدة، وبحاجة الى استعادة ثقتها بكل من حولها".
هز رأسه بعدم اقتناع وهو يقول بمرارة ـ"لو أن أعمدة حياتنا راسخة كما تقول لما تأثرت بعودة (بهيرة) أو أي سبب آخر. ولأزيدك من الشعر بيتاً، (علا) اتهمتني باختطاف (مودي) قبل ظهور (بهيرة). تركت شيطانها يسوغ لها هذا الاتهام مثلما تركته يدفعها لطلب الطلاق".
انتقلت المرارة الى صوت (عزيز) وهو يقول بإدراك ـ"إذاً فحياتكما بُنيت على أسس غير صحيحة، وهذا كفيل بجعلها غير مستقرة. فإما تعودان الى وضع أسس صحيحة من جديد، وإما يذهب كل منكما من حيث أتى ويجتر وحده آلامه على صفحة من حياته لم يُكتب لها أن تكتمل".
عادت الغصة تسكن حلقه وتخنقه بضراوة حتى احتقن بياض عينيه رغماً عنه وهو يتخيل أن تُهدم حياته بهذه البساطة. حاول أن ينطق لكن الحروف تاهت عنه وعجز عن استعادتها، ليتبع (عزيز) بتعاطف ـ"لقد أدركت (علا) خطأها، وبدأت في أولى خطوات إصلاحه. إنها تتبع تدريبات نفسية خاصة للتحكم في أعصابها وحدة انفعالاتها منذ أكثر من أسبوع، ويبدو أنها تحرز تقدماً ما. لذا إن كنت تشعر أنت الآخر بحاجتك الى مثل تلك التدريبات لا تتردد للحظة. فما تخاطران بفقدانه أكبر بكثير من بضع ترهات لا تحترم حاجة الإنسان الى تلقي المساعدة من مختص"...
عاد من شروده على صوت ارتطام كرة صغيرة بزجاج سيارته الأمامي، فخرج ليلتقطها ويدخل بها من بوابة الحديقة ويلقيها لبضعة أطفال يلعبون بعيداً قبل أن يأخذ شهيقاً عميقاً ويتجه نحوها.
|