جلست على طرف الفراش تتأمل ملامحه المستكينة النائمة، والتي كادت تضيع منها اليوم إلى الأبد. أحكمت الغطاء حول جسده الصغير وانحنت تقبل جبهته وتأخذ نفساً عميقاً مشبعاً برائحته الطفولية التي تثير بها مشاعر شتى، أهمها خفقة قلب زائدة مرتبطة به، وكأنه ابنها الذي حملته قرب قلبها طيلة تسعة أشهر، رغم أنها لم تنجبه.
خفقة قلب أصابتها للمرة الأولى حينما حملته بين ذراعيها قبل سنوات، وظلت تزورها كلما توسد ذراعها أو دفن وجهه في صدرها.
خفقة قلب عزتها إلى تحرك مؤشر الأمومة بداخلها منذ رأته وتولت مسؤوليته.
ومن أعماق صدرها أفرجت عن تنهيدة قوية هي مزيج من الارتياح والسعادة والشجن.
فما مرت به اليوم كان أقسى اختبار لها على الإطلاق.
فأن تفقد توأم روحها شيء، وأن تفقد قلب أمها الحنون شيء، وأن تفقد ظهرها القوي بوفاة والدها شيء،
وأن تفقد ابنها شيء آخر.
نعم هو ابنها مهما قالت الأوراق
هو ابنها حتى وإن أنكر الدي إن إيه ذلك
هو ابنها رغم أن من ستنجبهم لن يكونوا إخوته
هو ابنها الذي تعلمت معه معنى الأمومة، ولن يكون طعمها أحلى مع أطفالها عما كان معه
فكيف تأتي تلك التي باعته وهو رضيع لتأخذه منها الآن بدعوى أنها أمه؟
كيف يكون زواجها سبباً في فقدانه؟
كيف تخبرها بحقد أنها تستطيع إنجاب أطفال آخرين سواه؟
ألا تفهم أنه حبة القلب؟ قرة عينها الذي تشعر به إن كان مريضاً على البُعد؟
بأي حق تأتي اليوم لتسلبها ابن قلبها؟
بأي حق تسول لها نفسها ذلك؟
بأي حق؟
وقف مستنداً إلى باب الغرفة يتابع بعينيه شرودها وتأملها للصغير بينما تمسد رأسه بكفها بلا وعي.
كان يدرك مشاعرها جيداً، ويشعر بالأمواج التي تتقاذفها بلا رحمة وهي تتخيل فقدان الصغير إلى الأبد.
كيف لا يدرك مشاعرها وهو نفسه يعاني من مثيلتها؟
لقد كاد أن يُجن حينما اكتشف اختفاء الصغير، وزاد جنونه حينما أدرك محاولة (بهيرة) للهروب به بعيداً عنهم.
كيف كان سيقضي صباحه دون مشاكسات (مودي) على الإفطار؟
كيف كان سيقضي المساء مفكراً في كيفية تنويمه ليخلو له الجو مع أخته؟
اعتقل ضحكة جانبية كادت تفلت من بين شفتيه عند هذا الخاطر، واقترب منها متسللاً في اللحظة التي كانت تعتدل فيها لتأخذ الصغير النائم بين ذراعيها.
همس بإشفاق حنون ـ"ستوقظيه هكذا يا حبيبتي.. يكفيه ما عاناه اليوم".
رفعت له عينين ذابلتين من كثرة ما ذرفتا من الدموع وهي تجيبه بشراسة قطة تحمي أطفالهاـ"سيبيت في أحضاني الليلة. لن أتركه ينام وحيداً بعد اليوم".
مط شفتيه وهو يضم رأسها إلى صدره مغمغماً ـ"سيبيت كلانا معه كما تريدين. لكنك لست على ما يرام. قومي واغتسلي لتزيلي آثار هذا اليوم وبعدها سنخلد جميعاً إلى النوم".
قاومته في تخاذل وهو يجذبها برفق لتنهض وتتحرك معه إلى خارج الغرفة، بينما يحيط خصرها بذراعه الآخر. هاجمتها انقباضة ألم أخرى فضغطت كفه بحركة لا إرادية أثارت انتباهه فسألها بقلق ـ"ماذا بك؟ إنها ليست المرة الأولى التي أشعر فيها بألمك. أنت تتألمين منذ كنا أمام قسم الشرطة لكنك تخفين تلك الآلام".
سحبت كفها من كفه بحركة سريعة وابتعدت عنه مغمغمة ـ"لا شأن لك".
عقد حاجبيه وهُيئ إليه أنه أخطأ السمع، فقال بهدوء حذر من بين أسنانه ـ"ماذا قلت؟"
واجهته وهي تهتف بحدة ـ"قلت لا شأن لك...لا بي ولا بأخي".
احتقن وجهه بدماء الغضب، لكنه تماسك بهدوئه الظاهري وهو يبتعد إلى حيث غرفة الصغير ليُحكم إغلاق بابها كيلا يستيقظ على صراخ تلك المجنونة.
عاد إلى حيث مازالت تقف ترمقه بنظرات نارية لم يدر لها سبباً وهو يقول في حزم ـ"والآن هل تسمحين بشرح ما قلته للتو؟ ماذا تعنين بهذا الهراء؟"
أشاحت بذراعها في الهواء هاتفة بنوع من الهستيريا ـ"لا معنى له سوى ما فهمت. يكفينا ما أصابنا بسببك منذ دخلت إلى حياتنا".
عقد حاجبيه ثانية وأمسك بعضديها يهزها بقوة هاتفاً بدوره ـ"أصابك بسببي؟ أنسيت أنني غامرت بحياتي من أجل استعادة (مودي)؟ أنسيت أن المعلومات التي قدمتها للشرطة وجواز سفري الأمريكي كانا سبباً في عودته إلى أحضانك الآن؟ أتنكرين أنه لولا سرعة تحركي لما رأيت أخيك ثانية؟"
دفعت قبضتيها في صدره لتبعد وجهها عن لهيب أنفاسه الغاضبة وهي تجيبه بشراسة جديدة عليها لمعت في زرقة عينيها ـ"لولا وجودك في حياتي لما فكرت (بهيرة) في استعادة (مودي)، ولما تعاونت مع عدوك في اختطافه، ومبررها في ذلك أنني سأنجب منك. من قال لها إنني أريد أطفالاً؟ يكفيني أخي ولا أريد المزيد".
اتسعت عيناه في ذهول وهو يحاول استيعاب تلك الهستيريا الغاضبة التي تقذفه بها كطلقات الرصاص وهي تحاول الإفلات من قبضتيه، فلم يملك سوى التساؤل بسخرية ـ"ماذا أصابك؟ هل عادت نوبة نقص السكر ثانية وما يصاحبها من هلاوس، أم أن سلامة عقلك تأثرت بعد اصطدامك بالرخام؟"
نجحت في الإفلات من قبضته وابتعدت عنه إلى طرف طاولة السفرة هاتفة بحقد حاول ألا يصدقه ـ"بل أفقت من كابوس أوهمت نفسي أنه حلم جميل. لا أريدك في حياتي بعد اليوم. طلقني وليذهب كل منا في طريقه. ارحل عنا واتركني لحياتي السابقة التي دمرتها. اتركني علني استطيع بناءها ثانية".
شعر بدماء الغضب تفور في رأسه حتى يكاد يجزم أن الصورة أمام عينيه أضحت بلون الدماء، ولم يستطع التحكم في ذلك الغضب. لم يعد يحتمل ذلك الجنون الذي تقذفه في وجهه منذ الصباح وكأنه شيطان متنكر في زي ملاك.
هو ليس ملاكاً بالتأكيد، لكنه ليس شيطاناً أيضاً.
ربما أخطأ في حقها عدة مرات، لكنها بالغت في الإساءة إليه.
بالغت إلى حد لم يصله شخص قبلها وبقي على قيد الحياة.
وهو لم يعد يحتمل.
أهكذا تكافئه لنجاحه في إعادة الصغير؟
أهكذا تفكر في شكره على ما فعله من أجلهما؟
ماذا أصابها؟
إنها تبدو وكأنها شخص آخر لا يعرفه
شخص وُلد من صدمة رأسها بالرخام البارد
أو ربما من صدمة ظهور (بهيرة) وتحديها السافر وحديثها البغيض
أياً كان فهي لم تعد (علا)..ملاكه الرقيق
حتى ملامحها يكاد يُقسم أنها تغيرت بهاتين العينين الذابلتين وتلك النظرة الإجرامية الشرسة والكدمة الملونة التي تغطي جبهتها الناعمة
لابد وأن شيطاناً تلبسها اليوم ولابد أن...
خرج من أفكاره على صوتها يهتف به في حدة ـ"قلت اخرج من حياتي..طلقني الآن".
اقترب وشياطين الغضب تتقافز أمام عينيه ليقبض على ذراعها ثانية وهو يقول من بين أسنانه بنبرة قوية أثارت الرجفة في صدرها ـ"ارفعي صوتك ثانية لتندمي باقي عمرك على فعلها. لقد سئمت هذا الجنون الذي تتمادين فيه كلما تساهلت معك. واحلمي بالطلاق لأنني لن أمنحك إياه مهما فعلت".
قالها وهو ينفض ذراعها من قبضته في قوة ويخرج صافقاً الباب خلفه في عنف أجفلها رغماً عنها.
زفرت في قوة وهي تراقب الباب الموصد، والعجيب أنها لم تشعر بالراحة كما تخيلت. بل إنها شعرت بآلام أحشائها تهاجمها في ضراوة، وكأن شجارها معه كان يلهيها عن آلامها.
استندت بثقلها إلى ظهر مقعد السفرة وهي تضغط بطنها عليه عله يخفف آلامها دون جدوى، فقد كانت آلاماً لا تُحتمل.
ضغطت أسنانها في قوة وهي تحاول التحرك إلى غرفتها مستندة إلى مقاعد السفرة حينما شعرت فجأة بسائل دافئ يسيل مسرعاً على فخذها حتى قدمها. عقدت حاجبيها وهي ترفع طرف تنورتها بحذر وقد تصاعد دوي ضربات قلبها في أذنيها لتُفاجأ بخيط من الدماء ينساب متدفقاً على ساقها ليتجمع في بقعة صغيرة تحت حذائها الأنيق.
ازدادت ضربات قلبها وهي تحاول عبثاً إجراء حساباتها الخاصة وربطها بتاريخ اليوم، لكنها كانت كلها حسابات خاطئة.
فما تمر به الآن يختلف عما اعتادته كل شهر.
إنها تنزف.
وكان هذا آخر ما أدركته قبل أن يكتنفها الظلام بغتة.