كاتب الموضوع :
رباب فؤاد
المنتدى :
رومانسيات عربية - القصص المكتملة
رد: 31_ قلب أخضر بقلم رباب فؤاد .. القلب الـ 11
جلست بارتباك على مقعد خشبي خارج غرفة الضابط وهي تعبث بيد حقيبتها في توتر وترسل نظرات رجاء خفية لصديقتها لتبقى إلى جانبها. لكن (منار) مالت على أذنها هامسة ـ"لن تفلح نظراتك في تغيير موقفي يا عزيزتي. لقد أخطأتِ في حق زوجك، ولسوء حظك فقد زل الضابط وأخبره بأمر بلاغك التافه، وحان وقت العقاب. سأذهب قليلاً ريثما يفرغ فيك (مازن) كل غضبه. فأنت تستحقين ذلك".
تشبثت بذراعها في يأس وعضت شفتيها هامسة ـ"لا تتخلي عني أيتها النذلة. إنه يبدو غاضباً. لقد غادر مبنى القسم قبل قليل والشرر يتطاير من عينيه. إذا عاد فسيكون مصيري حالكاً. وإذا لم يعد فلا يجب أن تتركيني وحيدة".
اقترب حينها (مازن) بهيبته الواضحة التي لا تفرقه عن ضباط المباحث، فربتت على كتف صديقتها مطمئنة ـ"(مازن) ليس متهوراً ليعتدي عليك داخل قسم الشرطة أياً كان ما فعلته. فقط تحملي لسانه اللاذع لأنه سيكون أقوى من جلد السياط. بإذنك".
قالتها وهي تبتعد في سرعة بعد أن أومأت برأسها بتحية سريعة ل(مازن) الذي وقف مشرفاً على مقعدها من علٍ وحدجها بنظرة غامضة دفعت الدماء للهروب من وجهها.
جلس صامتاً على مقعد مجاور لتجفل رغماً عنها، لاسيما حينما رأت كفه تمتد إليها.
كان يغلي غضباً منذ زل الضابط واخبره بأمر بلاغ زوجته ضده
تقافزت شياطين الغضب أمام وجهه لكنها أجاد لجامها أمام الضابط وتظاهر بالابتسام قائلاً إن حصانته المزدوجة تحميه من أي بلاغ مماثل
لكنه ما أن خرج من المكتب حتى استسلم لغضبه، والذي ظهر جلياً في خطواته السريعة القوية التي ابتعد بها عن زوجته وصديقتها.
خرج من قسم الشرطة متجهاً إلى سيارته المسكينة التي اعتادت أن تكون ضحية انفعالاته، ولو أن الشركة المصنعة علمت بمصيرها معه ما وافقت على بيعها إياه.
أخرج غضبه في ركل إطارها الأمامي بمقدمة حذاء الأمان الذي يرتديه عدة مرات حتى شعر بالألم يغزو قصبة ساقه فتوقف وهو يلهث، ثم ما لبث أن التقط نفساً عميقاً يهدئ به ثورته قليلاً وعدل خصلات شعره التي تبعثرت على جبهته بلا نظام قبل أن يتجه بثبات إلى محل بقالة صغير مجاور للقسم.
حينما رأت كفه تمتد أمامها انتابها ذعر حقيقي لا تدري كنهه. لا تدري لماذا تخيلت أنه قد يضربها أو يهينها رغم أنهما في مكان عام. لماذا يصر عقلها اليوم على تشويه صورته أمامها؟
صرخت بهذا السؤال بداخلها وهي ترى كفه الممدود أمامها يحمل زجاجة عصير من نوعها المفضل، وتسمعه يغمغم من بين أسنانه ـ"يقولون إن نقص السكر بالدم يتسبب في الكثير من الهلاوس. وسأعتبر ما سمعته من الضابط بالداخل أحد تلك الهلاوس. لذا اشربي العصير وبعدها نتحدث بالخارج".
تناولت العصير بكف مرتجفة، حتى أنها فشلت في فتحه بسبب ارتجافة كفيها، ففتحه لها بنفاذ صبر وأشاح بوجهه إلى الجانب الآخر متظاهراً باللعب في هاتفه الذكي، بينما هو في الحقيقة ما زال يغلي من الداخل.
أنهت تناول عصيرها في بطء، وبدأ مفعوله يسري في جسدها الذي فقد الكثير من توتره، فتنحنحت بحرج هامسة بصوت تخنقه الدموع ـ"حينما أفقت ولم أجد (مودي) فقدت عقلي وانتابتني هستيريا قوية لم تهدأ إلا حينما حقنني الطبيب بمهدئ خفيف، وبدأت بعدها انتبه لما حولي بحثاً عنك لأجدك غائباً. شعرت وكأنني أصبحت وحيدة فجأة بغياب أقرب اثنين إلى قلبي، لذا فقدت الحياة كل معنى لها في لحظة. توقعت أن أجدك لتحتويني وتخفف من صدمتي، لتهدئ من روعي وخوفي على أخي الوحيد. لكنك لم تكن هناك في أشد لحظات احتياجي لك".
التفت إليها صامتاً يرمقها بنظرة زادت من ألمها، فشهقت من بين دموعها وهي تردف بألم ـ"لم أكن أريد أحداً سواك. كنت بحاجة إلى قوتك كي أستطيع الثبات، كي استطيع الحياة. لكنك لم تكن هناك. توقعت أن يستقبل صدرك دموعي التي ذرفتها منذ أفقت، وأن تهدهدني بهمساتك وأنت تخبرني أننا سنعثر على (مودي) ولن نفقده أبداً. توقعت أن ألمس الأمان في عينيك وفي صوت دقات قلبك، لكن برودة الغرفة هي كل ما أفقت لأجده. أحاطتني شياطيني تربط أحداثاً ومواقف مضت، لأجد نفسي أتهمك بخطف أخي أمام الضابط. أعترف بأنها لحظة جنون انتابتني ولا أدري كيف، لكن عذري هو أنني فقدت عقلي في غيابكما".
زفر في قوة ونهض ماداً كفه لها وتمتم من بين أسنانه ـ"انهضي لنكمل حديثنا في السيارة. ستلفت دموعك انتباه رواد القسم".
مسحت دموعها بظاهر كفها بطريقة طفولية قبل أن تمد كفها الآخر ليعانق كفه وهي تنهض لتسير بجانبه في صمت حتى احتوتهم السيارة بداخلها من برد يناير القارس.
ظل الصمت يكتنفهما إلا من صوت شهقاتها الخافتة التي لم تفلح في كتمها وباتت تمثل عبئاً على أعصابه انعكس في ضغطه على نواجذه بقوة.
شعرت بزفراته الحارة فقالت من بين شهقاتها بصوت مشروخ ـ"آسفة يا (مازن).. لقد تجاوزت في جنوني المدى هذه المرة و...".
قاطعها قائلاً بحزم ـ"حينما رأيتك ملقاة أمامي فاقدة الوعي كاد قلبي أن يتوقف، وتوقف عقلي عن العمل للحظات. وحين اكتشفت اختفاء (مودي) شعرت بحجم الكارثة. حملك (مينا) ووضعك في سيارتي وقادها بنا إلى المستشفى لإسعافك. وما أن طمأنني الطبيب حتى اختطفت السيارة وأمامي هدف واحد. أن اقتل (فتحي النشار) لأنه جرؤ على التعدي على حرمة أسرتي".
شهقت في دهشة وهي تسأله ـ"تركت (مينا) يحملني؟"
لاح شبح ابتسامة جانبية على وجهه وهو يتذكر كيف كاد يمسك بتلابيب الشاب رافضاً أن يلمس زوجته، لولا أن هتف به (مينا) مستنكراً ـ"ماذا دهاك يا أستاذ (مازن)؟ لقد قدمتني لصديقك قبل لحظات قائلاً إنني أخو زوجتك بالرضاعة. من بين جميع الحضور لا يحل لسوانا حملها. فإما تحملها أنت أو احملها أنا. لكنني لن اترك أختي ملقاة على الرخام البارد أكثر من هذا".
حينها فقط أدرك سخافة موقفه وتركه يحملها إلى أريكة السيارة الخلفية ليتلقفها هو بين ذراعيه على أريكة السيارة الخلفية حتى وصل بها إلى المستشفى و..
خرج من ذكرياته على صوتها وهي تهمس باسمه، فالتفت إليها موضحاً بهدوء ـ"فلنقل أنه أقنعني بمنطقه".
ثم اتبع بنبرة ألم ـ" لم أفكر للحظة في أن حرس (النشار) يستطيعون قتلي بدعوى الدفاع عن النفس وأنا اقتحم المكان عليه. كل ما كنت أراه في هذه اللحظة هو وجه (مودي) الذي قد لا أراه ثانية ووجهك الذي شوهته آثار أصابع ذلك القذر الذي صفعك. كنت أتمنى لو استطيع تمييزه بين رجال (النشار) كي أقطع أصابعه التي جرؤت على إيذائك. كنت أتمنى لو استطيع العودة بصديقي لأعيد البسمة إلى وجهك".
ضغط شفته السفلى بضيق ليتبع ـ"لكنني لم أتخيل أن أعود من تلك المواجهة لأجد زوجتي تتهمني في بلاغ رسمي باختطاف أخيها الذي كدت افقد حياتي وأنا ابحث عنه... لم أتخيل..".
قاطعته وهي تحيط وجهه بكفيها وتقترب بوجهها منه هامسة باختناق ـ"سامحني. لم أكن في وعيي يا (مازن). اختفاؤك في مثل هذا الموقف أربكني وأفسد قدرتي على التفكير".
تأمل عينيها اللتان احتقنتا بالدموع ليلمح الندم العميق بهما، ثم تنهد بعمق وهو يحتويها وسط ضلوعه ليعيد دقات قلبه إلى بعض من انتظامها السابق الذي افتقده منذ الحادث.
استكانت بين ذراعيه وهي تريح رأسها على صدره في فراغ السيارة الضيق وتعيد اعتذارها على مسامعه وهي تنصت لدقات قلبه التي افتقدتها، وتسمعه يهمس بحنان وهو يمسد ظهرها ـ"المهم الآن أن يجدوا الصغير قبل أن تهرب به (بهيرة). أدعوا الله أن يجدوه سريعاً لأنني سأقتلها إن فرت به و..".
بتر عبارته وهو يشعر بها تجفل على صدره في اللحظة التي ارتفع فيها رنين هاتفه فالتقطه ليجيبه بهدوء ـ"أهلاً (حمزة). كيف حالك".
أتاه صوت (حمزة) من الطرف الآخر يهتف متوتراً ـ"ماذا حدث يا(مازن)؟ أخبرني (رأفت) للتو بشأن (مودي). هل وجدته الشرطة؟"
تنهد في عمق وهو يجيبه بضيق ـ"ليس بعد. ها أنذا اجلس في سيارتي أمام قسم الشرطة في انتظار أي أنباء جديدة".
تمتم محوقلاً قبل أن يسأل صديقه ـ" وكيف حال زوجتك؟ لا ريب أنها منهارة لضياع الصغير".
تنهد (مازن) ثانية وهو يراها تعتدل في مقعدها بعيداً عنه وتمسح بكفيها ملامحها المرهقة، وأجابه ـ" أجل منهارة ومصابة بكدمات في وجهها بسبب زبانية (النشار)".
اعتذر له (حمزة) بحرج ـ" اعتذر عن غيابي عنك يا صديقي. لقد سافرت أمس مع زوجتي لزيارة والدها المريض، وسنتحرك الآن في طريق العودة إن شاء الله. سأحضر إليك بعد ...".
قاطعه (مازن) في سرعة ـ"لا عليك يا (حمزة). لابد وأنك ستكون مرهقاً من السفر. سأبقى معك على اتصال. انتبه لنفسك وأسرتك".
قالها وهو ينهي الاتصال ويعود لينظر من زجاج نافذته إلى قسم الشرطة وكأنه يستحث جدرانه على طمأنته بنبأ سعيد.
|