الفصل الأول
دخلت "روكسي بيج" بشارع أكسفورد ممتلئلة بالحيوية و تصحبها دقات كعبها العالي الحادة, ويحيطها عطرها الذكي, و أخذت توزع تحية الصباح على العاملين لديها يمنة و يسرة , ولم تتوقف وهي في طريقها إلى الطابق الأعلى حيث توجد المكاتب, إلا لتضع لمسة سريعة على أحد المعروضات" صباح الخير يا جو" وواجهت سكرتيرها بابتسامة مشرقة. ثم ألقت بقبعتها القرمزية على أريكة جلدية سوداء, وهزت شعرها الداكن المشعث, الذي أنفقت وقتا طويلا, لتصفيفه في تلك التسريحة الشعثاء......
"أليس يوما رائعا ـ همهم, أنت إذن في إحدى تلك الحالات المزاجية. أليس كذلك؟ إنه أخر مارس, حيث السماء داكنة, و الجو البارد, ..."
ولوحت له بيديها المعبرتين, رفضا لكلامه:
"لا, ليس ذاك إنني أشعر اليوم وأكأني على قمة العالم "
وواصلت التعبير بيديها اللتين لا تهدأ لهما حركة :
"ويجب أن تكون أنت كذلك. بعد الغداء, سأكون منهمكة في التخطيط لمحلين أخرين من محلات" زست" ". وأتسعت عينا "جو" في شك: " ولكنك لم تحصلي على التمويل بعد".
وصرخت فيه دهشة, وقد لمعت عيناها في زرقة السماء بالإثارة:
" بالتأكيد حصلت عليه بعد قضمتين أثنتين من شريحة لحم الضأن, وشرح للنجاح المضمون, من ذا الذي يتأخر عن إقراضي المال؟"
وأنحسرت الشكوك عن "جو". إنها تفيض بالثقة والتأثير.
ولن يستطيع أحد مقاومة "روكسي" حين تفور حماسا. فهو نفسه قد بدأ يتجاوب مع فورة طاقتها لمجرد وجودها بالغرفة. و تنهد قائلا :
"يا للفتى المسكين. إن بي رغبة أن أتصل بذلك الممول وأحذره من تلك الدعوة على الغداء, خاصة وأنت متهللة هكذا."
فرردت عليه في حسم:
"إن الاستثمار معي هو اليقين بعينه. وأي أحمق يمكنه أن يرى ذلك"
" ولكن الموردين يضعون العراقيل, ويجب مراقبتهم إذا أردت استمرار هذا النجاح. إن بعض المشاكل قد ثارت مرة أخرى."
"رباه" وصبت لنفسها قدحا من القهوة السادة, ورفعت قدح الصيني الفاخر إلى شفتيها المزينتين بلون زاه:
" دعني أخذ جرعة من الكافيين أولا, وأخلع معطفي."
وفرغ القدح سريعا, وألقت بالمعطف الأحمر القاني على أريكة, ثم أتجهت إلى مكتب "جون" وقالت متوسلة:
" رحماك مما ليس منه بد."
فأبتسم لها. لقد كانت مزيجا من العشوائية والتعقيد, أوجودة التنظيم والتشويش.
أحيانا يشعر معها بأنه الأرزن والأكبرعمرا, وأحيانا يتحرك عقلها بسرعة فائقة إلى أبعاد شاذة, ولكن نيرة تتركه متخلفا عنها.
فبينما يفكر الناس في أمورهم بروية فإن مقدرة "روكسي" فائقة على أتخاذ قرارات فورية و الإصرار عليها وإنجاحها غالبا بالعزم وقوة الشخصية أكثر من أي شيء أخر إن له عامين يعمل معها, منذ أن أفتتحت محلا صغيرا للمواد الغذائية الصحية ثم طورتة إلى سلسلة محلات ذائعة الصيت, تصدر إلى شتى بقاع العالم وهي التي تثير بنفسها الحمية في نفوس العاملين لديها, وفي الجو الخاص لكل محل من محلاتها, بحماسها وتفاؤلها المنقطعي النظير.
لقد ألهبت في وقت قياسي حماس كل شيء وكل إنسان حولها. وكان كل يوم متعة متجددة وكم لهثوا وهم يحاولون مواكبة التغييرات الفجائية في خططها .
وقال لها باقتضاب :
"الأعشاب الطازجة لا يمكننا الحصول عليها ." لم تكن تحب الشروح المطولة. إنها تندفع إلى لب الموضوع اندفاعا يجعلها تتجاوز التفاصيل.
وعبست والتقطت سماعة التليفون مديرة الرقم بطرف قلم رصاص ويدها الأخرى على ردفها الرشيق في وقفة مشاغبة . وعيناها تلمعان تحسبا للتحدي.
وفي لهجة تقريرية قالت:
" شارلي , إنني في ورطة كن ملاكي وانطلق إلى دورست, وتكلم مع مس "ويليامز" وقم بترتيبات استمرار التوريد...بالتأكيد ولكنك ممتاز في الاتصال المباشر. وأنت الوحيد الذي يمككنني أن أطلب منه وأنا مطمئنة للنجاح...شكرا أتصل بي حين تصل إلى نتائح"
قطبت جبينها "لجو" :"أخطر المحلات بالموقف" وقال "جو" محاولا أن يضع الأمور في موضعها في ذهنه:
"ولكن هذا لا يمثل إلا جزاءاً ضئيلا من مبيعاتنا"
ورمته بنظرة وامضة:
" ليست هذه هي النقطة. لقد تعود عملاؤنا الحصول على الأعشاب الطازجة منا ولن أتنازل عن الكمال يا "جو" ."
وأطبقت فمها في تصميم, ودخلت غرفة مكتبها. هذه ثالث مرة تتوقف التوريدات لسبب أو لآخر . لماذا هذا أمر لا يهمها. المهم هو النتائج, وهو أن يستمر تنظيمها الرائع في الازدهار. لقد وضعت كل طاقاتها في تأسيس أفضل محلات المواد الغذائية في لندن, وقد حققت النجاح لأنها لا تقبل التنازل عن الأفضل و لا تقر بالهزيمة و لا تتوانى في استخدام كل إمكانياتها العزيمة, أو الشجار أو الإغراء أو السحر الأنثوي.
وتوقفت لتلقي نظرة فخر على مكتبها ذي الفخامة والتقدم التكنولوجي بألوانه المفضلة لها الأبيض و الأسود ولون اللهب وكان رداؤها الصوفي الأنيق مقبولا في تفصيله ذا لون برتقالي ويحيط خصرها حزام جلدي أسود عريض, ويتدلى من عنقها عقد كبير الخرزات سوداء اللون. وقد لفت على ردفيها شالا ذا ظلال من لوني الفوشيا والقرمزي وكان تأثيرها مع هذه الألوان خاطفا للنظر تثير الحسد ورغبة الرجال بهذا الجمال الفتان. ولقد كانت تحوز كل ما تتمنى : النجاح والقوة و الحياة المتدفقة. فالمدينة تئزر وتطن, وتهتز متوافقة معها تماما, دائمة التغير كشأنها, مولدة للتنويعات, و الإثارة اللتين لا تنتهيان. ولكن شيئا واحد كان ينقصها, الرضا أو القناعة.
ولم تكن متأكدة أنها محتاجة إلى ذلك وكان نفس الشيء بالنسبة للحياة العاطفية. فقد كانت دائما مالكة نفسها ولا تتحمل من يملي عليها في كل شيئا. ولم يكن في نيتها أن تكون طبقا لحلم أحد في زوجة كاملة, أو أن تتصرف وفقا لهوى أحد. وتنهدت, أمر مؤسف أن يعجب الرجال بشخصيتها في بادئ الامر, ثم لا يلبثون أن يحاولوا إخضاعها بعد ذلك!
كانت ضد خضوع المرأة للرجل. وقد مرت بها علاقتان طويلتا الأمد ما إن يخمد الهيام الأول حتى يفشل في بعث أية مشاعر أعمق. وبدأت تميل إلى تصديق ما يشاع حول شخصية مواليد برج العذراء. وبدأ القلق يبدو في عينيها. فوراء الشخصية الجسورة التي تتملكها, ربما تكمن فراشة. أتكون تحمل شخصية فراشة جسورة, أضعف من إن تتحمل عبء ارتياط عاطفي.
ولكن افتقادها إلى الارتباطات العاطفية كان في هذة اللحظة ميزة لها , إذ كان يعني تكريس طاقاتها في العمل, وهو مجال أكثر متعة لها من قضاء ليالي مملة.
وكان أختلاف شخصيتها عن أمها أمرا محيرا لها, وكسا وجهها شعور من الاهتمام العميق, كما ترقرقت عيناها وهي تتطلع إلى الصورة الموضوعة فوق مكتبها, ووقفت في خلوتها مع نفسها صامتة, ولكن الحزن يملأ قلبها. إنها لم تبك و الدتها بعد, منذ أن جاءتها أنباء وفاتها.
ورفعت الإطار الفضي الذي يحتوي على الصورة وأخذت تتأمل وجه و الدتها الحبيب, وغمرتها شعور بالوحشة.
كم أفتقدك يا أماه. لقد كنت الوحيدة التي تعرفني من الداخل. و الأن لم يعد يوجد أحد على الإطلاق.
ولمعت عيناها بالدمع, ووضعت الإطار وهي تقاوم اختناق حلقها. من ثلاثة أشهر فقط, جاءها نبأ مصرع والدتها في حريق. ولم يكن لها من عزاء سوى عدم تألم والدتها, حيث أختنقت بالدخان في أثناء نومها, في المنزل الذي كانت تعمل فيه كمديرة له. ومع ذلك فقد كانت الحادثة تفزعها كلما جالت بخاطرها.
كانت والدتها تعمل دى السيدة "تريمين" العجوز, سيدة طاعنة في السن غريبة الأطوار.تتحاشى الناس. ومن ثم لم ترهى المنزل الذي كان في "كورنوول" أبداً. ولكن أمها وصفته لها كثيرا في خطاباتها وفي حديثها في أثناء زياراتها النادرة لها,
التي كانت تسمح بها السيدة طريحة الفراش . كان منزلا غاية في الضخامة بالنسبة لفردين يعيشان فيه, وبالنسبة لوالدتها كمديرة له حيث إنها كانت تعمل في نفس الوقت كممرضة لمخدومتها. ولما كانت الحديقة مهملة نمت النباتات بها عشوائيا فصارت أقرب لحديقة أسطورة أميرة الجمال النائم.
سيدتان تعيشان وحيدتين وتموتان وحيدتين. يا للفظاعة. وأبن مسز "تريمين" وأبنتها يعيشان في أرض مجاورة وحيدين بينهما وبين والدتهما سور عال من الكراهية؟ أمر غريب!
وتحول الحزن في عيني "روكسي" إلى الجمود حين تذكرت الجنازة التي أقيمت في ديسمبر.
ف"إيثان تريمين" لم يفعل أي شيء للترحيب بها, أو بأي مشاعر عزاء تجاهها ومع ذلك فقد كان وقعه على نفسها أكبر مما تخيلت. لقد تجاهلها وهي التي تخطف أبصار الناس بل إنه لم ينتبه إلى أي أحد أخر, وكأنه خلق وحيدا, ولم يخلق أحد سواه.
وتقارب حاجباها. إنها المرة التي لا تعرف عددها منذ الجنازة, التي تضبط نفسها تفكر في "إيثان" بلا من أمور حياتها. ولكنه إنسان غريب الأطوار.
يتبع.....