و جاءتها الاصوات مختلطة. و اضواء خافته, و رائحة زهرة منسية مسك غربية و شعرت ببرودة لم تعهدها. حاولت فتح عينيها, فوجدت نفسها ملقاة على الأرض و بجوارها اظافر انثوية مخضبة بطلاء قرمزى اللون. و حاولت في رعبها ان تجلس, و لكنها هوت مرة اخرى, مرحبة بالعودة إلى الظلام.
ـ روكسي, روكسي.
و تلفتت في اعياء, لا تريد ان تترك حلمها الجميل. كانت قد تزوجت زواجا غاية في السعادة.... من رجل تحبه بشدة.... شخص ما.... شخص ما... و قطبت جبينها. من يكون ذلك الرجل؟ و شحبت صورته في ذهنها. و ضاعت ملامحه.
ـ كلا. لا اريد ان استيقظ.
جاءها صوت حازم:
ـ يجب ان تستيقظى.
دوى الصوت بعيدا في مؤخرة رأسها. ظلت تسبح في الظلام لفترة طويلة, ثم بدأ الضوء المبهر يشرق في عينيها. و فتحتهما على كره منها و مطت شفتيها عابسة.
كان وجه رجل يبتسم لها, عيناه في خضرة اشجار الغابة و في جمالها تلمع كالندى. حياها برقة:ـ اهلاً.
و حملقت إليه ببلاهة. كان يرتدى قناعاً و معطفاً ابيض كما لو كان في مستشفى و بدأت تجيل نظرها حولها بحرص. لقد كانت في مستشفى
قال في رعب:
ـ ماذا حل بي؟
ثم حاولت ان تتحرك فصرخت من الألم.
شعرت و كأن مؤخرة رأسها ثقيلة كالرصاص, تدوى فيها المطارق و قال لها ذو العينين الخضراوتين في قلق:
ـ ظلى ساكنة.
سألته باضطراب:
ـ هل انت طبيب؟ لماذا انا هنا؟ ماذا بي؟
و كأن صوتها ارتفع لشدة قلقها و مُلئت رعباً لنظرة الطبيب اسود الشعر الذى تدل على الخوف. و رفعت يدها إلى رأسها فوجدته ملفوفا بالضمادات. رمشت في صمت لتذهب عن عينيها دموع الاشفاق على نفسها... و بدا كل شئ حولها صداعا عنيفاً. قال ببطء:
ـ لا تفزعى لقد تعرضت لحادث. لم يتعرض شئ للكسر, مجرد عدة غرز, و إلتواء خفيف في الرقبة. لقد ضربك فرع شجرة في مؤخرة رأسك, اتذكرين؟
همست:
ـ لا...... متى؟
قال الرجل و وجهه يفيض رقة:
ـ منذ يومين, و انت عائدة إلى المنزل.
ـ المنزل؟
اخذت انطباعاً انه يتوقع منها ان تكون عالمة. اين يوجد هذا المنزل؟ حاولت جهدها, و لكنا فشلت ان تستحضر اية صورة .... أو اسم. اما عن نفسها. و اتسعت عيناها و ارتعشت شفتاها, و تطلعت إلى الطبيب في توسل, و همست ثم اغمضت لفرط الاجهاد. و بدأت تلفها عباءة السوا اللطيفة مرة اخرى. و من بعيد.... سمعت صوت الطبيب متحشرجا قائلاً:
ـ رحماك يا ربى!
وحين عادت لوعيها بعد ذلك, كان هناك طبيب آخر مع صاحب العينين الخضراوتين اللطيفتين. و امرها ان تسترخى, و طمأنها انها بين ايد رحيمة. ثم بدأ يسألها اسئلة مرهقة.
و لم تتمكن من الاجابة عن اى منها. فلا فكرة لديها عن اليوم او الشهر او السنة التى اكنت فيها, و لا عن اسمها, او عمرها, او موطنها. لم تكن تعرف, و ودت لفرط فزعها ان تغوص داخل عقلها لتبحث له عن اجابات, و تملكها الانفعالإذ وجدت مفسها عاجزة عن الاجابة عن مثل هذه الأسئلة السهلة.
وظلت عيناها معلقتان طوال الوقت بالطبيب ذى العينين الخضراوتين , و الذى بدا كما لو انه قد اشتغل طوال النوبة المسائية, و كان مجهداً بصورة لا تمكنه من الاستمرار في العمل. كان وجهه منهكا, و عيناه غائرتين, و ذقنه غير حليق. كان يتمايل في وقفته, و لم تدرى لماذا كانت عيناه ذواتا اللون النجيلي تبرقان كلما فشلت في الاجابة على سؤال ما.
و ظلت تروح في النوم, و هم يوقظونها, احيانا برفعها على منضدة كشف الاشعة, و احيانا بتكرار نفس الأسئلة. و كان الطبيب المنهك موجود على الدوام, منحيا جانبا يراقب ما يدور. و طفقت تبتسم له ابتسامة اعتذار, كلما فشلت في اجابة سؤال ما على الرغم من محاولتها ان تدخل السرور على قلب ذلك الطبيب الرقيق, بالعثور على الاجابة الصحيحة. و في النهاية قرر ان يحاول بنفسه فقال بصوت متحشرج بصورة غريبة:
ـ اسمح لىّ جو انا احاول ما ناقشناه معاً
هز زميله راسه موافقاُ. فقال:
ـ و الآن, لا تفزعى ابدا لهذا النسيان, فهو امر غير مستغرب, كثير الحدوث. إنك اذكرين الآن سيدتى الشابة ان الضربة على مؤخرة الرأس قد افقدتك الذاكرة
هزت رأسها هزة خفيفة, محاذرة ان يدق رأسها.
ـ و فقدان الذاكرة المؤقت هو امر مألوف في مثل هذه الحالات, و سوف تعود لك الذاكرة خلال ساعات, و قد يستغرق الأمر بضعة ايام او اسابيع. اهم ما في الأمر ان تتركى الطبيعة تقوم بدورها – ثم ابتسم- و ربما بمساعدة من يهتمون بك بحب
و وجهت له ابتسامة شاحبة, و همست:
ـ قل لىّ من انا؟
قال اخضر العينين:
ـ روكسانا, روكسانا بيج.
قالت و الدموع تحرق جفنيها:
ـ لا يبدو لىّ اننى هى!
و غمغم الطبيب:
ـ روكسي
تنهدت :
ـ روكسي. يبدو ذلك افضل, و لكن غريب..... و من انت؟
تردد قليلاً ثم تنحنح:
ت دكتور ايثان تريمين. طبيب تقويم العظام
عبست:
ـ هل اعرفك؟
عيناه قالت لها شيئاً لم يفهمه, و اغتمت لذلك. سألها بهدوء:
ـ هل ابدو مالوف لك؟
قالت بوهن:
ـ اشعر بالارتياح لك
و لم يكن هذا شعورها على الاطلاق. لقد كانت مشدودة بعنف لوجوده المسيطر غير العادى. و ارادت ان تعطيه شئ من الراحة جزاء على كل ما بذله من جهد فوق الطاقة.
و قال بصوت اجش:
أ لقد بذلت ما فيه الكفاية اليوم. لقد كتب لك الدكتور هوايت بعض الأقراص و سأرسل ممرضة للاعتناء بك
و سألته بقلق:
ـ و هل ستعود
لقد كان وسيلتها الوحيدة لاتصال بالعالم و الوحيد الذى تشعر معه بالأمان.
قال الدكتور هوايت:
ـ انه لا يتركك لحظة.....
قاطع الدكتور تريمين زميله:
ـ سوف اعود.
سلمت روكسي نفسها لهم ليريحزها, و هى تضم عيناها كلما حالوت التحرك في السرير.
شعرت بتصلب رهيب في ظهرها.
انحنى عليها الدكتور تريمين و قال برقة:
ـ سوف اعود لاريح هذه العضلات المتألمة فيك.
غمغمت بصوت ناعس:
ـ اود ذلك.
و اجتاحتها عاصفة من العواطف, و كادت ان تعانقه بذراعيها, حملقت اليه مذعورة, و غشاوة على عينيها, ستكون قد خرجت عن طورها لو عانقت شخص غريب عنها كلياً.
و لكن الطبيب ابتسم لها, و ضغط برقة على يدها التى كانت تقبض على الملاءة بعنف. و قال بصوت فيه بحة:
ـ استرخى, فالنوم احسن دواء.
و جعلتها الأقراص تذهب في نوم طويل, لابد انه استغرق اربعة و عشرون ساعة, لأن الدكتور تريمين كان في نوبة مرة اخرى, يبدو عليه الاجهاد كالمعتاد. قالت و هى مسرورة بصورة مضحكة:
ـ اهلا دكتور.
قال:
ـ لماذا لا تنادينى ايثان. اننى سأظل اهتم بعمودك الفقرى حتى بعد ان تعودى إلى البيت.
ـ اننى اتساءل هل كان لى مقوم عظام خاص من قبل؟
ـ ربما يعيد لك هذا ذكرى امر أو امرين.
ساعدها على ان تنقلب, و حرر ملابس المستشفى ليكشف ظهرها و في الحال كانت يداه المريحتان تنثران زيتا دافئا, و شعرت بالاسترخاء يعم جسدها. و غمغمت:
ـ هل لى ان استمتع بهذا؟
وضحك:
ـ بالتأكيد. سيكون هذا مشجعاً
خيل إليها ان صوته يتردد في اعماقها, و سألها:
ت هل انت سعيدة باسمك اليوم؟
همهمت:
ـ كثيراً. هل تعرف عنى شيئاً؟ هل هناك من يقلق بسببى في المنزل؟
رفعت يدها إذ تذكرت شيئاً, و لكن لم يكن هناك خاتم في اصبعها.
لقد مر بخاطرى سريعاً الزواج, لمنى لست مخطوبة.
توقفت يده, ثم استأنف عمله:
ـ كلا, لست مخطوبة, و لا افارب لك.
ـ كلمنى عن نفسي.
ـ لقد طلب منى ان اترك الأمور تتداعى في عقلك بقدر الإمكان. و لقد فعلنا كل ما في وسعنا لتسير امورك سيرا طبيعياً. و سيأتى صديق لك إلى هنا في غضون ايام, بعد عودتك إلى المنزل, و ربما يعطى دفعة لذاكرتك, إذا لم تكونى قد شفيت قبل ذلك.
وهمست:
ـ شعور فظيع, إننى اشعر بالخواء و الوحشة
لم يعلق, فشعرت بخيبة امل. و قررت ان تفضي بكل مشاعرها, فهى اولا و اخيرا في مستشفى, و من واجبه العناية بها:
ـ اشعر و كأنى فقدت شيئاً اهم من ذاكرتى, و كأننى لم اتمتع بحياتى السابقة, و انه لا يهمنى إذا لم اتذكر شيئاً مرة اخرى يا له من خواء.
قال و اصابعه تواصل عملها:
ـ افهم ما تعنين, كثير من الناس يتطلعون إلى نسيان الماضي و فتح صفحة بيضاء جديدة. يكفى هذا اليوم.
تنهدت:
ـ إن صداعى احسن الآن, لو واصلت التدليك و لربما......
و رد بحسم:
ـ يكفيك هذا اليوم
اعادها إلى وضعها برقة و قوة يدعوان للدهشة و شعرت بندم غامر ان طلبت منه ان يواصل التدليك, و هو على ما هو فيه من ضغط عمل.
و لمست ذراعه:
ـ عفواً –حملقت في وجهه- يبدو و كأنك تشعر بالراحة انت ايضاً.
لم يرد, و منعتها رموشه من ان تشاهد رد فعله. و كان وجهه قريباً جداً من وجهها قريباً جداً من وجهها و هو يرتب الأقراص, و شعرت برغبة طاغيةأن تمس خده بشفتيها.
ـ ايثان!
هل هى من هتفت بهذا في صوت جد واهن؟
و توقفت يداه, و رماها بنظرة من تحت جفنيه, و شعرت بشفتيه تنفرجان و هو يبدأ الكلام و قال ببرود و هو يعتدل:
ـ ساعود عصر اليوم.
وجدت ذلك امراً طبيعاً, بينما هو يخطو خارج الغرفة مسرعاً إن على الأطباء ان يلتزموا منتهى الحرص مع مرضاهم. هذه هى مخاطر المهنة على ما تعتقد.
مريضة, نصف عارية مستسلمة له و شاعرة بالجميل, و طبيب ممتلئ بالشباب و يفرض عليها الحماية.
و ترددت ذاكرتها قليلاً. لقد عرض عليها الحماية.
و ترددت ذاكرتها قليلاً. لقد عرض عليها شخص ما الحماية. فلماذا كانت محتاجة غلى ذلك؟ هل كانت تواجه خطراً؟ ام تراها من ذلك الصنف الناعم من النساء اللواتى لا يستغنين عن الاعتماد على الرجل؟
إن تصرفاتها تجاه إيثان تريمين تتصف بالغباء إلى الآن, فهى تكاد تلقى بنفسها عليه.
ولكنه بدا لها رائعا, و لم تشعر ليديه بأنها غريبة عنها. و ارتسمت ابتسامة على شفتيها و شعرت بأنه لو استمر معالجا لها, فسرعان ما سيحنث بقسم ابو قراط, و عليها الا تشجعه على ذلك. ربما تطلب طبيباً اخر ليعالجها.
منتديات ليلاس