و رأت الجزع في وجهه, و بدت عيناه كبحر مقفر قصي, و قاوم عقلها جسدها, فهى تريد ان تحبره بأن المنزل منزله, و انها تريده بكل كيانها... ان تقول اى شئ يخفف ما هو فيه من بؤس, و ما هى فيه من إشفاق يعتصر قلبها.
ثم ارخى جفنيه, و عاد مبتعداً و ساكناً كاول يوم رأته فيه. تلك الصورة التى لا تفتا تلاحق ذهنها. و قال في هدوء:
ـ ربما انت على حق. قد يكون من الأيسر لكلينا ان ارحل. سوف اخذ حاجاتى, هل تظنين انه يمكنك التصرف مع النافذة المكسورة؟
ـ سوف ارسل في الغد من يضع الواحاً عليها
و لم تنتبه إلى تعليقه حول النافذة, إذ كان هقلها مشغول بالتصالح مع خروجه كلياً من حياتها. و بعد لحظة, نظرت إليه مذعورة:
ـ لا يمكن ان تترك المنزل هكذا مفتوحاً للرياح, و ماذا عن اللصوص؟
و مد يده بغيظ إلى شعره, و اخذ يتخلله باصابعه, و بدأت الخصلات تنزل على جبهته, و شعرت ان روحها ترفرف داخلها.
ـ لن يكون هناك رياح ولا امطار, و ستكنين في منتهى الأمان.
قالت و هى تضم يديها في عصبية, و توشك على البكاء:
ـ و ماذا لو عاد صبيان الصمغ؟
راح يمسح وجهها بعينين باردتين ثم قال:
ـ حسناً, سوف اغلقه بلوح الآن, و اُرسل من يعيد الزجاج غليه في الغد. و سوف اتدبر امر اصلاح البواب, و يمكنك استخدام النافذة لو اردت الخروج. و إذا ما صادفتك مشكلة فرقم تليفونى هو 543
قالت و هى لا تتجرأ ان تقترب منه حتى لا تتخاذل امامه, و لو فعلت فسوف يزدريها مرة أخرى:
ـ شكراً لك, و داعاً.
خيم الصمت بينهما و هو يتفحصها بعينين مسبلتين الجفنين, و كانت واعيه لتنفسها المضطرب و الألم العميق الذى يحز في قلبها, مقلصاً امعاءها.
صرخت و هى تشيح له بيدها, و كأنما تريد ان تزيح المغناطيس الذى يجذبها إليه بعنف:
ـ هلا انصرفت!
وضحك ضحكة خفيفة, ثم صدع للامر.
أخذت تذرع الغرفة جيئة و ذهابا, كنمر محبوس في قفص, تتقاذفها المشاعر و الأحساس باليأس, تدق بقدمها على الأرض في عنف, تحاول إخراج ايثان تريمن من عقلها, و جسدها الثائر بالرغبة, مع كل دقة عنيفة من قدمها.
و لك اذنيها كانت مع كل صوت يصدر منه, و هو يثبت اللواح, ثم يسير عبر الشرفة إلى سيارته.
طوحت برأسها إلى الوراء و آنت في حنق. ان هذا الرجل يدمرها تدميراً, و كانت تقاوم رغبة في الجرى إلى النافذة لتراقبه و هو يسير مبتعداً. ثم اطلقت ولولاة يائسة, و هرعت غلى الصالة, و اختبأت وراء ستارة تغطى النافذة العريضة بجوار الباب الأمامى.
كان جسده مشدود من النفعال, و كانت حريصة ألا يضبطها تتلصص عليه.
و توقف بجوار السيارة, معطياً ظهره العريض لها, معطياً إياها الفرصة لتتأمله في اشتياق للمرة الأخيره اعجاباً بكتفيه العريضتين و خصره الرياضى, و بدأ يلتفت ببطء, واضح انه لم يكن يريد ان ينظر إلى منزله الحبيب, لكنه غير قادر على الابتعاد عنه دون ان يُلقى عليه نظرة وداع تظل محفورة في ذاكرته.
و فكرت في تعاسة ان موقفه هذا مشابه مشابه لموقفها, و هى تطلع إليه بعينين ملؤهما الرغبة. هى ايضاً تلقى نظرة اخيرة لمن تحب.... و عبست. كلا أنها لا تحبه ليس الأمر سيان على الإطلاق. و بدأ قلبها يدق بعنف و هو يرفع رأسه, مرخياً لعينيه العنان لتمسح واجهة المنزل و اوشكت ان تنتحب لرؤية وجهه.
لم يحدث في حياتها قط ان رأت إنساناً يلوح عليه القنوط, و التعلق بهذا الشكل.
لقد اطلق لمشاعره العنان لأول مرة متصور أن احداً لا يراه – لا يخفى منه شئ. لقد كانت ترى فيه من قبل عينين تطلقان الشرر, و شفتين تنفثان الحمم.
و انفرط قلبها حزنا لمرأى رجل بتلك القوة و الكبرياء, يقف بائساً متخاذلاً, كسير النظرات.
و انسحبت و هى تنتفض , لا تريد أن ترى المزيد, عالمة انه يجب تعيد النظر في قرارها بحرمانه من المنزل. ربما كانت مخطئة.
تعلقت متخاذلة بالستائر السميكة. ربما كان عليها ان ترضخ لقوة الأجيال غير المنظورة و تعيد كارنوك إلى واحد من نسل آل تريمين.
ربما كانت السيدة العجوز على حق حين حرمت ابنها في وصيتها, لكن ماذا عن المدى البعيد؟
ماذا عن الأجيال القادمة؟
منتديات ليلاس
و خطر ببالها فجأة انها لا تريد غريباً في المنزل, فلو عادت إلى لندن و سلمت الأمر لسمسار عقارات, فمن اين لها ان المشترى الجديد سوف يهتم بالمكان كما يجب, يحترم الالتزامات التى يتطلبها, و ينفق الأعوام التالية في إعادة التشجير و الزرع. و قطبت جبينها. اى انسان قد يشترى المكان, ليكون بين يدين مججردتين من الشعور لشخص جاهل يدمره. و لن تسمح هى بذلك. و رفعت رأسها و ابتسمت بآسي بعد دقائق من الإقامة في المكان, اعتبرت نفسها فتاة ريفية, ينبض قلبها و روحها بحب كارنوك! كما انه ... لندن ليست مدينة تبتعد مئات الكيلو مترات. إنها حياة جد مختلفة. و اقل امتاعاً و راجعت نفسها في قلق. ما هذا الذى توله؟ إن لديها اعمالاً يجب ان تتابعها. الافتتاح في بريستول .... آنت داخلياً لشعورها بالوقوع في شرك انها لا تريد العودة. لا تريد ان تعود إلى المكتب و تقبع خلفه, و لا للاستيقاظ على اصوات السيارات الفارهة, ولا اصوات الكؤوس تقرع في الامسيات.
لا تريد ان تقضي بقية عمرها في صراع في اثناء ساعات الذروة بين العجلات و الصفقات.
تشق طريقها بين البريد, و غصدار التعليمات و وضع التخطيطات و المداهنة و النفاق.
و اتسعت عيناها لهذا الاكتشاف الذى دوى في عقلها دوى الرعد. أنها تريد ان عيش هنا في كارنوك. ان تبتسم لطائر الذعر الارقط و هو يمرح في المرجة.
ذلك الطائر المتناهى الصغر, الذى ينتفض ذيله بلا انقطاع و كأنه مذعور, لا تهدأ لجسده الصغير حركة. ان تراقب الشمس في غروبها وراء التلال, مرسلة اشعتها على المروج, ان تراقب الفواكه و هى تنضج على الأشجار. و تسير تحتها حافية القدمين فوق العشب الأخضر. و تملك روحها حنين دافق ملأ جسدها بأكمله لـ كارنوك! ادركت هذا بصدمة هزت كيانها. انها تريد اثيان ايضاً. إن المطلبين يسيران جنباً إلى جنب, لا يفترقان يملأن عقلها و روحها, مكتسحان ما عداهما.
أنها تريدهما معاً, لتكتمل سعادتها و هناءها. اوهـ, يا لهذا الجحيم. ان ترى فردوسك ماثلاً امامك, و لا تستطيع الدخول فيه! هاهى ذى تحس بمشاعر ايثان حين يطرد من مكان احبه.
ان الموقف ينبئ عن احلامها غير القابلة للتحقيق, فليس امامها سوى احد الحلين, لا يروق ايهما لها. اما ان تحتفظ بـ كارنوك و بالتالى تتعرض لعداوة ايثان, و إما ان تتنازل عنها, فتفقدهما معا, فيا له من خيار !! أمن الأفضل ان تحتفظ باحدهما ام تفقدهما معا؟
وملأ لاوجوم قلبها, و خيم الحن على المنزل, فاحتواها فيه. و رغم ما عليها من ملابس شعرت بالبرد, فاوقدت نارا. كان الظلام كالحا في الخارج, و كسا وجه القمر سحباً كثيفة تنساب متحركة بفعل الرياح و نعقت البوم, و تردد صراخ ثعلب عالى و واضح, و ابتسمت ابتسامة واهنة, مسرورة بالأصوات التى صارت مألوفة لها. لم يعد الليل يخيفها و قد اصبحت تعرف الكثير عن مخلوقاته و عاداتها.
اخذت النافذة تصطدم بالفراش فاغلقتها حتى لا تقتل نفسها إذا اصطدم بها الزجاج المضئ, ثم رن جرس التليفون.
تصورت انه إيثان رغم مجافاة هذا المنطق. فهرعت إلى الجهاز و قلبها يدق بعنف و قالت في محاولة ان تبدو عادية:
ـ الو؟
و تردد صوت ضحكة كريهة ثم صوت انسان يلهث و شعرت ببرودة تسرى في اوصالها.
و اخبرت نفسها ان احداً ما قد طلب رقمها عشوائياً, و دق الجرس بعد ذلك, و قررت و هى تضم يديها في عصبية الا ترد.
و في المرة الثالثة رفعت السماعة بخفة مؤملة ان يكون جو او اى احد غيره يريد ان يتصل بها لكن اللهاث عاد مرة اخرى.
و صاحت في ذعر:
ـ من هذا؟ - عندما لم تتلق رد صرخت – هذا ليس بالشئ المضحك.
اغلقت الخط بعنف.
عاد الجهاز للرنين و ارادت ان تفصله و لكنها رأت رأيا اخر. فاحضرت جهاز راديو و اختارت محطة موسيقى حديثة و جعلت الصوت على اقصى درجته ثم رفعت السماعة و استمعت إلى اللهاث و وضعت الميكروفون على سماعة الجهاز متلذذة بالصوت العالى.
و هكذا لم تشغل بالها بهذا الأمر. و طافت لتتأكد من الأبواب و النوافذ تمهيداً للذهاب إلى الفراش ثم تدثرت بالاغطية, مدت يدها إلى المصباح المجاور للسيرير فاطفاته.
ثم تكورت محاولة ان تغلق عقلها لتصيب شيئاً من النوم.
حين رن جرس الباب, اطلقت زفرة طويلة و نزلت من السرير. لم تر سيارة ايثان في الخارج اة سيارة اى احد آخر. و لكن يجب ان يكون هو, فهى لا تعرف احد في المنطقة . اقنعت نفسها بذلك و هى تحكم حزام روبها.
ربما يريد ان يقبض عليها و هى لا تزال تحت تأثير النوم, و يقنعها بان تتخاى مثلها, يا له من مثابر. و ضغطت على شفتيها و قد سرت الحمية في عروقها. لقد تجشمت قوة إرادتها اعباء إضافية في الفترة الأخيرة! إنعليها إذن ان ترد, و لكن فضولها كان اقوى من اى شئ! صاحت و الرنين يواصل اصراره:
ـ حسناً, انا قادمة.
هبطت مسرعة, ثم توقفت لرنين جرس آخر. اللعنة! لقد مل من جرس الباب فاتجه إلى جرس المطبخ, و اسرعت متوقعة ان ترى جسده من خلال زجاج الباب لكنه لم يكن هناك احد بالمرة.
سمعت طرقاً عنيفاً على لوح الزجاج المكسور, كلا على نافذة غرفة الطعام....
و الأن غرفة المكتب.
شعرت بشعر رأسها يكاد يقف من الخوف. و اخذت تدعك مؤخرة عنقها لتدفئ برودتها و هى تحاول متابعة ايثان حول النافذة, و هو يدق اربع دقات مفزعة على كل نافذة, ثم يتوقف عند الباب الخارجى ليرن الجرس و يستأنف دزرانه حول الطابق السفلى.
و تجمدت روكسي لسماعها القهقهة المفزعة, ربما هذا ليس ايثان!
بل ان هذا لا يتفق مع كرامته, ان يدور هكذا حول البيت يقرع النوافذ و الابواب و يدق الأجراس. و تفصد العرق باردا من جبينها. و رفعت فجأة يدين مرتعشتين عاجزتين لتضمهما على صدرها الذى يدوى قلبها بين ضلوعه, و كأنه يتابع الطرق في نبضة تك – تك – تك.... فترة صمت, و اصبحت لفرط انتظام الدقات قادرة على ان تتوقع اين سيكون الطرقة التالية. و شهقت في ذعر, تتمنى لو تطيعها ساقاها المشلولتان. لقد اقترب من المطبخ, و حين بدأ يرن الجرس رأته, و رأها في ملابس النوم القصيرة.
وقفت متجمدة في مكانها, كما كانت في اثناء كوابيس الطفولة, حين كانت الساحرة الشريرة تقترب منها و هى لا تقوى على الفرار. و لكنها كانت تستيقظ من تلك الكوابيس و ينصرف كل شئ عدا ما يعلق بذاكرتها من رعب. و لكن هذا حقيقى, لن يتلوه استيقاظ و هى عاجزة عن الحركة.
و اخيراً بدأت ساقاها الثقيلتان تطيعانها, و اخذت تتراجع إلى الخلف, و عيناها المذعورتان مثبتتان على زجاج باب المطبخ. و سمعت طرق على باب غرفة الغسيل, و سيكون التالى باب المطبخ, و ارتفعت يجها إلى فمها, و اطبقت اصابعها على شفتيها الباردتين و ظهر ظل داكن على الزجاج و صرخت دون صوت.
و لكنها صرخة حررت جسدها من خدره, فانطلقت إلى السلم و هى لا تكاد تتحكم في انتفاض بدنها, تنتحب تلهث في شهقات قوية تخنق انفاسها و صفقت باب غرفة نومها و اخذت توصده. و غطت اذنيها بيديها في تهيج شدديد, حتى لا تسمع الطرقات البشعة المفزعة, و رن جرس الباب الأمامى عالياً, و قفزت هى خارجة من جلدها.
ايثان! عليها ان تطلبه, اخذت اصابعها تتحسس القرص اللعنة! انها لا تتذكر رقمه! و بذلت جهداً خارقاً لتركز تفكيرها. 543... بالتأكيد.
و حاولت ان تطلب الرقم و هى تكاد تبكى ارتياحاً, و لكن اصابعها كانت ترتعش من الخوف فامسكت بقلم رصاص, و اخذت تضغط عليه و هى تطلب الرقم, و اخذت تنصت في توتر إلى جرس الطلب, متمنية ان يرد عليها سريعاً و في اثناء انتظارها, ادركت فجأة ان المكالمات التلفيونية الغامضة يمكن ان تكون ذات صلة بما حدث لها:
الجرار, الأبقار, الصمغ.... و مكالمات و لا احد يرد عليها’ فلابد ان ايثان هو من دبر كل ذلك, ليخرجها من المكان, لقد هددها من قبل, مقسماً ان يقتلها من اجل حيازة كارنوك. و سقطت يدها بجوارها فاقدة الحياة.
و اتسعت عيناها, ثم طفر قلبها من الفرح. إنه ليس في الخارج إنه في المنزل, لقد توقفت الأصوات, و لكن من الواضح انه في المنزل, لقد توقفت الأصوات, لكن من الواضح انه لم يكن هو من يفعلها.
و قالت بصوت متهدج:
ـ إيثان!
جاء الصوت الناعس:ـ من يتكلم؟
كان قلبها يدق بعنف, و لكن الرعب قد زال و قالت بصوت رفيع:
ـ أنا..... أنا روكسي.
وزام قائلاً:
ـ ماذا؟ انها الثانية صباحاً.
قالت في صوت خفيض:
ـ اننى خائفة.
ـ و تطلبينى لتقولى لىّ ذلك؟
قالت متوسلة:
ـ ان احد ما يريد ان تقتحم المنزل, و يقرع الأبواب و الأجراس....
ـ شخص يريد ان يلقى بتحية المساء, كعادة اهل المنطقة, غريب الأطوار.
ـ ايثان, ان الأمر جدى. أنه يقرع الأبواب النوافذ من فترة طويلة, و قد اغلقت باب غرفة النوم, متجمدة من الرعب.
و سمعت السماعة تضرب على الجهاز بعنف, و فغرت فاها بخيبة امل.
و قالت و هى تحملق في الجهاز ثائرة:
ـ ايها الخنزير. إنك فأر قذر.... إنك.....
مـــنــتـــديــــات لـــيــــــــلاس